الموسوعة النفسية:
حرف السين
السببية والأسباب (الجزء الثانى)
الموقف النقدى: ونظرة تطورية لأسباب وطبيعة المرض النفسى.
نشرنا فى العدد الماضى الجزء الأول من السببية حيث أشرنا إلى أنواع الأسباب التى لها علاقة بالمرض النفسى، سواء المهيئة أو المرسبة أوالدوامية، وقد أبنا استحالة وجود علاقة مباشرة خطية بين أى منها وبين ظهور المرض النفسى اللهم إلا نادرا فى حالة المرض العضوى الصريح والمرض النفسى الموقفى أو التفاعلى. وهذا الجزء الحالى يعود ليؤكد على أنه لا يمكن أن يهمل البحث عن أسباب ظاهرة مؤذية (هى ظاهرة المرض)، فضلا عن محاولة منعها، لمجرد الافتقار إلى ربط مباشر.
والمسألة أنه لا ينبغى أن نقتصر على تعداد الأسباب وتصنيفها وإنما علينا أن ننطلق إلى إعادة صياغة طريقة التفكير فى تناول مسألة السببية برمتها.
وقبل ذلك سوف نحاول أن نتفهم المداخل المختلفة إلى أسباب المرض المرض النفسى:
النموذج الطبى والاجتماعى
والسببية متعددة العوامل:
غلبت فكرة السببية المباشرة على ما يقال له النموذج الطبى الآلى، وهو الذى غلب على الطب الباطنى، ثم بدأ نقله بحماس منقطع النظير إلى الطب النفسى، وهو النموذج العلى الميكانيكى، ورغم بداية تراجع هذا النموذج نفسه فى الطب الباطنى، بمزيد من التأكيد على أن الإصابة بأى مؤثر إمراضى، بما فى ذلك الالتهاب أو الرضح، ليست هى السبب المباشر للمرض، فالميكروب لا يحدث المرض، وإنما تضفر عوامل عديدة فى الجسم المستقبل والظروف المحيطة هى التى تحدث المرض، وحتى السرطان لايحدث إلا نتيجة عمليات خطيرة ومعقدة تهير الحاجز المناعى فتسمح للخلايا المتكاثرة أن تخترق هذا الحاجز رغم ذلك كله، فمازالت الموجة الأغلب تتحسس الطريق إلى القياس على هذا النموذج العلى الميكانيكى.
ويتأسس هذا المفهوم الطبى التقليدى على التعامل مع المرض النفسى باعتباره خللا فى تركيب، مثله مثل الفشل الكلوى أو التهاب الكبد، أوتصلب الشرايين أو جلطة الرئة، وكل هذه الأمراض لها أسباب مهيئة فعلا وأسباب مرسبة، مثل أن تهيئ عوامل تصلب شرايين القلب للإصابة بجلطة فى الشريان التاجى، وكذلك الأمر فى الجراحة حيث قد تكون كثير من الإصابات مثل الجرح الغائر أو كسر عظمة بذاتها، هى نتيجة للاستهداف الخاص للإصابات فى شخصية بذاتها، ثم ما يظهر هو نتيجة تفاعل هذه الشخصية بهذا المؤثر المــمرض فعلا.
وكل هذا قد يسرى على فئة معينة من المرض النفسى، وهى الفئة التى سنسميها الفئة العشوائية العضوية، وفى مرحلة معينة (بدئية) من الإصابة بها، إلا أنه لا يسرى أصلا على سائر الأمراض.
والنموذج الذى يسمى النموذج الطبى يعامل المرض النفسى على الوجه التالي:
1- المرض النفسى: هو خلل فى أغلب الأحوال، خلل فى تركيب عضو المخ (أساسا).
2- ينتج عنه خلل فى وظيفة هذا العضو.
3- وهذا وذاك هو -فى أغلب الأحوال – هو فاعل غريب قادم من البيئة المحيطة(مثير مؤذ)
4- وفى بعض الأحيان هو ناتج عن عدم توازن حيوى فى وظائف الجسم
5- وهو -فى الأغلب- نتيجة نقص بذاته أو زيادة خاصة فى مادة معينة.
6- فأسبابه هى ما أدت إلى هذا النقص أو الزيادة ← فالخلل ←فالإعاقة
وقد حاول أصحاب هذا النموذج أن يجملوه بحل توفيقى ( أوتلفيقي) فتناولوه من خلال نموذج تعدد العوامل، وهو نموذج لا يضيف شيئا كبيرا إلى إدراك ما هية المرض النفسى، فمهما تعددت العوامل فإن هذا المنظور يجمعها بعضها إلى بعض أكثر منه يؤلف فيما بينها بطريقة نوعية متداخلة لها نتاج خاص ليس حاصل جمع ( ولا حتى ضرب مفرداتها)،
فهذا النموذج متعدد العوامل هو نموذج كمى أيضا، وقد أضر هذا الجمع المسطح أكثر مما أضر البحث عن سبب واحد، لأنه أوهم بكلية لم تمارس، وأغرى بتعدد خال من العملية الفاعلة الحيوية.
