تقاسيم على أصداء
نجيب محفوظ
يحيى الرخاوى
الفصل الثانى
فى مقام الحيرة – والدنيا تضرب تقلب!!
مقدمة
لست متأكدا من سلامة المنهج، لكننى ممتلئ باستمرار المحاولة، وحين قرأت قراءتى للفقرات الثلاث التالية 55، 56، 57، ووجدتنى قد وصفتها جميعا بالفتور، تساءلت، فلماذا إذن أثبتها أصلا؟ لكننى عدت وتذكرت تأكيدى على ضرورة إثبات هذا التراوح بين الاختراق المبدع، وبين التراخى الفاتر، وأن ذلك فى ذاته علامة دالة تستأهل إشارة نقدية، فقد دأبنا على تصور المبدع بما نريد، أو بما نتوقع، أو بما ينبغى، حتى يصل بنا الأمر إلى نوع من التقديس (أو التفويت)، وخاصة إذا أضيف عامل عاطفى شخصى مثلما هو الحال معى حالا، وبالتالى فإننا قد نرى حسنا ماليس بالحسن، ولن يضير مبدع أن يفـتـر هنا أو يخمد هناك، فمازلت أذكرنى وأنا أقرأ حديث القس زوسيما فى الأخوة كرامازوف وأنا محتج على ديستويفسكى أشد الاحتجاج، محتج على هذا الإطناب الممل، وهو أمر تكرر فى كثير من أعماله، ثم إننى أنوى الرجوع – فى الفصل الرابع – إلى الأصداء مكتملة، آملا حينذاك أن الفقرات التى زعمت أنها فاترة، أو التى وصلتنى فاترة، قد تنبض فى سياق آخر، فإذا لم تنبض فلن يضار العمل كله بداهة.
وبعد كل هذا التردد الذى كاد يوقفنى، ولإجهاض احتمال التراجع قررت أن أنشر القراءة فى الجزء الثانى دون ربط أعلى، ثم لننتظر إلى الفصل الرابع، لعل.
وإنى آمل بصدق أن يتحملنى القاريء مهما اختلف معى .
55 – النصيحة
”كان لنا جار من المريدين، وكان يدعو شيخه كل ليلة خميس لإقامة الذكر والإنشاد. وكنت واقفا مع الصبية المتجمعين وراء المدعوين المتربعين على الأبسطة. وكان الذكر يمتعنا والإنشاد يطربنا، ومرة سأل الشيخ سائل من المريدين “نراك وجيها فى منظرك، بادى الصحة والعافية، تحب الأكل والشرب ولست كالشيوخ الزاهدين؟ “فقال الشيخ بصوت سمعه الجميع” نحن قوم نعمل لنرتزق، ولا نتسول، نقبل على دنيا الله ولا نعرض عنها، قرة أعيننا فى العشق والسكر وسياحتنا الليلية فى التأمل والذكر.
فجأة وجدتنى أمام صوت فاتر يقول إن الزهو ليس هو المطلوب، وأن زينة الدنيا ليست فقط حلالا زلالا إنما هى سبيل آخر، أو سبيل أول، للوصول، نعم كان الصوت فاترا ولم ينقذنى “العنوان” إذ جاءنى أكثر فتورا : مجرد “نصيحة” وتمنيت لو لم أقف عند هذه الفقرة أصلا، ورحت أطمئن نفسى أن هذا حقى.
56 – الدرس
”كنت منطلقا مهرولا لأشهد حلقة الذكر – مررت فى طريقى بعجوز رث الملبس تعيس المنظر وهو يبكى.، صرفت نفسى عن الانشغال به أن يفوت على قصدى. ولما احتل الشيخ مكانه وسط حلقة الذكر نظر فيما حوله حتى وقع بصره على، فأومأ إلى لاقترب منه، ومال على آذنى هامسا. أهملت العجوز الباكى فأضعت فرصة للخير، لن تحظى بمثلها باستماعك إلى درسى اليوم..”
تأكد لدى جو الفتور السائد، فرحت أتهم فتور التلقى من فرط رهبتى من افتراض فتور الإبداع ، ففى هذه الفقرة نصيحة مباشرة أخرى تقول: إن عون الناس الخفى هو أهم وأبقى عند الله من حلقة الذكر، ومن سماع درس الوعظ أو ترديد ألفاظ الحكمة. إذن ماذا؟
57 – ليلة القدر
”زيـنا حجرة الاستقبال بالورود، وتسلل البخور من نوافذ بيتنا إلى عرض الطريق، وأعددنا من أسباب السرور ما يلذ السمع والبصر والذوق، وأملنا كالآخرين أن ينزل الشيخ فى ضيافتنا ويسهر عندنا ليلة القدر، واستغرق والداى فى التلاوة وجعلت أذهب وأجيء بين النافذة والباب المفتوح، وفجأة تعالت فى جلال الليل زغرودة من بيت أحد الجيران. وتبادلنا نظرات الأسى فى صمت وقال أبى متنهدا: لا يريد الحظ أن يبتسم بعد.”
وهنا أيضا، لم يصلنى من علاقة انتظار الفرح والحظ فى ليلة القدر، أى جديد، فلا فكرة الانتظار فى وقت بذاته من أوقات السنة جديدة بما فى ذلك بابا نويل”، ولا فكرة الانتظار كلها جديدة (بما فى ذلك المهدى المنتظر)، ولاشيء اللهم إلا لمحة عابرة لحقد مشروع على حظ الجيران دونهم.
58 – همسة عند الفجر
”فى مرحلة حاسمة من العمر عندما تنسم بى الحب ذروة الحيرة والشوق همس فى أذنى صوت عند الفجر. هنيئا لك فقد حم الوداع. وأغمضت عينى من التأثر فرأيت جنازتى تسير وأنا فى مقدمتها أسير حاملا كأسا كبيرة مترعة برحيق الحياة.”
ها هى الأصداء تصدح من جديد : تتكثف اللحظات فى ذروة الحيرة، ويصاعد الحب، لا إلى ذروة السعادة بل إلى ذروة أروع، ذروة الحيرة والشوق، فنتعلم التمييز بين حب مخدر حتى السعادة وبين حب منتش بالحيرة محاط بالشوق، كل ذلك عند الفجر: البداية الباكرة المشقشقة، فتولد الحياة – كما عودنا محفوظ- من الموت، نعم: عادت الأصداء تمزج الحلم بالحسم وتجسد الموت، وتشق الذات البشريه ليعلن الواحد منا نهاية “مرحلة حاسمة من العمر”، ويشاهد نفسه بنفسه، وهو يتقدم المشيعين حاملا دلالات ولادته الجديدة “الكاس المترعة برحيق الحياة”، ثم يؤكد ضمنا ما ذهب إليه إدوارد الخراط فى يقين العطش من أن الارتواء ليس هو اليقين، وإنمما تعميق الحيرة والشوق أبدا.
59 – الهجر
”لم أشعر بأنه مات حقا إلا فى مأتمه، شغلت المقاعد بالمعزين، وتتابعت تلاوة القرآن الكريم. وانهمك كل متجاورين فى حديث فذكرت حوادث لا حصر لها. إلا الراحل فلم يذكره أحد، حقا لقد غادرت الدنيا أيها العزيز كما أنها قد غادرتك”.
لم أكد أفرح بعودة الصدى يتردد ما بين الحلم والحسم، ما بين النعش والكأس، حتى عاد الفتور يقول فى رتابة بدت لى مقررة: “إن الحى أبقى من الميت”، وأنه مابكت الدنيا لفرقة أحد، ولاتعطلت الأعياد والجمع، وتساءلت أين اختفى منى الصدى.
60 – البلهاء
”كانت الخادمة بلهاء ويدعونها الشيخة، وكانت الست وحيدة فى الحلقة السادسة، وكان البيت يضطرب أحيانا تحت وطأة الرغبة. وتسلل الاضطراب إلى روح الخادمة البلهاء فاستحوذت عليها الكآبة، وسألتها الست وكانت تعطف عليها. ما لك يا شيخة؟ فأجابت بتأفف. أنا ذاهبة. فانزعجت الست وتساءلت. وتتركينى وحدى يا شيخة؟ فقالت بحدة. لست وحدك يا فاجرة.”
يكاد يتأكد لى باستثناء الفقرة “58” أن هذه الفقرات كتبت فى لحظات خفوت رتيب بشكل أو بآخر، حتى خفت أن تفقد الأصداء شيئا ما كان ينبغى ألا تفقده، إلا أنى توقفت أنتبه إلى أن مثل هذا الاتهام – من الخادمة إلى سيدتها فوق الخممسين- حين يأتى من بلهاء قد يكون ذا مغزى آخر يختلف عنه إذا ما صدر من عقلاء يتمتعون بأخلاق الشطارة ويسارعون بالحكم على الآخرين ، أما البلهاء فإن ما أثارها – فى نظرى – لم يكن موقفا أخلاقيا يصدر حكما فوقيا، وإنما شعورها بالإثارة، فالاحباط، فالظلم، فلم تملك إلا أن تنسحب معلنه، أنها ليست شيئا جمادا تستعمله سيدتها بين الزائر والزائر، وكأنها بقولها “لست وحدك” (يا فاجرة) تعلن أنها هى الأولى بالشكوى من الوحدة الحقيقية وكل من سيدتها وزوارها ينكرون وجودها بشرا حياله له مشاعره ورغباته وجسده الجائع أيضا، فمن الوحيد إذن؟
61 – الطاهر
”رأت الشيخة رجلا حائرا وهى تسير فى السوق بجلبابها الأبيض وخمارها الأخضر فسألته. عم تبحث يا رجل؟” فأجاب بصبر نافذ: أ”بحث عن ماء طاهر” فقالت بلهجة لم تخل من عتاب. لا يوجد ما هو أطهر من عرق المرأة.”
تلحقنى هذه الفقرة لتؤكد لى دفاع الأصداء عن حق الجسد فى الارتواء، وأن هذا هو الطهر بعينه، ولا تميز الأصداء فى ذلك بين حق الرجل (فقرة 55 : قرة عيننا فى العشق والسكر”) وحق المرأة هنا: “لايوجد ما هو أطهر من عرق المرأة”، ومن أجمل مارق بالمسألة أن هذه الجملة قيلت “بلهجة لم تخل من عتاب”، وليس بلهجة غواية أو نداء!!
62 – الحياة
”أجبرتنى ظروف الحياة يوما لأكون قاطع طريق ، وبدأت أولى ممارساتى فى ليلة مظلمة فانقضضت على عابر سبيل وارتعب الرجل بشدة شارفت به الموت وهتف برجاء حار: “خذ جميع ما أملك حلالا لك ولكن لا تمس حياتى بسوء”.
ومنذ تلك اللحظة وأنا أحوم بروحى حول سر الحياة”!.
فى الحياة ذاتها – دون أى مبرر أو معنى أو متعة أو بعد – سر يحفظها، تشاهد ذلك فى سرب نمل يمشى على الحائط، وفى صف من الأسماك الصغيرة يتلوى تحت الماء، بل إنى أقف امام مريض من مرضاى انقطع عن العالم منذ عشرين سنة، وعن الحوار ولو بلفظ واحد حتى مع من حوله من المرضى، وعن الشكوى، وعن الأمل، ولم يبق فيه إلى عينان لامعتان تطل منهما الحياة كأقوى ما يكون، وجسد يتحرك يؤدى طقوس الأكل والنوم والقيام والجلوس، أقف أمام هذا المريض أسبح والأسئلة لاتكف عن الدوران، لماذا يستمر؟ إذن ماذا؟ وماذا بعد؟ وما الفائدة التى يجنيها من الاستمرار هكذا؟ وما سر كل هذا الحرص؟ وأذكر كيف حضرنى مثل ذلك وأنا أزور المرحومة خالتى المطلقة العاقر وقد تجاوزت عامها السبعيين وهى وحيدة تماما، تكاد لاتتحرك، ومع ذلك فأكاد أجزم أننى لم أر مثل تمسكها بالحياة، والأصداء مليئة بحيوات لها زخمها الذى يعلن عنفوانها فى ذاتها، أما أن يكون التساؤل حول سر الحياة مبعثه أن الرجل المهاجم فضـل تسليم ما معه لقاطع طريق فهذا ما لم يستوقفنى حتى تذكرت أنه ليس مجرد قاطع طريق عابر، ولكنه الراوى نفسه، وأنه لم يكن قاطع طريق محترف، بقدر ما هو شخص قد أجبرته “ظروف الحياة” أن يقطع طريقها، أو طريق عابر سبيل بها، فانتبهت لاحتمال أن تكون الحكاية كلها داخلية، وأن يكون أحد الشخوص الداخلية هو الذى انقض على الذات الأخرى المغتربة فى مكاسب لامعنى لها، وبدلا من أن تتمادى المعركة (التى ربما تنتهى بالقضاء على الاثنين: بالانتحار) رجـحت كفة الحياة – فى ذاتها – على كفة الـملكية للتملك، والتى يمكن أن تتمادى على حساب الحياة إلى اغتراب لا نهاية له.
وهكذا تصالحت – بالعافية – مع صدى هذه الفقرة
63 – الذكرى المباركة
”سألنى صديقى الحكيم عن حلم لا أنساه فقلت: وجدتنى فى خمارة وسط جماعة من أهل الخير والبركة، نشرب ونغنى وسأل سائل “ترى من يكون صاحب الحظ السعيد؟” وانزاحت الستارة المسدلة على باب الخمارة، ودخلت امرأة عارية تموج برحيق الحياة وفتنتها. ووقفنا ذاهلين ننظر وننتظر، واتجهت المرأة نحوى حتى التصقت بى، وحلت عقدة شعرها المعقوص فانصب حولنا كموجة عاتية فغطانا. وثمل الجميع بسعادة شاملة وأنشدنا معا. “بشرى لنا .نلنا المني”.”
يعود الحلم يخوض فى طبقات الوعى، فيتردد الصدى أبعد وأكثر اختراقا، فيجمعهم يشربون ويغنون، وكما يتحفنا الحلم عادة (أو دائما) بأبعاد تتخطى المعتاد، نرى هنا هذه المفارقات الرائعة المفيقة، فهم يجتمعون فى خمارة، ومع ذلك هم من أهل الخير والبركة. ومن ناحية أخرى كان التنافس لاختيار واحد فقط هو صاحب الحظ السعيد، وإذا بالراوى هو المختار.
