حوار حول النفس والدين (الجزء الثانى)
د. عصام اللباد
[… فى طريقى للقاء أستاذى لاحظت أن حديثه الماضى إقتصر على بعض من آرائه ووجهات نظره وأنه لم يتناول آراء غيره من علماء النفس التحليليين؛ وقررت استدارجه لذلك.
كان يوم أجازتى الأسبوعية، ولم أكن مضطرا إلى الذهاب مبكرا كالمرة السابقة.
عندما وصلت إلى البوابة كانت الشمس قد ارتفعت فى السماء…،
دفعت الباب ببطء ودخلت
كان أستاذى ينتظر؛.. جلست أمامه… تأهبت لبدء السؤال؛ وتأهب هو… فبدأت].
عصام: قرأت يا أستاذى أن بعض علماء النفس التحليليين يميلون إلى التشكيك فى كل الأنظمة الفكرية ويعتبرونها – قياسا على إطارها المرجعى نفسه – لا شيء؛ أو مجرد محاولات تبريرية لنزوات ورغبات لاواعية ما رأيك فى موقفهم هذا؟
فروم: يجب أن أعترف بأن موقفهم خاطيء، لا من وجهة نظر فلسفية فقط، بل من منطلق التحليل النفسى ذاته، لأن التحليل النفسى رغم أن وظيفته هى فضح زيف التبريرات قد جعل من البديهة التوصل إلى مثل هذا التحليل النقدى لعملية التبرير.
عصام: لم أفهم جيدا، … لكنى أعتقد أننى سأفهم أكثر لو واصلت حديثك .. كنت أقصد..، …، مثلا ينحاز فرويد إلى اعتباره الأفكار الدينية أفكارا وسواسية لا يجب أن نأخذها مأخد جد..; وقد قرأت، بصراحة أنه معاد للدين.
فروم: [متحمسا] هناك رأى شآئع بأن فرويد عدو للدين، وأن يونج ([1]) نصير له، للدين، هذا الرأى من وجهة نظرى خاطيء تماما كل ما فى الأمر أن لفرويد إعتراضات من الواقع على الدين.
عصام: أريد أن أعرف رؤيته للدين أولا، قبل اعتراضاته.
فروم: [مبتسما]… لقد تعاطى فرويد مشكلة الدين والتحليل النفسى فى واحد من أكثر أعماله عمقا وألمعية، كتاب “مستقبل وهم([2]) كما تعاطاه يونج فى سلسلة من المحاضرات نشرت فى كتاب تحت إسم “علم النفس والدين”([3])
إن فرويد يرى أن أصل الدين هو عجز الإنسان عن مواجهة قوتين، قوى الطبيعة الخارجية، والقوى الغريزية الداخلية، وأن هذا العجز بدأ فى مرحلة مبكرة من التطور كان الإنسان فيها مازال عاجزا عن إستخدام بديهته فى مواجهة تلك القوى وقمعها والسيطرة عليها. لذلك إستعان الإنسان القديم بشيء غير البديهة، وهو الوجدانيات المقابلة counter – affects، أى بقوة عاطفية يسيطر بها على ما عجزت عنه البديهة؛ فإستعان بالشعور بالحماية؛ بالوهم؛ بإبهام نفسه أنه يمتلك هذا الشعور. وقد قام باختيار هذا الشعور عن طريق النكوص والتذكر. فالإنسان عندما تواجهه قوى مهددة خارج نطاق سيطرته، وغير مفهومة، ومن الداخل والخارج فإنه يتذكر طفولته وخبراته المماثلة، ويتذكر حماية الأب له، ويتذكر شعوره بالأمان والحماية.
هكذا ينكص الإنسان إلى هذا الشعور، ثم يبدأ فى البحث عن الأب، ذلك الأب الحامى الذى كان يراه فى طفولته فائق الحكمة والقوة.
وعندما لا يعثر عليه فإنه يخلقه، ويقدم له الطاعة والخضوع حتى يضمن حمايته له.
الدين، إذن، عند فرويد هو تكرار لخبرة الطفل.
