محو الأمية النفسية
نبض العقل وكم المعلومات
نحن نفهم العقل البشرى – للأسف – باعتباره مخزنا للمعلومات وجهازا لاستعادتها، فتغلب على تفكيرنا أبعاد مكانية وخطية مسطحة او مجسدة، إلا أن للعقل البشرى بعدا زمنيا نبضيا هاما، إذ أن له حركة متناوبة مثل حركة نبض القلب – من حيث المبدأ – فهى حركة “متلقبة باسطة – مستوعبة – مؤلفة”, حركة ملء ودفع وحوار جدلى متصاعد، ولا اطيل فى شرح الجانب الاكاديمى البحت لما أريد ان اقول فادخل الى موضوع الملاحظة، واحتمالات تطبيقها:
نحن نتكلم عن “ماذا” نقدمه لعقولنا تعليما وتثقيفا وأخبارا، ونوجه اللوم والتوجيه إلى مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام على التوالى، ولكننا لا نسأل أنفسنا – ومؤسساتنا – عن “كيف نقدم للعقل ما نقدمه” و “متى نفعل ذلك”, ومثال ذلك اننا حين نتكلم عن ثقافة فئة من الفئات أو حتى عامة الناس نقول “نضيف كذا ونلغى كيت” ولا يخطر على بالنا تعبيرات مثل “نحرك (بتشديد الراء) كذا لنتلقى كيت”.
ولننظر إلى “مساحة الإعلام” المتزايدة على القنوات التليفزيونية المتعددة (بدون دش) لنجد أن العقل البشرى المعاصر محاصر بكم هائل من المعلومات اللاهثة التى تسد عليه كل منافذ تنفسه، فهو فى حركة شهيق مستمر حتى ليكاد ينتفخ حتى تصم مسام حيويته وتشل حركته حين لا يجد فرصة لبسط ما سبق تلقيه فى إعادة تنظيم مبدع متجدد، والنتيجة أن العقل إما أن ينقلب إلى وعاء فاسد للتخزين، وإما أن ينتهز أى سانحة ليتقيأ بعض ما فاض عن طاقة مخزنه، وحتى الأحلام، التى تقوم بتحريك فسيولوجى لإعادة تنسيق المخزون، أصبحت لا تحرك إلا بقايا عبث اليقظة دون أضغاث الأحلام، فنحن نعيد حتى فى أحلامنا محفوظات الاغانى دون أن نخوض بحور الفراغ الواعد بامتلاء شديد الثراء.
ولعل الوقت قد حان بعد هذا التقديم لأنبه على ما اردت الاشارة اليه:
أولا: إن العقل البشرى – باعتباره جزءا نابضا من الطبيعة – يحتاج لتنظيم يسمح له بالاسترخاء بعد التلقى، والتحريك بعد الملء التخزينى، وهو يحتاج إلى أن يتعامل مع المؤسسة “المايسترو” وليس مع المؤسسة “امين المخزن”.
ثانيا: إن جو التنافس التحصيلى المرتبط بالتفاوت الاجتماعى لا ينتج عنه إلا حركة تتناوب بين “الحشر – والتقيؤ” ونحن أحوج ما نكون الى حركة تتناوب بين “إكتساب المعرفة – وبسط الابداع”
ثالثا: إن هجومنا على أوقات الفراغ والتزامنا بملئها بما نعرف , لا بما يحرك، إنما يمنع العقل أن ينتهز فرصة الفراغ ليبسط ما به، وهو يعيد اكتشاف ما حوى، ويعلمنا – إذ يتعلم – ما لا يعرف
رابعا: إن انفصالنا عن دورات الطبيعة النبضية (دورات الليل والنهار، الشروق والغروب، الجفاف والإثمار الخ) نتيجة لإغارة الكهرباء والعمارات الشاهقة والإرسال المستمر الخ، قد ساهم فى إعاقة نبض العقول وهو يواكب نبض الأكوان فى تلقائية الأنغام المتواصلة
خامسا: إن هذه الإغارة “الحشرية” قد أمنت السلطات والناس من احتمال حركة العقل الخطر التى قد تفاجئنا بهز مسلماتنا، ثم إن عامة الناس رضوا بذلك وفضلوا النوم تحت ظل المعرفة الجاهزة عن مغامرة إطلاق أى قذيفة فكر مضادة للسائد، وهذا يساير نظم التعليم الشائعة التى لا تقدم للعقل أى لوحة تدريب على الرمابة خشية ان تصيبها الطلقة الصحيحة.