إلى هنا كان يمكن أن نرضى بقسمة القدر، وأن نبارك له قائلين “حلال عليك”، أو “: يا بختك، إلا أن الحلم الصدى يتخطى هذه الصدفة السعيدة لتصبح موجة الحياة غير قاصرة على واحد دون الآخرين ، وإذا بشعرها المعقوص الذى حلت عقدته يحيطهم جميعا بعد أن كانت قد التصفت به وحده.
فتنبهنى هذه الفقرة الحلم / الصدى إلى رسالة تقول: إن صاحب الحظ السعيد، لا يكون كذلك إلا أن تغمر السعادة الجميع: “بشرى لنا، نلنا المني”.
64 – فى الحجرة الواسعة
””فى المنام رأيتنى فى حجرة واسعة عالية السقف، خالية من الأثاث عدا مائدة مستديرة فى الوسط حولها كرسيان متقابلان، جلست على كرسى وجلس على الآخر صديق حميم، وأمام كل منا فنجان قهوة ، وثمة باب يفضى إلى حجرة أخرى مظلمة جدا لا أدرى شيئا عما بداخلها. وقال صديقى: علينا أن ننجز المهمة. فقلت موافقا. لابد من إنجازها. وفجأة قام صديقى فمضى نحو الحجرة المظلمة واختفى، وتبين لى بعد ذهابه أن القهوة اختفت من فوق المائدة فناديت عليه، لم أسمع ردا ولكن ظهر شخص غريب فجلس مكانه وقد لفت انتباهى بعباءته البيضاء. ورغم أننى لم أكن أعرفه إلا أننى قلت لنفسى إن وجوده خير من عدمه أما هو فقد وضع أمامه كأسا وكاسا أمامى وقال: لنشرب نخب الضوء والظلام. فرفعت الكأس لأشرب ولاحت منى التفاتة إلى داخلها فرأيت وجه صديقى الغائب يرنو إلى فارتعشت يدى وقلت للجالس أمامى. “لابد من إنجاز المهمة.”
ويستمر الحلم، وقبل أن أكمل الفقرة أفرح لمجرد قراءة البداية “فى المنام”، ربما لعلاقتى الخاصة بإبداع محفوظ حين يدخل من باب الحلم، كما تعلمت خاصة أثناء قراءتى عمل محفوظ السابق “رأيت فيما يرى النائم” وربما لأن الحلم السابق مباشرة (فقرة 63) طمأننى ضد توجس خفوت صوت الأصداء، وربما لأن الأحلام فى هذه الأصداء لم تخذلنى أبدا (حتى الآن على الأقل) وفعلا لم يخب ظنى:
بمجرد أن يبدأ الحلم أجد نفسى بين شخوص الداخل أكثر، الواقع الداخلى: تنفرط الذات إلى ذواتها، وتبدأ الحوارات، هنا نجد أنفسنا أمام “حوار المواجهة”، تبدأ المواجهة بيقظة متبادلة بين الذوات وبعضها، وفنجان القهوة أمام كل، لكن – وبالرغم من محاولة الاتفاق على المهمة (رحلة العمر) يختفى أحد المواجهين، وأتصور ذلك ترجمة لرحلة الكبت الضرورية لاستمرار مسيرة النماء على مراحل، لكن الاستمرار الأحادى بلا مواجهة وبلا حوار – بعد كبت الذات الأخرى – هو وهم ضد الطبيعة البشرية، فيتشكل الداخل فى محاور جديدة (ذوات أخرى) إذ يستبدل فنجانى القهوة، بكأسين، ويتعمق الحوار ويتحدد لتصبح المهمة أقل غموضا وفى نفس الوقت أصرح تناقضا، “نخب الضوء والظلام” (مازلت فرحا بكثافة هذا الحلم).
أصبحت المواجهة جدلا خلاقا يعترف بحق كل من المتحاورين بنصييبه من الظلام والضوء فيشرب الجميع نخبهما معا، وإذ يتمادى الجدل، لا يحتاج الأمر إلى قاهر آخر يمارس كبتا جديدا (فقد اختفى فى الحجره ومعه أدوات يقظته النشطة : فنجان القهوة)، وهذا الجدل الحيوى الداخلى هو الذى يحقق التكامل، فى حين أن الصراع التناقضى لايحله إلا إلغاء أحد شقيه، أو اللجوء إلى تسوية ساكنة، توقف النمو والحركة معا.
لكل ذلك فقد قرأت فى هذا الحلم أن نجاح طرفى المواجهة فى مواصلة الجدل دون إلغاء أحد الشقين أو الرضا بالتسوية لم يحقق فقط تحمل التناقض بل سمح بالاعتراف بالذوات الأخرى التى كانت قد اختفت، فهذا هو الصديق الغائب يظهر فى الوعى من جديد، يظهر أقرب فى قاع الكأس مباشرة ويصبح إنجاز المهمة واستمرار الحياة إلى غايتها التكاملية أقرب وألزم وأروع حتما، وكأنه يقول إن إنجاز المهة رحلة الحياة – لايكون بالغاء الذوات الغامضة أو المهددة أو الممختلفة، وإنما بمواجهتها وتناولها نحو تكامل ممكن.
65 – اللحن
”فى حلم ثان وجدتنى فى حجرة متوسطة يضيئها مصباح غازى يتدلى من سقفها، فى ركن منها جلس جماعة من الرجال والنساء على شلت متقابلة يتسامرون ويضحكون بأصوات مرتفعة، لم يكن فى الجدران باب ولا نافذة إلا فتحة صغيرة فى اتساع عين منظار مرتفعة بعض الشيء، فلم أر منها إلا سماء تتوارى وراء المساء. شعرت برغبة شديدة فى العودة إلى أهلى ودارى. ولم أدر كيف يمكن أن يتيسر لى ذلك،. وسألت السمار: أكرمكم الله كيف أستطيع الخروج من هنا؟ فلم يلتفت إلى أحد وواصلوا السمر والضحك، وغزت الوحشة أعماقى. عند ذاك لاح لى من خلال الفتحة وجه غير واضح المعالم وقال لى: إليك هذا اللحن أحفظه منى جيدا، وترنم به عند الحاجة، وستجد منه الشفاء من كل هم وغم.”
مثلما يذيب دفء الشمس “شبورة الصباح”، أرى الفتور الذى هددنى فى بداية هذا الفصل وهو ينقشع هذه الأحلام المتلاحقة تصلنى كدفقات اقتحام شروق الشمس غيامة الضباب.
يظهر فى هذا الحلم “رحم الدنيا”، وتولد قصيدة قصيرة “سماء تتوارى وراء المساء”، وتتأكد لى العلاقة بين الموت والعودة، فكرة العودة أصيلة فى الوجود الإنسانى سواء كانت فى تعبير “أن يسترد الله أمانته” كما يفهم الموت عند أهل التقوى، أو أفادت أن يرجع الجزء المنفصل إلى الالتحام بأصله كما يشير المتصوفة عادة، العودة إلى الأهل والدار وصلتنى هنا باعتبارها العودة إلى الأصل” الكل”، وحين تستحيل العودة إراديا (إلا بالانتحار، وهو ليس عودة وإنما إجهاض) ينبغى أن نتكيف ونحن “فى الانتظار” حتى يحين الأوان.
وهذا اللحن الذى هبط عليه من الفتحة التى تبدو منها السماء وهى تتوارى وراء المساء، يمكن أن يكون “دينا” له طقوس وأنغام، ويمكن – وهذا مستبعد نسبيا – أن يكون اغترابا له أيضا فعل التنويم والتسكين، وأما الشفاء من الهم والغم فهو يتحقق بالتوجهين معا: ولكن واحدا إلى أعلى وواحدا إلى أسفل، يعزف الحن العبادة التصعيدية فيزول الغم، أو يخدره اللحن بالإلهاء العامى فيغوص الهم، وشتان بين هذا وذاك، لكن الاحتمالين قائمان.
66 – الفتنة :
”كنت أتمشى عند الباب الأخضر فصادفت درويشا منتحيا جانبا بامرأة، كانت وسيطة العمر ريانة الجسم فواحة الأنوثة محتشمة النظرة. ولما اقتربت منهما سمعتها تقول: “يا سيدنا إنى أرملة، أعيش مع شقيقتى، مستورة والحمد لله، ولكنى أخاف الفتنة”. فقال لها:” أدى الفرائض. فقالت بصدق. لا تفوتنى فريضة وأضافت”. وأسمع تلاوة القرآن لدى كل فرصة. فقال: ” لن يمسك الشيطان”. فقالت: ولكنى أخاف الفتنة”.
خوف الفتنه لا يأتى من خارج (لن يمسك الشيطان) والعبادات لا تمنع الخوف من الفتنة، وإن كان يمكن أن تمنع الوقوع فى الفتنة، وهذه اللقطة السريعة تشير إلى عمق هام، وهو أن الوعى بالنزعات الداخلية الحقيقية لا ينبغى أن يـرفض أو يساء فهمه أو حتى أن يعزى إلى وسوسة الشيطان، هكذا ببساطة
67 – المعركة
”رجعت إلى الميدان بعد زيارة للمشهد الحسينى، رأيت زحاما يحدق براقصة وزمار، الزمار يعزف والراقصة تتأود لاعبة بالعصا، والناس يصفقون والوجوه تتألق بالسرور والنشوة، فكرت غاضبا كيف أفض الجميع، ولكن فى لحظة نور رأيت فى مرمى الزمن الجميع وهم يهرولون نحو القبر، كأنهم يتسابقون حتى لم يبق منهم أحد. عند ذلك ولـيتهم ظهرى وذهبت”.
لم يجذبه زحام النشوه فى ميدان المشهد الحسينى كما اعتاد، ويبدو أنه نجح أن يغطى الرغبة بعكسها، فوقف موقفا أخلاقيا رافضا رغم اعترافه أن الوجوه كانت تتألق “بالسرور والنشوة”. وحين عجز عن أن يتمادى بالرفض، ظهرت وسيلة أخرى تحميه من المشاركة، وهو أن يرى أن كل هذا زائل (وقبض الريح) فالجميع سوف ينتهون إلى الموت، فما جدوى أى شيء، فتركهم وذهب : مادامت هذه هى نهايتهم فهذا يكفى.
بدا لى هذا الموقف – هكذا – غريبا وخاصة إذا قورن بما غلب على الأصداء من حب الحياة والنصح بالإستجابة إلى نداءات النشوة وساعات الحظ، ويلاحظ هنا أن الكاتب أن لم يؤيد نزعة الانسحاب، ولا وافق على الموقف الحكمى الأخلاقى الفوقى الذى يرفض ويشجب الرقص والتأود والنشوة والفرحة، ولكنه فى نفس الوقت لم يشارك فترك الأمور للزمن، بالرغم من أنه لم يكسب هو مكسبا ظاهرا.
وقد خيل إلى أن هذا أقرب إلى موقف الخوف من اللذه، أو ما يقال عنه عدم القدرة على اللذةanhedonia ، لكن لا يمكن الاكتفاء بذلك وعنوان الفقرة هو “المعركة”، أية معركة وهو لم يواجه أى آخر بالخلاف أو بالاختلاف؟ إذن فهى المعركة الداخلية : يقدم؟ يشارك؟ يواصل الحرمان؟ يدمغ؟ يؤجل؟ ينسحب؟ وحين انسحب، لم تنته المعركة، لأن أى جانب من كل هذا لم يرجح بوضوح.
68 – الأضواء
”استعدت الكاميرا فى موقعها، وضبطت الأضواء وأشار المخرج ببدء التصوير: تلاقى حبيبان ودار حوار، انتهى تصوير اللقطة.:همس الموزع للمنتج وهما يجلسان على مبعدة يسيرة وراء الكاميرا. لن تصلح لأدوار الحب بعد اليوم، قلبى معها..أشعلت الممثلة سيجارة لتريح أعصابها من عناء التمثيل. ووقف المؤلف فى زاوية بعيدا عن الأضواء يصغى ويتابع لا يبالى به أحد.”
رغم أن آثار الزمن تـفقد هذه الممثلة التى تعتمد على شبابها وجمالها (فقط!) فرحها تدريجيا (قارن فقرة 31) وخاصة إذا كان الحكم هو الجمهور والأضواء، فإن الخلفية قد أظهرت لنا دورا آخرا بدا خافتا منذ البداية، وهو دور المؤلف الذى لا يبالى به أحد، لكنه يـذكرنا أن المؤلف سيظل مؤلفا سواء كان تحت الأضواء أم لا، أى أنه الأبقى بمعنى أو بآخر، وكأنه ينبهنا أن البقاء للأصل، لا لمن تقع عليه أضواء الظاهر.
69 – على مائدة الرحمن
.”عمرت مائدة الرحمن بالصائمين ولما ترامى إليهم الآذان تأهبوا وسلموا وهتف رجل ذو شأن. طعامنا حرام على من بقلبه زيغ.. وندت عن رجل ضحكة عالية لفتت إليه الأنظار. أمسك عن الضحك وقال. “عندى غذاء أجمل فاصغوا إلي! ولكنهم أقبلوا على الطعام وهم يسخرون من الرجل. ولما أمتلأت البطون ثقلت الأجفان فغفوا إغفاة قصيرة ورأوا فى نومهم عالما يفتن ويسحر، ولما استيقظوا توجهوا نحو الرجل الضاحك فلم يجدوا له أثرا. وترك الغائب فى كل قلب لوعة.”
ثمة طعامان معروضان للاختيار: طعام من “ذى شأن” شرطه ألا يكون فى القلب زيغ، وطعام أجمل (يبدو دون شروط)، فيقبل الجميع على الأول، لكن يبدو أنهم لم يلتفتوا إلى الشرط أو هم لم يستوفوه، فغلبهم النوم تخمة، فرأوا – فى منامهم – لذة الطعام الآخر، فانتبهوا ، لكن كان الأوان قد فات، وهكذا تقول لنا الأصداء أن الاختيار ليس سهلا، فالأمان الشكلى (شكلى مادام فى القلب زيغ) لا يملأ الوجدان بالنشوة العليا، بل يملأ البطون بما يؤدى إلى الغفلة، وعلى الجانب الآخر، فإن اللذة الحسية الرائعة، لا تنتظر، والحلم بها لا يكفى، فعلى الذى يختار، أن يختار، وإلا فليس أمامه إلا تخمة مخيـبة (رغم الوعد بطعام أجمل).