وهو نموذج طبى تقليدى كذلك
والنموذج المقابل والمنافس هو النموذج النفسى الاجتماعى التفاعلى: وهو قد يبتعد قليلا عن المرض العقلى، ويركزعلى أن المرض النفسى وبعض أنواع المرض العقلى هو نتيجة لظروف اجتماعية، وأحيانا يبلغ الأمر أن يعتبره البعض نتيجة مباشرة لظروف سياسية (خاصة عند من يسمون أنفسهم: الحركة المناهضة للطب النفسي)، فالمرض النفسى فى هذا النموذج هو من حيث المبدأ تفاعل نتيجة لضغوط خارجية، فداخلية
وقد يدخل تحت هذا النموذج ما يسمى النموذج التحليل النفسى، والفرق الأساسى بينهما هو أن السبب فى التحليل النفسى قد يظل كامنا عشرات السنين قبل أن يظهر أثره فى صورة هذا المرض أو ذاك.
النموذج الإيقاعى التطورى:
أما النموذج الإيقاعى التطورى فهو يعيد النظر فى المسألة برمتها على الوجه التالي:
1- المرض النفسى هو جزء من الطبيعة البشرية
(فيما عدا المجموعة العشوائية العضوية- أنظر بعد- حيث يسرى عليها كل ما سبق فى النموذج الطبى العادي)
2- وهو كامن فى كل إنسان بلا استثناء
3- فهو يحتاج لمــطلــق releaser وليس لمثير أو مؤثر stimulus
4- وهو فى ذلك أقرب لمفهوم الطبع imprinting الذى يحتاج إلى مطلق ليظهر السلوك المطبوع
5- والسلوك المرضى – الذى هو جزء من الطبيعة البشرية- لا يكون مرضيا صريحا إلا إذا انفصل عن التركيب الكلى الواحد.
6 – و لكى ينطلق الجزء الكامن مستقلا عن الكل يحتاج لما يلي:
(ا) أن يكون هذا السلوك الكامن على درجة قوية نسبيا منذ البداية (وراثة) [ممتدة إلى ما قبل الأسرة].
(ب) وأن يسمح لهذا المستوى بالتدعيم بلغته أثناء التربية الأولى خاصة.
(ج) ثم أن يضاف إلى ذلك تراكم معلومات (بالمعنى الأشمل لكلمة معلومة) لم يمكن تمثلها =لأنها أدخلت قسرا، أو دفعا، أو عكسا من خلال الاغتراب ومخالفة قوانين الطبيعة وتناغم الوعى
(ء) ثم أن تتاح الفرصة لهذا المستوى بالإطلاق: بمطلــق (وهو ما يقابل العامل المرسب)، أو بغير مطلق (وهو ما يحدث تلقائيا بعد أن تجتمع العوامل الثلاثة السابقة بما فيه الكفاية)
(هـ) ويتوقف نوع المرض بعد ذلك على أمرين:
أولا: على القوة النسبية للمستوى المخى الوجودى الذى تمكن أن يظهر غالبا (طاغيا) أو ظاهر الانفراد
ثانيا: على مدى نجاح و فشل (لاحظ ليس نجاح أو فشل) مواجهة محاولة هذا المستوى بميكانزمات ( ونشاط مستويات) مخفـــفة أو محورة أو مؤجلة أو مجمدة.
طبيعة الأسباب وتقسيم الأمراض
إن من أهم سبب الخلط فى فهم أسباب الأمراض النفسية هو الأسلوب الذى اتبع فى تقسيم الأمراض، حيث قد جمع مجموعات غير متجانسة بطبيعتها، وحاول أن يقدم فهما لأسبابها معا، أو على الأقل من نفس المنظور، وبمراجعة حقيقة الأمر نجد أن مجموع الأمراض النفسية يحتوى عددا هائلا من المظاهر والأشكال غير المتجانسة بحيث يـفسد تفسير إحداها -لو عمم على غيره- تفسير الآخر.
ويقدم المنظورالإيقاعى التطورى فى هذا الصدد عدة فروض مقترحة تتطلب إعادة التقسيم بحسب غلبة نوعية السببية. بمايتضمن تقسيما يضع فى اعتباره إمكان تحديد نوعية بعض الأسباب تحديدا مباشرا متصلا بطبيعة فئات التقسيم.
