للتذكرة والتصحيح
1- هل القلق هو مرض العصر؟
يقال:
إن القلق مرض العصر
ونقول:
إن هذا التعبير يظهر القلق وكأنه أمر حديث “معاصر”، كما يظهر العصر وكأنه له أمراضه الجديدة الخاصة به، والأمر يحتاج إلى إعادة نظر، فمن ناحية نجد أن تعريف القلق ليس بسيطا كما يبدو لأول وهلة، وأشهر تعريف له هو أنه “الخوف من أمر مجهول” وأيضا “الخوف غير محدد المصدر والذى يغلب عليه أن يصدر من الداخل” (وليس نتيجة لأحداث خارجية) وكذلك “هو توقع حدوث شيء ما غير مرغوب فيه” وكل هذه التعاريف تشير إلى غموض هذا الشعور العام، الأمر الذى يحتاج إلى إعادة نظر، فى نوع وكم المخاوف التى يتصف بها “العصر” والتى يمكن أن يسقط عليها هذا الخوف فعدد المخاوف العصرية هى فى تزايد مستمر حتى أصبح الخوف من شيء محدد، حقيقى، أو وهمى أو مبالغ فيه أكثر تواترا مما يسمى القلق، وأصبح القلق أكثر تخصصا فيما يسمي” القلق العائم” (أو القلق الحر المتماوج Free Floating Anxiety) حيث حل محله – فى العصر الحديث مؤخرا – نوعان من المخاوف:
الأول: هو الخوف من أشياء أو أماكن أو مواقف محددة لا مبرر للخوف منها، وهذا ما يسمى الرهاب Phobia، وقد تعددت الرهابات بشكل مفرط، فثمه خوف من (رهاب) الأماكن المرتفعه Acrophobia، وهو الخوف الذى يصيب الكثيرين وهم ينظرون من حالق، وإلى درجة أقل يتواجدون فى حالق، والخوف من الأماكن المغلقة Claustrophobia مثل المصاعد، وأحيانا دورات المياه الضيقة حتى لا يغلقونها عليهم أحيانا) والخوف من (رهاب) الأماكن المتسعه غير المحددة (مثل الميادين ويصاحب هذا النوع الخوف من السير وحيدا، ثم الخوف من (رهاب) مواجهة المجتمعات Social Phobi مثل الحديث فى جمع أو إلقاء محاضرة وغير ذلك رهابات كثيرة (رهاب المرض، رهاب السرطان، رهاب الجنون، رهاب الحيوانات، رهاب الطيران … إلخ).
أما النوع الثانى الذى حل محل القلق العائم فهو ما يسمى اضطراب الفزع Panic disorder وهنا ينقض الخوف على الشخص فى صورة رعب مفاجيء يظهر فى شكل جسدى بالذات فى صورة خفقان القلب وضيق النفس وعرق اليدين ثم شعور عارم باقتراب الموت أو حتى حلوله، ويحدث هذا الانقضاض بشكل مفاجيء وبدون مؤثر خارجى فى العادة (اللهم إلا كمصاحب لرهاب الأماكن المتسعة والسير وحيدا أحيانا)، وحلول هذين النوعين من التعبير عن الخوف (الرهاب – الفزع) محل القلق العائم فى العصر الحديث يحتاج إلى تفسيرات كثيرة.
والفرض الذى يحضرنا هنا كتفسير هو كالتالى:
لم يعد الإنسان المعاصر قادرا على الانتظار، أو على معايشة الغموض، أو على التأجيل، أو على الحيرة، وبالتالى فهو إما أن يسقط مخاوفه على أشياء محدده (رهابات) وإما أن يكبتها حتى تتراكم ثم تنقضى (نوبات الفزع) وسواء صح هذا التفسير أم لا فالأولى أن تكون الرهابات أو الفزع هما مرض العصر، ولكن هذا القول لا يصدق، أيضا لأن أعراض العصر الأغلب تظهر فى أشكال أخطر مثل الاغتراب، والتبلد والوحدة والانغلاق الذاتى، ولكل هذا حديث آخر.