ومن لم يحدد موقفه أو “يوفق أوضاعه” فلن يبقى فى قلبه – بعد ضياع الفرصة – إلا الحسرة: “ولم يترك لهم إلا لوعة فى القلب”.
70 – البلياردو
”جلست فى ركن المقهى الذى تقوم فيه مائدة البلياردو وجاء رجل نشط وراح يلاعب نفسه فيرمى الكره مرة ويرد فى الأخرى. وقلت له بأدب: “هل تسمح لى أن الاعبك فهو أجلب للمتعة” ؟ فقال دون أن ينظر إلى:” بل المتعة أن ألعب وحدى وأن يتفرج الآخرون. ونظرت حولى فرأيت جميع الزبائن يغطون فى النوم”
ما هو الأسلم، أن يلاعب الانسان نفسه، يحاور نفسه، يحاول مع نفسه مقسمة إلى ذواتها، أم أن يحاول مع آخر ويعترف به إذ يتبادلان المغامرة والتفاعلات؟
العرض هنا رجح الاختيار الأول : أن يلاعب الواحد نفسه، ولكن بشرط ألا ينفصل عن الآخرين، ولكن ما إن يروى حاجته إلى الشوفان إذ يتفرج الآخرون عليه، حتى تتأكد وحدته، لكن الآخرين ليسوا رهن إشارته، وهو يرفض أن يلعب معهم، وفى نفس الوقت يطلب أن يروه، يشوفوه، يعترفوا به، فجاء رفضهم بأنهم ناموا، انسحبوا، رفضوا التوقيع على عقد تعيينهم شوافين محترفين معمتهم أن يؤكدوا وجود لاعب ذاتوى منغلق، عن الملعب الذاتى المنغلق، والنتيجة هى أن يخسر اللاعبان فى النهاية، لأنهما واحد لا أكثر.
71– اللؤلؤة
”جاءنى شخص فى المنام ومد لى يده بعلبة من العاج قائلا: تقبل الهدية. ولما صحوت وجدت العلبة على الوسادة. فتحتها ذاهلا فوجدت لؤلؤة فى حجم البندقة. بين الحين والحين أعرضها على صديق أو خبير وأسأله : “ما رأيك فى هذه اللؤلؤة الفريدة.”؟ “فيهز الرجل رأسه ويقول ضاحكا: .”أى لؤلؤة.. العلبة فارغة”. وأتعجب من إنكار الواقع الماثل لعينى.
ولم أجد حتى الساعة من يصدقنى. ولكن اليأس لم يعرف سبيله إلى قلبى.”
الحلم – كما سبق أن أشرت من قبل ليس هو بالضرورة ما يحدث أثناء النوم، ولكنه “العالم الآخر” بشكل ما، وحلم هذه الفقرة يكشف عن تركيبة بشرية أساسية وعميقة، وفى نفس الوقت هى من أبعد المناطق عن الدراسة والبحث، والفرض الذى أطرحه لذلك يقول:
إن الوجود البشرى، مهما عرفنا أبعاده ومراميه وتركيباته وأقطابه لايحكمه وينظمه – فقط – ما نعرف عنه، لأن ثمه منطقة مجهولة تـسـقط أحيانا إلى الخارج (منذ الفاكهة المحرمة فى الجنة حتى حكاوى الأساطير)، أو تظل قابعة فى الداخل (نسميها أحيانا “الذات” ونظل نبحث عن تحقيق الذات دون تحديد عادة لأى ذات تلك التى نحاول تحقيقها) أو هى – هذه المنطقة الأخرى – تـفـعـلـن لتعيد تنظيم “الممكن من المتاح”، وهى هى مصدر طاقة الإبداع المتجدد باعتبار أن الإبداع هو البحث المتصل فى اتجاه استكشاف مجهول ليصبح معلوما جزئيا يؤدى إلى مجهول أكبر، معلوما ناقص، فمجهول أكبر، وهكذا..، وهذه المنطقة الأساسية والمحورية والخاصة ليس لها اسم، وهى مرتبطة ارتباطا وثيقا – من وجهة نظر هذا الفرض – بمفهوم الغيب، وعندى أن الإيمان بالغيب (تدينا) هو من قبيل الاعتراف الذاتى بهذه المنطقة الأساسية الجاذبة الموجـهه المفجـرة المجهولة، وهى منطقة، أو مساحة، أو جوهر، بدون إسم: اسماها سعد الله ونوس الماسة، وأسماها محفوظ هنا اللولؤه، وهو نفس الاسم الذى أطلقته عليها فى قصيدة قديمة لى لم تنشر، ويبدو أن جذب هذا الاسم يرجع لأن اللؤلؤ يكمن داخل جوف القوقع، والناظر من خارج لايراه أصلا رغم أنه هو المطلوب أولا وأخيرا .
أما لماذا لايراها الآخرون فلسببين : الأول أن صاحبها نفسه يراها بعين اليقين، لا بعين الواقع، فهو لا يراها تحديدا متصلا وإنما حضورا واجبا واعدا، والثانى أنها لا تـرى أبدا من الخارج وإنما الذى يرى منها ليس سوى أثارها الإيجابية (الإبداع) أو آثارها السلبية بواسطة محاولة إخفائها بأعراض مرضية، أو بموقف سلبى من الآخرين.
ثم عدت أتوقف عند أن صاحبنا تلقاها “هدية” فى حين أن ما سبق من فرض يؤكد أنها موجودة كامنة واعدة من البداية عند كل الناس بلا استثناء، ثمة من يلغيها أصلا، وثمة من يسمع عنها فينكرها، وثمة من يستبدلها بمثيلتها من اللؤلؤ المزيف – خشية السرقة- فلا يتمتع بها أصلا، فلماذا وردت ” اللؤلؤة” فى هذه الفقرة كهدية (من الخارج)؟
تفسيرى لذلك أن الهدية لم تكن هى اللؤلؤة، وإنما “الوعى بها” وبقيمتها وطبيعتها الخاصة الخفية، و “البديع” أعلم…
72 – المصادفة
”تحت التمثال تقابلنا مصادفة توقفت عن السير، إنه يبتسم، وأنا ارتبك. صافحته بالإجلال الذى يستحقه فسألنى. “كيف الحال؟” فأجبت بأدب وحياء. “الحمد لله، فضلك لا ينسى.” فقال بصوت لم يخل من عتاب رقيق: “حسن أن تعتمد على نفسك، ولكن خيل إلى أنك نسيتني!” فقلت بحياء. “لا أحب أن اثقل عليك ولكن لاغنى عنك بحال”.
وافترقنا وقد أثار شجونى، تذكرت عهدى الطويل معه عندما كان كل شيء فى حياتى، كما تذكرت فضله وأياديه ، تذكرت أيضا أطواره الأخرى مثل إعراضه وجفائه ولا مبالاته دون تفسير يطمئن إليه القلب. رغم كل شيء اعتبرت اللقاء مصادفة سعيدة”
وصلتنى هذه الفقرة وكأنها من أهم فقرات الأصداء، وإن كان يصعب تفسيرها تفسيرا لا يؤاخذ عليه، فما جاءنى هو قراءة مكملة للفقره رقم 27، حيث ذكرنا أن الفضل كله كان يرجع إلى الباسط سبحانه (راجع علاقة المعلم عبد الدايم بعبد الله)، وأن رواد مقهى المعز قد أنكروه جحودا أو نسوه إهمالا، وأن عبد الله ظل معترفا بأفضاله بعد وقبل كل الظروف، فإذا عدنا إلى هنا فإننا نجد أن هذا الاعتراف بالفضل كان مرحلة، ثم لاح الإنكار (الإلحاد وأنسنة الوجود) فتعملقت قدرات البشر حتى بدوا لهم أنهم قادرون على الاستغناء عن أفضاله سبحانه، ولم يذكر الملحد هنا أنه كان مؤمنا لردح طويل من الزمن، وأن هذا الإيمان أعانه ودعم وجوده، وأنه لم يكن سهلا أن يواصل هذا الايمان لافتقاره إلى قواعد موضوعية ونفعية (إعراضه وجفائه ولا مبالاته دون تفسير) وبالتالى لم يرجع إلى التسليم له حتى لو رأه رأى العين حتى لو أقر بأفضاله وأهميته، فهو لم يعتبر هذه الرؤية فى نهاية النهاية “إلا مجرد مصادفة”.
73 – الحنين
”كنت ألقاه فى الخلاء وحيدا يحاور الناى ويعزف لجلال الكون، قلت له يوما “ما أجدر أن يسمع الناس ألحانك” فقال بامتعاض “إنهم منهمكون فى الشجار والبكاء”! فقلت مشجعا: “لكل امريء ساعة يحن فيها إلى الخلاء”.
علاقة محفوظ بالخلاء علاقة خاصة، تحتاج لدراسة خاصة، الخلاء عند محفوظ كثيرا ما يحيط بالمقابر، وأحيانا يكون فى الطريق الصحراوى (الشحاذ)، وأحيانا لا يتحدد له مكان أصلا، وإنما يتردد فى اتساع الداخل، وتتردد الأصداء بين ترامى الخلاء الخارجى وحركة الخلاء الداخلى، وعموما فإن الخلاء عند محفوظ لم يكن أبدا فراغا، بل إنه كان دائما مليء بالوعد والحركة اللذان يكملان ويتجاوزان الحدود المحدودة ظاهرا، وفى هذا الخلاء (الخارجى والداخلى معا) يتولد شوق ما، شوق إلى المطلق، إلى الله، إلى “المابعد”، فى الحرافيش تلاشى (اختفى) عاشور الناجى فى الخلاء الخارجى إذ التحم معه، فى حين كانت التكية تمثل الخلاء الداخلى المليء بالحركة الحيوية والأنغام.
وفى هذا الخلاء هنا (أكرر: الذى هو ضد الفراغ) يحدث الشيء ، وبما أن “الشيء هو الشيء”، فلا يمكن أن نفصل الأمر فى ألفاظ دون أن يختزل أو يشوه، ورؤية وجه الله سبحانه وتعالى – عند المتصوفة – والحوار الممكن معه فى الداخل والخارج تتمان فى رحاب الخلاء الداخلى والخارجى على حد سواء، وهذه المناجاة بين كون الداخل وكون الخارج; لا يمكن أن تغلق على نفسها، فهى تتردد أنغاما حوارية على الناى: لتقربنا من جلال الكون لا لننفصل عن الناس ، ثم نعرف أنه يعز على من يطلب وجهه تعالى: هكذا أن تظل الرؤية حكرا عليه، فيتمنى أن يبلغ الرسالة، فلماذا يحرم الناس من هذا التعيين المباشر، ويجيء الرد بلومهم (كما فى نهاية الشحاذ: إن كنت تريدنى فلم تركتنى) وينصب اللوم على أنهم هم الذين لايريدون، هم مشغولون بالشجار والبكاء ، لاحظ لم يقل مشغولون بالدنيا، أو جمع المال، والإشارة هنا إلى الشجار والبكاء لها دلاله خاصة لأنهما قيمتان غير مرفوضتين، فالشجار جزء لا يتجزأ من حركة الحياة وأكل العيش، والبكاء حق للتعبير عن الألم أو الأسى أو الفقد، وما إلى ذلك، إذن هم مشغولون بما يشغل (وليس بما لايستحق)، ومع ذلك فهذه الرؤية اليقين التى تأبى أن تقتصر على صاحبها، تعذر الناس المشغولين وتقرر أنه مهما كان الانشغال فالحنين إلى اللحن الصادر عن الحوار الداخلى الخارجى، فإن الخلاء الداخلى / الخارجى، لايختفى أبدا أو نهائيا مهما اشتد الشجار، وعلا البكاء.
(لا أحد يمكن أن يقرأ هذه الفقرة دون أن يحيط به جو “زعبلاوي” “والطريق” “وعاشور الناجى الكبير فى الحرافيش”، ووجد عمر الحمزاوى فى الصحراء، (فى الشحاذ) وريح الجـبلاوى فى أولاد حارتنا).
74 – الطاعة
”لم ترفض فى حياتها طلبا أو تتجاهل إشارة وكانت تلبى نداء الشوق دون مبالاة بالثمن وأنذرها منذر بسوء العاقبة، ولكنها كانت شديدة الإيمان بالغفور الرحيم”
نعود إلى الحياة المعطاء وهى تتجسد فى هذا النوع من النبض الغامر بالحس الحى الذى يستجيب للجميع دون تفريق، ويضاف هنا: “ودون مبالاة بالثمن”، كما يضاف أن هذا الفيض الغامر هنا ليس كرما أو عطاء بقدر ما هو طاعة (العنوان) لقانون خفى يعلى من شأن هذه الاستجابة العامة غير المشروطة مهما كانت العواقب، فإذا خالف ذلك ظاهر الأوامر وحدود النهى، فإن الله سبحانه أعلم بكل القوانين، وبأصول الطاعة الحقيقية، وبالتالى فرحمته وغفرانه، والتى هى جزء لا يتجزأ من كل القوانين لابد وأن تعدل الميزان (قارن فقرة 28 ، وإلى درجة أقل فقرة 55).
75 – ساعة الحساب
جلس يتناول طعامه فى المطعم الصغير بهدوء وشهية دون مظهر مقبول، وبوجه مرهق
ولما حان وقت الحساب قال لصاحب المطعم.
- لا تؤاخذنى ليس فى جيبى مليم واحد، وكنت جائعا لحد الموت.
بهت الرجل ولم يدر ماذا يصنع، ولكنه حرص على أن تبقى الواقعة سرا لا يدرى به أحد.