إن فرويد يحاول معرفة سبب صياغة البشر لفكرة الله عن طريق تحليل السيكولوجية.
عصام: إن تحليله هذا يشبه تحليلك فى نواح كثيرة: فى أن أصل الفكرة هى العجز والوعى به. لكنك تتميز عنه برجوعك إلى منطقة أعمق قليلا، أقصد الوعى بالذات والإنفصال عن الهارمونية. لهذا قبلت أنا أفكارك بتعديلها قليلا. إن أفكارك قابلة للفهم، لو نظرنا إليها من منظور إيماني، أما مع وجهة نظر فرويد، الأمر مختلف. كيف يمكن قبول رأيه بأن الدين مجرد فكرة وجدانية عاطفية مهمتها إشباع رغبة نكو صية، الحماية.
فروم: [مسارى بالرد] إن فرويد بنفسه يشير إلى أن حقيقة إشباع فكرة لرغبة لا يعنى بالضرورة أن تلك الفكرة مزيفة.
عصام: [لم أستطع الرد.. كنت مندهشا بشدة، معجبا بما قاله حالا، لقد صالحتنى الجملة الأخيرة على نظرية فرويد كثيرا.. تعجبت أننى لم أسمعها قط من قبل. أدرك أستاذى ما وصلت إليه، فأردف قائلا:]
فروم: … إن مهمة التحليل النفسى هى معرفة الدافع الذى وراء الفكرة، وهل هو دافع مزيف أم حقيقي. أما الفكرة نفسها فإنها تحتاج إلى تحليل منطق، وفى إطار مرجعى مختلف تماما.
(2)
[توقفت للحظات.. يبدو أننى تركت الموضوع للعمق لإستيعابه.
تصالحت كثيرا على فرويد والتحليل النفسي؛ لكن مازالت عندى تساؤلات كثيرة.
عصام: قرأت أيضا آراء، لا أعتقدها صحيحة، تنتقد فرويد لأنه يربط الجنس بالدين.
فروم: [بأسي] هذه النقطة تحتاج إلى شرح دائم.. إنها منطقة اللبـس والهجوم الذى لم ينقطع عن فرويد؛ وغالبا ما يـساء فهمها.
إن فرويد يقول أن عقدة أوديب هى مركز كل أنواع العصاب ويقول أن لنزعة إنتهاك المحرمة ([4]) Incest جذورا عميقة فى العاطفة الإنسانية؛ ويشير فرويد بنفسه إلى أنه يقصد بعقدة أوديب وانتهاك المحرمة شيئا أبعد من المنطقة الجنسية. ويرى أن الدين عرض عصابى وتقديس محرمي.
عصام: لقد قرأت عن هذا أيضا .. قرأت عدة محاولات تحاول توضيح مفهوم فرويد عن الغريزة الجنسية، “الليبيدو” ونزعة إنتهاك المحارمية.
من أهم ما قرأته كان نقدا لترجمة مصطلح الليبيدو إلى الرغبة أو الغريزة الجنسية؛ ومحاولة تصحيح هذا الخطأ الشائع. وأن ما قصده فرويد بالليبيدو شيء مختلف. لقد قصد بها الطاقة النفسية الغريزية التى لم تتميز بعدundifferentiated energy الباحثة عن اللذة والاشباع، وأن تلك الطاقة تأخذ فى التميز مع النمو: وتتركز، تبعا لمرحلة النمو وإمكانات أقصى إشباع لها، فى مناطق جسدية body zonesأسماها فرويد أيضا Erotic zones مناطق الشهوة. ولا تعنى الشهوة بالضرورة الجنسى منها، لكنها ترجمت خطأ أيضا إلى ذلك المعني.
