غزو ثقافى … أم تبعية ثقافية؟!
د. شبل بدران
“إن فكرة التبعية لا تتضمن بأى حال من الاحوال الرفض الساذج للتراث والعلم الغربى أو الدعوة إلى الانغلاق على خصوصية علمية مصرية أو عربيية لا ينفتح فيها العلم إلا على ذاته ولكنها تنطوى على نفى فكرة التراث والعلم الواحد حتى فى المجتمع الغربى ذاته فالواقع السياسى والاجتماعى هناك متعدد بتعدد مواقع القوى السياسية والاجتماعية المتباينة ومصالحها ، ويتعدد أيضا وفقا لذلك التراث الثقافى والعلم الانسانى الذى يعكس الرؤى والتفسيرات المتغايرة والمتصارعه لأنماط الحياة وأفضل أساليب تنظيمها. وحيث أن واقع مجتمعاتنا العربية هو أنها خاضعة للسيطرة الامبريالية، بوجودها فى شبكة علاقات النظـام الرأسمالى العالمي، فإن التقليد لنمط العلم والثقافة المسيطر فى العالم الرأسمالى يخدم بطبيعة الحال هدف الإبقاء على العلاقات الاجتماعية الراهنة، ويعمل على دعم للعلاقات الدولية غير المتكافئه ويسهم فى تشديد الروابط مع النظام الرأسمالى العالمى السائد” (1).
خلط الاوراق:
تموج حركة الثقافة العربية المعاصرة بسيادة هذين المصطلحين، ويتم ترديدهم بوعى أحيانا، وغالبا بدون وعي، حيث يتم الخلط بين هذين المصطلحين واعتبار أحدهمما مرادفا للآخر، ولكن فى حقيقة الأمر، هناك فارق جوهرى شاسع بينهما، فمقولة “الغزو الثقافى أو الأفكار المستوردة أو الفكر الدخيل “ترتبط بالخطاب الإسلامى (السلفي) كجزء من هذا الخطاب، وكآليه من آلياته وكتبرير لمنطلق طرحه لأفكاره بأن الأمة العربية والإسلامية مهددة بغزو ثقافي، ولا مناص سوى العودة إلى العصور الزاهرة للحضارة الإسلامية، وكأن العودة تلك عملية آلية يمكن أن تتم “بالريموت كنترول” وأصحاب هذا الاصطلاح ينعون على الحضارة والثقافة الغربية عامة أنها موطن الداء والبلاء للأمة العربية والإسلامية، وأنه يجب علينا أن نحارب هذا الغزو القادم إلينا بشتى الطرق، وأساليب مقاومة الغزو من وجهة نظر هؤلاء هو الانغلاق والتقوقع أمام الغزو… والعودة إلى الاصول الأولى والينابيع الصافيه للحضارة الاسلامية.
وعلى الرغم من معقولية اتهام الغرب- الاستعماري- بأنه يعمل جاهدا على تخلف العالم العربى والإسلامي، إلا أن هذا الاتهام ليس مطلقا ، فلا يمكن للقوى الاجنبية – الاستعمارية تحديدا – أن تبيد حضارة ما أو ثقافة ما، إلا إذا وجدت الأنصار والأعوان الذين ترتبط مصالحهم – الآنيه والمستقبلية – بمصالحها، ويشكلون روافد لتلك الآلية، يحكمها بشكل رئيسى المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فى الانفتاح ، والاندماج علي، الغرب.