تختلط حسابات الواقع بحسابات الخوف، وحين تختفى هذه وتلك يصبح الوجود الطبيعى أقرب إلى العودة إلى قانون الحياة قبل أن تنشأ الحسابات:، فمن حق الجائع – مثلا – أن يأكل دون أن يسأل، أو أن يسأل قبل أن يأكل كم قرشا فى جيبه، وبناء عن هذا الحق البسيط يظهر الهدوء – غير المتناسب مع احتمال الاتهام بالنصب أو السرقة – وتتواصل الحكاية:، فقد كان جائعا لحد الموت، ورغم غرابة التصرف الظاهر إلا أن نظرة أعمق – حتى من الذى أخذ المقلب وهو صاحب المطعم – تلهمه أن ما جرى “هكذا” هو حق اليقين، لكنه – بحسابات الواقع – يسقط فى يده، ولا يدرى ماذا يفعل، ولأنه أقتنع بما حدث داخليا فهو يبقيه سرا فيكسب فخرا خفيا إذ أنه احترم هذا الجانب من نفسه الذى اقتنع بحق الجائع حتى الموت فى الأكل دون مقابل، وفى نفس الوقت هو لا يفتح على نفسه باب المعايرة بالخيبة والاستكراد لو أنه اعترف بما حدث .
ثم إنى ما إن عدت إلى العنوان ” ساعة الحساب”حتى خطر ببالى أن أقرأ الفقرة من جديد من خلال رمز أعمال الدنيا، ويوم الحساب فى الآخرة، والغفران الممكن لمن كان عنده حجة دامغه (مثل الجوع لحد الموت) – لكننى لم أفعل (رغم أنى لم أستبعد)
76 – الغفلة
كالعصافير يمرحون فى كنف الوالدين. البيت صغير والرزق محدود ولكنهم لم يتصوروا نعيما يفوق النعيم الذين ينعمون به. وتمادى يوم حار من أيام الصيف بأنفاسه المحملة بالرطوبة فهتفت عصفورة.” أف … متى يجيء الخريف؟” وغمغم وهو يراقبهم من بعيد” لماذا تفرطون فى الأيام المتاحة الطيبة؟”
”الآن” عند نجيب محفوظ ليس كمثلة شيء، وحتى الحنين إلى “المابـعد”، والشوق إلى عزف الناى فى الخلاء، والاستماع إلى ألحان الكون لايتم “فيما بعد”، بل هو “حاضر فى الآن”.
وهذه الفقرة تؤكد على ضرورة الغوص فى “الآن” طالما هو مرض وكاف، حتى لو كان ذلك نتيجة للنكوص إلى طفولة غير مسئولة، أو الاختباء فى غفلة لاهية، على أن “الآن” حتى لو كان طفولة أو غفلة أو نكوصا أو هربا فإن به قدرا كافيا من المكدرات والمبغضات والمنذرات، ومع ذلك فإن التمادى للاستجابة للضجر من هذه الضروريات المصاحبة لابد وأن يترتب عليه حرمان من روعة “الآن” بلا مبرر.
77 – دعابة الذاكرة
رأيت شخصا هائلا ذا بطن تسع المحيط، وفم يبلع الفيل، فسألته فى ذهول “من أنت يا سيدي؟” فأجاب باستغراب” أنا النسيان فكيف نسيتني؟”
عودة إلى تقاسيم الذاكرة والنسيان، وقبل أن نقرأ هذه الفقرة باسـمين (فى الأغلب) نتذكر النسيان الانتقائى (فقرة 6) والنسيان العدم والإعدام (فقرة 11) وقسوة الذاكرة تتجلى فى التذكر كما تتجلى فى النسيان (فقرة 13)، وهكذا نحسن استقبال كيف يظهر لنا محفوظ هنا لعبة طريفة ونحن ننسى النسيان الذى يأتى على كل شيء “بطن تسع المحيط وفم يبلع الفيل”، ولا نملك إلا أن نعامله بالمثل فننساه، فنتجنب قسوته التى أشرنا إليها فى(فقرة 13)؟.
78 – البلاغة
قال الأستاذ ” البلاغة سحر” فآمنا على قوله ورحنا نستبق فى ضرب الأمثال. ثم سرح بى الخيال إلى ماض بعيد يهيم فى السذاجة. تذكرت كلمات بسيطة لا وزن لها فى ذاتها مثل أنت … فيم تفكر ؟… طيب .. يا لك من ماكر… ولكن لسحرها الغريب الغامض جن أناس … وثمل آخرون بسعادة لا توصف …
على صغر هذه الفقرة، فإنها تطرحنا أمام قضية نقدية لأعمال محفوظ، أنا لست متأكدا من أنها نالت حقها من الدراسة، وهى قضية اللغة، وإن كنت قد قرأت أكثر عن علاقة يحيى حقى باللغة، مبدعا، وإلى درجة أقل ناقدا، فهنا ينبهنا محفوظ إلى نوع من البلاغة تستأهل الوقوف عندها، وأنها ليست أبدا، ولا أصلا ذلك البريق الذى ينبعث من ظاهر الألفاظ أو زينة الأسلوب، وليست هى أيضا : الحكم الرصينة المختصرة التى تنطلق من مثل أو بيت شعر، بل إن الحديث بالأمثال والاستشهاد بالشعر قد يصبح ضد البلاغة بالمعنى الذى تتناوله هذه الفقرة، وربما بالمعنى الذى قال فيه صلاح عبد الصبور “يأتى من بعدى من لايتحدث بالأمثال”، أما البلاغة التى يقدمها لنا هنا محفوظ فهى أن يحمل اللفظ – أى لفظ – معناه تماما، فيصبح سحرا قادرا أن يثمل به الناس فى سعادة لا توصف، وأن يجن فى صحنه آخرون، أية ألفاظ هذه التى تـسكر وتـجن؟ ألفاظ غاية فى السذاجة، هى فى ذاتها كأصوات – أبعد ما تكون عن البلاغة مثل “أنت” هكذا فقط : “أنت”، أو “فيم تفكر”؟ نعم “فيم تفكر” أو “طيب” أكرر : إنه لفظ “طيب” ثم “يالك من ماكر”، ……. أعنى “يالك من ماكر”، هل أدعوك – عزيزى القاريء – أن تتوقف عند هذه الألفاظ فتكررها أنت للمرة الثالثة بصوت مرتفع، ثم تترك كل لفظ (أو تعبير) منها يرن فى وعيك شخصيا دون محاولة أن تكمل، ودون محاولة أن تتذكر حوله أو به أو منه شيئا، إذا فعلت ذلك “هكذا”، فسوف تعرف علاقة محفوظ باللغة، وربما تتصالح عليها وربما ترعب منها.
(ملحوظة : لى بحث يقرر أن بداية الفصام وبعض الذهانات الأخرى تحدث عندما يصر الفصامى، أو يكتشف، أنه ينبغى عليه أن يعيش كل لفظ ينطقه بحقه، أى أن يكون اللفظ هو معناه كما ينبغى، كما يعنى تماما، والفرق بين الفصامى وبين المبدع فى هذه المسألة هو أن الفصامى يصر على ذلك ويتوقف عند هذه المرحلة، فينهار، فى حين أن المبدع يتجاوز هذه المرحلة ليكتب شعرا أو يبدع قصة أو يغنى أصداء).
79 – الطرب
يا له من زمن، زمن الطرب
ترسل الحناجر الذهبية أنغامها فتنتشر النشوة كالشذا الطيب النفاذ، وتتحلق فى هالة الطرب امرأة جميلة تعشقها القلوب البيضاء ولكنها لا تعثر لها على أثر فى غير دنيا الطرب .. لقد اختارت قلب الطرب مقاما لها لا تبرحه.
ينبهنا محفوظ هنا إلى أن المصلين فى هذا المحراب – حد العشق – هم أصحاب القلوب البيضاء، أوهم القلوب البيضاء نفسها، ومن ثم فإن زمن الطرب هو حق هذه القلوب الذى يسمح لهم بعشق هذه الجميلة، ولا أريد أن أتمادى لأقول إن الجميلة عند محفوظ (كما تكررت فى مواقع أخرى)، هى الحياة أو هى “الدنيا”، لأن الحياة موجودة أيضا ولازما فى مقام الشجن، ومقام الألم، ومقام الشوف، وهى ليست قاصرة على مقام الطرب، وأرجح أن لكل مقام امرأته الرائعة، وبالتالى فنحن نعود إلى تعميق “الآن” دون فصله عن ما قبل وما بعد.
ويأتينى تعقيب ختامى لأقارن بين وصف مثل هذا المقام الطروب بأنه مقام “الليالى الحمراء”، وبين إصرار محفوظ على أن هذه الجميلة تعشقها القلوب البيضاء” ولا أزيد .
80 – على الشاطىء:
وجدت نفسى فوق شريط يفصل بين البحر والصحراء، شعرت بوحشة قاربت الخوف. وفى لحظة عثر بصرى الحائر على امرأة تقف غير بعيدة وغير قريبة. لم تتضح لى معالمها وقسماتها، ولكن داخلنا أمل بأننى سأجد عندها بعض أسباب القربى أو المعرفة. ومضيت نحوها ولكن المسافة بينى وبينها لم تقصر ولم تبشر بالبلوغ، ناديتها مستخدما العديد من الأسماء والعديد من الأوصاف، فلم تتوقف ولم تلتفت.
وأقبل المساء وأخذت الكائنات تتلاشيء ولكننى لم أكف عن التطلع أو السير أو النداء.
النداهة تعود من جديد، وهى فى هذه المرة ليست امرأة حسناء، أو وجه مشرق، لكنها المجهول الذى لم تتضح معالمه، هنا : هى أقرب إلى النداء المعرفى “داخلنا أمل بأننى سأجد عندها بعض أسباب القربى والمعرفة” ونلاحظ قبل أن نستطرد كيف بدأت الفقرة بضمير المتكلم الفرد ثم انتقلت إلى ضمير الجمع وجدت نفسي”، داخـلـنا، ثم يعود إلى ضمير المتكلم، وقد يكون هذا مجرد مصادفة، وقد يعنى أنه يعرج إلى ذواته فى وسط المناجاة، ثم يعود إلى تفرده الشعورى، المهم أن السعى إلى المعرفة هنا يزداد كلما أوغلنا فى اتجاهه، وهذه طبيعة رائعة: أنك كلما ازددت معرفة أزددت شوقا إلى معرفة أرحب، بلا توقف.
81 – سر النشوة
حلمت بأننى صحوت من نوم ثقيل على أنفاس رقيقة لامرأة أية فى الجمال، رنت إلى بنظرة عذبة وهمست فى أذنى “إن الذى أودع فى سر النشوة المبدعة قادر على كل شيء، فلا تيأس أبدا”.
يعود إلينا الحلم هذه المرة أقرب إلى العلم “حلمت بأنى صحوت!!” لتظهر فيه امرأة أخرى، ولكنها محددة المعالم ، فهى آية فى الجمال، إلا أنك تشعر مباشرة أنه جمال مختلف عن جمال المرأة التى اختارت قلب الطرب مقاما لها (فقرة 79)، وهى لا تنادى أو تغرى وإنما تنظر بعذوبة، وفيها سر النشوة المبدعة (وليس النشوة فى ذاتها، وليست النشوة فقط). كل هذه الرقة المبدعة قادرة على أن تذيب أى جمود أو تجهض أى هرب، ليس فقط بما هى، ولكن بما تدل عليه من قدرة من أودعها هذا السحر المخترق، فكيف يتأتى أن يتمادى اليأس؟
82 – الانبهار
ذاع عنه أنه عالم بكل شيء وقصدته الجموع فى ركن الطريق الذى يجلس على أريكة فيه وقال وسيط خير.””لا وقت للأسئلة السهلة، هاتوا ما لديكم من أسئلة مستعصية”.
وانهالت عليه الأسئلة المستعصية حقا. وساد صمت عميق ليسمع كل الجواب الذى يغيثه. لم أر حركة تدب فى شفتيه ولم أسمع صوتا يند عن فيه، ورجعت من عنده وسط جموع قد انبهرت بما سمعت لحد الجنون.
الإجابات الصامتة عن الأسئلة الصعبة هى الإجابات الحقيقية الباهرة، وهى إجابات تأتى من الداخل /الخارج مباشرة بيقين ليس كمثله شيء، ولايخفى على أحد أن الأسئلة المستعصية لابد وأن تدور حول الله والخلود والجدوى، وكل هذه الأسئلة لاردود عليها فى مرحلة بذاتها إلا بهذا اليقين الصامت وكل الردود العقلية، والعبادية، والإثباتية، والمنطقية هى هوامش جيدة إذا ظلت فى حدودها، لكنها قد تنقلب كل هذه الردود الرصينة إلى قيود وحواجز يختفى وراءها هذا الحكيم “العالم بكل شيء” والجالس على جانب” فى ركن الطريق”، والذى يلقى بالأجوبة الصامتة التى تصبح يقينا فى القلوب لا يحتاج إلى حركة الشفين، أو خروج الصوت، ولأنه يقين، ولأن الأسئلة كانت مستعصية، ولأن الإجابات كانت يقينية رجعت الجموع من عنده وقد انبهرت بما سمعت لحد الجنون.(ملحوظة : رفضت العنوان دون تعليق).
83 – الذكرى
فى يوم السوق بحارتنا اخترقت الجموع امرأة عارية تتهادى، تسير فى ترفع وتذيب مفاتنها الصخور، كف الناس عن البيع والشراء ووقفوا ينظرون بأعين ذاهلة. كذلك مضت حتى غيبها المنعطف الأخير، وأفاق الناس من ذهولهم فركبتهم حال جنون واندفعوا نحو المنعطف ، فتشوا فى كل مكان ولكنهم لم يعثروا لها على أثر.
كلما خطر ذكرها على القلوب أكلتها الحسرة.
يحذق محفوظ – كما ذكرنا كثيرا- لعبة تقديم الفرص الواعدة ثم الإسراع بإخفائها، بنفس القدر الذى يتوقف به عند اللحظات العابرة الدالة والملوحة، وهذه المرة يقدمها لنا فى صورة امرأة مترفعة فاتنه، وعارية أيضا، هل هى الحقيقة البسيطة المجردة المليئة بالوعد والتكامل؟
النظرة الأولى المترفعة التى لا تحتاج إلى ستر أو ادعاء تقول إنها فاتنة فى ترفع خليق بقيمتها، ولم ينقص العرى من هذه الفتنة المتعالية، بل زادها جمالا؟ وهى بهذه الصورة، تلوح لتذكـر، تظهر لتختفى، تذكرنا أنها موجودة لنواصل السعى نحوها، لا لنصل إليها، وقد تأتى لحظات أو فترات إبداع أو نبوة أو كشف، فتمكث معنا أطول قليلا، لكنها سرعان ما تختفى فى المنعطف الأخير، تختفى لا تمـحى، ولا يبقى علينا إلا أن نواصل السعى طالما أننا رأيناها رأى العين هكذا: فاتنة مترفعة واعدة أكيدة.