المهم أن تلك الطاقة، باحثة عن الشبع، تتركز فى مناطق جسدية وتأخذ فى التميز. وتبعا للنمو النفسي، تتركز أولا فى الفم (المرحلة الفمية) حيث العلاقة بين العالم البيولوجى الداخلى والعالم الخارجى فى أقصى مدى لها عند تلك المنطقة، ثم الشرح، ثم القضيب (حيث تأخذ شكلا جنسيا وهنا فقط يمكن لها أن تسمى جنسية); ثم تنمو وتنضج وتسمو بعد ذلك تاركه آثارا منها residues فى كل منطقة، محطة توقفت عندها.
عند كل مرحلة من مراحل تميز الليبيدو والنمو النفسى تتعلق الطاقة بالموضوع الخارجى الذى يساعد على إشباعها وهذا الموضوع هو “موضوع الحب”Love object” (صدر الأم فى المرحلة الفمية، الذات فى المرحلة الشرجية مختلطا بالأخر شرطيا، الزوجة أو المرأة أو الموضوع الجنسى sex object فى المرحلة الجنسية.. الخ.
أى أن هذه الطاقة ليست جنسية أساسا، بل أإ العكس هو الصحيح، الجنس هو الليبيدى أساسا.
إن المقولة التهكمية الشائعة بأن فرويد يفترض بأن الطفل أثناء رضاعته يحصل على إشباع لرغبته الجنسية فى الأم وأن الرضاعة فعل جنسى هى مقولة غبية. إن الرضاعة فعل ليبيدي، والأم هى موضوع الحب السيكولوجى وليست موضوعا جنسيا.
فى كل طور نموى ينتقل الليبيدو (إلا قليلا) إلى منطقة جسدية أخري، ويتغير موضوع الحب.
وينشأ الإضطراب السيكولوجى من تثبيت الليبيدو عند منطقة ما وعدم تجاوزها (إلا قليلا أيضا) إلى ما بعدها أو نكوصه من منطقة إلى ما قبلها ثم تثبتهregression and fixation، وهذا عام، فى تجاوز الليبيدو مناطقه بنجاح، لكن مع تثبيت موضوع الحب، وكأنه ينتقل معه إلى المراحل الأخري، إن عقدة أوديب، بناءا على ما سبق، هى تثبيت موضوع الحب أيضا. وكذلك نزعة إنتهاك المحارمية.
فروم: إن فرويد أشار إلى أن نزعة إنتهاك المحارمية شيء أبعد من المنطقة الجنسية.
عصام: [مفكرا بصوت مسموع] فى نظرية فرويد، من المفروض أن يواصل الليبيدو الإنتقال حتى يتعدى (إلا قليلا) الجسد، ويتسامي؛ فى عمل أو فكر.. إلخ. ويتعدى موضع الحب أيضا الذى يصبح شيئا أكبر: الكل، كل الناس، البشرية، الكون، .. المطلق. أو حتى الله!!! لقد عثرت أنا على شيء يا أستاذي.. الله هو موضوع الحب الأعظم الذى تنطلق إليه الطاقة الأولية (وسمها ماشئت!!). الإنسان إذن متوجه من الأصل إلى الله.
لقد عثرت عند فرويد على ما لم يعثر عليه هو.
وعندما يقول فرويد أن الدين عرض عصابى وتقديس محارمى فأنا يمكننى فهمه إذن.. هو أولا يتكلم عن الدين المتوقف عن النمو، الجامد.
عندما تتعدى الطاقة الليبيدية حدود الجسد، ولا يتعدى معها موضوع حبها؛ يقوم الإنسان بخلق هذا الموضوع الوهم. فيصنع فكرته الواهمة الجامدة عن الله والدين؛ والتى لو ترك نفسه حرا ومستقلا وناميا لوصل إليها نفسها.
وعندما يصنع فكرته تلك فإنه ينكص ويتذكر؛ ويؤلف صورة الله التى تشبه الأب أو السلطة. تقديس محارمي.. نعم.
فروم: [لم يرد على مباشرة] [كنت فخورا بما وصلت إليه.. غاية الفخر] قال: إن فرويد يرى أن على الإنسان أن يتجاوز الأب والأم، وأن ينمو ويواجه الواقع. وهذه الرؤية تمثل طرحه الأساسى ضد الدين فى كتابه “مستقبل وهم”. إنه ينتقد الدين لأنه يسجن الإنسان فى روابط وإعتمادية فيمنعه من التوصل إلى مهمة و جوده الأعلى: الحرية والإستقلالية.