الانغلاق ليس طريق الاستقلال والمواجهة:
إن فكرة طرح المواجهة بالانغلاق والعودة إلى الوراء، تكفى لنسف تلك المقولة من أساسها ونزع المصداقية عنها وإمكانية تصديها الفعلى لما يسمونه “الغزو الثقافي”، إن التاريخ يؤكد لنا بما لا يدع مجالا للشك بأن العالم العربى كان منعزلا قبل مطلع القرن التاسع عشر عن الغرب الاستعماري، قبل مجيئ الحملة الفرنسية على مصر عام 1798ميلادية، وبدايات الاستعمار المباشر على المنطقة العربية، فيما قبل القرن التاسع عشر، لم يكن هناك تدخل أجنبى أو “غزو ثقافي”، وكان العالم العربى يعيش فى عزلة تامة، ولكنه لم يكن متقدما، ولا منجزا لسمات خاصة به، بل كان يغط فى سبات عميق من التخلف الفكرى والعلمى والحضارى ، أى إنه لم يستطع أن يقدم إنجازا علميا وثقافيا ملموسا أثناء فترة الانعزال عن الغرب، بل إنه لم يستطع أن يجابه هذا الغزو الجديد الذى تم فى مطلع القرن التاسع عشر، بل ثبت أنه كان يعيش فى عالم آخر بعيدا عن التطورات العلمية والثقافية، وذلك مما سهل مهمة الغزو العسكرى وما يشمله.
إذن تحقيق التقدم عن طريق ما يسمي” بالانعزال أو الانغلاق” ‘ أمر لم تؤكده وقائع التاريخ العربي، بل المؤكد لدينا إنه قبل الحضارة العربية والاسلامية، كانت هناك الحضارة اليونانية والرومانية والتى احتك بها العرب والمسلمون إحتكاكا أفادهم كثيرا فى الجوانب العلمية والثقافية والتعليمية، بل إن أزهى العصور التى يرغب أهل إستخدام مقولة “الغزو الثقافي” الآن أن يعودوا إليها كانت تلك العصور التى انفتح فيها العرب والمسلمون على الحضارة اليونانية والرومانية – التى كانت حينذاك تعد إنجازا تاريخيا وبشريا – بشكل حقق لهم استقلاليتهم وتفردهم وتميزهم، لانه لم يكن إندماجا، بل كان مراجعة نقدية لها ونوعا من الافادة من المعارف والعلوم للحضارات المجاورة، ولم يكن للعرب أى حساسية من المؤثرات الاجنبية كتلك الحساسية التى تموج بها الساحة ويمتلئ بها الخطاب الإسلامى المعاصر.
ويسوق أصحاب دعوة الانعزال الآن موضوعات عديدة لتبرير ذلك الانعزال أهمها كما يؤكد أستاذنا الدكتور فؤاد زكريا: إن هناك مؤامرة على الإسلام من الغرب، وإن الغرب الاستعمارى يتآمر علينا وعلى عقيدتنا السمحاء ، ونحن نؤكد مع د. فؤاد زكريا أن فكرة المؤامرة هى وهم غير وارد، ولا أساس موضوعى له من الصحة، لأن الغرب الاستعمارى بقيادة الولايات المتحدة الامريكية الآن، ينظر إلى العالم العربى بإعتباره مصدرا رئيسيا للمواد الخام، وسوقا رائجا لتوزيع منتجاته، ودول ومواقع جغرافيه واستراتيجية تضم إلى الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة الامريكية، تدعمها وتساعدها وتكون بمثابة أطراف متباعدة ومتشابكه للجسد الامريكى المتمركز فى الغرب…. إن الاسلام ليس هو المستهدف فى حد ذاته، بقدر ما يكون الإسلام عامل تثوير وأداة كفاحية فى مواجهة هذا النفوذ وتلك الاستراتيجية، هنا يكون الإسلام مستهدفا، والإسلام ليس محل مؤامرة إلا إذا كان يقوم بدور ثورى فى مواجهة السياسات الغربية فى المنطقة العربية، إن لعب هذا الدور، فهو محل عداء، وإذا لم يلعب فهو محل رضا وسعادة… ؟ لأن الغرب ليس حريص على المسيحية، ولكنه يحرص عليها حينما يستخدمها فى مواجهة أيديولوجيات معينة وعقائد تحول دون سيطرته وهيمنته وتحقيق مصالحه الاقتصادية والسياسيه والعسكرية… (2)