84 – الندم
حملت إلى أمواج الحياة المتضارية امرأة ما إن رأيتها حتى جاش الصدر بذكريات الصبا ، ولما ذابت حيرة اللقاء فى حرارة الذكريات سألتها: ” هل تتذكرين”؟ “فابتسمت ابتسامة خفيفة تغنى عن الجواب”. “فقلت متهورا”. “التذكر يجب ان يسبق الندم”! فسألتنى: “كيف تجده؟” فقلت بحرارة: “ذو ألم كالحنين” فضحكت ضحكة خافته ثم همست: ” هو كذلك، والله غفور رحيم!”
”…. ذو ألم كالحنين” قصيدة جديدة تعيدنا إلى ملعب الذاكرة المليء بمناورات عذبة من دلال ووصل الكر والفر، والمتلفع بهمس الحيرة ودفء الحنين، هذا التذكر الذى يجب أن يسبق الندم والذى ألمه كالحنين هو شيء آخر غير الشعور بالذنب، وقهر الاستغفار، هو شيء أقرب إلى العودة للتجربة بكل مالها وما عليها، عودة إرادية حاضرة حية، وحتى نهاية الفقرة جاء طلب الرحمة بديلا عن الاستغفار ونفيا للذنب، هو يقين بالغفران وبالتالى استقبلته باعتباره إضافة إلى “ألم الحنين” وليس نكسة إلى شعور بالذنب.
85 – المعركة
”فى عهد الصبا والصبر القليل نشبت خصومة بينى وبين صديق. اكتسح طوفان الغضب المودة، فدعانى متحديا إلى معركة فى الخلاء حيث لايوجد من يخلص بيننا. ذهبنا متحفزين وسرعان ما اشتبكنا فى معركة ضارية حتى سقطنا من الإعياء وجراحنا تنزف بغزارة. وكان لابد أن نرجع إلى المدينة قبل هبوط الظلام”. “ولم يتيسر لنا ذلك دون تعاون متبادل لزم أن نتعاون لتدليك الكدمات ، ولزم ان نتعاون على السير. وفى أثناء الخطو المتعثر صفت القلوب ولعبت البسمات فوق الشفاه المتورمة، ثم لاح الغفران فى الأفق”.
مواجهة أخرى، داخليه أصلا ، وهى لم تكن مواجهة هادئة تكاملية تبدأ بفنجانى قهوة وتنتهى بكاسين (راجع فقرة 64) لأنها مواجهة باكرة حدثت فى عهد الصبا فلزم العراك (فى الخلاء أيضا) العراك جسدا لجسد، ليحل الإعياء وتنزف الجروح لكن نهايتها تؤكد ما أشرنا إليه سالفا من أن التكامل داخل الذات، إنما يتم بالتصالح التكاملى، لا بالتسوية (الحل الوسط) ولا بترجيح جانب على الآخر.
وهذه الفقرة تذكرنا أن الصراع الصريح هكذا رائع حافز، وأن التصالح ممكن، وأن التنظيم التبادلى بين الذوات محتمل، وكل ماعدا ذلك مما يغرى بالإسراع فى التخلص من جانب لحساب الأخر هو تشويه معطل لا يكتمل معه النماء، ولابد من التفرقة بين صراع يتنامى حتى التصالح هكذا وبين صراع يستمر بل ويزداد مع كل معركة تاركا وراءه وعدا بالثأر وحفزا للانتقام، هذا النوع الأخير هو الذى يمكن أن يقال عنه “صراع قتالي” لكن المعركة هنا هى من نوع آخر لعلها أقرب إلى ما يمكن أن يسمى “صراع الجدل الخلاق”.
86 – حوار الأصيل
إنه جارنا فنعم الجيرة ونعم الجار. عند الأصيل يتربع على أريكة امام الباب متلفعا بعباءته، بذلك يتم للميدان جلاله وللأشجار جمالها. وعندما تودع السماء أخر حدأة يرجع أبناؤه الثلاثة من اعمالهم. وعشية السفر إلى الحج نظر فى وجوههم وسألهم: “ماذا تقولون بعد هذا الذى كان؟” فأجاب الأكبر: “لا أمل بغير القانون” “وأجاب الأوسط”. “لا حياة بغير الحب”. “وأجاب الأصغر”. “العدل أساس القانون والحب”. فابتسم الأب وقال: “لابد من شيء من الفوضى كى يفيق الغافل من غفلته”. “فتبادل الاخوة النظر مليا ثم قالوا فى نفس واحد” “الحق دائما معك”؟.
قصيدة أخرى يتمم فيها الحضور الحيوى لهذا الجار الحكيم جلال الميدان وجمال الأشجار، ثم نجد أنفسنا فى مواجهة الأسئلة “غير المستعصية” (قارن فقرة 82 حيث تمت الإجابة عن الأسئلة “المستعصية” بالصمت اليقين) أسئلة تبدو سهلة، وإجابات تبدو بديهية، إلا أن المسألة ليست هكذا تماما، إذ مهما كانت الإجابات محددة، حتى بموافقة الحكيم المزمـع على التنحى (عشية السفر للحج، وأيضا الوقت عند الأصيل) فإنه يستحيل تحديدها “هكذا” لا بالقانون، ولا بالحب، ولا بالعدل أساس كل من، القانون والحب، وقد شعرت أن الموافقة على هذا الظاهر هى أشبه بالشعار منها إلى الإجابة، وكأننا نقول : الحب هو الحل، أو العدل هو الحل، شيء أشبه يقولنا الإسلام هو الحل وهكذا نرى أن هذه قيم محكمة فى ظاهرها فحسب، أما الأهم من الرد الحاسم والحدود المزعومة فهو الاعتراف بأن ثمة مساحة رحبة تقع وسط كل هذه القيم، مساحة تمتليء بقيمة أخرى مجهولة، لكنها فاعلة وحقيقية وضرورية، ولأنها مجهولة، فهى لايمكن أن تصاغ فى قانون، أو تعريف، أو شعار وفى نفس الوقت هى حاضرة وحتمية كما ذكرنا، فلنسمها الفوضى الرائعة”، والأهم فى حدس محفوظ هنا أنه لم يجعل هذه المساحة ملاذا بعيدا عن القانون، أو مهربا من القيم المحددة، بل جعلها وسيلة إفاقة من الغفلة ، حتى لايستريح الناس إلى ما نتصور أنه مريح، شيء أقرب إلى التوصية المباشرة بالقانون الداخلى الذى يؤكد” أن الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره” وهذا الحدس أيضا يتداخل بشكل أو بآخر مع الإنجازات الأحدث لعلم الشواش والتركيبة، الذى أصبح يحترم الفوضى ويتعامل معها بقوانين تفيق من الغفلة فعلا، وتقلل من غلواء تقديس التحديد الخادع.
87 – الرحلة
”بقضاء لا راد له حملنى الإذعان إلى أرض الغربة. وعلمت أن الواقعة آتية لاريب فيها، غدا أو بعد غد. إنتظر قليلا ولا تتعجل المجهول”. “وقال الطيبون: لا تخف فقد سبقناك فى نفس الطريق”، “تنبسط أمامى حديقة مترعة بالحسن، وتذهب الفاتنات وتجيء” “ودعيت للغناء وكأننى شغلت بالخواطر والهواجس”. “وانتزعت حواسى لاجتياز الغابة الدامية “. “لم يبق لى منها إلا ذكريات أشباح وأصداء كوابيس خانقة، وأثر باق لمعركة طاحنة”. “وقالوا: أن لك التجوال فى رياض الشمال ولكن قلبى نازعنى إلى الملعب بين السبيل والتكية”. “وصلت وأنا الهث”. “الوجه والإهاب والنظر، كل شيء تغير، وتلقانى الأحبة ومن حولهم ترامى الجليل بهوائه وضجيجه”. وقال لى قلبى: “استقر فى ظله وليحفظه الصمد”.
الرحلة هنا صعبة حقا، متداخلة ومكثفة ودائرية ومفتوحة النهاية، قصيدة أخرى، بل ملحمة ذات أحداث وأبطال وبآس ومواعظ، بل أكثر من ذلك وأعمق، ليكن، فلا مفر من القراءة بأناة متفتحة : تحملنى القراءة إلى حتم الرؤية، فأجمع أولا الأبجدية الأساسية لأضعها علامات (غامضة حتما) على مسار الرحلة، ومن هذه الأبجدية: الغربة، الواقعة، المجهول، الطريق، الغابة، السبيل، التكية، الجليل. وإلى درجة أقل: المعركة، الأشباح، الكوابيس والملعب، المجموعة الأولى أبجدية نجدها فى أعمال محفوظ الأخرى أكثر مما نجد المجموعة الثانية، لكنها جميعا من المعجم الخاص بمحفوظ.
لا مجال هنا ولا يمكن ولا يصح أن تختزل هذه الفقرة إلى رموز محددة كأن تقول: إن الواقعة هى يوم القيامة، أو: إن الغابة الدامية هى الحياة الدنيا بمعاركها الصاخبة، أو: إن الحديقة المترعة بالحسن، هى الجنة إلى آخر مثل ذلك، مع أن كل هذا وارد بدرجة أو بأخرى، إذن ما العمل؟ وكيف القراءة؟ فكرت أن أكتفى بإعلان هذا القدر من الحيرة وأترك هذه الفقرة (ومثلها) للقاريء حتى لا أفرض عليه شطحات قد تزيد الأمر غموضا أو تقلب العمق تسطيحا رغم حسن النية، ولم أنجح أن أستجيب لهذا الخاطر خشية أن يتمادى بى الحال فأفتح بابا لهرب يوقف تمادى هذه المخاطرة التى أو اصلها فى محاولة التقاسيم على الأصداء :
أما أنها آتية لا ريب فيها فهى آتية لا ريب فيها، والإذعان لذلك لا ينهى المسألة، بل يبدأها، والسابقون يطمئنون اللاحقين دون تفاصيل، ربما يطمئنونهم بأنهم لا يمكنهم أن يحكوا عن خبرتهم أبدا، ورغم وضوح التلويح بالحديقة المترعة بالحسن المليئة بالفاتنات، فإنه لم يجد ذلك جديرا بحثـه على الانهماك فى الوعود، وظل حبيس الكوابيس والأشباح، ومع كل هذا الإنهاك – باللغة السائدة – لم يستطع أن ينسحب إلى برجه العاجى أو أحكامه المعقلنة، أو إنجازاته الإبداعية المسجلة (رياض الشمال) فظل يتوق إلى ممارسة اللعبة على أرض الواقع: فى الملعب، بين السبيل والتكية ، الرحلة مرهقة، يلهث – حتما – من يواصلها، ليصل : إلى أين؟ إلى الناس فى رحاب الله، لا إلى الحديقة المترعة بالحسن الممتلئة بالفاتنات، ولا إلى رياض الشمال ، لكنهم الأحبة وحولهم ترامى الجليل ، الأحبة نبضا حيا: الوجه والإهاب والنظر، ولكن هل حقا أن كل شيء تغير، أم أن الواقع يقول : إن كل شيء تبين حتى رأى وجهه. فيستقر فى ظله – سبحانه – استجابة لنداء قلبه، فيحفظه الأحد الواحد الصمد.
فكانت أقرب فقرة لى – بعد معرفته – تحكى السيرة الذاتية مباشرة بلا أصداء ، ثم إن لفظة “الأصداء” قد جاءت فى هذه الفقرة لتصف الكوابييس بعد ذكر الأشباح، فشعرت أن محفوظ قد استطاع فى هذه الفقرة أن يركز تاريخه كله فى هذه القصيدة دون حاجة إلى الاختفاء وراء أصداء علينا أن نرددها معه بناء على إيحاءاته حتى تصل إلى ما يريد، جاءت هذه الفقرة لنتوجه من خلالها إلى مصدر الصوت الأصلى مباشرة.
خطر لى خاطر هنا بالنسبة للأصداء : فلو أنك سمعت أصداء ما تتردد فى جبل أو ماشابه، وحاولت أن تبحث عن مصدر الصوت الأصل، وكلما اتجهت إلى مصدر الصدى باعتبار أنه سيهديك إلى أصله، تردد صدى آخر، فالتفت ناحيته لعل الصوت الأصلى هو فى الاتجاه الآخر، وهكذا، إذن لوجدت نفسك أكثر تلوها كلما زدت بحثا، لأن هذه الأصداء (هكذا) تخفى أصلها أكثر مما تظهره، فهى تدل عليه وفى نفس الوقت تبعدك عن حقيقته، لكنها تسمح لك بخيال أوسع، فلو كان الأمر كذلك فإن هذه الفقرة قد قربتنى إلى الصوت الأصل دون الأصداء.
88 – الشذا:
نظر الى الوراء طويلا فلم يبق منه إلا ما يبقى من الورد بعد جفافه: “اللهو وصفاء الأحلام ودفء السيدة الحنون، “هى دائما كبيرة ولكن لا تجوز عليها الشيخوخة ودائما تسبح بالدعاء”. “وتعرض بعد الظلام ناشرا لواء الفراق وتحرك طابور الوداع وتأوه العريس الذى لم يتم زفافه”، “وتلاشت وجوه الحب”، “وعبق الجو بالشذا الطيب”.