أنا أرى أن المسألة المركزية فى تعاليم الأنبياء هى الصراع ضد التقديس المحارمي، وإستبداله بتقديس قيم أساسية يشترك فيها كل الجنس البشري، كالحق والحب والعدل.
[عندما كان يتحدث، سمعته جيدا، فى زهو بنفسي؛ وأحسست أننى تجاوزته، فى غرور].
(3)
عصام: قرأت أن يونج كان معترضا على مفهوم النزعة إلى انتهاك المحرمة، وكان يدعو فى كتاباته الأولى إلى ضرورة مراجعتها. إن وجهات نظر يونج فى الدين تناقض فرويد فى كل نقطة تقريبا.
كيف؟
فروم: [دون حماس لما يقول]… يشترك يونج فى تعريفه للدين مع المتدينين ويمكن إختصار تعريفه فى قوله بأن روح الخبرة الدينية هى الإذعان (الخضوع)submission لقوة أعلى منا.
قد يكون من الأفضل أن أقتبس منه رأسا.
إنه يقول: إن الدين هو “ملاحظات دقيقة لما أطلق عليه رودلف أوتو OttoRudulf النيومينوسمnuminosum ([5]) أى الروحى المقدس خارق الطبيعة، أو الوجود الدينامى الذى لا ينتج عن فعل عشوائى أو إرادة عشوائية، والذى يقبض على الموضوع الإنسانى ويسيطر عليه.
وبعد أن يقوم بتعريف الخبرة الدينية بأنها مفروضة علينا من خارجنا، يقوم بتفسير اللاوعي. يرى يونج أن اللاوعى ديني. إنه، طبقا لكلامه، ليس جزءا من عقل الإنسان تماما، إنما هو قوة تقحم عليه وتتعدى سيطرته. ويستنتج من ذلك أن تأثير اللاوعى علينا هو ظاهرة دينية أساسا. ويستنتج أيضا أن المعتقد الدينى والحلم، كليهما، ظاهرة دينية، إذ يعبران عن وقوعنا فى قبضة قوة خارج ذواتنا.
ولا أحتاج أن أقول أن الجنون، بنفس المنطق، يصبح ظاهرة دينية.
وكيف يشترك، بهذا الموقف، مع المتدينين.
إن الخبرة الدينية تتميز عنده بنوع من العاطفية: عاطفة الخضوع إلى قوة عليا، سواء كان اسمها الله أو اللاوعي.. إن هذا بلا شك تطابق أنواع معينة من الخبرة الدينية؛ فهو مثلا قلب التعاليم اللوثرية. والكالفينية، لكن يناقض نوعا آخر من الدين كالبوذية، إنه فى نسبيته بخصوص الحقيقة، يتعارض مع البوذية واليهودية والمسيحية التى تتضمن أن التزام الإنسان بالبحث عن الحقيقة فرض متمم.
عصام: يبدو لى أنك تنحاز كثيرا إلى جانب فرويد، وضد يونج، خاصة فى موقفهما من الدين.
فروم: [مدافعا] لقد حاولت عرض موقفيهما من الدين لمجرد مناقشة الرأى الشائع عن عداء فرويد للدين ونصرة يونج للدين.
إن هذه المقارنة الموجزة بين وجهتى النظر توضح أن هذا الرأى إختزال مخل. إن فرويد يتمسك بأن هدف التطور الإنسانى هو الوصول إلى قيم البديهة والإخاء وتقليل معاناة البشر، والاستقلالية والمسئولية، تلك القيم التى تمثل القلب الأخلاقى لكل الديانات العظيمة التى قامت عليها حضارات الشرق والغرب وتعاليم بوذا، وكونفيشيوس، ولاو-تسو والأنبياء، والمسيح إن فرويد يشرح كيف أن المفاهيم الدينية فوق – الطبيعية التى كانت يوما ما مرحلة ضررية وتقدمية للتطور الإنساني، لم تعد كذلك الآن، بل أنها أصبحت فى الحقيقة عائقا.