ويترتب على ذلك ضرورة العودة إلى احترام النظرية (النظريات) التى تؤثر على الفعل العلاجى (و الوقائي)، وذلك فيما يختص بمتصل يبدأ بالنظر(من خلال النظرية) فى الأسباب حتى يصل إلى ترتيب الصورة الإكلينيكية
والزعم الذى يزعمه – بل ويتجرأ ويفخر به- كل من التقسيم الأمريكى الثالث والتقسيم العالمى العاشر هو أنه تقسيم بلا نظرية atheoretical classification وأنا أرى أن هذا من أكبر ما أفسد مسيرة الطب النفسى ، ذلك أن كل نظرية تدور حول فكرة محورية، وترسم منظورا لما هو تناسق وجودى (حيوي) بشرى من منطلق هذا المحور، وهى تفسر النشاز (المرض) بالحيدة عن هذا التناسق العام
فالنظرية التطورية الإيقاعية – مثلا- لها تناول لمسألة السببية فالوقاية من منطلقات تطورية عملية على مستوى الفرد والنوع، وقد أدى منظور هذه النظرية إلى فهم يؤكد استحالة معاملة كل الأمراض النفسية نفس المعاملة إذا أردنا إدراك طبيعة أسبابها، وذلك للاختلاف الجسيم بين مجموعات الأمراض من وجهة نظر هذه النظرية.
وعلى ذلك، فلا بد من البدء بالنظر فى طبيعة تقسيم الأمراض بناء على هذه النظرية، ومن ثم طبيعة أسبابها.
وبناء على هذه النظرية التطورية تقسم فئات المرض النفسى تبعا لنوع السببية التى ترجح فيها، جنبا إلى جنب مع ظهور الأعراض الخاصة بها والدالة -جزئيا- على ذلك.، ويمكن تقسيم الأمراض النفسية إلى مجموعات – من وجهة النظر هذه- على الوجه التالي:
أولا:
المرض النفسي(العضوى) العشوائى( = السببية العشوائية المباشرة):
يصلح تبنى مفهوم السببية الحتمية (دون الغائية- أو بأقل قدر من الغائية) فيما يسمى “المرض العقلى العضوى”، وهو المرض الذى يحدث كنتيجة مباشرة لالتهاب أو خلل عضوى مباشر بالمخ مثل الورم أو الضمور، وقد يترتب على كل هذا تفاعل تال له معنى وميكانزمات ووظيفة، إلا أننا نقصر مفهوم العضوى العشوائى على المرحلة الأولى والخطيرة التى تظهر فيها الأعراض كنتيجة مباشرة للإصابة التى لحقت بخلايا المخ، ويتصف هذا النوع بأنه أقرب ما يكون إلى النموذج الطبى التقليدى
ويكون تصنيف هذه الفئة على محورين: الأول:بذكرالسبب، والثاني: بذكر شدة الخلل ونوعه الذى نتج عن سبب معين. ولا يتطرق الأمر فى هذه الفئة إلا إلى أقل قدر من التفسيرالدينامى والغائى، وهذا هو الحال فى الأمراض النفسية الناتجة مباشرة، ومبكرا، من سبب بدنى فيزيقى محدد، (ميكروب أوسميات أو ورم..إلخ) ومثال ذلك: حالة الهذيان الناتج عن إصابة المخ بفيروس مرضى، حيث تكون الإصابة كيفما اتفق (عشوائية)، فتأتى الأعراض عشوائية حسب منطقة الإصابة، وشدة الإصابة،ويصعب فى هذه الحالة، أو يستحيل فهم الأعراض من واقع معناها وغايتها وكذلك حالة التسمم بأول أكسيد الكربون…إلخ
ثانيا:
المرض النفسى التسوياتى الحتمى← الغائى (الخافى لصعوبات التطور ومضاعفاته)
وتمثل هذه الأمراض الغالبية العظمى من الأمراض النفسية المسماة بالعصاب،وبعض أنواع اضطراب الشخصية، ولكنها ليست قاصرة على ذلك، فحتى المجموعة الأولي(العشوائية) قد تتطوربعد الإصابة الأولى بالسبب المحدد إلى هذه المجموعة، والعصاب، كحادث لاحق، هوالنموذج المناسب الصالح لشرح هذ الفئة كمثال:
يعتبر العصاب هو الدفاع المفرط الذى يمنع إطلاق المستوى المخى الأقدم مستقلا (أى الذى يمنع ظهور الذهان) و ويتحقق ظهور الأعراض والاضطرابات العصابية من واقع تضفر العوامل التالية:
(ا) التركيب المحدد جزئيا بالاستعداد الوراثي
(ب) من واقع تكوين النفس فى الطفولة عادة
(جـ) من واقع الظروف الآنية وقت المرض
(ء) الهدف (الوظيفة – المعني) من ظهور العرض
وأخيرا:
(هـ) النتيجة التى تحققت من ظهور المرض فأبقت عليه بالتالى.
