الحلم يعاودها
د. نجاة النحراوى
وجدت نفسها فى جمع من المصلين يقيمون الصلاة لمناسبة ما، هى المرأة الوحيدة وسط الرجال تصلي، لكن بملابسها العادية “لكن لابأس أن أصلى الآن”، قالت لنفسها وتعمدت أن تقف فى آخر الصفوف لكن ذلك لم يمكنها لأمر ما.
صدرت أوامر للمصلين أن يوقفوا الصلاة بينما هم سجود ويهبوا وقوفا لكى يروا ماسوف يكون ويعتبروا، صدح الجميع، ظهرت مركبة تشبه ما يسمونه “الميكروباس” لكن زجاجها أكثر بكثير ليبين ما بالداخل، يقودها شخص مجبر على ذلك، لكنه يرتدى بزة تشريفة عسكرية فى نفس الوقت !! تروح المركبة وتجيء فيما يشبه القوس المنحنى وجهته العليا إلى جهة المصلين فى غير مسجد، لفت نظرها أن المركبة تروح وتجيء تلقائيا، أى دون “التغيير” إذ ليس على قائدها إلا أن يجلس أمام عجلة القيادة، قالت لنفسها:
“ربما بدائع التكنولوجيا”.
أما من يجلسون بالمركبة فهم من المتهمين فى قضايا الرأى الآخر، وقد أضحوا من بقايا البشر من فرط التعذيب، لكنهم سليموا الجسد والبنية تماما، بل ربما يتميزون أكثر من سواهم بالصحة والنضارة، لكنهم لا يشعرون بما حولهم وقد علت وجوههم البلادة والبلاهة حتى إنهم يبتسمون فى غير إبتسام.
وبسرعة البرق هب أحد المصلين من بين الصفوف أسمر اللون وأمسك بحجر، قذف زجاج السيارة، لكن السيارة لم تصب، فقد ذهب الحجر بعيدا إلى دكان بجانبها يمتلكه رجل طيب، لكن دكانه ذو منافذ زجاجية كثيرة هو الآخر لا يتناسب ومستوى الحى بأكمله، خشيت أن يكون الأمر متعلق بأحداث السودان فتزداد الفورة، ومن يستطع أن يعيد تنظيم الصفوف إذا كان الأمر كذلك؟.
وبالفعل سادت الفوضى صفوف المصلين، أخذ بعضهم يجذب الرجل الأسمر ليوقف إندفاع الباقين وأخذ البعض الآخر يقذف بحجارة أخري، أما البعض الثالث، فقد فعلوا مثلما حاولت أن تفعل، حاولوا التسلل خارج دائرة الأحداث فى هدوء.
أدركت أن هذا الدكان الضحية قريب جدا من بيت كانت تسكنه فى طفولتها بالفعل، بل إنها تعرف صاحبه الطيب، وطالما ابتاعت منه وقتئذ ما يلزم والدها من “الخردوات”…
“حسنا.. أذهب إلى بيتنا القديم”، قالت لنفسها “وأحتمي، وإذا وصلت الأمور للتحقيقات فى أحداث الشغب، فهو لا يزال سكنا لنا من حقى أن أتواجد فيه، حتى لو كان لنا سكن آخر.
دون أن تسير خطوة وجدت نفسها فى الطابق الثانى من هذا البيت فى شقة بدون باب.. يا لغرابة الأمور.. يدخلها من يشاء فى أى وقت يشاء إنها تشبه المكان العام وكل من فيه مشغول بأمر ما، نسيت أنها قد تسللت فى هدوء من المسرح الذى يعلم الله وحده ما سارت عليه الأمور فيه من أحداث بالخارج، إذا ما كان بالداخل أشد وأقسي، فالتهمة فى خارج البيت عامة، يستطيع محام ماهر أن يثبت أنها كانت لا تفعل سوى إقامة الصلاة وإن كانت بملابسها العادية وهى المرأة الوحيدة وسط الرجال، لكن التهمة فى الداخل تخصها وحدها ومباشرة، إذ كانت تقف فى صالة الشقة العامة!! ذات الغرف الثلاثة، فى إحدى الغرف يصورون فيلما للسينما بطلاه نجمين من نجومها يصغر أحدهما الآخر بضع سنين ومؤدى المشهد أن يتصارع البطلان بعنف وليس على أجسادهم سوى ما يسمى “الشورت” ولابد أن ينتهى المشهد بقتل أحد البطلين (تمثيلا طبعا).. اشتد الصراع بينهما وفجأة ظهرت فى يد الأصغر مطواه، وأخذا يتجاذبان ويحتضنان، حتى خرجا من الحجرة التى كانا بها هم ومخرجهم وطاقمهم وأجهزة التصوير لكن لا بأس فالشقة بأكملها مكان للتصوير، رغم عموميتها.