[كنت ومازلت أعتقد أننى تخطيته وصالحته. لكننى كنت أواصل النقاش للمعرفة].
عصام: إن هذا يتماشى مع ميلك إلى ما أسميته أنت فى لقائنا السابق “الدين الإنساني”، لكنى مازلت أرى أنه يعارض الدين بمعناه الشائع.
يمكننا القول بأن فرويد يعارض الدين باسم الاخلاق؛ باسم السلوك الذى يمكننا أن نطلق عليه “سلوكا دينيا”. وفى الجانب الأخر يختزل يونج الدين إلى ظاهرة سيكولوجية، ويرتفع فى نفس الوقت باللاوعى إلى ظاهرة دينية.
[وكأننى سمعته يقول: نعم لقد أخطأ فرويد، لكن هذا ما كان يستطيعه وقتها. لقد كان يتحرك فى اتجاه الدين، لكن هذا ما استطاعه، لكن يونج (كأننى سمعته أيضا) كان متوقفا، متحركا فى نفس المكان…، ….، وقبلت ما سمعت.
تذكرت الحديث الشريف الذى يعنى “من اجتهد فأخطأ، فله أجره، ومن اجتهد وأصاب فله أجران”.
قررت الاستمرار فى المعرفة، رغم كل شيء].
عصام: [قلت متسائلا] إن كان يونج يرفع اللاوعى إلى مرتبة الظاهرة الدينية، فإن فرويد يخفضه إلى مرتبة حيوانية – إن صح التعبير، لماذا لا تذكر ذلك أيضا.
فروم: .. اللاوعى عند فرويد هو، فى الأساس، ذلك الشيء السيء المكبوت داخلنا…، غير المتجانس مع احتياجات البيئة، ولا مع ذواتنا الأعلي([6]). أما عند يونج فهو مصدر الوحي، رمز، لما هو بلغة الدين، الله نفسه.. وأنا أرى أن كلا المفهومين نظرة أحادية الجانب مشوهة للحقيقة.
عصام: هذا يعنى أن لك وجهة نظر أخري.
فروم: [……] اللاوعى هو ذلك الجزء من ذواتنا الذى تم إستبعاده من الأنا المنظومةorganized ego التى نعتبرها أنفسنا… ويحتوى اللاوعى على الخير والشر، الأعلى والأدني. وينبغى ألا نتعامل معه وكأنه الله الذى يجب تقديسه أو كأنه وحش إسطورى يجب قتله.. بل يجب أن نتعامل معه بتواضع ومرح كبير. وأن نرى فيه الجانب الأخر من ذواتنا، كما هو، بلا رعب ولا رهبة. إننا لا نستطيع إلا رؤية جزء محدود من إمكانياتنا الداخلية لأننا قمنا باستبعادها من الوعي. لم نستطع التعايش مع حقيقة أن حياتنا قصيرة ومحدودة إلا باستبعادات كهذه.
(4)
عصام: أستاذى.. لا يمكننى الإدعاء بأننى تحادثت إليك فى موضوع الإنسان والدين مالم أعرف رأيك عن موضوع الذنب والخطيئة.. خاصة وأن داخلى مشاعر تشبهها الآن وأنا أتحدث معك عن الدين عن الله…
فروم: تعتبر بعض طرق التصوف المسيحية واليهودية أن الخطيئة شرط أساسى للوصول إلى الفضيلة؛ وتعلمنا أن لا سبيل إلى تكاملنا إلا بأن نخطيء ونتفاعل مع الخطأ دون خوف، بل برغبة فى التحرر منه إن التعاليم المسيحية واليهودية تتشدد فى موضوع الخطيئة لأنها أهملت حقيقة أن الطرد من الجنة هو أساس نمو الإنسان الحقيقي.
