رسائل وتعقيبات
دعوة وتعريف، وأمل فى حوار:
اعتدنا فى صدورنا السابق أن نقلب الرسائل التى تصلنا إلى ما يشبه الحوار، بأن نجرى عليها عملية قص ولصق، ثم نحشر آراءا بين الفجوات، وكنا نعلم تماما أن هذه عملية ظالمة لصاحب الرسالة لأنه لا يتمتع بحق الرد على الرد على الرد، فيبدو وكأنه مستسلم لما قلنا أخيرا([1])، وقد كان مبرر هذا الذى كان أن الهدف كان واضحا، وهو طرح آراء مختلفة بغض النظر عن قائلها، إلا أن ذلك كان يجوز لو أن قائلها لم يذكر إسمه، ورغم إصرارنا على الظلم بأمل ترجيج “الرأي; على قائله، فإننا رويدا رويدا عقلنا وتراجعنا، وإن كان تراجعنا مؤقت ومتردد بدليل أننا سمحنا نفسنا أن نحاور “منى عنتر”.
وسوف نستبدل هذا الباب الخطير” حوار” المأسوف على اختفائه بأن ننشر بعضا مما يصلنا من رسائل كاملة أو مختصرة، وخاصة ما احتوى منها من تعليق أو تعقيب أو معارضة، آملين أن يسمح لنا بعض القراء بظلمه إذ يوافق على هذه العملية التعسفية التى تمارس القص واللصق والاحتفاظ بحق الكلمة الأخيرة
وفيما يلى ثلاث رسائل، الأولى من هذاالإنسان النبيل الذى يباشر نشر الخير من موقعه بكل ما يملك، وما يرى وما يشير، المستشار أ.د. محمد شوقى الفنجرى، والثانية تعقيب من الصديقة الدائمة منى عنتر حول خيال د. عصام اللباد وهو يحاور إريك فروم، والثالثة من السيد زرد الصديق المبدع يذكر، و يرحب، ويقول.
أهلا، ودائما
مقتطفات من تعقيب كريم ([2]) من:
أ.د. محمد شوقى الفنجرى
- استوقفتنى فى الإفتتاحية (الأولى) ما تضمنته من أننا مازلنا فى منطقة الكلام والكتابة متصورين أننا بمزيد من الكلام والكتابة نقدم حلولا لمشاكلنا… وهى فى الحقيقة ليست إلا هروبا منظما وهذا يذكرنى بقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه بأنه: إذا أراد الله إبتلاء قوم كثر كلامهم وقل عملهم، وقوله رضى الله عنه بأنه: لو جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل لكانت الأعاجم أولى بنا بكتاب الله.
- كذلك استوقفنى افتتاحية الأستاذ “فريد زهران” وما تضمنته عن ظاهرة انصراف الجيل الجديد عن الأحزاب والنقابات ويأسهم من تلمس حلول مشكلاتهم لديها، والركون إلى الحلول الفردية وإنهيار كل ما هو جماعي.. وأذكر هنا كلمة الأستاذ الفرنسى الذى أشرف على رسالتى للدكتوراه فى موضوع مشكلة تخلف العالم الإسلامى قوله أن المسلمين كأفراد عمالقة ولكن كمجوعة أصفار.
- كذلك أهنيء الأستاذ الدكتور / أحمد صبحى منصور عن بحثه المتميز “مدخل إلى التناقض بين الدولة الإسلامية والدولة الدينية”، فقد كان مجددا حين كشف بأن المنهج الصحيح يقتضى بنا أن ندرس الإسلام بمصطلحات القرآن ومفاهيمه وليس بمصطلحات التراث ومفاهيمه…. وحين أظهر أن الأساس فى إقامة الدولة الإسلامية هو إقامة القسط بين الناس… وأحب هنا أن أضيف له مقولة شيخ الإسلام إبن تيمية… إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة، وإن كانت مسلمة “وقوله: “إن الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام”، وهو يفسر ذلك بقوله: “إن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل ثابت، صلحت وإن لم يكن لصاحبها فى الآخرة من خلاق، وإن لم تقم بعدل لم تقم ولم تصلح، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به فى الآخرة.
وهذا ما جعل السلف من قبل ينحازون إلى الكافر العادل دون المسلم الجائر بقولهم: المسلم الجائر إسلامه له وجوره علينا، فى حين أن الكافر العادل كفره عليه وعدله علينا.
حــوار
”حوار حول الحوار” (عن النفـس والدين)
منى عنتر
كتب د. عصام اللباد، أعاده الله إلينا سالما غانما، هذا الحوار الرائع حول النفس والدين من واقع ما كتبه العالم النفسى “إريك فروم”، فكتبت لنا “منى عنتر” تعليقا قصيرا وجدنا به من الإشراقات والنقد ما ذكرنا بباب “حوار” الذى كانت تتميز به هذه المجلة، ولأسباب لابد أنها تعلمها، ولابد أن القاريء يستنتجها فضلنا أن ننشر آراءها فى صورة حوار لا مقال أو تعليق فرجعنا – يبدو مضطرين – إلى باب “حوار” بعد أن كنا قد عدلنا عنه لما كان يصيب المحاور الضعيف من ظلم .