وأخيرا نطرح على هؤلاء الذين يدعون للانعزال ويرجون لمقوله”الغزو الثقافي” ما سبق أن طرحه د. فؤاد زكريا فى الاهرام بتاريخ 18/9/1987 حيث يقول “سأتخيل أن واحدا من الرهبان المتعصبين فى الأندلس، أيام الفتح، قد توجه إلى قومه محذرا: إياكم والثقافة العربية، إنها ثقافة دخيله، مستوردة، تشيع بيننا قيما تتعارض مع عقيدتنا وتراثنا، إنها مؤامره على أخلاقنا وديننا دبرها لنا أعداء لا يضمرون لنا إلا الشر، ولا هدف لهم إلا غزو عقولنا بعد أن أحكموا قبضتهم على شعبنا وأرضنا! ماذا سيكون حكمنا على هذا الراهب المتعصب؟ وماذا سيكون حكم التاريخ؟ سنقول عنه بغير شك: إنه كان داعية إلى التخلف، ساعيا إلى إغلاق تلك النافذة الرحبة التى كان ضوء الثقافة العربية يشع منها على العالم القديم كله، وعلى أوروبا فى العصور الوسطى بوجه خاص ، وسيقول عنه التاريخ إنه استسلم للتعصب الذى أعماه عن إدراك الحقيقة الكبرى فى العصر الذى كان يعيش فيه، وهى أن الثقافة العربية هزت الغرب-الذى كان غارقا فى سبات التزمت الدينى والتناحر السياسى والتخبط الاجتماعي- من الجذور، وإن الاحتكاك بتلك الثقافة فى جوانبها العلمية والأدبية والفكرية، كان ضروريا للغرب حتى يستطيع أن يقفز قفزته الهائلة فى عصر النهضة(3).
نقول إننا لسنا من أنصار مشايعة الغزو الفكري، لكننا مع الاحتكاك الثقافى القائم على التكافؤ والندية، وليس المملى علينا أو القائم على شروط الأقوى أو المسيطر لا أحد ينكر حضارة الغرب وتفوقه وإنجازاته العلمية، ولكن فى ظل أى ظروف نتعامل معها وبشروط من؟ ولمصلحة من ؟!
المشروع السلفى … مشروع تبعى فى جوهره.
تتكاتف المقولات المتضمنه فى الخطاب السلفى جميعها، فى الركون الانفعالى إلى التراث، بجعله مرجعا إنفعاليا، إن الخطاب السلفى لا يتعامل مع التراث كجمله من الوقائع التاريخية والثقافية، و إنما يجرى التعامل معه كنسق من الرموز الذهنية التى تحكم العقل، ولا يحكمها العقل، وإن ترميز القديم، يعد خلعه عن سياقه التاريخى الاجتماعي، هو مصدر نظريات “الأصالة” وتصورات التلف، التى تقارب أحيانا حدود اللاعقلانية، فتنهزم قبل أن نهزمها الآلة الامبريالية، تصدر الهزيمة الداخلية عن التناقض الداخلى لأيديولوجيا ترميز القديم، فهى من ناحية أيديولوجيا مقاومة، وهى من ناحية ثانية أيديولوجيا هزيمة، تبحث عن المقاومة فى كثافة التاريخ الذاتي، وفى الجذور الثقافية القديمة وتواجه خطر الاغتراب والاغتصاب بالاحتماء بسطوه القديم.