لا يوجد دين لم يتعاطـى الخطيئة وطرق الوعى بها وبتجاوزها، بطريقة أو بأخري، فى الدين الإنسانى ليس الضمير صوتا داخليا للسلطة، إنما هو صوت الإنسان نفسه. إنه حارس تكاملنا الذى يدعونا إلى أنفسنا إذا ما تهددت بالضياع. إن الخطيئة ليست خطيئة ضد الله أصلا، ، إنما ضد أنفسنا.
عصام: هذا عن الدين، ماذا عن التحليل النفسي؟
فروم: لمسألة الذنب فى مدرسة التحليل النفسى مكانة لا تقل عن مكانتها فى الدين.. إن الذنب يتقدم كأحد الأعراض الرئيسية للمرضي. قد يشعر المريض بالذنب لأنه لا يحب والديه كما يجب، أو لفشله فى أداء عمله بطريقة ترضيه، أو لأنه آذى شعور شخص آخر. وقد تهيمن مشاعر الذنب على عقول المرضى بشدة، يتصرفون معها بمشاعر دونية أو بفسق أو برغبة واعية أو لاواعية فى العقاب، وهذا هو الغالب. وعادة، لا يكون صعبا أن نكتشف أن رد الفعل هذا صادر عن توجيه إستبدادي.
قد يكون من الأصح أن يصف هؤلاء المرضى مشاعرهم بأن يقولوا إنهم خائفون بدلا من إنهم يشعرون بالذنب – خائفون من العقاب أو من رفض المتسلطين عليهم. وهذا أفضل.
إن هؤلاء المرضى سيدركون من خلال عملية التحليل النفسى أن وراء هذا الشعور التسلطى بالذنب نوع آخر من مشاعر الذنب ينبع من صوتهم هم، من الضمير حسب تعبير الناس.
عصام: إعطنى مثلا من فضلك.
فروم: إفترض أن مريضا يشعر بالذنب لقيامه بعلاقة جنسية… أول خطوة فى تحليل الذنب هى أن يكتشف حقيقة شعوره بالخوف، الخوف من إنكشاف أمره أو توبيخ أهله أو زوجته أو الرأى العام أو الكنيسة – أى باختصار الخوف من شخص يمثل له سلطة عندئذ، فقط عندئذ يمكنه أن يدرك وجود مشاعر أخرى خلف مشاعر الذنب الاستبدادية تلك؛ ثم سيدرك أن علاقاته العاطفية هى فى الحقيقة تعبيرات عن خوفه من الحب وعجزه عن الحب… وسيدرك أن خطيئته هى ضده هو، ضد نفسه، هى تبديده لقدرته، على الحب مثلا.
[كنت قد قرأت تحليلا عن الذنب أعظم من هذا بكثير([7]) أحسست بأننى قد فرغت من أسئلتى الحالية، وأننى بحاجة إلى العودة إلى نفسى وغرورى الذى لا أكرهه بشدة، حتى أستوعب و”أغربل” ما حصلت عليه.
تذكرت سؤالا خارج الموضوع. طمعت، وسألت].
عصام: أستاذى .. إن أفكارك ليست عادية تماما؛ ألا تقلق من رد فعل الناس؟ من احتمال رفضهم لها، ولك؟
فروم: [فرحا بالسؤال وفخورا مـقدما بما سيقدمه من إجابة]… إن الإنسان فى الأصل حيوان قطيعي، تتحدد أفعاله برغبته الغريزية فى اتباع قائد، وفى البقاء على مقربة واتصال ببقية أفراد القطيع من حوله… إن الصواب والخطأ، والصدق والزيف، مسائل يحددها القطيع. لكننا أيضا بشر، عندنا دراية بأنفسنا لنا بديهة مستقلة عن القطيع.. وإزدهار البديهة الكاملة يعتمد على الحرية والإستقلال.. لكن قليل من الناس هم الذين يستطيعون تحمل هذه العزلة ويقولون الصدق…. وهؤلاء هم أبطال الجنس البشري؛ وبدونهم لكنا ما نزال نعيش فى كهوف.