2- هل الطبيب النفسى أكثر عرضة للمرض النفسى؟
يقال:
إن الطبيب النفسى – شخصيا – غير متوازن نفسيا (مريض أو مشروع مريض نتيجة لمعاشرة المرضى: أو هو كذلك من البداية,
ونقول:
لاشك أن مهنة الطب النفسى مهنه شاقة لمن أراد أن يحسن ممارستها، ويحمل مسئوليتها، وبعض ما يميزها ويحدد مشقتها أولا: ما تحمله من ضرورة تحمل مسئولية مجموعة من البشر، عجزوا، ولو مؤقتا على تحمل مسئولية أنفسهم، ثانيا: ما يتصف به الريض النفسى من عزوف عن الفعل وعدم احترام السائد من القواعد فى الواقع ثالثا: ما يثيره المريض النفسى – إذ يتعرى – من حقائق صارخة وصريحة قد تهز القيم السائدة والمقدسات الراسخة (بما فى ذلك قيم وممقدسات الطبيب شخصيا).
وعلى ذلك فهذه المهنة تحتاج إلى صلابة خاصة وتحمل متزايد ومعاناة استمرار مسيرة النضج أكثر من مهن أخرى (بما فى ذلك تخصصات طبية أخري) لا تتطلب كل ذلك، وعلى هذا فإننا نتوقع أن من يتصدى لهذه المهنة أن يكون كذلك (أكثر صلابة .. إلخ) ولكن واقع الحال يقول غير ذلك. مغادة يكون الدافع للاشتغال بهذه المهنة ماديا (فى البلاد الأكثر ثراء والتى تعطى الطبيب النفسى مرتبات وحوافز أكبر من تخصصات أخري) أو استسهالا (كما يحدث فى مصر بالذات حين يكون ذلك سبيل للبقاء فى العاصمة مثلا أو سبق التخصص) أو اضطرارا (حيث يكون الإقبال على هذا التخصص بين المتفوقين أقل من إقبالهم على تخصصات أخري) ولا تأتى حكاية “أكثر صلابة” فى المقدمة أصلا.
فإذا أضيف إلى ذلك أن عددا من الذين يختارون هذا التخصص يختارونه لتصورهم – شعوريا أولا شعوريا – أنهم سوف يجدون فيه شفاء (أو علاجا) لما يستشعرونه هم شخصيا من معاناة نفسية (ظاهرة أو كامنة) فإننا يمكن أن نفهم صعوبة القضية إذ تقول: إن كثيرا من يشغل هذه المهنة الصعبة، لا يمتلك أدوات مواجهة هذه الصعوبة من البداية، وبالتالى فهو عرضه أكثر من غيره أن تظهر عليه – نتيجة لصعوبة المهنة وتواضع الاستعداء – أشكالا من الاضطرابات النفسية، ولو طفيفة، ولو بشكل غير صريح.
فإذا صح ذلك – وبعضه صحيح – فهل يستمر الحال على هذا المنوال؟
إن الدراسات التتبعية لنضج المبتدتين فى الطب النفسى تشير إلى أنه مع مرور الأيام، ومع التدريب المنتظم، ومع الإشراف المستمر، يتواصل نضج الطبيب النفسى – فى الأغلب باضطراد، فتصبح مقاومته أكثر، وتصبح رؤيته أوسع، ويصبح تحمله أعلى، ويتم ذلك بالذات مع ممارسة العلاج النفسى تحت اشراف – سواء إشراف من زملائه مع بعضهمم البعض إشراف القرناء Peer supervision حيث يتقابل الممارسون ليتباحثوا مرة كل أسبوع (على الأقل) فيما يعترضهم ويلاحظونه من خبرات مرضاهم وفى أنفسهم، أو كان الإشراف من مشرف أكبر (استاذ أو معالج قديم).
هذا ولم يعد من المحتم لكى يتم النضج أن يقوم الطبيب النفسى ولا المعالج النفسى بما كان مفروضا قديما وهو “التحليل النفسي” له شخصيا على يد معالج (محلل، أكبر)، فقد أغنت الممارسة الصحيحة والإشراف عن ذلك.
وبألفاظ أخرى نقول: إنه إذا كان الطبيب المبتدئ أكثر مرضا أو أكثر عرضة للمرض فإن الطبيب النفسى الأقدم، والذى تدرب فى بيئة علمية وتعليمة صحيحة هو أقل عرضة وأكثر مقاومة.
