لبن الجميزة
أحمد النجار
للحيوانات الجسيمة هول ومهابة، وللطين الرطب المستظل بأوراق الجميزة فى الهجيرة جاذبية خاصة، وللتكوين سحر يتوهج فى العقل والوجدان، لا يذكر كيف بدأت المحاولات، ولا كيف كانت نتائجها الأولي، إنما فى النهاية صارت قطعان الحيوانات والبشر تخرج من عشقه لهما وللطين.
للجميزة لبنها .. ينسال أنهارا حين يجرح جلدها الأخضر .. بقدر ما هو مؤلم جرح الشجرة المهيبة بقدر ما هو عزيز لبنها.
من الطين خرجت نبتة الجميزة، ومن الجميزة يأتى اللبن الذى لايتألق الطين بدونه، قطعان الحيوانات والبشر التى يصنعها من الطين كانت تأخذ سمرتها اللامعة ورونقها وصلابتها من لبن الجميزة.
لم تكن لأبيه الميت سيطرة من مقبرته، فلم تكن له تلك الروح التى تهوى السيطرة على الآخرين حيا أو ميتا، ولم تكن الأم الصارمة تهتم إلا بأداء الابن لواجباته المدرسية والحقلية والمنزلية التى تحددها، لكن العم كان يرى فى الطفل العنيد المستغرق فى طينه وجميزته وأشجاره وترعته وقصصه وكل أشيائه لغزا، وكان يكره الألغاز، لم يكن العم يرى فى قطعان الطين سوى أصنام، وكان يرى فى طلائها بلبن الجميزة إهدارا للشجرة رغم أنه لم يكن يحبها ولا كانت هى تحبه!
حين تلبست العم روح خليلية ذات صباح فاجأ الطفل عند كوم التراب الذى يتوسط الحقل والذى كانت قطعان الطين تلهو عنده تعانق أشعة الشمس وحرارتها، وتودع ماءها وتكتسب صلابتها ثم تشرب لبن الجميزة وتكتسى بالسمرة اللامعة المتألقة.
نظرة الغدر المرتدى لباس الأبوة والقيم ألقت بخيوطها على عينى وكيان الطفل، لم يلجمه الخوف. جمع الطفل قطعانه بين يديه بسرعة البرق وتحولت عيناه ويداه وجبينه وكله إلى كتلة من التحدي.
حين تفتقر القوة للروح أو للقدرة على تغيير القرار فإنها تصبح غاشمة أثيمة. كان العم قد قرر بلا رجعة تحطيم أصنام ابن أخيه.
مد الرجل ساقه الطويلة وأطاح بقدمه بقطعان الطين من تحت يدى الطفل، ثم بدأ يهوى عليها بقدمه متفاديا كفى الطفل لا لشيء إلا لأنه أضعف من مواجهة ثورة زوجة أخيه القوية الشكيمة، إذا مـس طفلها بسوء رغم عدم اكتراتها لتحطيم قطعانه الطينية.
كان العم ممن يحبون بكاء الصغار وتوسلاتهم وتوبتهم، وكان الطفل ممن لا يبكون أمام أحد ولا يتوسلون ولايتوبون.
خف الطفل واقفا محتضنا مهرا طينيا يمتطى ظهره خياله الأنيق، وكان الوحيد الذى سلم من التحطيم .. لم يعد بعيدا عن عمه لا لشيء إلا لأنه كان يكره الهروب حتى عندما يكون ضروريا.
رمح المهر مخلفا سحابة الغبار التى يثيرها بعيدة عنه، لم يكن يعدو وإنما كان يطير، وكان فارسه المتراقص مع إيقاع انطلاقته الرهيبة يبدو فاتحا قلبه وصدره وروحه لهواء المروج ولسحر وجمال لم يدركه أحد من قبل.
انتزع العم المهر وألقى به على الأرض وحطمه، وكأنما كان قلب الطفل هو ما ألقى به للأرض إذ انتفض جسده كله مدفوعا بالبركان الذى يغلى داخله، قهر الطفل دموعه فتحجرت فى عينيه ولم تغادر جفنيه، تراجع للخلف خطوة واحدة ورفع حاجبه الأيسر وقال فى تحد:
ها اعمل غيرهم تاني! ثم أدار ظهره فى بطء لعمه الملجوم بثبات الطفل وتمنع بكائه.
لم يفكر الطفل مطلقا إلى أين يتجه، كان مدفوعا بقوة خفية نحو الجميزة التى أذابت أجيالا من العائلة، والتى اصطفته من بين كل أطفال العائلة ليكون خيالها وعاشقها، تسلقها مضطربا فغالبه إحساس اللاجيء، وحين استوى على أعلى نقطة يمكن أن يصلها إنسان فى الفرع الأوسط المتقدم باستقامة نحو السماء، كان كل ما فى القرية ينبسط تحت أقدام الجميزة. وكانت الجميزة له ..
حين يزول الحرج وتتدفق المشاعر حرة بلا حساب تنساب الدموع، أسند رأسه لفرع الشجرة العملاقة وتدفقت دموعة الحارة.
هبت نسمة خفيفة فاصطفقت بعض الأوراق فى تكاسل لتخفف من وطأة القيظ التموزى .. مد الطفل يديه وأخذ يمسح لحاء الجميزة برقة ليزيل القشور الصفراء الواهية .. التمعت خضرة اللحاء تحت القشور، همست الجميزة للصبي: لاتحزن، اللبن جداول وأنهار بداخلي، أنت صغيرى وحبيبى خذ منه ومن طين الأرض، وأطلق قطعانا جديدة.
أسند الطفل رأسه إلى فرع الشجرة وجاوب همسها النبيل بالتربيت على أغصانها.
نظر الطفل من علياء الجميزة صوب الحقل .. كان عمه الجالس فوق كوم التراب عند القطيع المغدور به يبدو ضئيلا بينما تألق الطين فى القناة الصغيرة التى تروى الحقل أكثر من أى وقت مضي!