واندفعا للحجرة المجاورة، وهنا تحول الأمر من تصوير لمشهد سينمائى إلى رغبة حقيقية فى القتل، واختلط خيال أصغرهم سنا بالواقع فنزل طعنا فى الآخر بالمطواة، خشيت أن ترى منظر الدم، والقتل، فدخلت للحجرة الثالثة، وكانت حينئذ خلفها، دخلتها بخطوات سريعة للخلف دون أن تستدير، وأغلقت الباب تماما فاندفع البطلان على باب الحجرة أثناء إدارتها المفتاح لتغلق، فسقط الأكبر سنا مصطدما ببابها، وقد كان يظن أنها مفتوحة فيتسع الميدان قليلا حتى يتدبر أمره، وهنا انقض عليه الآخر بالمطواه فقتله ومشى لحجرة المخرج لينال التشجيع، وهو لا يدرك أنه قد تخطى حدود خياله إلى أن قتل غريمه المتخيل فى الواقع فعلا، فالقتل بالفعل أصبح هدف المشهد عنده..
فتحت صاحبتنا الباب قليلا لا لترى ما حدث، لأنها قد رأته فعلا رغم إغلاقها الباب، لا غرابة الآن فى شيء فقد زالت كل الحدود، ولم يعد شيء وفق ما ألقت..،كانت تقصد من فتحها الباب قليلا أن تتسلل بهدوء، لكن إمرأة كانت تجلس بجوار البطل المقتول، ويبدو أنها من مساعديه، قالت له بمنتهى حسن النية، أن صاحبتنا قد أغلقت باب الحجرة فوقع وراءه، ولولا ذلك ما قتل، وكأنها تفسر له واقعه بحياد مطلق.. فنطق المقتول وقد هب حيا، “وأين هى فهى التى قتلتني”.
انطلقت صاحبتنا خارج الشقة تطوى السلم المبلل بالماء الذى اختلط بترابه فأصبح طينا، لكنها رغم ذلك تستطيع أن تنزل بسرعة، أمسكتها من ذراعها يد إمرأة آخرى تشبه تلك المساعدة للبطل المقتول الحى حسنة النية، لكنها ليست هي، قد تكون أختها الصغري، كانت تنزل السلم خلفها ولكن فى صعوبة من جراء الطين وقالت لها “لا تسمحى للطبيب الشرعى أن يكتب تقريرا بأنك القاتلة فعلا بهروبك”، تنصحها هى الأخرى بمنتهى حسن النية ألا تهرب، قالت صاحبتنا “ألا تشهدى بما كان”؟ ردت، “لكن الأمر أكبر من شهادتي، فالتقارير دائما أصدق”.
لم تتبعها صاحبتنا خوفا، أو ربما لم تقدر أن شيئا أراد أن يساعد صاحبتنا ويتركها تهرب، فربما تستطيع أن تفعل رغم أن الأمل ضئيل.. فى الطابق الأرضى المرتفع قليلا وجدت نفس الشيء، الشقة بهذا الطابق أيضا دون أبواب وغارقة بمياه إختلطت بترابها، فاصبح طينا من جراء عمل طبيب شرعى يقف فى وسط “الصالة” منهمك فى عمل لا يهدأ، فالقتل كثير، يلبس قميصا أبيض متسخا خارجا فى غير نظام من “بنطلون” رمادى اللون قاتمه، مقطوع نصف رجله الشمال، تظهر ساقه إلى ما فوق ركبته من جراء قطعه، لكنه لا يكترث بذلك، حوله أوانى صدئة، بها ماء التشريح تعلوه دهون القتلي.. يا هول المنظر، وهذا هو الطبيب المختص بتشريح قتيلها المدعو، فلا أحد يشرح غيره..