فهذا النوع من الأمراض لا بد أن ينفصل تماما فى فهم أسبابه عن النوع الأول المحدث بسبب عضوى مباشر
ثالثا:
المرض النفسى الجسيم الحتمى ← الغائى (المعلن لصعوبات التطور ومضاعفاته)
وتندرج هنا الأمراض النفسية الجسيمة (المسماة عادة بالأمراض العقلية أوالذهان) ، وهذه الأمراض تعلن نجاح نشاط مستوى قديم (بدائى/طفلى) من مستويات المخ من الظهور فى السلوك اليومى المعلن مستقلا أو طاغيا، وهذا الظهور يرجع أساسا إلى أسباب وراثية حيث يكون هذا المستوى الأقدم أقوى نسبيا من غيره ومن سائر الناس منذ الولادة لأسباب تطورية خاصة، ثم يدعم بعد ذلك أثناء التربية بتدعيم تراكمى ينتج عنه إطلاق جسيم لحركية النبض الحيوى حتى تظهر بشكل مرضى مباشر يسمح باستقلال جزئى لهذا المستوى البدائى، القوى ابتداء، والمدعم تاليا إذ يحضر فى السلوك الظاهر
وهذه الفئة يمكن أن ينظر إليها -سببيا- باعتبارها مظهرا من مظاهر المضاعفات المعلـــنة لصعوبات واضطراب واحتمال انحراف مسيرة التطور
و تشمل هذه المجموعة: الأمراض الذهانية النشطة عامة ( الجنون الدورى (الهوس/ الاكتئاب- البارنوي- الفصامى النشط والدوري) دون الأمراض التدهورية المستقرة.
رابعا:
المرض النفسى المضمحل: الحتمي←الغائى (المعلن لنجاح وتقدم الأسباب الدوامية)
وهذه المجموعة تشمل الأمراض التى انتهت إليها المجموعات السابقة ( خاصة الأولى والثالثة، أى العضوية والذهانية، أى العشوائية والجسيمة)، وهى النتيجة الحتمية لعدم استعمال القدرات، والإفراط فى الانغلاق على الذات، والابتعاد عن الواقع وعن الموضوعية بدرجة تصل فى النهاية إلى ما يسمى ضمور عدم الاستعمال والذاتوية المشلة.
وتشمل هذه المجموعة النهاية الاضمحلالية التى تعلن فشل أو استحالة عملية التطور على المستوى الفردى على الأقل.
خامسا:
المرض النفسى المختلط:
العشوائي←الحتمي← الغائى
(المعلن لكل ما سبق )
وهذه الفئة تعلن أن أى خليط من هذه التقسيمات السابقة هو جائز من واقع تطور المرض وتداخل أنواع السببية.
ونقابل هذا النوع سواء بسبب وجود أكثر من نوع من السببية من البداية، أوبسبب وجود نقلات من نوع إلى آخر، مع بقاء آثار النوع الأول أو دلالاته فى الحالة الإكلينيكية الراهنة. بمعنى أننا قد نرصد السبب فى أى مما تقدم كخطوة ذات أسباب معينة قد تلحقها خطوة من فئة سببية أخرى ، ومثال ذلك:
(1) إن المرض قد يبدأ نتيجة لحمى غير مميزة فتكون صورته هى صورة العضوية العشوائية تماما، ثم تذهب الحمى وقد تركت آثارا ظاهرة أو خفية تستدعى تنشيط آليات تؤدى إلى ظهور مرض تسوياتى (عصاب أو اضطراب شخصية إذا أزمن)، وقد تفشل التسوية مما يتسبب فى ظهور إما علامات أخطر تدل على تخطى عتبة أخرى نحو مرض أشد مما يؤدى إلى إعاقة جسيمة أو تفسخ أو تدهور.
(2) أن يتعاطى أحدهم جرعة كبيرة من عقار الهلوسة ل.س.د.25 يكون مسئولا عن إحداث الهلوسات، التى تصدركيفما اتفق أيضا، إلا أنها تصدر من كل فرد بحسب محتوى عقله ومخزون ذاكرته، ففى هذه الحالة يكون السبب عضويا سميا محددا، فى حين يكون الناتج خليطا من اضطرابات عضوية عشوائية بحسب جرعة التسمم ومن فشل تماسك الوعى، وفى نفس الوقت حسب غائية ودينامية ما أثير من قوى واحتياجات وتوجهات نفسية غائرة، وحسب غلبة المستوى الذى تنشط من مستويات المخ (تنشط مباشرة، أو بكف الكف) .