فالقديم هوية، والرجوع إليه درع وحماية، وتأتى الهزيمه من موقف الوعى الحاضر من القديم، حيث يستغرق القديم الحاضر وعيا ومنظورا وتصورا فيتم ترميز الحديث كما تم ترميز القديم، ولهذا لا تنطلق مواجهة التبعيه من وعى سياسى صاغته المعرفة التاريخيه، بل تنطلق من دوافع أخلاقيه ومعنوية أى إنها تستبدل السياسة بالاخلاق فى معركة سياسيه بالدرجة الأولى ، وفى هذا الاستبدال لا يرى الوعى السلفى التاريخ فى جملة العلاقات الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، بل يقيم التاريخ على العناصر الذاتية والثقافية والروحية، وينتهي، بالضرورة إلى تذويب السياسة المشخصة فى الأخلاق المجردة، وإلى ربط الفعل السياسى بالإرادة الذاتية، وإلى إختزال التاريخ إلى حركة الافكار والقيم، بعد أن يجعل من ثنائية الشر والخير معيارا لتقويم الافكار ومحاكمة القيم، بسبب هذا يعزل الوعى السلفى الفكر عن سيرورتة التاريخية وعن شروط تشكله ويربطه بجوهر لا يقبل التغير(4).
إن غياب معنى التاريخ يصادر الوعى السلفى ويهزمه، ويجهله يقيم تعارضا مستمرا بين حركة الواقع وحركة الفكر، أو بين مشروع تغيير الحاضر والأدوات التى يتم إستعمالها فى هذا المشروع، فلا يمكن تحويل الحاضر ببرنامج فكرى عاجز عن إدراك المستويات الموضوعية المكونة للحاضر، بمعنى آخر لا يمكن بناء نظرية فى السياسة بدون بناء نظرية فى التاريخ، تسمح بمعرفة السببية الاجتماعية -التاريخية التى جعلت الحاضر على ما هو عليه.
ولا شك أن سعى الفكر السلفى للحفاظ على الهوية التاريخية من موقف إنفعالى لا يحدد معنى التاريخ، جعل هذا السعى لا يقوم على وحدة السياسة والتاريخ، بل على أيديولوجيا الاختلاف الكامل عن الآخر. تبدأ هذه الأيديولوجيا بعزل الأنا عن الآخر، وتصل إلى عزل المحلى عن الكوني، لتنتهى إلى تفتيت السيروره التاريخيه إلى قطاعات مغلقة حتى أنها تنزع إلى الإعتقاد بأن العقلانية هى سمة ‘ المجتمع الآخر” وأن حديث القلب والإيمان هى سمة المجتمع المناهض للأول والمختلف عنه جذريا (5).وإن أيديولوجيا الاختلاف ترمز للآخر، ولا تسمح بمعرفته، أى تؤدى إلى استمرارية علاقات التبعية.
وجه آخر من وجوه الفكر السلفى المتناقضة، هو عجزه عن رؤية علاقات التبعية ككل واحد، فهو يرى التبعية فى مستوى الفكر، فيرفض الفكر ولا يرفض التكنيك التابع، ولا الأدوات التى تقوم بتوزيعه، ولذلك فهو يتعامل مع الاستهلاك الهجين ويعترف بالدولة التابعة إن رفعت شعار- دولة العلم والايمان -معتقدا أن مقاومة التبعية هى مقاومة فكرية وأخلاقية بالمعنى المجرد، ولا شك أن هذا الوعى المقاوم والمهزوم لا يعكس التعاليم الدينية بل يعكس تخلف الشروط الاجتماعية مثل استمرار البنى الاقتصادية – الاجتماعية لما قبل- رأسمالية، وتزييف المدن، وإتساع حجم البروليناريا الرثة، وضعف الطبقة العاملة بالإضافة إلى دور وسائل الاعلام والجهاز المدرسى – نظام التعليم القائم – فى الدولة التابعة، إلى جانب غياب الوعى بتلك القضايا جميعها.
