الناس والطريق
(الجزء الثانى)
الفصل الثانى: الصلح خير
يحيى الرخاوى
السبت 26 / 6 / 1993
…لكن لم أنم، ما ألم بى طيف ولا غيره، لكن لم أنم، هل هى فرحة بالخروج من الشرنقة، أم أنه الشوق إلى باريس، لكننى مازلت مخاصمها خصاما شديدا منذ الرحلتين السابقتين، وتذكرت أن الواحد لا يخاصم إلا من يهمه أمره، فهى تهمني، لكن استقبالها لى فى المرة السابقة وما قبلها كان غريبا مريبا، مـرة كان الهواء يقطع بالسكين (كما يصف صديقى الفلاح المنواتى “سعيد أبو عيد“8888” الشاى الثقيل الذى يصنعه لى كلما مررت عليه)، ومـرة تالية كانت زيارتى لها زيارة مؤتمرية قبيحة، حاولت أن أخفف من قبحها بأن اصطحبت ابنتى معي، وبأن نمر على إسبانيا قبل ذلك المؤتمر الخبيث، نعم مخاصم باريس مهما صنعت، لذلك قررت أن أغادرها غدا إلى الشمال، إلى بريتاني، كلفت صديقى فى رين أن يحجز لى غرفة فى بيت ريفي، سوف أضع قدمى فى باريس ليلة واحدة، ثم أعود من رين، من ريف رين إلى المطار مباشرة إلى القاهرة.
ودعت بهو الفندق الذى احتوانى رحما طيـبا ذا واجهة زجاجية ممتدة (بانورامية) ودعت الشمس والبحيرة والجبل والكرسى والمنضدة، وحضر سائق آخر يصطحبنى فى هذه الساعة المبكرة، قلت أحسن، فكم أحسست بصعوبة أن أوقظ أحدا فى السادسة صباحا بالرغم منه، ولعل هذا السائق الجديد كان مثلى ممن يقومون الليل إلا قليلا.
وإلى جنيف ياعم السائق.
لست أدرى ما هى علاقة الناس غيرى فى أسفارهم بمثل هذه الطقوس، ذلك أننى أحتفظ دائما بموقف خاص من أشياء عامة، أشم فى كل زاوية رائحة أعرفها حين أعود إليها، أسمع من كل كرسى همسا، وأستنشق تحت كل شجرة نسمة هى هى ، أعود إليها جميعا ولو دقيقة واحدة، أحيى ذا الديار وذا الديار، لا أبكى طللا، لكننى أقرئ تحية وأسمع الرد واضحا جليا، (عرفت معنى ذلك لاحقا حين شاركت فى ندوة عن: شاعرية المكان لبشلار) أسمى كل هذا طقوس السفر، فماذا يا ترى يعمل غيري، هؤلاء الذين يسافرون إلى أقصى الدنيا، قال ماذا ؟ قال يشاركون فى مؤتمر علمي، ثم ينتقلون من مؤتمر إلى مؤتمر، وكأنهم ينتقلون من حجرة فى الفندق نفسه إلى أخرى ، أليس كله هيلتون؟ هم أفاضل بلا شك، لكنى أفضل فضلا آخر، المهم، حين اقتربنا من جنيف لاحت لافتة تقول: “إلى المطار” فقلت للسائق: بل إلى وسط المدينة، وكان السائق على ما يبدو قد أبلغه أحدهم بأن لى ما أنجزه فى جنيف “البلد” وليس جنيف المطار، وقال إلى أين، قلت: إلى فندق الرئيس (البريزيدانت)، ثم ساعة الزهور بعد ذلك، ولم يكن لى أحد فى فندق البريزيدانت هذا، لكننى أريد أن أشم رائحة جدرانه لما سلف من شرح، دخلته شامخا والعياذ بالله حتى لا يسألنى أحد إلى أين، وكانت الساعة بعد السابعة صباحا بقليل، وانطلقت إلى البهو الداخلى مباشرة دون الاستقبال، وجلست، البعض يتناول الإفطار على امتداد البهو مباشرة، وخفت أن يأتى النادل المجلجل يسألنى ماذا أطلب مع الإفطار: شايا أم قهوة، فتشبثت برجلى فوق الأخرى فى ثقة مزعومة، وتمنيت أن أكون من مدخنى الغليون، فهو يتناسب وهذا الموقف تحديدا، ونظرت إلى الساعة وقررت ألا أقوم إلا بعد ربع ساعة، وإلا ماذا يقول السائق. وقد كان، وفى هذا الربع ساعة – صدفة أخري- وضعت فهرسا كاملا لست كتب هى بديلة ذلك الكتاب السخيف الذى كدت أتورط فى كتابته، والذى كان من بين أسباب حضورى هنا، لم يكن معى قلم وورق لكننى فهرست السـت كتب وحفظت مواضيعها صما عن ظهر قلب هكذا فى ذاكرتي، ألم أقل لكم إن الشرايين لم تعد متصلبة والعقبى عندكم فى المسرات، مضى الربع ساعة فخرجت وتمنيت أن أستطيع السير ومازالت رجلى على رجل، لأن رجلى الأعلى كانت مثل الدرع الذى يعطينى منظرا يحمينى من الاقتراب، وتسليما بالمستحيل استعضت عنه بنفخة مناسبة، جعلت سعادة البيك الخواجة البواب يعدو إلى العربة التى هي، ولابد أنه عرف أنى نزلت منها، وفتح لى الباب منحنيا، وأغلقه خلفي، يا إلهى !!!! من يعرف أبى يذهب يقول له عن الأمـله التى فيها إبنه.
قال لى السائق وقد صدق أننى أنهيت مهمة ما فى البريزيدانت شخصيا، “إلى ساعة الزهور؟”، فاستحليتها وهززت رأسى دون أن أنطق، لاحظ السائق هزة رأسى فى المرآة فتوجه صامتا إلى حيث أشرت.
وصلنا إلى ساعة الزهور، قال هنا؟ قلت نعم، وأنا لم تعد تعنينى ساعة الزهور مثلما كانت تعنينى أول ما شاهدتها سنة 1969، عندنا فى الإسكندرية الآن مثلها وأحسن، بل فى القاهرة كذلك (لولا الاعلانات!!)، وهى (الساعة) ليست من مزارات طقوسي، ثم كيف أختفى عن السائق هذه المرة والشوارع خالية والمحلات مازالت مغلقة، فتذكرت أننى ما جئت هنا إلا لأزور جنيف القديمة التى ساقتنى قدماى إليها وجدى دون خريطة كالعادة (وأظن جاء ذكر هذا فى الفصول السابقة)، شحذت حدسي، وقلت للسائق ربع ساعة من فضلك، ومضيت إلى الشوارع الجانبية، وفجأة وجدت الترام، مازال يميز جنيف، لماذا أزلنا الترام ذا الدورين من الإسكندرية؟ وعبرت شريطه بسرعة دون تردد، واتجهت بالحدس المكاني، ولمحت ثمن قفاز حريمى فى أحد الواجهات الزجاجية، وحسبت ثمنه فتساوى مع مرتب خريج جامعة مصرية فى مصر لمدة بضع سنوات، وأكملت السير بالسرعة نفسها أسير مع الطرق تضيق وترتفع، إذن فأنا فى الطريق السليم، ها هو الدرج، وراء الدرج، لافته تشير إلى شارع كذا وسط الدرج، وابتسمت، ولففت حول البيت العتيق، ووجدتها، الأريكة نفسها التي..التى ماذا؟ ولا شيء – لم يحدث هنا حدث معين، لم ألتق بأحد، كان معى أولادى وضحكوا منى وأنا أقودهم: بغير خريطة إلى حيث اعتادوا أن أقودهم، المدينة القديمة والشوارع الضيقة، جلست على نفس الأريكة ، قالت همسا دافئا: عمت صباحا، فرددت التحية، وسألتــنى :”هل مازلت أنت هو أنت، وقلت لها “أنت وما ترين”، قالت” كدت لا تكون هو هو، لو تأخرت أكثر من هذا كانت غضاريف ركبك ستزداد ضمورا، وشرايينك ستزداد تصلبا، وسوف تنساني”. لم أفزع من التهديدين الأولين، فهذا أمر الله وحكم العمر، لكننى فزعت من التهديد الثالث، أنساها ؟ أنساهم؟ يارب هل هذا ممكن؟ ولكن الذاكرة تذهب مع ما يذهب بفعل العمر، ولعل الأريكة لم تقصد ذلك، ربما تقصد أننى لو تأخرت أكثر فلن أستطيع أن أجـرى معها حوارا، لن أشتاق إلى أحد، ولا إلى شيء، لن أنبض، هل يا ترى جئت قبل فوات الأوان فعلا؟ قالت “نعم”، فصدقتها.