علاقة السببية التطورية بطبيعة وتنويعات المرض النفسي
سوف نستبعد من النقاش هنا المجموعة الأولى التى تشمل المرض النفسى العضوى العشوائى المترتب بشكل مباشر (يكاد يكون خطيا) على سبب عضوى بذاته، اللهم إلا إذا لحق ذلك ما يجعل هذاالتنظير التطورى والغائى صالح لها (أنظر قبلا)
نبدأ بالتأكيد على أن المرض النفسى من المنظور التطورى لا يحتاج إلى البحث عن أسباب له من خارجه، وإنما لمعرفة مالذى فصل هذا النشاط الكامن من الكل المتناغم على هذه الصورة المرضية دون صورة أخرى ، وهذا المفهوم هو ضد المفهوم الميكانيكى الذى راج أخيرا من أن المرض النفسى الحاد هو مثل التهاب اللوزتين يحتاج إلى مسكنات ومعرقات ومضادات للمرض، وأن المرض النفسى المزمن هو مثل مرض البول السكرى يحتاج إلى تعويض من الخار ج عن نقص كيميائى فى الداخل.
ونعود فنوضح بتكرار مقصود أن المفهوم البديل الذى نطرحه هنا هو أن المرض النفسى ليس إلاظاهرة طبيعية، ليس فقط من حيث أنها كامنة فى كل إنسان بدرجات مختلفة، وإنما أيضا من حيث أنها: تمثل نسبة تكاد تكون حتمية لمسار حياة وحركة لازمين لاستمرار حياة الإنسان الفرد، وحياة الإنسان كنوع)
لكن إذا كان كل إنسان يحمل المرض مثل الآخر، فمن ذا الذى يعلن المرض بصورته المشوهة والمعوقة، ولماذا هو دون غيره؟ ولماذا هذا المرض دون غيره.؟
وللرد على هذا التساؤل نقول:
1- يولد الإنسان، فينمو وقد انتظم وجوده (ومخه) فى تنظيمات يهراركية متداخلة (أنظر الشكل مع تذكر ما يحمل من تبسط مخل)
2- تورث الأمراض النفسية مع الحياة ذاتها، إذن: كل إنسان معرض لها بما هو حى، ولكن كل إنسان يختلف عن الآخر:
(ا) فيما ورث ( قوة مستوى فى المخ عن الآخر).
(ب) وفيما تدعم به (تدعيم مستوى عن الآخر)
(جـ) وفيما تراكم من معلومات أجسام غريبة
(ء) وفيما أطلق النبضة الجسيمة
(هـ) وتوقيت إطلاقها
(و) ثم فى كيفية تحويرها أوإبدالها أو تأجيلها (إن حدث ذلك).
3- عند بعض العائلات تورث طاقة حركية (تطورية أساسا) أشد من عائلات أخرى، وهذه الحركية تتمثل فى:
(ا) زخم طاقة عنيف، يؤدى إلي:
(ب) نبض حيوى جسيم قد لا يمكن إستيعابه.
4- تورث قوة نشاط مستويات خاصة فى المخ عن أخرى ، وهذه المستويات ذات النشاط الخاص على هذا المستوى أو ذاك، هى التى تحدد نوع المرض من حيث غلبة المستوى الذى يمكن أن يطلق مستقلا أثناء إجهاض نوبة النبض الحيوى الجسيم.
ومعنى ذلك أنه فى حالة وراثة الاكتئاب الحيوى الجسيم: يكون الموروث هو الاستعداد لإطلاق كم من الطاقة أكبر مما يحدث فى أسرة أخرى، وفى نفس الوقت يكون الاستعداد للتوقف عند محطة السلوك الاكتئابى (الموروث أساسا) هو الحل المرضى المعلن عن العجز عن استيعاب هذه النبضة الجسيمة. أما إذا كانت النبضة جسيمة، وكان المورث معها هو تضخم نشاط الموقف الانسحابى (الشيرزيدي) فإن إجهاض النبضة يكون بالتوقف عن السلوك الانسحابى ثم ما يترتب عليه من تفكك لما هو فوقه.
5- تتدعم نشاط المستويات الموروثة بحسب نوع التربية التى تسمح لهذا النوع أو ذاك من الحياة (نوع التعامل مع الذات ومع الآخر ومع الواقع) حيث يمر كل فرد بأطوار تتفوق فيها هذه المستويات المرتبة هيراركيا الواحد تلوالآخر حسب الترتيب النفسى الهيراركى للمخ البشرى (والوجود البشري) والعامل المشترك فى كل هذا هو زخم الطاقة المفرط، وجسامة النبضة الدورية.