عصام: ماذا تقصد بالصدق… قولهم الصدق. طبقا لمدرسة التحليل النفسى لا يستطيع أحد التيقن بأن ما يقوله صدق، حتى لو كان يشعر هو بصدقه، المسألة ليست بسيطة هكذا.
فروم: الصدق، بالمعنى الذى أشير إليه هنا، يعنى التساؤل عما إذا كان الدافع الذى يعطيه شخص وكأنه سبب لتصرفه هو الدافع الحقيقى أم لا؟ ولا يشير الصدق هنا إلى حقيقة المقولة التبريرية ذاتها.
[يبدو أن علامات عدم الفهم كانت واضحة على وجهى تماما، فأكمل أستاذى دون أن أسأله].
مثلا… لو كان هناك شخص ما يخاف لقاء شخص آخر، ويبرر عدم رغبته فى اللقاء بأن الدنيا تمطر بغزارة؛ فهو يبرر. إن السبب الحقيقى هو خوفه وليس المطر. لكن المقولة التبريرية نفسها “إن الدنيا تمطر”، قد تكون فى حد ذاتها معقولة حقيقية.
[قال هذا، وصمت.. يبدو أننى فهمت].
خاتمة
فى الطريق إلى منزلى كان المطر ما زال،
البيوت مغلقة، والناس بالبيوت.
بعض العربات تسير بالطريق مبطئة، مضاءة مصابيحها.
صعدت إلى عربة القطار السريعة الفارغة تقريبا.
وجلست من النافذة، رأيت الأشجار والبيوت والدنيا رامحة إلى الخلف.
تذكرت اللوحة الخطية المعلقة بركن حجرة الأستاذ: “تحذيرات الغورو([8]) العشر”
حذار أن تخلط بين:
” – الرغبة والإيمان،
- التعلق بالغير والرغبة فى عمل الخير،
- توقف عمليات التفكير وهدوء البال اللانهائى الذى هو هدف الوجود.
- إدراكات الحواس وومضات الحقيقة.
- ومضات الحقيقة والحقيقة الكاملة.
- مـظهر التدين والمؤمنين الصادقين.
- عبدة الأهواء وأسياد اليوجا.
- الأعمال الصادرة عن رغبة ذاتية وعن إيثار الغير.
- المناهج الخادعة والمناهج الحكيمة.
- الدجالين والحكماء”.
توقف القطار فى المحطة، فنزلت.
كان موعدى مع أستاذى فرانكل([9]) مازال أمامه بضعة ساعات؛ وكان على أن أستعد له.
[1] – كارل جوستاف يونج (1875 – 1961) مؤسس مدرسة علم النفس التحليلي، تلميذ فرويد الذى إختلف معه وتمرد عليه. إنصب إهتمامه على أهمية التحليل الجمعى للثقافات والجماعات، والخبرة الجمعية، والرمز.
[2]- The future of an Illusion
[3] – Psychology and Religion
[4] – (المحـرمة – والمحـرمة): ما يحرم انتهاكه من عهد أو ميثاق أو نحوهما. و – زوجة الرجل وعياله وما يحميه. (المعجم الوجيز ص 147). وإن كنت أفضل أن أسميها النزعة إلى إنتهاك الحريم حيث أن حريم أشمل إذ تعنى (ما حرم فلا ينتهك. ومن كل شيء: ما تبعه فحرم بحرمته من مرافق وحقوق، فحريم الدار: ما أضيف إليها (الدار) من مرافقها وحقوقها. وحريم البئر: الموضع المحيط بها: نفس المرجع السابق) مع التحفظ بسبب المعنى الشائع لكملة حريم.
[5] – أفضل أن يبقى هذا المصطلح دون ترجمة
[6] – Higher selves وليس الانا الأعلى.
[7] – يحيى الرخاوى 19، الموسوعة النفسية: ذنب: الإنسان والتطور – عدان34 ، 35 ص 103.
[8] – المعلم الأكبر فى البوذية
[9] – فيكتور فرانكل مؤسس نظرية المعنى، العلاج بالمعنى Logotherapy