نفس الشقة المتسخة بعمل الطبيب مع القتلي، لكنها أصبحت شيئا آخر قليل الإختلاف عنها، لكنه رغم ذلك يعتبر شيئا آخر …، إنها شقتهم فى هذا البيت الذى كانت تسكنه طفلة، لكنها مليئة بالناس.. ما هذا!؟. أصبحت هى الأخرى مكانا عاما فيما يبدو لكن لا بأس رغم كل شيء فهو بيتي، من حقى أن أتواجد فيه وإن كان لنا سكن آخر، ووجود الآخرين فيه ليس بمستغرب، لأننا تركناه للسكن الآخر..
وجدت هنا بجانبها سيدة تكبرهم جدا تحترم عقليتها ورزانتها تمثل لها سلطة، تعرفها تماما لكن ما الذى هنا قد أوجدها؟؟.
قالت لنفسها:
“إنه حظى العثر الآمل فى نفس اللحظة، فلأشرح لها ما حدث علها تنصحني”.. شرحت لها أماكن البيت تماما ممسكة بيدها إلى كل ركن فيه، فأرتها المطبخ والحمام وأدخلتها كل غرفة، لتثبت لها أنها تعرفه تماما فهو إذن بيتها طفلة..
ثم خرجت إلى الشارع، مسرح أحداث الشغب الأول، أدركت فقط فى تلك اللحظة أن تلك السيدة الوقور كانت تصلى معها حين حدثت أحداث الشغب، رغم أنها هى الأخرى لا تلبس لبس صلاة، نصحتها بينما هم فى الشارع أمام الدكان المهشم بلا ذنب، أن تشرح الأمر كله للرجل الذى يرأس الأمر برمته، لكن ما أثار دهشتها أن الرجل المزعوم ليس بيده الأمر، فهو ذو سطوة علمية، والأمر يحتاج لسطوة مدنية، لكن لا بأس” أسرت لنفسها، “ربما هى أدري، أو ربما إنقلبت الأمور كلها فى تلك الفترة الليلة..”.
وأرادت أن تتأكد من كل خطوة كعادتها، فاقترحت على السيدة الوقور أن تصطحب الرجل إلى منزلها كى تريه مثلما أرتها، ما دام بيده الأمر، لكن الأخرى ردت فى غير توقع منها، “إن البيت لا يليق الآن بمكانتك فلا تصطحبيه إليه يعرف أمرك”..
احتدت صاحبتنا فى هدوء…
“لكن – على فكرة – هذا الأمر لا يعنى لى شيئا، بل أنه أحيانا يبهرني”
فتجاهلت الأخرى كلماتها لتكمل نصيحتها فيما يشبه اتهامها لها بالغفوة عن حقيقتها.. لكن صاحبتنا لم تهدأ، إذ لا تعنى النصيحة لها الآن شيئآ، حتى لو أدت لبراءتها، فلابد أن توضح لها قبلا هويتها، فحدقت فى عينى الأخرى عن قرب مباشرة، بحيث لم تعد ترى منها غير عينيها وقالت لها بهدوء واثق:
“لا.. أرجوك.. قفى عند هذه.. فعلا لا يعنى لى هذا الأمر شيئا..’.
فى تلك اللحظة، بينما هما سائرتان تنصحها الأخرى ولا تقبل إلا بشرط أن تصدقها فيما تزعم، خطرت بذهنها فكرة أن تأخذها إلى بيتهم الآخر، إذ لا يبعد عن هذا المكان كثيرا تستضيفها هناك، وقد كانتا سائرتين فى نفس الاتجاه دون أن تدرى فعلا.. لكن فى تلك اللحظة، وهما على مشارف ما كان موقع آخر رجل فى صفوف الصلاة، أى قبل الخروج بخطوة من مسرح أحداث الشغب الأولي.. ظهرت فجأة “براميل” رصت فى لحظة تحدد مسرح أحداث الشغب وتمنع المرور إلى خارجه ومن باب أولى إلى داخله.
فوقفتا تشاهدان عربة كبيرة من عربات الشرطة تحمل جنودا ، يسمونهم تميزا عن الجند الأخرى “جند الأمن”.. نزلوا بسرعة وفى لحظة أخرى أصبح المكان المسرح مسيج بسياج من حديد متشابك.
كان موقعهم جنب السور مباشرة إذ كانتا على وشك الخروج من المسرح، واختفت الأخرى فجأة.
جلست صاحبتنا على كرسى لا تعلم مصدره غير مكترثة بشيء فلا حذر يغنى عن قدر وقد حذرت، وليست غير الناس.