6- تأتى جسامة النبضة الدورية ليس فقط من الوراثة، وإنما من فشل النبضات الفسيولوجية النفسية فى استيعاب أطوار النبضات اليومية أولا بأولا من خلال:
(ا) كفاءة الأحلام كصمام أمن وتأمين نظام
(2) كفاءة النوم كطور سكون استيعابي
(3) كفاءة التخزين المرن للمعلومات فى أطوار الملء (نتيجة للمعنى والهارموني)
(4) كفاءة إبداع (إعادة تنظيم المعلومات) بما يزيد من مرونة حركية المعانى فى الأطوار التالية.
فاسبأب الأمراض النفسية - إذن- هى نقص هذه الكفاءة فى أى طور.
7- نتيجة لهذه العوامل متداخلة أى:
(ا) الاستعداد الوراثى للنبض الجسيم
(ب) وراثة استعداد تثبيت عند مستوى بذاته من مستويات تطور المخ
(جـ) تدعيم لهذا الاستعداد بطريقة تربية معينه نشطته أثناء التنشئة نشاط مفرطا
(ء) تراكم المعلومات دون مرونة أو تمثل (نتيجة لعدم كفاءة كل مما سبق) (تربويا وبيئيا): نتيجة لكل ذلك تحدث النوبة الجسيمة التى لا يمكن استيعابها، ومن ثم تتوقف النبضة عن البسط النموى السليم (أى تجهض عند المستوى الجاهز والمدعم) ومن ثم يحدث المرض.
8- تتدخل أسباب مختلفة لمنع هذا الإجهاض أو تحويره أو تأجيله ويتوقف نوع المرض على جماع ما يحدث
والأسباب المحيطة هى التى تحدد أنوا ع المنع والتأجيل والتحوير وغيرها.
طبيعة (ومسارات) ظهور المرض النفسى من منظور تطوري:
فى هذا الجزء سوف نحاول أن نربط بين الاستعدا، والتدعيم، والتراكم، والإطلاق بما يسمح بظهور مرض دون الآخر، مما لا يمكن تفصيله هنا، وقبل ذلك نذكر بالفرض الأساسى للنظرية الإيقاعية كما يلي:
1- يترتب المخ البشرى (بما يقابل الوجود البشري) ترتيبا هيراركيا يتناسب من جهة مع تطور النوع ( أحياء أحادية الخلية، ثم حياة الغابة، ثم حياة الوعى الإنسانى، ثم حياةالتكيف العصابى العادي)
2- يولد الفرد وعنده شدة مختلفة لاستعداد كل مستوى (نتيجة للوراثة العائلية التى قد تمتد لوراثة فرع من فروع تطور النوع، بمعنى أن مجموعة من البشر قد تكون قد تأخر تطورها فى مرحلة ‘ الكر والفر’ فتدعم المستوى البارنوى أكثرمن غيره، فى حين أن مجموعة أخرى من البشر تكون قد تلكأ أجدادها (نوعا) – لأسباب تطورية- فى مستوى الكهف والتفاعل بالانسحاب، فتدعم عندهم(تطوريا فوراثيا): المستوى الشيزيدى وهكذا..
3- تقوم التربية بتدعيم كل مستوى من هذه المستويات الموروثة بحسب طول مدته، وقوة اللغة التى عومل بها، بمعنى أن الطفل وهو يستعيد تاريخ نوعه: شيزيدي←بارنوي←إكتئابى، أى انسحابى (حياة الكهوف) ← هجومي←هربى ( حياة الغابة والكر والفر) ثم إقدامى متألم متحمل الغموض (حياة الوعى الإنسانى الحالي) ، نقول إن الطفل وهو ينمو لا يكتسب هذه الأنواع من التفاعلات من علاقته بأمه كما تزعم مدرسة العلاقة بالموضوع، أو من تطور نموه الجنسى فى علاقته بوالديه كما يزعم فرويد، وإنما هو يعيد تاريخ نوعه، وتقوم البيئة المحيطة، وخاصة الأم، بتدعيم كل من هذه المراحل سلوكياحسب ظروفها تربويا.
4- يكون ناتج الوراثة والتدعيم تربويا فى كل مجتمع وكل أسرة هو قوة أى مستوى ( أو أكثر ) من هذه المستويات بحسب ظروف كل فرد.
5- يمتلئ مخزون الوعى ( المخ/ الوجود) بالمعلومات (بالمعنى الشامل للكلمة، أى كل ما يصل الوجود البشرى خلال الحواس وعبر الحواس: إما بمعلومات ذات معنى وتناغم يسمح لها بأن تصبح جزءا من الكل، وإما بمعلومات مغتربة أو مشوشة أو متناقضة بحيث تبقى كجزء غريب (وهذا هو عامل التراكم)
6- يظل النبض الحيوى ( الفسيولوجى – النفسى: النوم الأحلام – التلقى المرن – البسط المبدع: أنظر قبلا) فى محاولة مستمرة لاستيعاب ما تراكم من معلوات (من النوع الجسم الغريب غير المتمثلة).