مقام صعب كذلك، قصيدة جميلة مزعجة، فالعريس لم يتم زفافه، ووجوه الحب تلاشت، فمن أين يأتى الشذا، وصفاء الأحلام، وماذا يفيد دفء السيدة الحنون التى لا تجوز عليها الشيخوخة؟
حين تشف النفس، بالموت فى الأغلب، على شرط أن تكون قد قضت أيامها كما ينبغى: محاطه بالوعى الحنون، هائصة فى ملعب اللهو الحيوى، منطلقه فى عنان الخيال / الواقع تشكل الأحلام بما شاءت كيف شاءت، تأتى نهايتها وكأنها تذوب فى المطلق، لكنه ليس ذوبان العدم، بل ذوبان التنازل عن الذات المحدودة، ليبقى أثرها القادر على الدخول فى النغم الكونى العام، ولايبقى منها إلا شذا منتشر دون تحديد فى كيان فردى بذاته
أما طابور الوداع ولواء الفراق، فهى المراسم التى تودع الفرد الفانى، فلماذا يتأوه العريس؟ لأنه لم يتم زفافه؟ لأنه كان واهما أن الزفاف يمكن أن يتم، مع أنه وعد متجدد لا أكثر؟ ويصلنى أن الزفاف الحقيقى هو أن يتلاشى الحس الفردى ليذوب فى المطلق، ويبقى الشذا الواحد فى الشذا الكل الدائم الذى لا تجوز عليه الشيخوخة، إذن فالذى تلاشى لم يكن الحب، وإنما وجه الحب المجسد فى العلاقات المؤقتة، لأن الباقى هو شذا فى شذا، شذا فرد بقى منه ما يتبقى من الورد بعد جفافه، وقد ذاب فى شذا الذى لا تجوز عليه الشيخوخه، ، الأول بلا بداية، الآخر بلا نهاية.
89 – الثابت المتغير
ذهبوا إلى السوق وبقيت فى البيت وحدى. وجاءت صغيرة ذات ضفيرتين تتضرع منهما رائحة القرنفل، تحمل طبقا فارغا، مرسلة من قبل أمها بمهمة خاصة. ولما لم تجد أمى همت بالذهاب ولكنى دعوتها للانتظار فانتظرت. وذاب المتسوقون فى السوق وزقزقت العصافير طويلا يظهرها الصيف ويخفيها الشتاء وقلت لها لأملأ الزمن : “تخففى من ثيابك فهو أطيب لك”. فقالت بحياء: “عندما يحين الموسم”، “وهكذا جمعنا الزمان والمكان والشوق، أما الزمان والمكان فلا ثبات لهما وأما الشوق فلا يورث إلا الحزن”.
القصائد تتلاحق والمقامات تتداخل، والعمق يزيد، لم أعد أستطيع، أمرى إلى الله
نبدأ هنا أيضا من الآخر، “الزمان والمكان لا ثبات لهما”، “أما الشوق” قلا يورث إلا الحزن”.
فمن ناحية كانا فى البيت لكن يبدو أن البيت هو جزء لا يتجزأ من الشوق.
ومن ناحية ثانية كانا وحدهما، لكن العصافير كانت تحيط بهما مزقزقة حتى حين تختفى فى ثنايا الشتاء.
وفى هذه الفترة الوجيزة – حتى يرجعون من السوق- تداولت فصول السنة، ومع ذلك لم يملأ هذا التداول الزمن، مما أدى به إلى محاولة ملئه بالغوص فى عرى الحقيقة، وبدا أن طلب التعرى (أو النصح بالتخفيف) جاء لمجرد ملء الزمن رغم ظاهر الحفز للكشف، لكن الرد جاء يعلن أن التناسب هو الذى يحدد التوقيت وجرعة الرؤية. التناسب، وليس التداول، فلا يكفى أن يتبادل الصيف والشتاء ليكون زمنا، ولا يكفى أن يـملأ الزمن باقتحام مغامر فيمتليء، إذ لابد من أن تلتقى النغمة المناسبة بالنغمة المناسبة فى لحظة مناسبة “عندما يحين الموسم”، ومادامت اللحظة لم تأت فسيظل الشوق ملحا يورث الحزن!!
90 – المهمة:
قالت لى أمى : “إذهب الى جارتنا وقل لها هاتى الأمانة”. “فسألتها وانا أهم بالذهاب وما الأمانة؟”. فقالت وهى تدارى ابتسامة: “لا تسأل عما لا يعنيك ولكن إحفظها عندما تتسلمها كأنما هى روحك”. وذهبت إلى جارتنا وبلغتها الرسالة فحركت أعضاءها لتطرد الكسل وقالت : “يجب أن ترى بيتى قبل ذلك”. وأمرتنى أن أتبعها ومضت أمامى وهى تتبختر. وانقضى الوقت مثل نهر جار، وكانت أمى ترد على خاطرى أحيانا فأتخيلها وهى تنتظر.
نرجع فجأة إلى المجهول المعلوم، فنتذكر الطفل حين أرسلته أمه ليشترى شيئا من السوق قيمته مليما، ينسى الشيء ولا يذكر إلا أن قيمة المطلوب كانت مليما على وجه التحديد (فقرة 22)، هنا نجد الأمانة أيضا مجهـلة تماما، ولا يذهب بنا الخيال إلى علاقة أوديبية مع الجارة التى مضت أمامه وهى تتمختر، مع أن هذا جائز ، لكنه ليس هو المهم، المهم أن الذى وصلنى أن ثمة أمانة يحملها الإنسان، ولا يعرف طبيعتها تفصيلا، وذلك منذ الصغر، حتى الأمانة التى ذكرها القرآن الكريم لم يتفق عليها المفسرون، فهى مجهولة، وستظل كذلك سواء كانت الوعى، أم الحرية، أم الإرادة، أم المعرفة، أم القدرة على الإبداع، وأن هذه الأمانة المجهولة لها صاحبة تعرفها، وأن من العدل أن ترجع إلى صاحبتها، سواء كانت صاحبتها تلك هى الطبيعة أم الحقيقة أم الخلق نفسه الذى به حملناها، بمجرد أننا خـلقنا، ثم إننا معرضون للتلهى عنها، بما هو حولها وليس بما هى، ومهما كان التلهى مبررا، ولذيذا، فإننا نشعر فى داخل داخلنا أنه ليس معنى أننا نحملها (الأمانة) أنها أصبحت ملكا لنا، بل إن صاحبتها الحقيقة (الأم) تنتظر أن نفى بمسئوليتنا إذ حملناها، فهى تخطر ببالنا طول الوقت وتنتظر منا ما لا نفعله، فهل نفعل؟
(قارن كيف تلهى الفتى بالاستعداد مع الجارية عن الوعد مع سيدتها فقرة 22).
91 – العاصفة:
زلت قدمى فى ليلة عاصفة ممطرة فأويت إلى دكان عطار، وسألت العطار: “متى تهدأ العاصفة؟ فأجاب بهدوء: “ربما بعد دقيقة واحدة وربما استمرت حتى مساء الغد”، ولمحت على ضوء مصباح الدكان شخصا يهرول فى الخارج ناشرا فوق رأسه مظلة سوداء. شعرت بأننى لا أراه لأول مرة رغم أننى لا أعرفه ، والحق أننى لم أرتح اليه، وقال له العطار: ” لالوم على من يؤثر السلامة فى هذه الليلة”. فقال الرجل وهو يمضى دون توقف: ” أنا لا أخلف الميعاد”. “وجاءت سيدة جميلة لتلوذ بالدكان فنسينا الرجل ومظلته. الظاهر أن المرأة رأت ان تنتهز الفرصة لتتسوق فسألت العطار: “هل عندك دواء للوساوس والأرق؟” فأشار الرجل إلى برطمان وقال: ” ليس فى الدنيا ما هو أجمل من الصحة وخلو البال”.
حضرنا الموت من جديد، الموت الذى لا يخلف الميعاد وبأمره تعالى، والدنيا العاصفة تضرب تقلب، والهرب من عنوانها ليس محدد النهاية، إلى متى نهرب وأين، فلا مفر من التلهى عن الموت والعاصفة بالائتناس بالجمال وطرد الوساوس ليتحقق خلو البال (ما أمكن).
92 – المخبر:
كنت أتأهب للنوم عندما طرق الباب طارق، فتحت الشراعة فرأيت شبحا يكاد يسد الفراغ أمام عينى وقال: “مخبر من القسم”، ومد لى يده ببلاغ يأمرنى بالحضور مع المخبر لأمر هام. أصبح من المألوف فى حينا أن يذهب هذا المخبر الى أى ساكن لاستدعائه، يذهب فى أى وقت ودون مراعاة لأى اعتبار ولا مناص من التنفيذ ولا مفر. ولم أجد جدوى فى المناقشة فرجعت إلى غرفة نومى لارتداء ملابسى: “سرت فى أثره دون أن نتبادل كلمة واحدة”، ولمحت فى النوافذ أشباح الناس يتابعوننا ويتهامسون. إنى أعرف ما يتهامسون به، فقد طالما فعلت ذلك وأنا أتابع السابقين.
يبدو أن الموت قد شعر أنه أوحشنا فجاءت صوره تتلاحق فى فقرات متتالية 89، 92،91، ولكنه حضور راتب (روتينى) هذه المرة، مجرد تذكرة عادية فى مواجهة ما هو غير عادى فى فقرة 89 وما هو مهرب منه يبدو لذيذا فى فقرة 91، ولكن هذا لا ينسينا حضور الموت من البداية فى أول الأصداء (فقرة 2)، ثم إن حضوره فى ميعاد لا يتقدم ولا يتأخر (فقرة 4) قريب جدا من حضوره فى الفقرة السابقة (91) وهو لا يخلف الميعاد، ثم جاء حضوره قريبا من هذه الصورة الحتمية فى هذه الفقرة حيث ” لا مناص من التنفيذ ولا مفر”
(أشعر براحة نسبية وأنا أقرأ هذه الفقرات الثلاث بهذا التفسير المباشر، وذلك بعد إرهاقى وأنا أقرأ ما سبقها مباشرة، ربما لذلك لم أصفها لا بالفتور ولا بالسطحية ولا بالمبالغة فى الرمزية).
93 – الريح تفعل ما تشاء:
قد ضجرت الساعة من دقة عقاربى فى الزمان الأول، وعقدت حبال العزيمة حول ذراع الأمان ونمت. ولكن حملتنى ريح الغربة فوق السحاب صادعة بأمر المجهول. لم يكن فى نيتى ما أفعل، ولا فعلت ما كنت نويت. وانتفض رفيقى الرقيق من غفوته قائلا “غدا نسفك الدماء”، فقلت مشهدا الكون على استسلامى المطلق. “لتكن مشيئة الله”
ثمة قصيدة جديدة،
لم أكد أجامل الفقرتين السابقتين حتى وجدتنى مغمورا بهذا الزخم الرائع فى قصيدة شديدة الصعوبة والتحريك، تعلمت أن أبدأ قراءة مثل هذه القصائد المتحدية من الآخر للأول:
لتكن مشيئة الله، لا مفر من المعركة، وفى المعركة لا مفر من سفك الدماء، وبالرغم من الإعلان الحتمى للحرب “هكذا”، فقد كان المعلن هو “رفيقى الرقيق” فكيف يكون بكل هذه الرقة، ثم هو الذى يوقظ صاحبه من غفوته داعيا إياه للمعركة، إنها الطبيعة الحتمية التى شاء الله أن يضعها فينا، ونتذكر ضرورة “اجتياز الغابة الدامية (فقرة 87)، ولكن لماذا كانت الرقة، مادامت المعركة حتمية هكذا؟ وهى تجرى بأقل قدر من الإرادة ” ماكان فى نيتى ما أفعل، ولا فعلت ما كنت نويت”.
فى البداية بدا أن صاحبنا حاول أن يكون زمنا مستقلا دقاته، وأن يواجه بهذه الدقات الخاصة دقات ساعة القدر الأصلية والمزمنة ، إلا أن القدر ضجر بهذه المحاولة، وقـبـل التحدى، فانتبه صاحبنا إلى ضعفه وخيبته، فقرر أن يهرب، وأن يبحث عن أمان ما (مهما ثبت بعد ذلك كذبه) فعقد حبال عزيمته حول ذراع الأمان فنام – نعم هو أمان كاذب، ذلك لأن هذا المجهول (رغم أنه معلوم من حيث المبدأ: القدر)، يقتحم – برقة – ويأمر فيطاع، يأمر بأصعب وألزم وأخطر الأمور (معا) :!!. غدا “شفك الدماء”!! الدماءه وما قدر يكون.
هكذا هى الحياة!!
94 – المرشد والبائعة:
من أول يوم اكتشفت أن عملى فى المنطقة يحتم على التجول المستمر فى أنحائها، سألت عن مرشد طريق فدلونى على رجل يقيم بالدرب الاحمر، تبين لى انه أعمى، ولكن أهل الحل والعقد أكدوا لى صدق فراسته وعمق خبرته وحفظ زوايا الحى عن ظهر قلب. وتأبطت ذراعه فسار بى بقدمين ثابتتين، وسرعان ما وثقت به وأنست اليه، كان يمكن ان أبقى معه وحده حتى نهاية العمر لولا ان صادفتنا ذات يوم بائعة خبز ذات حسن فودعت مرشدى وسرت معها، ويجمعنى الطريق أحيانا بمرشدى القديم فأحييه بوجد ولكنه يرد على بفتور ويمضى كل فى سبيله، وربما حلا لنا فى بعض اوقات الفراغ ان نذكره فى سياق الدعابة والعبث، ولكن هيهات أن ينكر عاقل فضله.
مثلما اعترف عبد الله بفضل عبد الدايم وكيف غمره بأياديه منذ لقائه فى قهوة المعز (فقرة 27)، ومع ذلك استغنى عن خدماته، نجده هنا أيضا – فى المبتدأ – يستفيد من صدق فراسة هذا الأعمى وعمق خبرته بهذه الدنيا التى تحتاج إلى مرشد حتما يرشد كل قادم جديد، ويعرفه على زوايا الحى وخفاياه، وقد نجح هذا المرشد الدين أن يهديه فى أول الطريق قبل أن يستغنى عنه، والاستغناء عنه، أو إنكاره، لايحدثان هذه المرة بدافع النسيان، (قارن فقرة 27 ؟) ولا بدافع الاستقلال (فقرة 72) وإنما بغواية الحياة، إذ يبدو أنها – بائعة الخبز – اشترطت أن يودع مرشده الأعمى، أكل عيش، وحين يحاول العودة إلى مرشده القديم حياء أو مجاملة، تكون عودة فاترة، مجرد أداء واجب، فليلتقطها المرشد ولا يقبل هذا الإيمان السطحى، ونفقس اللعبة : أنها لا عودة ولا يحزنون، ولا يبقى من ذكرى مرشده الأعمى إلا دعابات المنكرين ولمزاتهم، مع أن هذا المرشد رغم عماه قد أدى واجبه حين احتاجه أى منهم فى الزمان الأول
95 – سلم نفسك
خطر على بالى فتفجر قلبى بالشوق ، ذهبت إلى مسكنه فى آخر مساكن الضاحية المحفوفة بالحقول رحب بى بود قائلا: “مضى العمر على آخر زيارة لكنك جئت فى وقت مناسب”.