منى: من بداية الحوار، انفتح قلبى تماما وتوقعت شيئا ما قد يماثل ما أريد أن أكمله فى قلبى ونفسى عن الله، الدين، الدنيا، وخاصة العلاقة بالناس .
- إن أسعد ما يسعد الكاتب أن يجد لكلماته هذا الصدى .
منى: عندما تساءل د. عصام عن ” حلم أن نستطيع نحن الجنس البشرى تكوين مجتمع واحد، تختفى فيه الكائنات المستقلة المتصارعة ويتوافر فيه الطعام للجميع (ثم أردف) أنا لا أعلم لماذا لم يتحقق هذا الحلم، وهل هناك أصل يجعلنا نظل متطلعين إليه ؟ ” حينئذ تساءلت : أليس للصراعات أهمية فى تغيير وتطوير الناس ؟ فماذا إذا همدت الخلافات، والصراعات . أحيانا حين أفكر فى الجنة أقول لنفسى هل هذه الجنة ستكون مضجرة أم أنها ستكون مطلبا هكذا
من يدرى لا بد أن الجنة ستكون جنة بحق، فالضجر لا يتناسب مع الجنة طبعا، ولهذا وجب للخيال أن يرسم لنفسه ما لا خطر على قلب بشر.
- …………..
منى: عن البحث عن”موضوع للبذل ” فحتى الآن لم أجد خيرا من: “قل إن حياتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين”.
- يا سلام، لا أحد يعيش هذا “التوحيد” (التحريري) الآن، وأظنك معنا أن “المسلمين” هنا قد تمتد إلى المعنى اللغوى ولا تقتصر على فئة بذاتهما، وهذا من رحمة ربنا تعالي.
منى: أتصور منذ عهد قريب أن الله هو فى الناس من حولنا، كل الناس، وهذا ما يجعلنى أتحمل كثيرا حتى لو كانوا مخطئين، الله فى كل الوجود، هو روح الوجود.
- ماشى، ولكن حذار من التمادى فى هذا الإتجاه دون غيره، فقد ضل به (بالتمادي) بعض المتصوفة، وأعدم بسببه بعض آخر، وغمض على كثير منا نبض عمقه فواحدة واحدة يا منى، ربنا يستر.
منى: أزعجنى، وأعجبنى، وأخافنى تعريف إريك فروم أن الله هو الإمكانات العليا للإنسان.
- معك كل الحق.
منى: كذلك كان فى تعريف إريك فروم للدين تجاوز وتعميم وهو تعريف معجمى، ضيق، لم أشعر به لا فى دينى ولا فى غيره من قراءة أحاول أن أثرى بها دينى، الله عندى ليس متسلطا لكنه قوى، ومن تلك القوة تنبع الرحمة والعدل.
- أيضا: عندك حق، لدرجة أننى أتصور أن تعريفات الدين والله عموما – مهما صدقت النية – هى خيبة عاجزة بالضرورة فى نهاية النهاية.
منى: (وأيضا): أن يسقط الإنسان أفضل ما يملكه على الله ويبقى هو فارغا فهذا غير صحيح بالنسبة للكثيرين، أما عن نفسى أنا، فالله يثرينى بأحسن ما عنده وعندي.
- أنا معك تماما، فرحلة الخارج / الداخل هى إمتلاء متجدد، ليست المسألة كم يسقط فنفرغ، وإنما هى حوار يتردد فنتجدد، ولعل هذا معنى الثراء الذى تقصدين.
منى: أخيرا: أعتقد تماما أن كل إنسان يحتاج الآخرين والله معا، فيه، وفى، وفيهم وفى الكون كله.
- طبعا، دون الدخول فى التفاصيل، حتى لا نستنتدرج إلى مسألة “الحلول” وما إليها، إن حدس الإنسان النقى يهديه حتما إلى ما تريدين.
مرة أخرى شكرا لك، ولعصام ولإريك فروم ولكل من سمح بحوار الداخل / الخارج بلا خوف ولا وصاية قامعة ماحقه.
حــوار
عن الفردية والجماعية “شهادة ذاتية”
السيد زرد
أثار شجنى ما كتبه الصديق “فريد زهران” فى الافتتاحية الثانية للعدد الماضى من “الإنسان والتطور” (العدد 59) فى معرض تفسيره للظواهر المفجعة والحقائق الدامغة فى مجتمعنا المصرى الراهن.
فقد أشار إلى سيادة الحل الفردى، بحيث “أصبحت النزعة الفردية أحد أهم عوامل الشخصية المصرية فى الآونة الأخيرة” على حد تعبيره.