7-إذا نجح تعاقب الملء والبسط فى أن يعيد تنظيم المستويات المختلفة القوة والتدعيم، بحيث تتقارب، وتتبادل، وتتكامل، وتتجادل، مع كل نبضة نمو، فإن النبض يصبح أقل جسامة وأكثر تلاؤما مع كل نبضة فسيولوجية ( أو حتى مشروع مرضى)، وبالتالى يتباعد احتمال المرض مع كل نبضة، ومع كل نوم ناجح، ومع كل حلم ثرى، ومع كل إبداع ذاتى، ومع كل موقف نقدى حيوى وهكذا.
8- إذا فشل هذا الملء والبسط أن يحقق ذلك (رقم 6) ، زاد تراكم المعلومات ( دون تمثل = جسما غريبا:حتى تصل إلى حد لا يعود النبض العادى (الحلم والإبداع إلخ ) يستوعبه
9- يصبح، بذلك، الوجود البشرى ( المخ البشري) مليئا بما لا يستعمله من ناحية، الأمر الذى هو مسئول عن ضيق مساحة المرونة التى تسمح بالإبداع والتمثل، ، وممن ناحية أخرى يكون هذا الكيان البشرى مجهزا بمستويات سبق تدعيمها
10- يترتب على هذا وذاك إطلاق نبضة جسيمة لعل وعسى، ( لعله يتخلص من المعلومات الجسم الغريب، وعسى أن يعيد تنظيم بعضها مما لم يستطع النبض الفسيولوجى النفسى تظيمه أولا بأول.
11- إذا كانت
(ا) النبضة جسيمة، و
(ب)المعلومات الجسم الغريب كثيرة، و
(جـ) والمستويات الأقدم المتحفزة قوية، فإن النتيجة لا تحقق ما ذكر فى خطوة ’10’ تحت لعل وعسى. بل إن ما يحدث هو:
12- تجهض هذه النبضة أو تشوه أو تنحرف إذ يقودها ويغلب عليها المستوى الأقدم الجاهز والسابق تدعيمه، والقوى من أصل (وراثة)
13- معنى أن النبضة تجهض أن البسط يتوقف عند مرحلة أقدم وأقل قدرة على التكيف، وأقل سماحا بالتكامل.
15- تسارع المستويات الأخرى للإحاطة بهذا المغير القديم الذى انتهز فرصة محاولة التخلص من المعلومات الجسم الغريب فانقض وأمسك بعجلة القيادة
16- إذا نجحت الميكانزمات الأحدث (العصابية فى شكلها المفرط) أن تحيط بهذا المستوى المنقض فإن الناتج يكون عصابا أو اضطراب شخصية.
17- إذا فشلت هذه الميكانزمات عن تحقيق تسوية (تغطية) فإن الناتج يكون أحد صور الذهان والذى يسمى باسم المستوى الغالب الذى توقفت عنده نبضة البسط الجسيم.
العلاقة بالسببية والأسباب:
ومن كل ذلك نستنتج ما يلي:
إن أسباب الأمراض النفسية ليست عوامل مرصوصة بجوار بعضها البعض، إذا تجمعت لدرجة معينة أدت إلى كسر أو ضعف أو انهيار.
ولكن
إن أسباب الأمراض النفسية هى:
1- جماع ( وليس مجموع)العوامل التى تقلب النبض الحيوى العادى إلى نبض حيوى جسيم
2- ثم هى العوامل التى تساعد على فشل استيعاب هذا النبض الحيوى الجسيم
3- ثم هى العوامل التى تسهم فى الإبقاء على هذا الإجهاض حتى التشويه والإعاقة
وعلى ذلك تصبح يمكن إعادة تصنيف هذه العوامل كالآتي:
1- عوامل تهيؤ جبلية (فردية وعائلية ونوعية) = الوراثة (innate / inherited): وهى التى تشير-كما ذكرنا- إلى أمرين:
(ا)القوة النسبية لمستوى بذاته من مستويات الوجود ( والمخ)، والذى يكون كامنا فى ، ومتكاملا مع، التركيب الكلى للإنسان الناضج فى الأحوال العادية.
بالإضافة إلي
(ب) قوة الطاقة الحيوية عامة عند فرد (وعائلة ) أكثر من فرد آخر ( وعائلة أخري)
وكل من (ا) و (ب) يمثلان حدود عتبة الإنجراح vulnerability threshold الموروثة منذ البداية
2-عوامل تدعيمية:reinforcers وهى العوامل التى تدعم قوة مستوى بذاته، فالأم التى تشجع وتنمى مواجهة العالم عند طفلها بالانسحاب والذاتوية (التركيز على الذات) إنما تدعم المستوى الشيزيدى، (أنظر الشكل – مجرد نموذج – مع التعرض (دائما) للتبسيط المخل.