ونظرت فى الساعة فإذا الوقت قد قارب الميعاد، فجريت وكأن جرس المدرسة سيرن، أو أنى قد تأخرت، وقبل الوصول إلى العربة بقليل أبطأت الخطى وانتفخت، فرق واضح بين نفخة واجبة، ونفخة للاحتياط، لا يوجد بيك يفتح لى السيارة، ولا السائق ملتفت، فحمدت الله لغفلته، لم يلحظ السائق عرقي، وطبعا لم يخطر على باله خوفى من التأخير، دلفت إلى السيارة فأدار السائق المحرك صامتا، ولم أعتذر عن الدقيقتين طبعا، الشيء لزوم الشيء، وعدم الاعتذار لزوم توصل جلالتى المطار!!، وأوصلنى وتمنى لى سفرا طيبا، وخلاص.
فهمت قاطعة التذاكر فهما خاطئا من موقف تذاكرى وحقى فى العودة إلى باريس قبل عشرة أيام وما إلى ذلك، وطلبت ثمن تذكرة جديدة، لم أحاورها كثيرا مثل زمان، ليكن، فهى مستورة، ولأدبر أمرى مع الشركة المخطئة عند عودتى إلى القاهرة، وقلت لنفسى هذه أول ميزات الستر، ألا تـغيـر مزاجى غرامة هنا أو غلطة هناك، والأهم من ذلك أننى لا أدفع شيئا، فهذا الشيء القبيح الذى اسمه “الأمريكانى التشهيلاتي” هو الذى يدفع عنى كل شيء، وأنا أعرف أنى أدفع عن طريقه أكثر، وأصرف أكثر، هذا إذا تشجعت فصرفت به أصلا،، “فليكع” الأمريكانى التشهيلاتى (الأميريكان إكسبريس) كما شاء له أن “يكع”، وليبحث بعد ذلك عمن يدفع، فأنا فى مصر لا أدفع، (هكذا أوهم نفسى) ولاأعرف قيمة محددة للقرش، لأننى لا أعرف كيف ولا لماذا يجئ، وإن كنت أحاول أن أعرف كيف وإلى أين يجب أن يذهب، وقد كانت وصيتى لأولادى مكررة وحادة ومؤلمة فى مسألة، كيف وإلى أين، حتى قال لى إبنى الأصغر وأنا أحاول أن أسلمه بعض العهدة (الأمانة – الوصية .. الخ): “إنك لو أعطيتنى كل يوم ألف جنيه، فإن ذلك لن يـصلح ما قلتــه سابقا”، قالها وكأنه يلومنى لوما شديدا، وبلعتــها، كيف أصلـح ما قلتــه له سابقا؟ وماذا قلت له سابقا يحتاج لإصلاح أو اعتذار؟ قلت لهم : المال مال الله، وكل ما أتركه لكم، بل كل ما ستكسبونه حتى بعرقكم، هو مسخـر أساسا لخدمة المرضى الذين هم أساتذتى وأصحاب الفضل علي، ثم لخدمة المعرفة (تأليفا أو نشرا أو توسيع أفق وتحريك وعى)، ثم بعد ذلك لكم كامل الحرية فى أى شيء، لعله كان يلومنى على أننى -بذلك- لم أترك له ولهم أى “بعد ذلك”، وما ذنبى أنا إذا كان هذا هو ما تعلمته من مرضاى وحياتى وربى عن معنى حمل الأمانة، وحين اجتمعت بأولادى فى لقاء تال أبديت دهشتى وعدم فهمى لموقف هذا الأصغر، فأجابنى بما يعنى: لا عليك فقد تفهم فيما بعد !!! كذا ؟؟؟ هذه هى الإجابة التى اعتدنا أن يجيب بها الأب على أطفاله وهم يسألون عن الجنس أو عن الله ، فنجيبهم: غدا حين ستكبرون ستعرفون، …، لم يكن ينقص ابنى إلا أن يضيف بعد قوله ‘.. فيما بعد” أن يضيف “لما تكبر” .. الله يسامحك يا حبيبى ، ثم ماذا عليه هو أو إخوته لو لم ينفذ أحدهم الوصية مادام سيختبئ فى حرفية لا تعنيني، حتى آية الذكر والأنثيين هذه أبديت رأيى فيها، لأن تعريف الذكر يتغير بتغير الأحوال الاجتماعية، والذكر عندى الآن هو: من يتصدى لحمل أمانة المال، مال الله الذى تصادف أنه فى يده، ويتعهد مسئوليته، ويوصله إلى أهله، هذا الذكر هو ذكر سواء كان له شارب أو ثديان، ولم يعجب بعضهم هذا وإن لم يعلنوا ذلك، لكنه هو وحده الذى سيحاسبني، أم أبيع عقلى لغيرى يا ربي؟
المهم، قام عنى الأمريكانى التشهيلاتى بدفع المعلوم، والتفت إليه فى جيبى وللفتاة الوديعة التى اعتذرت لى عن هذه الغرامة، و أخرجت لهما لسانى فى سري، فهذه أول مرة تتوقف آلة عقلى الحاسبة عن الجمع والطرح فى الغربة، وأنه لو وفرت كذا لصرفته فى كيت ،، وكان أولى بى ألا أتناول غذائى فى ذلك المطعم حتى أستطيع أن أشترى لعبة لحفيدى (إلى هذا الحد ؟ نعم !!، وأنا هكذا؟ نعم!!) إلا هذه المرة، حدث تغيير يبدو حقيقيا، هل اطمأننت ؟ هل توقفت عن الخوف من الموت جوعا؟ ربما، فليأت التغيير حتى أستطيع أن أعيش ما تبقى لى كما ينبغى دون أن أتخلى عن مسئوليتى نحو القرش والناس، ربنا يسهل ويمنحنى ما أستأهله قبل أن يفوت الأوان، لكنه ليس عيبا أن أكون حريصا شريفا، وأن أرعى الله وأن أتذكر الناس الذين لا يقدرون على مجرد تصور ما أكرمنى الله به من سعة رزق وفرص حركة، يقول أولادى أحيانا – بأدب غالبا وفى سرهم معظم الوقت !!- وهل هذا الذى تعمله فى نفسك يعود على من لا يقدر بشيء؟ وأكتشف وجاهة رأيهم، لكن العكس أيضا شديد السوء، ماذا لو نسيت، ونسوا قبلى أن هناك من لا يقدر أصلا؟ ثم إنه لا مثل هذا التفكير ولا حتى الاشتراكية قد قدرت أن تحل لى هذا الأمر، وحين كنت فى سوريا فى أبريل الماضي، زرتها بالعربة بعد طول حنين. شعرت أن هناك شيئا مازال باقيا مما يسمى اشتراكية، مثلنا زمان، الأشياء رخيصة، والشعب خائف، والرئيس مقدس، وبلودان جميلة وخلاص، قال: خلا اااااص، قال لسة، خلااااااااص، لسااااااه، وظل الأمر هكذا سبعين عاما ثم تفكك المعسكر الاشتراكى وتركنا فى الخلاء – لابد من حكومة، وضرائب، وزراعة وصناعة وتصدير وتحديد نسل، وبعدها يا أولادى يا كرام سوف أصرف – وتصرفون – كل ما يصل جيبى دون أن أفكر فى أحد غيرى كما تريدون لى ( بل لكم يا خبثاء).