قال ذلك وهو يشير إلى خوان قصير وضعت عليه صينية بالعشاء المكون من سمك مشوى وزيتون مخلل وخبز ساخن. ودعانى للعشاء فجلست. وما كدنا نبسمل حتى ترامى إلينا صوت من مكبر يصيح: سلم نفسك وثب إلى مفتاح الكهرباء فأغلقه فساد الظلام، وسرعان ما أنهال علينا الرصاص من جميع الجهات كالمطر. وقلت لنفسى وأنا ارتعد من الرعب “سعيد من يستطيع أن يسلم نفسه”
لما كنت قد تورطت فى قراءه الفقرة السابقة كما جاءت هكذا، فلأكمل تورطى بهذه القراءة المكملة، ذلك لأننى اعتبرت هذه العودة تكملة لمحاولة إرضاء مرشده القديم فى الفقرة السابقة، فبعد أن أنسته بائعة الخبز مرشده الأعمى (الفقرة السابقة) عاد يذكره أيضا مثلما راح عبد الله يذكر عبد الدايم : فقرة 27)، وأيضا مثلما راح الرجل تحت التمثال يذكر صاحب الفضل بعد أن استغنى عنه؟)، هنا أيضا نجد أنه يذكره بصدق بعد أن تفجر قلبه بالشوق إليه ولكنه لم يكن يعرف أن الاعتراف به وبضله هكذا لايتم إلا بشروط، وأنه يحتاج إلى درجة أكبر من الظلام (المضيء) بل يحتاج إلى درجة من إيمان العجائز الذى يبرر الإذعان المطلق وأن يسلم نفسه تماما، ولكن يبدو أنه حتى هذا التسليم أصبح غير ممكن “سعيد من يستطيع أن يسلم نفسه”، إذ كيف يمكن أن يفعل وسط كل هذا الظلام من ناحية، والرصاص من جميع الجهات كالمطر.
مأزق شديد الصعوبة آمن، ثم أنكر، ثم آمن، ثم شك، ثم عاد أكثر إيمانا لكنهم أنكروه حتى لم يمكنوه من أن يدعى الاستسلام لهم.
96 -
غص البهو بطلاب الحاجات، جلسنا نتبادل النظر فى قلق ونمد البصر إلى الباب العالى المفضى إلى الداخل المغطى بجناحى ستارة عملاقة خضراء. متى يبتسم الحظ ويجيء دوري؟ .. متى أدعى الى المقابلة فأعرض حاجتى وأتلقى الرجاء، الباب مفتوح لا يصد قاصدا ولكن لا يفوز باللقاء إلا أصحاب الحظوظ. على ذاك تمضى الأيام فأذهب بصدر منشرح بالأمل ثم أعود كاسف البال. وخطر لى خاطر لماذا لا أختفى فى مكان فى الحديقة حتى إذا انفض السامر وخرج الرجل لرحلته المسائية رميت بنفسى تحت قدميه. لكن الخدم انتبهوا لتسللى وساقونى إلى القسم، ومن القسم إلى السجن، فألقيت فى ظلماته، عبثا حاولت تبرئة ساحتى، كيف أذهب طامعا فى وظيفة شريفة فتنتهى بى المآل إلى السجن. وانتهى إلينا التهامس بأن الرجل الجليل سيزور السجن ويتفقد حاله ويستمع إلى شكاوى المظلومين. عجبت أن يتيسر لى فى السجن ما تعذر فى الحياة. وهذه حاجتى إلى عطفه تشتد وتتضاعف. وأحنيت رأسى بين يديه وقصصت قصتى لم يبد عليه أنه صدق ولم يبد عليه أنه كذب، قلت بضراعة: “كل ما أتمنى ان يسمح لى باللقاء بعد الخروج من السجن” فقال بصوت هاديء وهو يهم بالسير: ” بعد الخروج من السجن”.
تطل على رحلة البحث الذى لم يكل محفوظ فى مواصلتها: فى “الطريق”، وفى زعبلاوى، وحتى فى أولاد حارتنا، والإضافة هنا تأتى من أن البحث فى الخلاء لا يؤتى ثماره لمن لا يمتلك وسائله، ولابد لمثل هذا الباحث فى الخلاء أن يطول انتظاره إلى مالا نهاية، فلا مفر من رجعة إلى سجن الحواس وقيود الواقع، ولا بديل عن طقوس العبادة الراتبة، ومع تعميق الرضا بهذا السجن يقترب الباحث من العثور على ما يبحث عنه، فهو – هكذا – أقرب للعاديين المنتظمين المتابعين لقوانين عامة الناس، منه للمتفرغين فى البحث أو دائمى الانتظار أملا فى لقاء، وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم من فرصة عرض قضينه عليه فإن اللقاء لن يتم إلا بعد تجاوز سجن الحياة الراتبة، إما بالوجد الواصل، وإما بالموت، وفى الحالين يتم الخروج من السجن الحياة الأدنى، فاللقاء.
97 – النهر
فى دوامة الحياة المتدفقة جمعنا مكان عام فى أحد المواسم، من تلك العجوز التى ترنو إلى بنظرة باسمة؟ لعل الدنيا استقبلتنا فى زمن متقارب واتسعت ابتسامتها فابتسمت رادا التحية بمثلها. سألتنى: “ألم تتذكر؟” “فازدادت ابتسامتى اتساعا”، قالت بجرأة لا تتأتى إلا للعجائز: “كنت أول تجربة لى وأنت تلميذ”، وساد الصمت لحظة ثم قالت: “لم يكن ينقصنا إلا خطوة!”، وتساءلت مذهولا أين ضاعت تلك الحياة الجميلة؟
أجد نفسى مرة أخرى، أمام هذه العلاقة الخاصة (الموحية بالجنس بدرجة لا شك فيها) بين صبى أو شاب وبين ناضجة أكبر سنا حتما، لكنها أبدا لم تـرفض أو تشوه أو تمسخ أو تبرر أوديبيا (بتنافس مع أب أو غير ذلك)، فها هو يذكر أنها كانت أياما جميلة، وها هى تتحدث بجرأة عجوز يقظة، تعرف ماكان تفصيلا (لم يكن ينقصنا إلا خطوة) فتعترف به وتفرح بأنها تذكره، وأنه يذكرها.
خلاص.
98 – حديث من بعيد
فى حارتنا بيت مسكون لا يقربه أحد فهو مغلق الباب والنوافذ مستسلم لعوامل البلى، أمر به فلا أصدق عينى وأقول لنفسى ما هى إلا أسطورة من أساطير الأولين. وفاجأنى المطر يوما وأنا أمر أمام بابه وأسخر منه كعادتى، وإذا بصوت يتهادى إلى هادئا: “إن كنت فى شك بت ليلة فى البيت يأتك البرهان بلا وسيط”. ركبنى الرعب وانعقد لسانى، وتذكرت ما قرأت عن عالم الأرواح فقال الصوت: “كن مع العقل وإلا تعرضت لتجربتنا القاسية”، واشتد المطر فسكت الصوت كأنما قد ذاب فيه.
لا بد أن تحضر فى وعى من يقرأ هذه الفقرة تكية الحرافيش، وبيت الجبلاوى فى أولاد حارتنا، لكن علينا أن ننتبه إلى أن البحث هنا ليس عن الجبلاوى ولا عن ساكنى التكية، لكنه بحث عن الجانب الأخر الذى هو بعيد عن العقل، بحث عن التفاصيل الغامضة الأكيدة والتى لا تخضع لمنطق له حدود فاصلة، أو لغة محكمة من يخرج عنها يمكن أن يجد نفسه وقد تمادى فى الرطان المضل، ثم تأتى النصيحة من أهل البيت المسكون، بالاكتفاء بالعقل، فتبدو نصيحة نافعة لمن يبحث عن الأمان – لكنها ليست كافية، ولا صائبة على طول الخط لمن يبحث عن المعرفة والكشف، لأن العقل هو الذى كان يدفعه أن يسخر من أى مجهول لا يعرف قواعد لعبته، فأى عقل آخر يمكن أن يكون منقذه الآن،
ولا يرحمه من إعلان قبول النصيحة أو رفضها إلا استمرار هطول المطر واختفاء الصوت، فيتأجل الرد إلى أجل غير مسمى.
99- فيلسوف صغير جدا:
يطاردنى الشعور بالشيخوخة رغم إرادتى بغير دعوة، لا أدرى كيف أتناسى دنو النهاية وهيمنة الوداع، تحية للعمر الطويل الذى أمضيته فى الأمان والغبطة. تحية لمتعة الحياة فى بحر الحنان والنمو والمعرفة. الآن يؤذن الصوت الأبدى بالرحيل ودع دنياك الجميلة واذهب إلى المجهول. وما المجهول يا قلبى إلا الفناء. دع عنك ترهات الإنتقال إلى حياة أخرى، كيف ولماذا وأى حكمة تبرر وجودها، أما المعقول حقا فهو ما يحزن له قلبى، الوداع أيتها الحياة التى تلقيت منها كل معنى، ثم انقضت مخلفة تاريخا خاليا من أى معنى. (من خواطر جنين فى نهاية شهره التاسع).
يتحفظ محفوظ حين يضع القوسين الوحيدين المفسرين لهذه الفقرة ويكتب بينهما (من خواطر جنين فى نهاية شهره التاسع) ولا أرجح أنه فعل ذلك خوفا من مساءلة حول تعبير “دع عنك ترهات الانتقال إلى حياة أخرى، كيف، ولماذا، وأى حكمة تبرر وجودها” لكننى قرأت هذه الفقرة مرة ثانية فوجدت أنها قد تنطبق على سلسة من الحيوات ولا تقتصر على الجنين، فى بطن أمه ولا على الناس كافة هكذا، بل يمكن أن تمتد حتى تشمل تفتح براعم الزهور قبيل أن تتفتح.
100- أصل الحكاية:
الست فى الشرفة ترنو إلى أسفل من وراء الخصاص بعينين ملؤهما اليقظة والحنان، الصبى يلعب أسفل البيت ويغنى، وبين الحين والحين يمضى إلى حارة من الحارات التى تصب فى جوانب الميدان آتية من أنحاء المدينة المترامية. وعند المغيب ينتزع الصبى نفسه من دنيا اللعب والسياحة ويدخل البيت. ولم يدم الحال على ذلك طويلا. خلت الشرفة من الحنان. وأوغل الصبى داخل حارة فلم يرجع.
إذا لم يحدث الانفصال بشكل واع تدريجى محاور، سواء كان انفصالا عن الرحم، أم عن الحماية الأموية، أم عن الأسرة الكبيرة، أم عن رحم الكون، فلا مصير إلا “سكة إللى يروح مايرجعش” (راجع قرائتنا لفقرة أصل الجزء الأول؟)
101-
دعينا إلى سهرة فى بيت صديق ، وجلسنا حوله فى آلحديقة الصغيرة يسكرنا شذا زهر البرتقال، وحدثنا الصديق عن مشروع قيم لعلنا نسهم فيه، ولمحت على ضوء عود ثقاب زميلا غائبا عن وجودنا فى دنيا أحلامه، فلمسته بكوعى ولكنه لم يلتفت نحوى وفى طريق العودة قلت له: “يقينا أنك لم تسمع كلمة مما قال صاحبنا”. فقال ببساطة مثيرة: ” قلبى حدثنى بأنه سيرحل عن دنيانا قبل طلوع الشمس”، العجب أن صاحب المشروع رحل حقا قبل شروق الشمس. أما الأعجب فهو أن الصديق الآخر الذى تنبأ رحل عند الفجر. ومن يومها ما جاء الزمان بساعة طيبة، أبيت أن أغيب عنها بشيء مضى، أو بشيء آت.
تركيز من جديد على “الآن”، وهو يبدو بسيطا جدا، ولكنه ليس كذلك تماما، فوجدت فيه أن للزمن حساباته الخاصة للمتنبيء والمتنبأ له معا، وأن أى مشروع أو تنبؤ يتجاوز الآن، فهو يحمل خطر الوهم أو الفناء.
102- شكوى القلب
ثقل قلبى بعد أن أعرض عنى الزمن، وراح الطبيب يبحث عن سر علته فى صورته التى طبعتها الأشعة، تأملته بفضول حتى خيل إلى أنه يرانى كما أراه وأننا نتبادل النظر، وجالت أيضا نظرة عتاب فى عينيه فقلت له كالمعتذر: “طالما حملتك ما لا يطاق من تباريح الهوي”. فإذا به يقول: “والله ما أسقمنى إلا الشفاء”!
إنما يحيا القلب بالحب والشوق والحنين وهو لا يكل من تباريح الهوى، ولم أجد فى هذه الفقرة غير ذلك، اللهم إلا جمال تجسيد الحوار مع صورة الأشعة.
103 – السر
طالما سمعت الحكايات عن الملاك المتجسد فى صورة امرأة وكم بحثت عنه فى الميادين والطرق والحوارى وأنا أقول لنفسى إن رؤيته تضارع رؤية النور فى ليلة القدر، وفى ليلة الموسم المباركة سمعت همسا بأنه سيمر عند السبيل حين سطوع القمر، وتجولت حول السبيل بنية العاشق وعزيمة البطل. وإذا بامرأة تلوح لفترة قصيرة فاقتحمنى وجهها السافر الملائكى وغمرنى بالهيام والنشوة ولكنى لم أسع وراءها لعلمى باستحالة العبور من دنيا البشر إلى دنيا الملائكة. عند ذاك انكشف لى سر حبى الأول.
تكررت محاولات السعى الفاشل أو الجرى وراء النداهة ( وما إليها فقرة ، ، ،؟؟ ) ، ويبدو أن هذه القفزة تقول أن صاحبنا قد تعلم من الخبرة السابقة ، فعدل عن ملاحقتها ، مع أنها فى هذه الفقرة لم تكن نداهة ، بل هو الذى كان يتمناها ، ويجسدها ملاكا فى صورة امرأة ، وحين أدرك هذ الاستحالة فهم لماذا لم يحدث الوصال فى حبه الأول ، فقد كانت ملاكا صنعه خياله أيضا.