ومن كل ما سبق يتضح لنا أن الخطاب السلفى والمشروع السلفى برمته ينمى آليات التبعية ولا يتناقض جوهريا مع سلطة الدولة التابعة، ويكون عائقا أمام الحركات الوطنية والشعبية التى تدعو وتناضل من أجل الاستقلال وتحقيق المشروع الوطنى المتناقض أساسا مع النظام الرأسمالى العالمى وتقسيمه للعمل الدولي، إن طرح فكرة الغزو الفكرى بالمعنى السالف ذكره ، لا يؤدى بأى حال من الأحوال إلى فهم جوهر التناقض بين البلدان التابعه والنظام الرأسمالى العالمي، ولا يؤدى إلى أيه فعالية حقيقية لفك الارتباط وتحقيق تنمية وطنية مستقلة، وتحرر سياسى فعلى خال من ضغوط الهيئات الدولية المانحة للمعونة والقروض.
مقوله التبعية الثقافية:
لا شك أن أصحاب تلك المقوله يرون الصورة بشكل أرحب وأوسع وأشمل، ويعبرون عن شمولية فى النظر وفهم حقيقى للعلاقات التى تحكم دول العالم المعاصر، وما يترتب على تلك العلاقات من تبعية أو ندية، والتبعية الثقافية ليست نظرية بالمعنى العلمى للكلمة ، ولكنها مقولة تختبر فى الواقع المعاش، وأداة تفسيرية لشروط القهر والتسلط والتخلف التى تعانى منها دول العالمى الثالث-التابع – وترجع أهمية تلك المقولة إلى أن أصحابها هم من منظرى العالم الثالث، أمريكا اللاتينية تحديدا، ونفر ليس بالقليل من منظرى وطننا العربي، ولقد تصدى أصحاب تلك المقولة لتفسير حالة التخلف والتبعية التى تعانى منها دول العالم التابع.
بإنتهاء الحرب العالمية الثانية، وبصعود الولايات المتحدة الامريكية كوريث شرعى للامبراطورية الفرنسية والانجليزية ، وإنشطار العالم إلى شطرين، العالم الاشتراكى ومنظومة البلدان الاشتراكية والعالم الرأسمالى ومنظومته، لاح فى الأفق محاولات لبلورة إتجاه أو تيار لحركة التحرر الوطنى فى بلدان العالم الثالث، تبلور وعبر عن نفسه فى العقد الخامس والسادس من هذا القرن ، ومع محاولة التخلق والتكوين لبلدان العالم الثالث، طرحت النظرية الاشتراكية مقولاتها المعروفة كطريق للتنمية والتقدم الإنساني، وفى مقابلها طغت النظرية الرأسمالية والتى جسدت مقولاتها الرئيسية فى أن تخلف بلدان العالم الثالث مما هو إلا مرحلة من مراحل النمو والتطور التى يمر بها المجتمع الإنساني، وأن أوروبا وأمريكا نفسها قد مرت بتلك المرحلة، وأن بلدان العالم الثالث إن أرادت التقدم فما عليها إلا أن تحاكى نمط التنمية الرأسمالية الغربية الذى سيوصلها إلى الرفاهية والتقدم، وهذا كان يعنى ببساطة شديدة أن بلدان العالم الثالث لا ترى نفسها ومستقبلها، إلا فى إطار النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية القائمة فى الدول الرأسمالية الغربية.
المحاكاة لا تنتج إلا مجتمعات مشوهة:
ولقد تصدى أصحاب مقولة” التبعية” لتلك الوصفة الغربية للتقدم وقدموا الأدلة والبراهين التى تدحض مزاعم تصور الغرب لتقدمنا، وذلك:(1) لإغفال نظريات التحديث الغربية لظاهرة المد الاستعممارى الاوروبى التى صاحبت نشوء وتطور الرأسمالية العالمية فى القرنين لظاهرة المد الاستعمارى الاوربى التى صاحبت نشوء وتطور الرأسمالية العالمية فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والتى شكلت وسيله هامةلدفع التراكم الرأسمالى فى الدول الصناعية، والذى تم على حساب نهب ثروات العالم المتخلف(2) والسبب الثانى يتمحور فى طبيعة النظام الرأسمالى القائم على تقسيم العمل وتقسيم العالم والسيطرة والهيمنه من قبل دول المركز (الرأسمالية المتقدمة) على دول الاطراف (الدول المتخلفة) والذى أدى إى إفقار المجتمعات المتخلفة وإبقاء إقتصادياتها فى خدمة احتياجات الظاهرة الاستعمارية ممن ناحية، واستمرار الهيمنه الخارجية عليها بعد الاستقلال السياسى من ناحية أخري.