تحتاج رحلتى إلى سوريا بالسيارة فصلا مستقلا، هى الرحلة التى انتهت بلقائى مع زوجتى فى جنوب الأردن فى البتراء، هل هناك نصيب وبقية من عمر لأكتب جزءا ثالثا من “الناس والطريق” فى البلاد العربية؟ لن أفعلها، رغم أنى مدين بقدر كبير من الوعى لرحلتى لليمن، صنعاء وثلا، والبيوت ذات الستة أدوار منحوتة فى الجبال منذ آلاف السنين، يسكنها ناس عاديون حتى اليوم، ومجالس القات. صنعاء: روما العرب (كما نعتها الطيب صالح ونحن فى مقيل مع عبد العزيز المقالح ) والسعودية، والطائف، والأردن، وإربد، وما حدث عند الحدود فى الرمسة، فى الذهاب إلى سوريا وفى الرجعة، وبلودان والشام، والطريق إلى بيروت، وأول رحلة لى إلى بيروت وبعبدون ولبنان الجبل سنة 1954، وكان كل ما معى خمسة جنيهات مصروفا خاصا لزوم الفسحة والمشتريات طوال خمسة وعشرين يوما، كل هذا أتصور أن على أن أرجع إليه وأن أسجـله، أليس العرب كل العرب هم ناسى وطريقنا واحد، ناس وطريق ؟؟؟ ليسوا كالناس والطريق هنا ، لماذا كتبت عن الخواجات دونهم، وكيف أكتب عنهم لو أردت ؟ وكنت قد وعدت قراء الجزء الأول أن أحكى عن الناس والطريق فى سيناء، وسانت كاترين، ودهب والعسلة …، ثم هذا العام فى العلمين ورأس الحكمة، ثم طابا، زرتها أخيرا يا ريس أنور جزاك الله عنا خيرا وغفر لنا- وجزيرة فرعون، وقلعة صلاح الدين ونويبع، لكننى – بنصف وعي-حرمت القارئ وحرمت نفسى من هذا كله، فليكن الأمر متروكا لفرصة أخرى إن كان فى العمر بقية، وفى القلم عافية، وفى الذاكرة متسع، أم أن الهرب هو الذى يدفعنى أن أزوغ متمثلا القول المأثور “فين الهرب يا عرب؟ ‘ بل هو الهرب يا عرب، نعم، وبكل ألم وخجل، وحين تضم ضيق الوقت إلى حكمة الهرب تجد مبررات العزوف عن الكتابة جميلة، رحلتى إلى الجانب الآخر من العالم تسمح لى بالتعري، بالطلاقة، أما رحلتى إلى داخلنا فهى تحتاج إلى الستر والصبر، ماذا أقول عن السعودية وقد زرتها هذا العام مرتين مضطرا بغير أوان؟ ماذا أقول غير ما ألمحت إليه فى مسألة التأشيرة والجوازات والتأخير وحقوق الإنسان العربي، ماذا أقول عن الشوارع والناس والوثاق المزدوج double bind؟ يقولون الشيء وضده، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يعلنون، وينضبطون بجفاف منقطع النظير، لأهداف غير مرئية على متدرج الحضارة، ويتناقشون بثقافة لها عمقها الخاص ولكن فى حجرات لها أقفالها المتينة ، ثم ماذا ؟ ماذا أقول عن الداخل والخارج؟ ماذا أقول عن وعن وعن؟ لا الناس ناس ولا الطريق طريق؟ لكننى قد أعرج إلى الدار البيضاء،- كازابلانكا- مارا بإسبانيا فى هذا الفصل مستطردا، كتبت هذه الجمل الاعتراضية الكثيرة وأنا أعلم أن هذا العمل (الناس والطريق) ليس إلا مجموعة من الجمل الاعتراضية، والشاطر يوصلها ببعض، لدرجة أنه من كثرة الجمل الاعتراضية لم يعد القارئ – ولا الكاتب- يستطيع أن يعرف أين الأصل الذى تعترضه هذه الجمل، ومن يريد أن يضع تشخيصا مناسبا لكل هذا: يورينى شطارته.
خرجت من البوابة رقم (8) كما أرشدنى رجل المطار متجها إلى الأتوبيس لينقلنى إلى الطائرة، فأشار لى سائق الأوتوبيس معتذرا، وأشار إلى طائرة منمنمة تقف بالقرب منا، وأن على أن أتوجه إليها على قدمى سائرا، وكنت قد نسيت أننى هكذا نزلت على قدمي، لكن الصعود على الأقدام شيء آخر يشعرك فعلا أنك ذاهب لتركب تاكسيا أو أتوبيسا – محليا، وعدنا إلى باريس فى خمس وأربعين دقيقة دون أى مغامرات أو مطبات هوائية ولا يحزنون، وبسرعة جاءت الحقائب وخرجت – نسيت المظلة التى جئت بها من مصر- فى الطائرة- أحسن، رددت قول أمى ‘ إن جت فى الريش بقشيشش” وقلت أحرص على ما هو أهم، قرصة واحدة تكفى فأنا مؤمن والحمد لله، وتساءلت مرة أخرى : كيف لا يطلب منى أحد شيئآ أصلا بالنسبة لتأشيرة الدخول وإجراءات المطار والجوازات والذى منه؟ و كيف يحمون هذه الحقائب التى نتسلمها وكأنها تلقى بالصدفة، كيف يحمونها من السرقة لو أن غريبا جاء ووقف على السير والتقط بسرعة حقيبة غيره ومضى بها؟ وكيف وكيف؟ (كالعادة)
وتلفت فوجدت صديقى وزميلى الذى يعمل فى رين قادما يستقبلنى هو وبناته وزوجته القادمين من مصر منذ ساعة. زوجته أيضا إحدى تلميذاتى وابنته الكبري-هى صديقتى الأولى قبل أن تحتل الوسـطى (فـرح) مكانها، صديقتى القديمة “ياسمينة” تتقيأ أو تكاد، وأمهم الطيبة لا تدرى ماذا تفعل، وأحسست بحرج لم أتبين تفاصيله إلا فيما بعد، حرج هو الذى له كل الفضل فى مصالحتى على باريس.
