كتابة
مشاهد من حكاية لا أفهمها
مى عبد الصبور
الإهداء: إلى إشراق رفيقة الأيام الحلوة (ماذا فى رأيك أحسن الكفاح المسلح أم المقاومة السلمية؟ بل هذا العالم القوى سندخله برفق … أريد أطفالا. اعتبرينى ابنك. لا إنك “تستحمين . الذين يحبون لا يستحمون … هل تعلمين أن البرجوازى الصغير بطل تراجيدي. تقصدين إمعه تراجيدى الله يسامحك. من الله … هل هذا ما قاله لك إنها نصف صوفية ونصف عاهرة؟!… أين غشاء بكارتي؟ يا فندم حضرتك طلبت نس كافيه.أنا بعدان فقط و الناس كلهم ثلاثة أبعاد فقط. بل أربعة … إنى حزينة. أنت مدلله. إننى حزينة.)
لا تسألني:
ماذا يحدث للأشياء
إذ تتصدع
أو للأصداء
إذ تهوى فى الصمت المفزع
صلاح عبد الصبور
And I shall be transfigured into something impalpable
James Joyce
فتحت عينيها، شحذت مسدسها البلاستيك بلعبة حاوى مجعد العنق، واليدين طفولية، بأغنية أراجوز يحشرجها بأس محركه خلف الكذبة الممدودة المعلقة على قدرين، يحاول، ثم أطلقته صوب اللعنة البعيدة القريبة كأنها المدي: ابتسمت
هى بنت تختار فترمى الزهر
هى بنت لا تود أن تنتحر (لا لشيء بل لأنها لا تود أن تنتحر)
هى بنت يضنيها غضب ما، وفى القبر الرحم الخندق تخوض معارك محتدمة ثم تقدم أيامها قربانا له: “أرجوك لا تتراجع”. كانت تتوسل “سنشعل الجحيم هنا ثم نقيم الأسطورة معدولة” “أخرج منها إنك عقيم” انشطرت فى مرة فانفلتت السجينة ورحلت إلى الحياة متجاهلة الرؤية: كان جسدها متجها نحوها وقد شابت.
كان الشكل الذى لمحته يواجهها لبعض من لحظة لامرأة عجوز ذراعاها وساقاها مثبتة فى أماكنها بمفاصل واهية مثل عرائس المسرح اللائى تدور أطرافهن حول مفاصلهن دورة كاملة، أما شعرها فكان كتلك الهالة التى تحيط برؤوس القديسين والذين من فرط جنونهم يفترضون القداسة فى عنائهم المفروض. فشعرها كان مشعثا وبعض منه متناثر على كتفيها المحنيين اللذين كانت ملقاة عليهما أحمال فى أكياس تبدو ثقيلة. أحست بالأم على كتفيها حين رأتها فاستدارت نحو المرأة وسألتها من أنا؟ ولأن الكذبة كانت ولا زالت ممدودة: لم تنتحر.
شهور تنساب وهى لا تبالي. وحيدة جريئة منتصرة وبائسة. منتشية تتحدى ما سيصير وواهمة تضاجع الأفكار والعدم. ستصوغ المستحيل فى جمل كأنها النيران سرقت من مشاعل الآلهة (آه يا إشراق أحببته فتمنيت أن أموت) ستثأر للمحزونين والضعفاء. ستثأر للبنات الوحيدات الفقيرات العاشقات الخائفات المرغمات على الحياة الباهتة. ستثأر للمرضى ستثأر للموتي.
هكذا انشطرت فى صباح اليوم الذى خرجت فيه من تحت السرير وقد كانت استقرت تحت سريرها منذ يومين حين حلمت بموت طفلها الذى لم تشعر به يحلق ويكبر فى أحشائها أبدا. حلمت أنها واقفة فى ردهة مستشفى حيطانها بيضاء تثير الشعور بالغثيان والبرودة. نظرت عبر ردائها إلى جوفها فرأت طفلا عريانا واقف على أرض بطنها. “العملية قيصيرية” يعلن الطبيب المتجه نحوها ووراءه ممرضون يجرون سريرا له عجلات تصدر صوتا كصوت رنين المنبه. تتراجع خطوات إلى الخلف وتلتصق بالحائط ثم تنظر ثانية فترى الطفل يسقط على أرض شديدة الاتساع لا نهاية لها، وقد التف حوله أناس هاماتهم طويلة، ووجوههم وردية، وعيونهم براقة “الأرض بور” “يا حرام”. هذا ما توقعناه طوال الوقت، أزيحوه من هنا منظره قبيح” “الوردة السوداء كالبطة السوداء ها ها ها”
” يا ماى إنه الوقت”. تصرخ أمها الواقفة على عتبة الحجرة ” “ألم تسمعى المنبه”. “كان صليبى وباعث روحي” تجيب إذ تقفز من فوق السرير وتختبى تحته.
مسمس هـ نعتذر وتطلع من تحت السرير
أو هـ تغرق وتعفن فى البير
يا بير يا بير امتلى ثعابين كثير
يا بير يا بير إمتلى عقارب كثير
يا بير يا بير امتلى غربان كثير
تنزل تخطف عينيها وتطير
”سأحكى لها حدوته وبعدها ستخرج من تحت السرير وتذهب إلى المدرسة” يدخل أبوها الحجرة فتشم عطره العبثى المفارق الذى لا يفارق. يخطو بعض خطوات ثم يجلس على حافة السرير حذاءاه أحدهما مرتفع والآخر مستند إلى الأرض. كانت أحذية والدها متسخة وثمينة جدا. كأنها ريشة رسم منهكة وملونة ومنسابة فى رقة نحو الأمام (هكذا تتخيل والدها الآن بعد سنوات وسنوات من موته الجسدى ولكن فى تلك الأيام التى كانت فيها طفلة كان أبوها يدخل الحجرة تتقلص وتتلوى أحشاؤها خجلا وعشقا ورغبة فى إرضاءه، كل هذا مغلف بغضب خاص بدأ فى ذلك اليوم الذى انشطرت فيه يتهاوي.)
”كان يا ما كان هناك بطة سوداء” يحكى … “ثم عادت بعد الرحلة بجعة لون ريشها أسود ما زال مثل الليل الجميل. منقارها من الذهب الخالص. وعيناها فيروزتان حرتان. عادت تشق السحاب وترقص على موسيقى الحياة الحقيقية الهامسة”.
هكذا كانت تحكى لها الحدوتة، لكن هى أعادت تأليفها مع صغيرتها فى ذلك اليوم، أخذت تزحف على الأرض خارجة من تحت السرير وتحكى لنفسها الحدوتة، المختلفة، إذ تفكر: البطة كانت ذهبية. وكان ريشها صلبا صلابة الذهب بقيد حركتها. لم تكن تعرف كيف تطير وكل هذا الذهب يحيط بجسمها الصغير.
ولكن، قالت إذا طارت نحو الشمس الحركة والحماس والقرب من دفء الشمس ستذيب الذهب وتظهر حلاوة لونها الأسود الحقيقى الذى سيتلون ألوانا لا نهائية من أشعة الشمس البرتقالية، تلك الأشعة السحرية الذى تحيى كل ما فى الكون من موجودات. كانت تلك هى الحدوتة التى خرجت من أجلها من تحت السرير ولكن ما هى الحدوتة التى تنتظرها خارج البيت. كان لابد أن تكون هناك حدوتة. راحت ترتدى ملابسها وتبحث عن حدوتة جارية خارج البيت لتصبح إحدى بطلاتها وفى تلك اللحظة رأت نفسها عجوزا فتذكرت حدوتة.