والمؤلم فى الأمر هو أن الشواهد – على كل المستويات وفى شتى المجالات – تؤيد ما ذهب إليه “فريد زهران”، ويقدم الواقع المعاش فى كل يوم عشرات البراهين على صحة ذلك.. لقد أتى حين من الدهر صار فيه المصرى منا لا يكاد ينتمى سوى إلى ذاته، و”لولا الملامة” لاصطنع كل فرد لنفسه علما ونشيدا وطنيا.
والمأساة تتجلى بأوضح صورة لدى أولئك النفر القليل الذين مازالوا يسعون نحو مزاولة عمل جماعى والتشارك فى أنشطة متعددة الأطراف عن قناعة – سليمة حقا وصدقا – بأن لا مخرج حقيقى لمجتمعنا ولا لذواتنا إلا بالعمل الجماعى الجاد الفعال والمبدع.
إذ سرعان ما تكشر الفردية إزائهم عن أنيابها، وتتبدى دعاوى الديمقراطية والجماعة محض مساحيق تجميل مغشوشة، لا يهتم أصحابها حتى بأن يتجملوا بها جديا وأن يواروا سوءات ذواتهم القبيحة!
وأستأذن الصديق “فريد زهران”- وقراء الإنسان والتطور – فى أن أحكى – بإيجاز شديد – عن ثلاث تجارب شخصية و “ذاتية” فى العمل الجماعي.
الحزب:
فى مدينة بورسعيد حيث أقطن وأعمل، ورغبة فى ممارسة عمل سياسى علنى وجماعى، انضمت إلى حزب تقدمى، كان يضم عددا لا بأس به من الشخصيات المخلصة والمفكرة.
وفى انقلاب تآمرى قفز أحد الأفراد إلى أمانة الحزب فى المحافظة، وسرعان ما أخذ يصفى الحزب من قياداته وكوادره المحلية، مكرسا كل نشاط الحزب للتخديم على ذاته، حتى أصبح الحزب يـعرف فى المدينة بحزب “فلان” على اسمه… ووصل به الحال إلى أن يقرر عند إحتدام الخلاف استعداده لغلق مقر الحزب وأخذ مفتاحه فى جيبه، والمفجع أنه واقعيا يملك تنفيذ هذا الوعيد!
الجمعية:
سعيا نحو إثراء الحركة الأدبية فى بورسعيد، والخروج عن الأطر الرسمية المعوقة للعمل الإبداعى، إتجه نفر من الأدباء إلى إنشاء جمعية أدبية مستقلة، تم شهرها وقيدت بالشئون الاجتماعية.. وعلى الرغم من أننى كنت من المؤسسين للجمعية وسكرتير لأول مجلس إدارة لها، إلا أن مطالبتى بالإطلاع على أوراق الجمعية ومكاتباتها، اعتبرها رئيس الجمعية تجاوزا وتشكيكا لا يليق وغير مسموح به على الإطلاق.
وظلت “الذات” تتضخم إلى أن انتهى الحال بالجمعية إلى أن صارت مجرد حبر على ورق، ولقب يتزين به السيد رئيس مجلس الإدارة!
النقابة:
ولأننى أنتمى إلى نقابة المحامين ذات التاريخ العريق، وذات المشكلات الجمة أيضا، فقد سولت لى نفسى أن أزاول عملا “جماعيا” فى إطار هذه النقابة. وبالفعل فزت بعضوية مجلس النقابة الفرعية فى إحدى الدورات.
ولأنه من المفترض أن مجلس النقابة يضم رجالا راشدين مستنيرين يشتغلون بالقانون، فقد تصورت أنه يمكن لنا أن نتحاور وأن نختلف بالكلمات. لكن الذوات الفردية كان لها منطقها العملى فى حل الخلافات بالتهديد باستخدام “الكلمات”.. مما انتهى بى إلى “خيار” تجميد العضوية.
وما سقته آنفا لا يجعلنى – بحال – أتخلف عن الترحيب بكل مبادرات العمل الجماعى والمشترك، أو أكفر بأهمية هذه المبادرات وضرورتها، بل ومازلت أخوض غمار تجارب جديدة فى هذا الصدد، آخرها نادى الأدب ببورسعيد الذى أترأس مجلس إدارته.
ومن هنا، فلا يسعنى سوى أن آمل للتجربة الجديدة “للإنسان والتطور” الاستمرار والتنامى، وأن تكون مثالا طيبا لعمل جماعى لا تهدمه الفردية النزقة وتطمر ثماره الثرية التى نتشوق لإرتشاف عصارتها الشهية.
[1] – ذكرنا هذا أيضا فى باب مقتطف وموقف، ونحن نقصد التكرار.
[2] – لأسباب تحريرية وغيرها لم ننشر كل التعقيب بنص حروفه فحذفنا بعض المديح وبعض التفاصيل وبعض ما لا يتعلق بالمجلة، عذرا وشكراً.