لابد أن الأم القادمة من مصر ومعها بناتها تحمل حقائب كثيرة، ولا يوجد مكان فى سيارتهم لحقائبي، فاقترح على زميلى أن أترك الحقيبتين فى “الأمانات” لحين سفرى ثانية إلى القاهرة، وفرحت فرحة الرحالة الذى سينطلق دون حقائب، كان المفروض أن أعتذر أو آخذ تاكسيا، المهم: ذهبنا إلى الأمانات متصورا أنهم – فى مطار شارل ديجول شخصيا- سيعطوننى خزنة لها قفل أستلمه ولا يفتحه غيرى إلى آخر ما سمعت وتصورت، لكنهم أخذوا منى الحقائب وإحداها مفتوحة، وأعطونى ورقة، لعب الفأر فى عبي. حدثت أشياء بعد ذلك أكدت لى عدم حبكة الأمانات، لم أستطع التراجع، هيا إلى باريس والخجل من ثقلى على هذه العائلة الصغيرة يزداد، تقيأت البنت الكبرى فى الطريق والثانية بدأت تشعر بمثل ذلك، وكدت أشعر أنا أيضا بمثل هذا وذلك ، وهنا أدركت أكثر فأكثر كم أنا سخيف حين قبلت أن ألتقى بهذه الأسرة كلها هكذا فى المطار، فأعطلهم وأربكهم، لا، ليس شوقا، ولا ودا، ولا شيئا، لكنه تصرف مصرى خاص لا بد أن أرى فيه رأيا لأكف عنه مستقبلا.
وصلنا باريس وأمرت صديقى بإلحاح ألا يوصلنى إلى الفندق الذى تعودت أن أنزل فيه حتى يتفرغ لأحوال أسرته، وغثيان ابنتيه، أسمى هذا الفندق : فندقى ، أضيف ياء المتكلم إلى أى مكان أعمل معه علاقة ولو بضع دقائق، هذا ركني، وتلك حديقتى وهذا فندقي، فندقى هذا فندق متواضع ذو نجمتين، له ذكري، أنزلنى صديقى بالقرب من “ميدان إيطاليا” فتنفست الصعداء ، أى والله لم أعرف معنى الصعداء بحق إلا هذه اللحظة، حقيبة الظهر على ظهري، والمظلة ضاعت فى الطائرة، ويداى حـرتان تتمرجحان حولى حتى كدت أرقص وسط الأشجار العريقة الرائعة طوال شارع “أراجو”، ماذا دهانى لألخم هذه الأسرة الصغيرة الغريبة كل هذه اللخمة، نصف ساعة بالتمام سائرا أمرجح ذراعى ، وصلت أخيرا إلى ميدان الجوبلان،
وابتسمت باريس فى سرها ، نظرت إلى نظرة إهلاسا ، وكأنها انتصرت على فى النهاية: المقهى الصغير الذى كتبت فيه قصيدة اسمها “الجوبلان” تصف عصفورا وعصفورة من البشر الظرفاء يتناجيان (لم تنشر)، والمقهى الأحمر على الناصية المقابلة، هذه هى نهاية شارع “أراجوا” ليبدأ شارع “سان مارسيل” امتداد كنت قد تمنيت فى الزيارة السابقة أن أسكن فيه حيث لمحت فندقا صغيرا نظيفا جذبنى ونادانى ولم أستجب حرصا على العـشـرة مع فندقى سالف الذكر، أثناء السير أخذت أسترجع ما حدث فى المطار من حرج، وتصرفاتى السخيفة التى لم أكتشف كم أزعجت هذه الأسرة الصغيرة إلا متأخرا، هل يا ترى أصابنى ما كنت أشكو منه وأسميه أحيانا “الحضور المصرى الثقيل” فى خارج الديار خاصة؟ لكن خفف عنى أن ابتسامة باريس أخذت تتسع فى هدوء مرحـب، وأحيانا بخبث شامت، وكأنها هى (باريس) التى دبرت كل هذه المقالب حتى تشاغلنى فأتحداها فأعدل عن هجرها والذهاب إلى ريف رين، كيدهن عظيم، فليكن، القديمة تحلى ولو كانت…، لكن باريس ليست “وحلة”، على عينى يا ست الكل: سوف أبقى فيك ومعك هذه الأيام ، ولن أذهب إلى رين هربا ،فيكفى هذه الأسرة ما أزعجتها به فى المطار، لن أذهب إلى رين، لن أذهب إلى الريف فى الشمال، لن أترك حقائبى فى الأمانات، لن أسافر إلى مصر إلا بعد أسبوع بالتمام رغم ما تركته من مسؤوليات هناك، ورغم عدم وضوح كيف سأقضى وقتى هنا، ولماذا؟
أنا لا أذهب لملاهى الشانزلزييه، وشبعت وجبات شهية، وخدمة فائقة حين كنت فى مونتريه فى الأيام القليلة الماضية، ثم إنى لا أدخل متاحف، لا اللوفر ولا غيره، ولا أصاحب فى السفر إلا الخضرة، والجبال والشوارع المرصعة بالحجارة القديمة، والأرائك الخالية فى الشوارع العامة، ثم إن الكتاب الذى حضرت أسرق له أسبوعا اختـفـى فى ظلال القرارات الدامغة، أحسب أنه من السفه أن أقيم فى باريس شخصيا لأحبس نفسى فى حجرة أكتب فيها خمس عشرة ساعة، وعندى فى مصر مائة حجرة مجانا ومناظر من التى هي، فلماذا أبقى هذا الأسبوع.
ليس عندى ما أعمله هنا. لكن – هكذا والسلام لماذا؟ لم أكن أدري، ثم دريت.