إن التوسع المكثف للاقتصاد الرأسمالى العالمي، قام على فتح أسواق العالم المتخلف أمام فائض الإنتاج الغربى الذى لم تستطع إستيعابه أسواق الدول الصناعية المتقدمة ، وكما أن حركة التصنيع ارتبطت بالسيطرة على مصادر المواد الاولية والطاقة فى العالم المتخلف مما أدى إلى ظهور نوع من تقسيم العمل يقوم على أساس تبادل غير متكافيء بين الدول الرأسمالية والدول المتخلفة التابعة كما جعل الاقتصاد المحلى فى الدول المتخلفة فى خدمة الرأسمالية العالمية، خاصة بعد ظهور وإنتشار الشركات المتعددة الجنسية كظاهرة كونية والتى عمدت من جانبها إلى إحكام قبضتها على السوق الداخلية لمجتمعات العالم المتخلف.
هذه بعض الطروحات والبراهين التى ساقها أنصار ‘مدرسة التبعية” فى مواجهة الظاهرة الرأسمالية التى كانت تهدف بتصدير مقولاتها حول التنمية والتحديث إلى تكريس التخلف والتبعية وتحقيق أهداف النظام الرأسمالى الغربى فى جعل دول العالم المتخلف تدور فى فلكه وتدافع عن سياساته وتوجهاته المختلفة، ومن هنا فإن قضية التبعية قضية متكاملة فى جانبها الاقتصادى والسياسى والاجتماعى والثقافى فالحديث عن التبعية الثقافية يعنى فى التحليل الاخير الحديث عن أحد جوانب التبعية.
كما أن أصحاب مقولة “التبعية” يرون أن تأسيس علاقات التبعية بين دول المركز ودول الأطراف تتم أيضا بواسطة الفئات الاجتماعية المسيطرة فى الدول المتخلفة والتى تخضع بدورها للفئات الاجتماعية صاحبة السيادة والسيطرة فى الدول الرأسمالية وتؤكد الدراسات والبحوث التاريخية أن الفئات الحاكمة فى دول العالم المتخلف تحافظ دوما على علاقات اقتصادية وثقافية وطيدة ممع البلدان الرأسمالية وتقوم بتنظيم اقتصاد مجتمعاتها بحيث يتناسب وحاجات النظام الرأسمالى العالمي، وبطبيعة الحال فهى الفئات الاجتماعية الوحيدة المستفيدة من هذه الترتيبات الاقتصادية والثقافية وذلك على اعتبار أن الثقافة جزء من العلاقات غير المتكافئه بين الدول الرأسمالية والدول المتخلفة.
وفى حركة التوسع الدائم للنظام الرأسمالى العالمى وامتداده لمناطق تختلف فى أنظمتها عن الثقافة والانتاج والاستهلاك والقيم والاتجاهات الخاصة بمجتمعات الدول الرأسمالية تبدو وضرورة التحديث الثقافى والتربوى لمجتمعات الدول المتخلفة ، حتى يتحقق دمجها بالنظام الرأسمالي، وبعبارة ثانية فإن بلدان العالم المتخلف وتنميتها وفقا للنظرية الغربية يتحقق بمجرد محاكاة النموذج الغربى للانتاج الاقتصادى ولكن الاستعارة الكاملة لهذا النموذج لا يمكن أن تنجح ما لم تتحول شعوب هذه البلدان إلى شعوب عصرية، والمقصود “بالعصرية” فى هذه النظرية تلك الخصائص والمسمات التى تميز الإنسان الأوروبى صانع الحضارة الغربية المعاصرة بما لها من تقدم صناعى وعلمى وتكنولوجى يشهد به الجميع (6).