فإذا كان هذا المستوى موجود بشكل قوى أصلا منذ الولادة (لأسباب جبلـية)، فإن الوعى والوجود (والمخ) يصبحان ممتلئان لدرجة تقترتب من عتبة الإنجراح.
3- عوامل تراكمية::cumulative factors وهى التى تشير إلى كم المعلومات الـمـدخلة:(1) قسرا، و (2) اغترابا، و(3) تشويشا، و (4) كيفما اتفق (مما لا مكان لتفصيله )
أى أن أى معلومة لا يتمثلها الكل البيولوجى، أى لا تصبح جزءا متلاشيا فى الكيان الوجودى، أى لا تصبح إضافة غير منفصلة إلى الوعى الفردى، أى معلومة بهذه الصفات إنما تصبح عبئا على الكينونة السوية فى الداخل والخارج، وتعتبر إحدى وحدات الامتلاء التى تسمى “المعلومة الجسم الغريب”، وكلما زادت نوعية هذا الكم من المعلومات اقترب الوجود البشرى من عتبة الإنجراح، لأن المساحة الباقية لمرونة الإبداع (الوسيلة الأساسية للنمو) تقل، لأنها تمتلئ بهذا التراكم غير المتمثل.
4- عوامل مطلـقة releasers: وهى العوامل التى تسمح بتخطى عتبة الإنجراح بأن تطلق النبضة الجسيمة فى وقت بذاته، وهى المقابلة لما يسمى العوامل المرسبة
5- عوامل محورة، ومعادلة، ومؤجلةmodifiers neutrlaizing &postponing وهى العوامل التى تشكل وتحور الناتج المبدئى للنبضة الجسيمة. (وهى أيضا متأثرة بالوراثة والتدعيم والتراكم جميعا)
6- عوامل دوامية، ومبقية ( أشرنا إليها تفصيلا فى العدد السابق) وهى مسئولة عن استمرار وتفاقم المرض.
خاتمة
أشعر أننى مدين بالاعتذار للقارئ العادى الذى تفضل وتحمل أن يتابع هذه اللغة والطرقة شديد تى التركيز، إذا كان قد فعل، بهذا التركيز، لكننى أحتمى به من الزميل المتخصص الذى قد يرفض النظر إليها أصلا، كما أرجو أن يكون قد اتضح أن المسألة ليست إبدال إسم باسم، بمعنى أن نستعمل كلمة أسباب تراكمية cumulative بدلا من استعمال أسباب مهيئة predisposing ، أو كلمة أسباب مطلقة releaserبدلا من أسباب precipitating مرسبة، لا ليس الأمر إطلاقا كذلك، بل إن تغيير المنظور الأساسى لماهية المرض النفسى ، وأسبابه، هو الذى يــلزم حتما استعمال لغة جديدة، فمثلا إذا كان المرض النفسى هو جزء من الطبيعة البشرية، وليس حدثا غريبا مقحما عليها، إذن فهو قد يظهر فى ظروف غير مناسبة أن يظهر بصفته أحد الأشكال القديمة للطبيعة البشرية..، فثمة عوامل تطلقه من كمونه، وليس ثمة أسباب تحدثه ابتداء أو ترسبه.
الأمر الآخر هو أن تغيير طريقة التفكير هذه ليست مسألة تتعلق بوهم وضع نظرية جديدة، هى نتاج عقول مختلفة ( على صعوبة إمكانياتها المقارنة) ولكنها مرتبطة بممارسات عملية قد يترتب عليها تغيير جذرى فى الممارسة الفعلية فى مجالات متنوعة، فنحن- مرضى وأسوياء ومختصين- نواجه ما هو مرض نفسى، نواجهه من حيث أننا قد نصاب به من ناحية، كما أننا قد نكتشفنا من خلاله من ناحية أخرى، وهذا وذاك يتطلبان منا التزاما معرفيا وكيانيا محددا، وهو أن نبحث عن الخطوات العملية التى يمكن أن تجنبنا مضاعفاته، بل وأن تقلب مساره، سواء كان ذلك نحن نلحق به فيما يسمى علاجا، أو نحن نستعد له ونتعهده فيما يسمى وقاية
وتختلف الوقاية -طبعا- مع اختلاف النظرة والنظرية إلى ما هو أسباب، فمثل هذا المفهوم التطورى يلزمنا -مثلا-بضبط جرعة السماح ومساحة الحركة وجرعة النبض الحيوى، واحترام الوراثة لاحتوائها، لا للوشم بها، وكل هذا هو يسمى الوقاية.
وهو الموضوع الذى ستتناوله هذه الموسوعة فى العدد القادم.
حرف الواو
وقاية