قررت أن أسترد حقائبى من الأمانات فى المطار ما دمت سوف أبقى وحدى فى باريس، اصطحبنى صديقى هذا بعد أن اعتذرت له عن السفر معه إلى رين، قال لى زميلى ونحن فى طريقنا إلى المطار إن العلاقات هنا تزداد صعوبة، وأنه لم يعد أحد يبذل جهدا أو يعمل حركات للحصول على صديق أو صديقة، وما على الواحد إلا أن يعلن فى الصحف، -وثمة صحف خصصت لذلك – عن مواصفاته، ومواصفات التى يريدها أو تريده ثم يتم الذى منه ، والذى ليس منه، وثمة مكاتب لها أرقام تليفون، ويا بخت من وفق راسين فى الصداقة، وكنت قد قرأت مثل ذلك فى أمريكا أثناء رحلة “الصباحية” إلى ابنتى فى لوس أنجلوس، وقلت لصديقى: وما الجديد فى هذا؟ قال نشأت مكاتب جادة ومكاتب نصب، كالعادة، ثم سـرى عرف يقنن هذه العلاقات التى أصبح لها قواعد وطقوس، كما أن لها سماسرة وعمولات، وتسمى هذه العلاقات بالعلاقات ذات الصبغة الزواجية maritalemant ، ويترتب على هذه الصبغة حقوق وواجبات والتزامات وما شابه، قلت له: “أليس هذا هو الزواج بعينه”،ألا يتم كل ذلك فى علانية وتسجيل أحيانا ؟ قال: “نعم… ولكن…، خذ مثلا : إن النظام معفى من مسئولية الأطفال، والترك فيه أسهل من الطلاق، والتعدد سهل أيضا فى بعض الأحيان، وكل شى ء جائز ما دام مدرج فى اتفاق سابق، كل شيء يعنى كل شيء، فهناك إعلانات يعلن عنها اثنان (صديق وصديقة) عن حاجتهما لاثنين آخرين مثلهما ليتبادلوا العلاقات كل أو بعض الوقت”، وهناك وهناك وهناك إلى آخر ما هناك، بحسب قدر الحرية مضروبا فى نوع المزاج …، (فظن ما تظن أنت أيها القارئ من توافيق وتباديل جنسية وغير جنسية ، واعلم أنك لم تشطح مهما شطحت ) قلت: الله أكبر، خلينا فى المسألة الأعم، وهى الصداقة بالإعلان، أنا أرى أنها مناسبة، وأنها عرض وقبول مع العلانية، وأن كل ما يعيبها دينيا هو نية الانفصال ابتداء”، فقال: “إن ذلك بالضبط هو ما يميزها، وأحيانا يعيش اثنان معا عشر أو خمسة عشر عاما ثم يقرران الزواج”، قلت: “والله ما زلت منبهرا بالأمر، بل لا أكتمك سرا إذا قلت إننى محتاج له، فطول عمرى وأنا لا أفهم كيف يكذب شاب على فتاة وبالعكس حتى يعلقها باسم الحب، ثم تبدأ علاقة ناقصة موقوته، وبختك يابو بخيت، وطول عمرى لا أستطيع حتى مجرد تقمص إنسان يدفع لا أدرى كم … ليقذف لا يدرى ماذا … فى ما لا يدرى أين، تجارة الهوى هذه كذب وامتهان للشارى والبائع على حد سواء ، أما الإعلان هكذا، وعلى عينك يا تاجر، فهذا قد يناسب من يحاول الصدق مثلي، وأنا أحاول والله العظيم”، قال: “قد يناسبك أنت ولكنه يعلن صعوبة العلاقات التى تبدو من الظاهر هنا أنها تمام التمام، قلت له: “لا تبدو ولا يحزنون، هى كذلك.’ وأخذت أفكر كيف يمكن أن أستفيد من هذا الإعلان خلال أسبوع دون أن أكذب أو أخون أو أرتكب؟.. وظلـت “الأوات” (جمع “أو”) تتلاحق حتى جرى ما يجرى دائما: “كما كــنت”!!، ولعلمى المضمر بهذا النهاية المعتادة، سمحت لخيالى بالشطح المناسب ، وإن كان شطحا معدلا لظروف السن وآلام الركبتين المزعوم، ثم رحت أفكر فى هذه المكاتب التشهيلاتية الجديدة، شركات توظيف الأحوال (على نظام توظيف الأموال)، ومن يدرى ماذا لو علم أخونا السعد بهذه التجارة الجديدة كيف سيسهم فيها تمام التمام بما يزيد من حسناته وطول لحيته، شكل حديث لزواج المتعة، يحتاج لفتوى بالمقاس، والله فكرة!!!!!
عدت ومعى الحقائب. ودعت زميلى وطلبت منه ألا ينتظرنى فى رين، وأخذت رذاذا ساخنا، والجو حار رطب، وربنا يسهل،
الجديد هذه المرة هو هذا الجهاز الذى أكتب عليه الآن، هل لو لم يكن معي، هل كان الأمر سيمضى بهذه البساطة، وهل كان الوقت سيمضى بهذه السهولة، يمكن “نعم” ويمكن “لا”، كنت سأفكر أكثر، وأضجر أكثر، وأمشى أكثر، وأحزن أكثر، وأكتب وأنجـز أقل.
جلست إلى هذا الحاسوب مؤتنسا، وكان الموضوع الذى ينبغى أن أكتبه فى ذلك الكتاب الذى دار 360 درجة هو من أهم الموضوعات التى تشغلني، كان عن “البصيرة “والحكم على الأمور “والعلاقة بالزمن” وكيف نرصد كل هذا ونحن نفحص المرضي، فاكتشفت ظهرا وأنا أكتب هذا الفصل فى زحمة ذكريات قيء البنات، والانشغال على الحقائب، وانتظار الصديق، والخجل من عـمـلتى السخيفة، اكتشفت وسط كل هذا عدة أنواع جديدة من “البصيرة” سوف يجدها من يهتم بها فى مكانها حين يصدر ذلك الكتاب المزعوم، وعجبت كيف تتدفق المعلومات البحتة بكل هذا النظام العلمى الرصين وسط كل هذه الزحمة وطيران الأفكار، إذن فأنا هنا أعمل وأفكر وأكتشف، ثمة “بصيرة مع وقف التنفيذ”، “وبصيرة شكلية لتأكيد انعدام البصيرة”، “وبصيرة مقطعية” “وبصيرة جزئية” “وبصيرة مؤقتة” “وبصيرة مشروطة”، هل كنت سأكتشف كل هذا فى القاهرة والتليفونات تضرب تقلب وأنا مسؤول مشغول مشدود محدود ؟ ربما نعم وربما لا، وحين أعاتب أولادى وتلاميذى أقول لهم ياناس يا طيبين أنا لم أجلس مرة واحدة لأكتب شيئا روتينيا مفروضا إلا وخرج منى ما هو جديد غير مفروض، كل لحظة أقضيها مع القلم (ثم الحاسوب الآ) هى فرصة لا أعرف ماذا ولا مدى ما يمكن أن يخرج منها، لكن الذى يحدث أنه يخرج منها مالا أتصور، فهيئوا لى مزيدا من الفرص، فى فسحة كافية من الوقت، ربنا يخليكم، فيقول كل واحد منهم إنه من عينيه الإثنين، لكننى فى النهاية لا أتحصل على شيء من عيونهم مجتمعة، لهذا ومثله لا أكاد أخلو بنفسى بعيدا عنهم حتى انتزعتها انتزاعا، الصدفة أصبحت فرصة والذى كان كان. لعلنى ما جئت إلى هنا إلا لهذا، ولكن ما “هذا” ؟
أذكر عنوان فصل فى (الناس والطريق) الجزء الأول اسمه ” بعد ظهر يوم سبت حزين“. كان فى بلغراد، التى لم تعد بلغراد، أو التى ظلت بلغراد لغير ما كانت، وكنت قد كتبت عن الفرق بين جنوب ما كان يسمى يوغسلافيا، ثم شمالها، ثم غربها، وكنت قد تعجبت لاختلاف الطباع، وحين هم زملائى وطلبتى بنشر العمل مكتملا، قلت لهم لابد من هوامش لاحقة تقول إن ما شاهدته لم يعد يصلح لشىء ولا لأحد، وإن الفروق اليوغسلافية ( بين أقصى الجنوب وأقصى الغرب مثلا !!!!) التى لاحظها وسجلها عابر سبيل مثلى سنة 1984 ثبت أنها كانت تعبر عن حقيقة عميقة، أفرزت دولا مستقلة لها حدود، وضحايا وجرائم بلا حدود، وإبادة منظمة، وشرفا مهدرا، ونظاما عالميا نذلا، ورئيسا عالميا عيـلا.