كما أن فلسفة الدول الرأسمالية تهدف إلى خلق ثقافة عالمية واحدة يدين بها كل الناس فى مختلف أرجاء المعمورة، وتتمثل هذه الثقافة فى النظرة الرأسمالية بوصفها أسلوبا للحياة ينطوى على قيم واتجاهات تحكم سلوك الأقراد والجماعات وليس هناك أدنى شك فى مدى النجاح الذى حققته تلك الدول وبخاصة الولايات المتحدة الامريكية فى مد الجسور بينها وبين الدول التابعة، لنقل الكثير من العناصر الثقافية بدءا بطرق إعداد الطعام والملبس، وإنتهاءا بمفهوم العلم ومنهجه وتطبيقاته، والواقع أن النظام التربوى والإعلامى وتسييد المناهج الغربية يشكل أهم جسر وأخطر قناة حققت بها الدول الرأسمالية دمج دول العالمم المتخلف بها.
آليات التبعية:
يشكل النظام التربوى أحد آليات التبعية الثقافية، حيث يقوم بتدعيم نمط الانتاج والقيم والعلاقات الاجتماعية، ويقوم أيضا بإعادة إنتاجها مرة ثانية لدعم واستقرار نظم العالم المتخلف وهو فى شكله ومحتواه وطرائقه نظام وافد وغير مرتبط بالواقع الاجتماعى المعاش ولقد نشأ النظام التربوى الحديث مع فترة المد الاستعمارى ليحقق مصالح النخبة ويزيف وعى الناس.
كما أن البحوث الاجنبية المشتركة تعد آلية فعالة من آليات التبعية، حيث نجحت الرأسمالية الأمريكية فى التغلغل بآليات البحوث المشتركة إلى كافة الميادين بهدف تنمية التخلف العلمى فى مراكز البحث المصرية، وقطعت أشواطا بعيدة فى إفساد عقول الباحثين المصريين واتلاف ضمائرهم وشدهم لبريق المال، وقتلت فيهم بذلك تصديهم لمشكلات حياتنا كما نراها بعيوننا ونعيشها يوما بيوم . وأبعدتهم عن مجرد التفكير للتصدى للمهمة التاريخية التى أوكلت إليهم فى تأسيس نظرية مصرية عربية للبحث العلمى والاجتماعي.
ومجال الإعلام، الذى تقوم فيه الشركات المتعددة الجنسية بدور كبير، وهى حوالى 180 شركة فى مجال التبعية الإعلامية، وخاصة صناعة الورق والطباعة، أما وكالات الإعلان الدولية فإن عددها حوالى 25 وكالة، منهم 23 وكالة أمريكية فى القارات الثلاث، وهذه الوكالات تمولها الشركات متعددة الجنسية للسيطرة على الثقافة الوطنية فى الدول المتخلفة والتركيز على أنماط وقيم استهلاكية، والتليفزيون المصرى وإعلاناته خير دليل على ذلك، ولقد أظهرت الدراسات فى مجال الإعلانات فى تليفزيونات العالم المتخلف أن حوالى نسبة من20إلي40% تخصص للإعلان، وذلك من إجمالى الوقت المخصص للإرسال أما عن المضمون الثقافى الذى تحويه المسلسلات والافلام التليفزيونية والتى معظمها أمريكية وغربية، فهى تقدم أسوأ ما فى الثقافة الغربية أما إعلانات الصحف فإن خطورتها أنها تسرق المساحة المخصصة للتثقيف والوعى وتتجاوزها بفرض قيود على سياسات التحرير، وبالتالى تمثل تهديدا لحرية الصحافة لأنها لا تستطيع أن تنشر مقالة ضد هذه الأنماط الاستهلاكية وهى تتقاضى ثمن هذه الإعلانات كل ذلك إلى حانب المدارس الأجنبية المنتشرة فى العالم المتخلف، والتى تسيد اللغة الأوروبية والجامعة الأمريكية ومشاريع الترابط العلمى بين الجامعات المصرية والعربية وجامعات الغرب والولايات المتحدة الامريكية، كل هذه الآليات وغيرها كثير يكرس نمطا للقيم والاتجاهات ويبث روح الاعجاب بكل ما هو غربى (7)