وكانت جلستها جنب جندى من جنود حرس السور بحكم موقعه، وبحكم كونه جندى فلاح أمى حتى لهجته، لم يتعد العشرين من عمره.. وجدته قد جلس بجانبها، لا تعلم على أى شيء كان يجلس، نظر إليها وجذب منضدة خشبية صغيرة جدا، وأمسك بساقيها ووضعهما فوق المنضدة لتستوى فى جلستها. قالت مندهشة;
“ماذا فعلت؟”
قال:
رجليك تؤلمانك”
زادت دهشتها:
“ما أدراك؟”
وقد كانتا تؤلمانها جدا فعلا .
قال:
“بحكم كونى فلاح جدا أستطيع أن ألمح من تؤلمه أرجله بشدة”.
أخذ يدلك ساقيها وهى تحتاج لذلك فعلا ..”لكن كيف ذلك والفتى مهما كان يصغرنى بكثيرا جدا”.
“لكن لا بأس” همست لنفسها مستسلمة:
“فساقاى تؤلمانى جدا جدا والفتى بكثير جدا يصغرني، ولولا مقتضيات العصر وضرورة تعليمى لأنجبت من يقاربه سنا”…..، بل نحن فى الشارع والمشهد لا يخفى على جند الأمن ومثيرى الشغب، وما بينهم ممن تصادف وجودهم، فلا شبهة إذن فى شيء سري، ولكن ورد بذهنها قول آخر “هذا إحساسك أنت فماذا يقول الناس؟”.
صاح القائد معلنا بداية القبض على الناس وتصنيفهم حسب ما فعلوا وبالتالى حجم التهمة، ذهب الفتى الفلاح جدا ينفذ أوامره..، أصبح فجأة فى الطرف الآخر من السور بعيدا عنها، نظرت إليه فى بعده مشفقة..، ترى ماذا سيكون حجم التهمة أيها الفتى الشهم لو علم قائدك بما كان، أرحت ساقى على منضدة ودلكتهما، وأنا ضمن الناس مثيرى الشغب عنوة، فقد كنت فى وسطهم لا يشفع لى قرب البيت الذى سكنته طفلة، يا ويلي..، وماذا لو علموا ما بالداخل من أبشع تهمة، تهمة قتل الإنسان لأخيه الآخر على يدى صاحبتنا، دون أن تقصد ذلك، فما جريمتها إلا أنها أرادت أن تعمي، ويا فرط خيبتها كذلك فقد رأت ما كان رغم محاولتها أن تعمي..، لم يتحقق شيء بالمرة.
لم تفكر بعد ذلك إلا فى ذلك الفتى وساقيها التى لازالتا تؤلمانها بشدة، لم تفكر ماذا سيكون حجم التهمة بالنسبة إليها، فقد تعلمت من والدها أن تحرص وتحذر وتفعل ما هو مستطاع، لكن للقدر شئونه وعندئذ إذا وقع الأمر المحذور فلا شيء عليها، ولابد أن ترضي، فقط فعلت ما عليه كلمة ؟؟؟.. وليكن بعد ذلك ما يكون.
لكن لم يحدث شيء، إذ فتحت عينيها قبل إلقاء القبض على أى من الناس على ساقيها تؤلمانها جدا… ”أما زلتما تؤلمانى بشدة رغم طول الرحلة”.. خاطبت ساقيها
“لكن ألمكما يقظة أهون من نومى بألمكما، وما يتبعه من تخاريف عقلى الذى لم يعد “باطنا” كما يطلقون عليه، فهو يقترب جدا من كونى يقظة”، “وما جدوى هذه اليقظة لعقلك حتى الباطن منه؟”.
ردت بداخلها الأخري..
“ماذا بربك تنتظرى أن أفعل بتلك اليقظة إلا شيئا فى حدودي، ربما يسهم فى خير، وأنا أمرأة تخاف أن تكتب وحدها فى جوف الليل ما حدث فى حلم لها بالأمس أيتها الأخرى؟”.
“لكن خوفك الآن خيال إذ لا يخيفك سوى ما بالداخل، فالناس نيام فى هدوء وليسوا من مثيرى الشغب،
ردت الأخرى:
“وهل يؤمن لمن يخاف داخله إذا أظهر بلاءه المزعوم فى الخارج؟
طفلى يتململ فى مهده ليصحوا مطالبا بحقه أيتها الأخري؟”….