تذكرت عنوان ذلك الفصل فى بلغراد كان: “بعد ظهر يوم سبت حزين ‘ وأنا أتجول الآن بعد ظهر سبت آخر ، ليس حزينا، المحلات مغلقة ، والحركة أهدأ ، لكن الحزن يمضى قبل أن يأتى ( يا صلاح يا جاهين ، لم تركتنا ؟؟) ، ليكن “بعد ظهر يوم سبت جديد“. وما الجديد فيه؟ ولكن المونوبريه الذى أمام الفندق فاتح، وأنا أريد أن أطل على الأسعار وعندى ضمانة عدم شراء، لأننى لم أبـدل نقودا كافية، ليكن، وكانت ابنتى قد اشترت لى قبل سفرى مباشرة ما يشبه القميص الذى يسمونه قميص تاء T shirt بثلاثة جنيهات ونصف من شارع خالد بن الوليد فى الإسكندرية، وزوجتى اشترت لى أفضل منه (هكذا يقولون، فأنا لا أعرف الأفضل من الأسوأ) من سوريا بعشرة جنيهات مثلا، فوجدت هنا فى هذا المونوبريه أنهم عاملون تخفيضا جدا جدا، ووجدت أن التخفيض الذى نزل على قميص التاء المماثل لما اشترته لى ابنتى يزيد عن عشرة أضعاف ثمن قميصى ( أى حوالى: خمسون جنيها ). ولك أن تتخيل الأصل، إذا كان التخفيض خمسين جنيها فكم كان أصل الثمن ، كان ثلاثمائة فصار مائتين وخمسين، ويمكنك أن تكتشف- بحسبة مثل حسابات البنك الدولى – أن باريس أرخص من محلات وأرصفة العتبة، و شارع خالد بن الوليد فى الإسكندرية، ففى باريس تستطيع أن توفر فى كل قميص تشتريه خمسين جنيها بالتمام، فى حين كم وفرت ابنتى فى القميص الذى اشترته لى هدية ؟ ربع جنيه على الأكثر بعد فصال أضناها!!!! وتذكرت أن قيمة التخفيض قد تكون أكثردلالة – وخبثا- من أصل الثمن، حدث أن فقد تاجر قطن فى بلدنا حقيبته وكانت مليئة بحصيلة تجارته، فأرسل الشيخ “أبوالعلا” منادى قريتنا ينادى حول داير الناحية أنه “يا أهالى يا فلاحين يا أهالى هورين ، من يجد الحقيبة الـ كذا كذا له مائتين جنيه حلاوة” (وكانت العادة أن يقول المنادى إنه ضاع كذا كذا واللى يلاقيها حلاوتها أحسن منها !!) لكن المنادى هذه المرة حدد الحلاوة بمائتين من الجنيهات (أيام زمان) ، وكان هناك خواجة متمصر (تاجر قطن) يجلس عند البقال فسمع النداء، فارتفع منه الحاجبان- حقدا أو عجبا- وهو يقول : “ميتين جنيه خلاوة والباقى كام يا خبيبي” فصارت مثلا، فإذا كانت التخفيضات هنا تصل إلى عشرات الجنيهات هكذا، فماذا تكون أصل الأثمان يرحمكم الله !! ولربما يشترى الأذكياء والذكيات ما يغيظون به ذويهم من منطلق “كم وفروا”، وليس “كم دفعوا”، أليس هذا هو المنطق الذى نسير به اقتصادنا حين نتكلم عن نجاحنا فى الاقتراض وليس فى الانتاج!!
كلمت تلميذتى وزميلتى أم البنات فى فندقهم، اطمأننت عليهن، لهجتها ليست تماما، ودعتها ودعوت لبناتها بالسلامة، وطلبت منها ألا تنتظرنى فى رين، ثم نمت فى رعاية التليفزيون، ما أروع هذا الريموت الذى تغلق به التليفزيون عن بعد وأنت نائم، أصبحت أستعمل صور التليفزيون الملونة (دون محتوى ما يـبــث) بديلا عن حواديت النوم زمان .
الأحد 27 يونيو
ليس عندى خطة، ولن أمضى الأسبوع مع الكتاب إياه حتى ولو لم يعد سخيفا ، يلوح لى وعد ما، من مجهول ما، أننى مقبل على أمر ما، فى هذا الأسبوع الـ “ما”،
أنا مصمم والمجهول مصمم، ولسوف نري.
نزلت مثل زمان، اليوم الأحد ،والشوارع خالية لكننى أذكر أن المخابز مفتوحة، رحت أشترى رغيفا “باجيتا” آكله حافا، لا أعرف أصلا لكلمة حاف هذه، وهى من أجمل الكلمات العامية، وبعض المرفهين لا يعرفون أنها تعنى الخبز دون “غموس”، بل قد لا يعرفون كلمة غاموس أصلا، وأظن أنه ينبغى على مجمع اللغة أن يدخل هاتين الكلمتين “حاف”، و”غاموس” فى اللغة العربية إن لم تكونا قد دخلتا، من أجل خاطرى لو سمحتم، لمحت بجوار المخبز الذى اشتريت منه الرغيف غسالة أتوماتيك، لا يرعاها “سريخ” ابن يومين، يا حلاوة هكذا يشترى الواحد عددا من العدد، يهيئوها ببعض البرامج، وينام فى بيته، ويأتى يلم الفلوس، والله فكرة !!!! حملت رغيف “الباجيت” أظن بثلاثة فرنكات وستين سنتيم، ما يعادل جنيهين مصريين، وأظن أنه موجود فى مصر، أحسب عند السويس شاليه، فى القاهرة، وسان جيوفانى فى الإسكندرية، وربما غيرهما، لكننى هنا أجد له طعما آخر، فى جو آخر، أمسكته بالورقة الصغيرة حول منتصفه، وأخذت أتأمله فى غزل عفيف وهو طويل رقيق (حذار يا أيها الفرويديون من أى أفكار كذا أو كذا ) وجلست على أريكة من أرائك الرصيف الجميلة، ورحت أقضمه قضمة قضمة، وأتذكر.
لم تتح لى هذه الفرصة أبدا من 1969، زرت باريس أربع مرات على ما أذكر، غير هذه المرة، لكننى فى كل مرة كان معى بعضهم، وكنت أتمنى أن أفعل ما أفعله الآن فى السر، لكن ملاحقتهم لى بالمطالبة بالإفطار والغداء والعشاء، واستغرابهم من كهل مثلى قادر أن يأكل العيش الحاف هكذا فى الشارع، كل ذلك منعنى تماما من مثل هذه الفرصة الحقيقية، ولكن أية فرصة أن أجلس فى الشارع، والجو غائم والحمد لله، أقضم رغيفا حافا؟ نعم هى الفرصة التى جذبتنى إلى هنا، ألم أقل إن مجهولا نادانى فأجبت، ألم أقل إننى تمنيت مالا أعلم فأعطيت ما تمنيت، ولكن ماذا تمنيت، الآن وأنا على هذه الأريكة أستطيع أن أجيب :
تمنيت أن ألتقط أنفاسى !!!، وهأنذا أفعل.
ألتقط أنفاسى. من ماذا؟
من كل شيء، كل شيء.
التقطت أنفاسى مرتين قبل ذلك فهل تكون هذه هى المرة الثالثة؟ وفى كل مرة ألتقط فيها أنفاسى يتحول مسارى بعدها إلى ما قـدر له. المرة الأولى كانت سنة الامتياز فالنيابة (57-59) وفيها استطعت أن أتخلص من أن يكون نجاحى فى الامتحانات بناء عن ضغط والدى ودعاء والدتى ، قلت حينذاك، آن الأوان أن أنجح لى ، وأن يكون دعائى له مباشرة، وقد كان. والمرة الثانية كانت هنا فى باريس سنة كاملة (68-69) لم أفعل فيها أى شيء علمى رغم أننى كنت فى مهمة إسمها “مهمة علمية“، لكننى التقطت أنفاسى بعيدا عن ما يسمونه علما، وعن ما يتصورونه مهمة، وكان ناتج التقاط الأنفاس هذاأن كتبت أولى كتاباتى وأنا أعبر الجسر بين الطب والأدب ذهابا وجيئة “عندما يتعرى الإنسان”، كذلك كتبت أولى نظرياتى عن “مستويات الصحة العقلية” ، ورغم أننى نسختها بعد ذلك إلا أنها ظلت تمثل بداية تفكيرى المرتبط بالهيراركية والتنظيماتية المتداخلة، فبدا لى أن هذه هى المرة الثالثة فهل يخرج منها ما ينبغى قبل ألا تكون لى أنفاس ألتقطها أصلا؟ فإن كانت فرصة حقيقية ؟ فهل يصلح لها أسبوع، لا أكثر، ؟
” يصلح ونصف..”، هكذا رد من وعدنى بما تمنيت.