إذن القضية ليست غزوا بالمفهوم المسطح السائد فى الخطاب الإسلامي، ولكنه سيطرة وهيمنهة من النظام الرأسمالى على الدول التابعة، ووجود مصالح اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية بين النخب الحاكمة فى العالم الرأسمالى والمتخلف ، ومواجهة تلك الظاهرة لا يكون بالعودة إلى الماضى ورفع الشعارات، ولكن بالعمل والاعتماد على الذات وإحداث تنمية مستقلة تتفق مع شروط التطور الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والثقافي، وإن الاشكالية التى أمامنا الآن هى: كيفية الخروج مما نحن فيه؟ كيفية الخروج من مأزق التبعية؟ لا يكون إلا بإنجاز مشروع للتقدم من أجل الإنسان وتحريره من كافة صنوف القهر والتسلط الواقعة عليه لكى تنطلق طاقاته الإبداعية والخلاقة وهذا لا يكون أيضا إلا بوجود حياة اجتماعية تحقق له المشاركة الفعلية فى القول والعمل.
وبطبيعة الحال فإن للصراع موضوعات كثيرة ومتعددة، فالثقافة بمعناها العام والخاص وبما تحمله من رموز ثقافية وشعبية تستخدم إما لتزييف وعى الناس وفضهم عن قضاياهم الملحة أو تستخدم أداة لتحريرهم من الأوهام ومساعدتهم على الإبداع والابتكار، ولا يمكن أن يكون الحل إلا بذلك، أما الحل عن طريق الانعزال أو الانغلاق والإنكفاء على الذات واجترار ذكريات الماضى الجميل فانه لن يؤدى إلا إلى مزيد من تكريس التبعية والسيطرة ونحن فى حاجة إلى عمل جدول للمهام الوطنيه، ونحدد فيه بوضوح وصراحة أطراف الصراع فى الداخل والخارج ، وأن نحدد إنحيازنا وتوجهاتنا الاجتماعية بوضوح، هل هى مع ثقافة الأقلية أو مع الثقافة الشعبية المرتبطة بوجدان الناس وأحلامهم فى مستقبل يحققون فيه تقدمهم وإزدهارهم من خلال ما يتلائم مع واقعهم المعاش.
المراجع:
1 – التربية المعاصرة ، العدد الثالث ، مايو 1985 المقدمة.
2 – فؤاد زكريا، ;أبعاد الاستقلال الثقافى “محاضرة القاها فى وزارة الثقافة والاعلام بدولة البحرين 1987م.
3 – فؤاد زكريا “الأصالة العربية وحقيقة لاغزو الثقافى – جريدة الاهرام فى 18/9/1987
4 – فيصل دراج وضع الثقافة فى شروط التبعية قضايا فكرية، الكتاب الثانى يناير 1986 (القاهرة دار الثقافة الجديدة 1986 ) صص 201 – .202
5 – المرجع السابق ص 202
6 – كمال نجيب “التبعية والتربية فى العالم الثالث” مجلة التربية المعاصرة العدد الثانى، ستبتمير 1984 ص 5، 7، 8
7 – التربية المعاصرة ، العدد الثالث مايو 1985 ندوة العدد حول” التبعية الثقافية”.