ولكن هل يصح ذلك فى كل الحالات؟
طبعا لا
فثمة برامج للتدريب قاصرة أو منعدمة فى كثير من المراكز والمؤسسات النفسية، وكثير من الأطباء النفسيين الذين يستشعرون هذا التهديد نراهم يلجأون إلى اعتناق مدارس عضوية ميكانيكية للتعامل مع المرض النفسى، حيث يعتبرونه اضطرابا كيميائيا عضويا محددا، ولا يحتاج إلا إلى تصحيح هذا الاضطراب بتصحيح ما وراءه من خلل كيميائى زيادة أو نقصا، وبالتالى يحمى الطبيب نفسه من التعرى ورؤية مرضاه المتحدية، وبالتالى يحمى نفسه من التعرى ورؤية نفسية، واستشعار ضرورة نموه شخصيا.. إلخ، وهذا الحل الغالب ليس هروبا على طول الخط، لكنه وجهة نظر لها أبعادها العلمية الشائعة، والتى لن نناقشها فى هذا المجال المحدد، ولكننا نكتفى بالإشاره إلى أن هذه التفسيرات الكيميائية المختزلة، والتى لها بعض الأساس من الصحة، قد يترتب عليها تغيير سلبى لطبيعة مهنة الطب النفسى وللمرض النفسى ذاته.
3– هل علاج المدمن المقبل على العلاج
أفضل من الذى يقاومة ؟
يقال:
إن من يرغم على علاج الإدمان لا يشفى بنفس الدرجة التى يشفى بها من يتطوع للعلاج.
ونقول:
إن الاقبال على العلاج، واختياره هو أمر مطلوب وجيد ومحبب، ولكن ما كل إقبال هو إقبال، وكذلك، فإن المبالغة فى قيمة هذه الموافقة الصريحة والكاملة، وتفضيلها عن وسائل الضغط الأخرى، من الأهل أو القانون أو العلاقة الطبية، قد يترتب عليه تأخير فرصة العلاج تأخيرا يترتب عليه بدوره إزمان الحال أو ضياع الفرصة.
ويحاول القانون أخيرا أن يخير المدمن (المتعاطى) – بشكل أو بآخر – إما أن يعالج وإما أن يعاقـب، ويكون تأجيل العقاب مشروط بالعلاج وتحديد نتائجه وغير ذلك من تفاصيل تم بحث بعضها – قانونيا – وجارى طرح البعض الآخر
ثم إن هناك جانبا آخر لهذه القضية لا يقتصر على المدمن، بل قد يمتد إلى المرضى النفسيين أو العقليين بدرجات مختلفة، وهو أنه فى الوقت الذى يرفض فيه المدمن (أو المريض) العلاج ظاهرا، يوجد كيان آخر داخله طيب ومقهور وجاهز للعلاج، وقهر هذا الكيان الداخلى قد يتم بالمادة المخدرة، (فى حالة الإدمان) كما قد يتم بغلبة مستوى بدائى من مستويات المخ على المستوى الأرقى والأكثر واقعية، وفى هذه الحالة، ومن خلال العلاقة العلاجية الصعبة والمعقدة، يجدر على الطبيب – والأهل – أن يخاطب هذا الكيان الداخلى، وأن يعقد معه صفقة العلاج بشكل أو بآخر
وفى الخبرة العملية فإنه بمجرد ما يزال القهر الذى قهر به المريض نفسه باستعمال المخدر، أو باللجوء إلى المرض، فإن هذا الكيان الذى وافق سرا على العلاج فى البداية يظهر إلى السطح ويعترف بالجميل ويواصل العلاج.
أما تكييف هذا الحوار متعدد المستويات من الناحية العملية والقانونية والإجرائية، فهو أمر شديد الصعوبة، يحتاج إلى إعادة نظر، وترتيبات قانونية، واقتحامات إنسانية ليس هذا مجالها الآن.
وغاية القول أن من يرغم على العلاج من المدمنيين قد يكون أكثر اعترافا بالجميل، وتعاونا فى الاستمرار، وحاجة إلى العلاج، كما أن من يقبل العلاج أو يقبل عليه قد يفعل ذلك لظروف هروبية أو مؤقتة أو مناورة أو تكتيكية.
وهذا التعقيب لا يفيد العكس: فثمة من يرغم على العلاج فيزداد عنادا، وثمة من يقبل عليه ويستمر فى التعاون
المهم ألا نحرم المرضى والمدمنيين من العلاج استجابة لإشاعة لا يمكن اعتبارها قاعدة مطلقة.