قلت له : ماشى كلامك.
أكملت الرغيف الحاف واستطعمته أكثرمن أكل المطعم ذى المائة والعشرين نجمة !!! الذى كان هو فى مونتريه، كان الرغيف الحاف هنا أشهى وألذ، كدت أقول: كان أشرف وأطيب، لكننى تراجعت، فما عاد يجدر بى أن أنعت كل ما هو رفاهية بغير ما هو، لكن الرفاهية شيء، وما يحدث من طقوس فى هذه المطاعم شيء آخر. كانت آخر وجبة أكلتها هناك تحتاج لتسجيل، فقد تشجعت وانتقيت قائمة على بعضها مكتوب عليها توصية الشيخ (أى رئيس الطباخين: الشيف) وهذا شيء غير القائمة العادية المسماة “الميني”، قلت ياولد أنت غريب لا تفهم فى هذه الأشياء، فلتقبل توصية الناس الذين يفهمون، الشيف نفسه يوصى بهذه الوجبة، وتوكـلت وطلبتها ، وكله على حساب صاحب المحل، وابتسم الرجل المجلجل الذى لا عيب فيه، وذهب وانتظرت حتى أحضر الاسـتـفتاح، وكان استفتاحا نديا (دعوة خالتى “تحفة” روح يا بنى يجعل استفتاحك ندى)، شيء عظيم يغلب على ظنى أنه من نوع الشواء الذى يـخفى معالم ما شوي، فراخ أو لحم أو سمك، كله شواء فلماذا التمييز، عندهم حق، ثم إننا مازلنا فى الاستفتاح، فتح الله عليهم، بعد كثير (ليس بعد قليل فهذه هى الأصول حتى تجوع بما يكفى لاستطعام الطبق التالى). أحضر الرجل المجلجل منضدة بجوار المنضدة، (منضدة و طاولة) قلت أعرف هذا الطقس، سوف يحضر”سبرتاية” ويتمم تسوية “الشيء” أمامى قبل الأكل، حدث لى مثل ذلك عدة مرات، فلا غرابة، لكن الرجل لم يـحضر سبرتاية ولا شواء، ولكنه أحضر سمكة كبيرة مطهية وكانت مستلقية فى الطبق المستطيل، وكأنهاحسناء تأخذ حمام شمس على الشاطئ قبل نزولها للبحر، كدت أتصورها وقد سندت رأسها بذراعها فى تثن وقور، استخسرتها فى الأكل والله العظيم، كانت إما مشوية أو مقلية (فلا يوجد احتمال ثالث إلا أن تكون نيئة) وأرانى الرجل إياها، وكنت أعرف مثل ذلك فى محل “بيس” أبو زيد فى الهرم، ومطعم لا أعرف اسمه فى “أبو قير”، لكنهم يحضرون السمك هناك نيئا لأختار قبل التسوية، أما هذه السمكة فقد نضجت بالفعـل، فماذا يريد منى أو منها هذا الرجل المجلجل؟ فأشرت برأسى له علامة الموافقة حتى أنـهى الموقف، وهل أملك حق الاعتراض أصلا ؟ أعترض على ماذا ؟ وما مبرراتى أنا فى مثل هذا، وسألت نفسى: لماذالا يضعها إذن أمامى وينصرف، وماذا يفعل بالمنضدة الإضافية، ولم أكمل التساؤل حتى جاءت المساعدتان الجميلتان الصغيرتان الشهيتان المقليتان (فى الأغلب) ووقفتا فى أدب مبتسم على مقربة من الرجل المهذب . اختلطت على أنواع المأكولات الحية وغير ذلك. وقفتا، وأخذ الرجل يلعب بالشوكة والسكين مثل المايسترو، يخرج جزءا مثل رأس الدبوس من تحت خياشيم السمكة العظيمة ويريه للجميلتين ويضعه فى الطبق الآخر، فتتعجبان انبهارا، ثم يقطع لا أعرف كيف بما لا أعرف ماذا، إلى أن أتم العملية الجراحية بين تنهيدات التلميذتين المعجبتين الصامتتين، ونقل كل ذلك إلى طبقي، وقال لى بأدب جم: ‘ شهية طيبة يا سيدي” فقلت له بالعربية فى سرى: “تسلم إيدك”، وهمهمت بالفرنسية بما فتح الله علي، وأنا أعلم أنه يكفى أن تهمهم فى هذه المواقف، حتى ينتهى الموقف بالانحناء الدال على السلامة، تذكرت ذلك كله وأنا أقضم الباجيت الحاف على الأريكة على رصيف شارع “أراجو”، وأحمد الله على هذا وذاك، والذى ” معه قرش محيره يجيب “شيف” يـمـنـظـره“، أى يعمل فيه مثل ما وصفت، واللى ” مامعاهش قرش مغيـره يجيب عيش حاف ويقمره“ (وعذرا للمثل الأصلي، فما عاد أحد يأتى بحمام ويطيره).
هذه الجلسة هى التى نبهتنى لوظيفة هذا الأسبوع لي، هى وظيفة تعتبر أطروحة محورية فى كل تنظيرى حول ماهية النضج والتركيب البشرى والعلاج، تصور ؟؟؟!!، وهى تفيد معنى “الاستعادة والبسط”، فبعد الخبرة الطويلة العميقة التى تصل للمريض (فى المستشفى مثلا بعلاج الوسط والعلاج الجمعى وغيره) يحضر المريض بعد عام أو بعض عام، يأخذ جرعة واحدة من كل خبرة مـر بها من قبل، جرعة تكفى أن تدعمه، فيــحيى بها ما كان طوال العام أو الستة أشهر التى مكثها فى المجتمع العلاجي، يبدو إن الإنسان لا يعمل شيئا إلا أنه “يبسط” تاريخه بأن يعيد خطواته السابقة ولكن فى مدة أقصر، ثم يضيف إليها ما تيسر، وبغير هذا الوضوح الذى أكتب به الآن (الخميس 93/7/1) قررت أن يكون هذا الأسبوع هو تلك الجرعة التدعيمية لذلك العام الباريسى المتميز، الذى أتصور أنه كان علامة ما فى تاريخي. وهذه الجرعة التدعيمية لا تعنى “إعادة تنشيط” بقدر ما تعنى “السماح ببسط” هو بمثابة إعادة خلق خاص (ولكن كل هذا ليس وقته ولا مكانه، وعذرا جدا !!!!، فأحيانا ما أتصور أن أفكارى العلمية هذه شديدة الوضوح مثلما تطلب قدحا من القهوة السادة مثلا).
هذا ما كان تماما: رحت أستعيد ،لا فى الذاكرة ولكن بالحضور الهادئ، كل الطقوس التى صنعتــنـى فى ذلك العام المعيــن منذ ربع قرن. كان زميلى أبو البنات ونحن فى طريقنا من المطار يقول لى: “ما حكايتك؟، إنك دائما تحتاج لمساحة هائلة تتحرك فيها لتستوعب حركتك، من مصر إلى سويسرا إلى مونتريه إلى رين إلى ريف رين”، ووافقته متذكرا حركتى الأسبوعية فى نهاية الأسبوع فى مصر، تلك الحركة التى تأخذ أكثرمن ألف ومائة كيلو متر كل مرة، لكننى حين عدلت عن الذهاب معه، وحين تذكرت شرنقتى الاختيارية، قلت له ولنفسى : “ليكن الأمر غير ذلك هذه المرة ، وبهذا أثبت لنفسى أن حركتى هى اختيارى وليست قهرا داخليا”. وحين وصلتنى رسالة الاستعادة هذه على أريكة شارع “أراجوا” قلت ليكن رأى صديقى عن مساحة حركتى حافزا أن أعمل عكسه، أما حكاية “تترك فى كل موقع أثرا” فقد استوضحته عنها، فقال: “لا أعنى أثرا أى تأثيرا، وإنما أعنى رباطا ممـيزا يــستعاد أو يجذب، أو يرمز”، فوافقته.
ذهبت إلى السوق القريب، وأنا أحب أسواق باريس حيث السعر يكاد يكون نصف السعر فى المحلات، وجدت الدنيا تضرب تقلب رغم أن اليوم يوم أحد، والتاجرات السمينات فرحات بما يعرضن، ولاينقصهن إلا أن يتربعن أمام مــشنـــات من بلدنا. وهو سوق قريب جدا لم أكن أعرفه من قبل رغم ألفتى مع الحى كله، لكن هدانى إليه صاحب محل مشروبات وهو الذى أخبرنى أن محلات الأكل لا تغلق يوم الأحد، فاشتريت من السوق أشياء كثيرة من بينها فرخة كاملة مشوية جدا، بثمن زهيد نوعا، ورجعت فرحا بالفاكهة ورقائق البطاطس، والفرخة، والبارد، وقلت أدلع نفسى وآكل أشياء أعرف اسمها وأحب طعمها ابتداء، مع تحياتى لتوصيات الشيف فى مونتريه، وأهم من كل هذا أنى فعلت تماما ما كنت أفعله منذ ربع قرن فى حجرتى فى الحى الثامن عشر على أعتاب المونمارتر.
إذن فقد بدأت طقوس الجرعة التدعيمية دون أن أدري. وبمجرد أن جلست على الأرض فى الغرفة فى الفندق، وفرشت الورق حتى لا تتسخ منى أرض الحجرة، حتى شعرت أن الربع قرن الذى مضى لم يمض، لم أكن قد بدأت مشروع المستشفى الخاص والعياذ بالله، وكنت أغلق عيادتى من بعد ظهر الثلاثاء حتى مساء السبت، ولم أكن، ولم أكن، ولم أكن، وكنت، وكنت وكنت، وهأنذا : أفكر، وأحلم، وأؤلف، وأسافر بعد كل ما لم أكنــه وما كنته.
قالت لى فتاة الفندق إنه لا توجد أماكن بدءا من غد، وإنها تعتذر لأن السياحة والطلبة ويونيو وكلام من هذا قد حجزوا كل الحجرات من غد، ففرحت نسبيا، وتذكرت رغبتى أن أقيم بفندق مجاور فى شارع سان مارسيل، ثم إنى أريد أن أعود لما قبل ربع قرن، وليس إلى ما قبل عامين حين تعرفت على هذا الفندق، والأهم أن هذا الفندق الحالى يذكرنى بالمؤتمر الكريه الذى حضرته فى باريس منذ عامين، فحين نزلت فيه منذ آنذاك و كانت الدعوة الأصلية تشمل أن ننزل على حساب شركة دواء ما لمدة يومين أو ثلاثة فى الفندق الكبير Le Grand Hotel فى ميدان الأوبرا فى باريس، لكننى سبقتهم بليلة أو اثنتين لأتزود من باريس بما يجعلنى أحتملهم، فنزلت فى هذا الفندق، وحين وصلوا إلى الفندق الكبير هاتفتهم، فأصر زميلى (الذى كان يبدو صديقا – بعض الوقت – أيامها) على أن يعرف أين أنزل فى هذه الليلة الزيادة أنا وابنتي، وأصررت ألا أريحه، لأن كل ما كان يريده هو أن يعرف إن كان فندقى بنجمتين أو أربع، فيصنفنى بعدد نجومى كما يجب، ويرتاح للتفوق النجومي، ولا مانع من أن يشهر بى وببخلى إن لـزم الأمر، فندقى ذو نجمتين، أدفع فيه حوالى أربعمائة فرنك (وكنت أدفع سنة 1968 اثنى عشر فرنكا فى فندق النجمة الواحدة) وهذا الذى اسمه الفندق الكبير والذى ينزل فيه زميلى على حساب شركة الدواء ليلته تقترب من الثلاثة آلاف فرنك، ولا يوجد فرق من حيث الخدمات والتليفزيون والنظافة والتدفئة، اللهم إلا توصيات الشيف والفخر عند العودة بذكر اسمه، ثم يدفع المرضى ثمن كل ذلك طبعا، لأن شركات الدواء لا تصرف علينا هذه الملايين من أجل سواد عيوننا، ولكنها… إلى آخره،
المهم، ذكرت ذلك كله لأتحدث قليلا عن سذاجتى آنذاك، فقد كتبت لصديقى، هذا الذى كان صديقي، خطابا جادا شريفا عند عودتى أعتذر فيه عن عدم إعطائه رقم تليفونى فى فندقى المتواضع، وأذكر أننى تحدثت فى ذلك الخطاب عن معنى الناس والطريق والشجر والنبض ونجوم السماء ونجوم الفنادق،، وتصورت أننى قد احترمت بذلك إنسانيته، وحبى له، وأملى فيه، لكن ما حدث بعد ذلك علمنى أن أدقق الخطاب لمن أتوجه به إليه، فلا آخذ المسألة جدا هكذا لمن لايرى إلا نوع رباط العنق واسم العطر الخاص، ولا يعلم أن العلم – بالتالي- قد يصطبغ بنفس الطريقة التى يربط بها رباط عنقه أو يتذوق بها نوع عطره، تنبهت إلى كل ذلك أصلا حين تبينت أننى قد صرت أمتلك القدرة على فعله ، فاكتشفت أن من أهم ما جاء بى إلى هنا وحدى هو أن ألتقط أنفاسى قبل أن أتوه وأنسى، فقد وجدت نفسى قبل سفرى هذا وقد رحت ألهث وراء قيم، ومؤلفات، وأبحاث، وعلاقات كلها من نوع الخمس نجوم، وكان لزاما على أن أتوقف قليلا- أى كثيرا- لأسأل : هل أنا أريد هذا فعلا، وهل أنا هكذا فعلا؟ لذلك كانت نعمة ربى على بهذا الأسبوع أكبر من كل تصور.
تصالحنى باريس رغما عني، فأصالحها مختارا.
لكنه لم يمض على هنا إلا يوم واحد وبعض يوم، فماذا يا ترى ينتظرنى من هذا المجهول الذى وعدنى بأمر ما ، فقبلت دعوته ، ومنعت نفسى أن أتساءل عن هذا الأمر الـ “ما ” رغم يقينى أن هذا هو ما أبغيه تماما
العدد القادم: الناس والطريق
(الجزء الثانى): الفصل الثالث:
البحث عن الأمر الـــ “ما“