104 –
أحببت أول ما أحببت وأنا طفل ، ولهوت بزمنى حتى لاح الموت فى الأفق، وفى مطلع الشباب عرفت الحب الخالد الذى يخلفه الحبيب الفانى، وغرقت فى خضم الحياة، ورحل الحبيب ، واحترقت الذكريات تحت شمس الظهيرة ، وأرشدنى مرشد فى أعماقى إلى الطريق الذهبى المفروش بالمعاناة والمفضى إلى الأهداف المراوغة، فطورا يلوح السيد الكامل وطورا يتراءى الحبيب الراحل. وتبين لى أن بينى وبين الموت عتابا ولكننى مقضى على بالأمل.
الطفل يلهو بالزمن وهو يحب جدته أو جارته (فقرة 2، 36) ، فيلوح الموت فى الأفق ، ثم يحب الشاب فيخطف الموت حبيبته ، ويحاول أن يهرب فى النسيان مرة ، وعلى الطريق الذهبى إلى التكامل سعيا إلى وجهه مرة أخرى ، لكن صورة الحبيب تتراءى وتنتهى الفقرة بقصيدة فى سطر واحد تقول ” بينى وبين الموت عتابا ولكننى مقضى على بالامل ” ومحفوظ يحاور الموت معظم الوقت ، ولا نزال نذكر أنه منذ الفقرة الثانية فى الأصداء وهو يتمثل الموت شخصا مجسدا ، حتى يجرى هذا العتاب الرقيق بينهما ، ونظرا لأنه ( الموت ) يعامـل كصديق بشكل أو بآخر ، فإنه – مهما فعل – لم يقطع صلة محفوظ بالحياة ، ولا حال بينه وبين الاستمرار ” فهو مقضى عليه بالامل ”
105- رجل الأقدار
لم أنس ذلك الرجل ، كان معلمى فترة طويلة من العمر ، اشتهر فى حياته بتلاحق المحن، والتعاسة الزوجية، ورقة الحال، ولكنه اشتهر أيضا بالصبر والقدرة على معايشة الألم والانغماس فى الكآبة، ولما تقدم به العمر أضيف إلى متاعبه تصلب الشرايين. وأخذت ذاكرته تضعف وتتلاشى، ومضى ينسى فيما ينسى خسائره وجميع ما ناله من عنت الحياة فخف عبئه وهو لا يدرى، وطعن فى المرض، فنسى زوجته تماما وأنكرها وأصبح يتساءل عن سر وجودها فى بيته، وذهب عنه الكثير من كدره وبلغ به المرض مداه فنسى شخصه ولم يعد يعرف من هو، وبذلك تنسم قمة الراحة، هكذا أفلت من قبضة الحياة القاسية حتى غبطه من كان يرثى اليه.
ثم نجد أنفسنا من جديد فى ملعب الذاكرة والنسيان ، فنتذكر النسيان الرجل البدين (فقرة ؟) ومدرس العربى الذى نسى قواعد النمو وفضل النسيان (7) ولكن الصورة هنا ماحية ، وقد شرحها نجيب محفوظ كأنه يعطى أطباء الدراسات العليا درسا فى الطب النفسى لصورة إكلينيكية كاملة تشرح كيف يتدرج النسيان فى مرض ألزهايمر، وليس تحديدا مع “تصلب الشرايين (فياليته ما ذكر اسم المرض هكذا ) ولكن الجميل هنا هو أن ما نسى كانت المحن والتعاسة الزوجية ورقة الحال والكآبة ، فأى فضل للتدهور هذا ، ثم أسارع فأدعو الله ألا يتمنى أحد من الغابطين الحاسدين مثل هذا النسيان أبدا.
106- الصفح :
إعجابى بك يا سيدتى يفوق أى حساب، إنك تنورين المكان بصفاء شيخوختك، تلقين الإساءة بالصمت وتغفرين للمسيئين إليك، فلا أعرف أما من قبلك بهذا الوفاء، قلت لها يوما: “إنك ضحية القسوة والأنانية “، فقالت باسمة: “بل إننى ضحية الحب”، ولما قرأت الدهشة فى وجهى قالت: “أنت تتوهم أن سلوكهم معى صادر من قسوة وأنانية، الحقيقة إنه صادر من حبهم الشديد لأبنائهم ، وهكذا كنت أحبهم، ومن أجل ذلك قد صفح قلبى عنهم”.
يقول مثل عامى مصرى “قساوتهم ولا خلو بيوتهم”، سمعته أول ما سمعته من خالتى التى لم تنجنب وكنت، – وأنابمثابة ابنها رحمها الله – حين أغيب عنها ثم أذهب إليها تسألنى عن أحوالى فى مدة الغياب ثم عن أولادى وزوجتى، وحين تطمئن تماما علينا تبدأ فى العتاب ” إخص عليك “، ولكنها تواصل دعواتها لى ولأولادى راضية بالتقصير فى الزيارة مادام السبب لم يكن شرا أصابنى أو أصاب أحد أولادى وتردد هذا المثل ” متساوتهم ولا خلو بيوتهم”
فقرة عادية مـرت على فلم تحركنى بالقدر الذى أحدثه سلوك خالتى، أو أحدثه المثل العامى الذى كانت تقوله.
107- الضحكة :
وقفت فوق فوهة القبر ألقى نظرة الوداع على جثة العزيز التى يعدونها للرقاد الأخير، ترامت إلى ضحكته المجلجلة قادمة من الماضى الجميل، فجلت بنظرى فيما حولى ولكنى لم أر إلا وجوه المشيعين المتجهمة، وعند الرجوع من طريق المقابر همس صديق فى إذنى. “ما رأيك فى ساعة راحة بالمقهي!” وسرت الدعوة فى أعصابى برعشة ارتياح ونشطت قدماى إلى حيث المجلس وقدح الماء المثلج والقهوة المحوجة ومناجاة اللاحقين عن السابقين.
الحى أبقى من الميت، وخلاص !!
108- الاختيار
ذهبت إلى السوق حاملا ما خف وزنه وغلا ثمنه، واتخذت موضعى منتظرا رزقى وهدأ الضجيج فجأة واشرأبت الأعناق نحو الوسط، نظرت فرأيت ست الحسن تتهادى فى خطى ملكة على أحسن تقويم، سلبت عقلى وإرادتى قبل أن تتم خطوة، فنهضت لأتبعها مخلفا ورائى العقل والإرادة وأسباب رزقى ،حتى دخلت بيتا صغيرا أنيقا يطالع القادم بحديقة الورد واعترض سبيلى بواب مهيب الجسم حسن الهندام وحدجنى بنظرة مستنكرة فقلت: “إننى على أتم استعداد لأهبها جميع ما أملك”. فقال الرجل بلهجة قاطعة: “إنها لا ترحب بمن يجيئون إليها هاجرين عملهم فى السوق”.
ليكن ، وليكن شرط ” الوصول ” هو عدم الانفصال عن الواقع ، ولتكن ست الحسن هى “الحقيقة” ، ولتسلب الحقيقة منه عقله و إرادته ، أما أسباب رزقة ، فهذا ما لا يمكن التنازل عنه. سعيه اليومى لكسب رزقه هو شرط وصالها لتعيد له عقله وإرادته ، والبوذى الحقيقى لا يصل إلى النرفانا إلا وهو وسط الناس عاديا رائحا غاديا، والمتصوف الذى يترك الأسباب التى أقامه الله فيها سعيا إلى وجهه تعالى إنما يمارس نوعا من الشهوة الخفية ، فلا حل إلا الوصول إليه (إليها) ونحن نغوص فى طين الواقع، وليس ونحن نطير فى خيالات الوجد.
109- السؤال
راحت القافلة تخوض الصحراء يقودها عزيف الناى ودق الطبول، والصمت من حولها محيط، ولا يبدو أن لشيء نهاية، وخطر لى أن أتساءل عن الموضع الذى يحب صاحب القافلة أن يسير فيه، سمعنى جار فقال: “فى مقدمة القافلة كما يليق بمقامة، ولكن ماذا دعاك للسؤال؟” وإذا بجار آخر يقول: “بل لعله فى المؤخرة ليراقب كل حركة، ماذا يهمك من ذلك؟
ولم أجد ما أجيب به، وظننت أن الأمر انتهى، وأننى سأعرف الجواب عند انتهاء الرحلة، ولكنى وجدت الرءوس تتقارب والأعين تسترق النظر إلى والريبة تتفشى فى آلجميع، رباه كيف أقنعهم بأننى لم أقصد سوءا، وأننى لا أقل عن أى منهم ولاء للرجل؟” ودنا منى رجل صارم الوجه وقال لى: “أترك القافلة ودعنا فى سلام”، ولم أر بدا من الخروج لأجد نفسى فى خلاء مطبق وكرب مقيم.
وكأن محفوظ كان يتنبأ بما حدث له فيما بعد فى ذلك الحادث المشئوم ، المعنى هنا صريح مباشر، مجرد السؤال عن الحق سبحانه بصوت مسموع مهما كانت النية حسنة، ومهما كان الإخلاص متوفرا، والولاء مؤكدا أكثر من أى آخر، مجرد هذا السؤال يضع صاحبه فى موقع لا يحسد عليه، أبسط أشكاله هو الطرد بعيدا عن المجموع (التكفير)، ومع أنه هو المظلوم ، ومع أنه لم يقترف ذنبا، ومع أنهم هم الذين حكموا عليه بالنفى، فإنه أيضا هو الذى يدفع الثمن إذ يجد نفسه فى كرب مقيم.
110- فى الظلام:
كنت راجعا إلى بيتى أخوض ظلمات الليل ولا بصيص نور يشع فى الظلماء وارتطمت بشبح فوقفت حذرا متوثبا وأنا أتساءل: “من أنت يا عبد الله؟” فقال: “لعلك صاحب الحظ الذى أبحث عنه.” “أى حظ تعني؟” فقال بعذوبة: “إنى أدعوك إلى سهرة فى بيتى يجول فيها الحب والطرب” فخطر لى أنه يهذي”. وفى لحظة الشك غابت أنفاسه المترددة فعلمت أنه اختفى، وعضنى الندم على إفلات فرصة قد تكون هى الحظ المأمول، ومازلت أدور فى الظلام مناديا حتى بح صوتى.
مازال محفوظ يكرر نفس النغمة، نفس الــ “سكريبت” “الفرصة الحقيقة ، فالتردد، فضياع الفرصة ، فالندم “، إلا أنه فى أغلب ما فات كانت الفرصة تلوح كامرأة حتى حسبناها كذلك فعلا : امرأة ، أما هنا فقد ظهرت فى صورة شبح يعرض بوضوح خدماته لقضاء ليلة للحب والطرب.
111- أقوى من النسيان
طالعنى وجهه بوضوح ومن قريب بقوة نفاذة وهمس فى أذنى: “تذكرنى لتعرفنى حين ألقاك”. ولما صحوت لم تغب عنى صورته. وكم شغلت عنه بالعمل حينا وباللهو حينا ولكنه يعود بكل قوته وكأنه لم يغب لحظة واحدة. وأتساءل تحت وطأة القلق متى يلقاني؟ كيف يتم اللقاء؟ وما الداعى إلى ذلك كله؟ ويندر أن أطرد عنى الهواجس حتى فى االأحضان الدافئة….
مرة أخرى تحل قوة الموت ” وحضوره الراسخ ، بل وملاحقته المثابرة ، حتى فى الاحضان الدافئة ، ورغمم أن محفوظ هنا لم يتمادى فى التأكيد على إلحاح طلب اللقاء، إلا أنه يذكرنا بنفس الموقف مع اختلاف الحدة والنوع والتفاصيل فى مواقع أخرى ( فقرات 2، 4، 8. 9. 12، 14، 15، 20، 27، 42، 46، 50 … إلخ أنظر الفصل الرابع).
112- ذكاء الجسد
فوق السطح وقفا يتناجيان، هو أطول قامة وهى أجمل وجها، أما أنا فألعب بالطوق مرة، ثم أراقبهما ولا أفهم. ويغيبان فى حجرة السطح قليلا ثم يرجعان فأعود إلى استراق النظر بمزيد من الحيرة. وجاء الإدراك متعثرا من خلال الأعوام الحامية.
هل يتعلم الواحد منا الجنس بالدروس ، أم بالشرح ، أم بالنمو التلقائى ، أم بالتقليد ،أم بكل هذا ، هنا يعرض محفوظ منظرا عاديا يتعلم منه الفتى معنى الغرام ، ويبدو لى أن العنوان “ذكاء الجسد “هو الجديد الوحيد فى هذه الفقرة
113- الشروق والغروب
رأيته فى حالين مختلفين: “مرة والشمس تشرق عليه فبدا غاية فى البهاء والجلال، يتكلم فيجد السامع الحكمة فيمايفهمه من كلامه والشعر فيما لا يفهمه”. ومرة والشمس تغيب عنه فبدا ضئيلا مسكينا يهرول فى أسمال بالية، يتكلم فيجد السامع الابتذال فيما يفهمه من كلامه والبلاهة فيما لا يفهمه.
قرأت هذه الفقرة على مستويين : مـرة من وجهة نظر الناس حين تصفق للواعد (الشروق) وتندد بالذاهب (الغروب)، ومرة من وجهة نظر الباحث المستطلع حين ينبهر بالمعرفة المضيئة – دينا أو نظرية – فيقدس مقولاتها ويتغاضى عن هناتها، ثم وهو يعيد النظر فيها بعد اقتراب عمرها الافتراضى، فيراها بعيدا ناقدة فلا يجد إلا الإبتذال والرطان.
114- الشبيه
كان الشبه العجيب بين القاضى والمتهم ملفتا لأنظار النساء والرجال الذين صحبوا جارتهم أم المتهم إلى المحكمة. وتذكر أناس منهم ر.د. بكرى المرأة الذى فقدته فى زحام المولد، ولكن أحدا لم يربط بحال بين الولد التائه والقاضى وقالت إمرأة همسا:
- القاضى إبن ناس أما الولد المفقود، فلا يقع إلا فى أيدى أولاد الحرام.
وكانت الأم قد نسيت بكريها تماما ولم تعد تفكر إلا فى ابنها القابع فى القفص. حتى نطق القاضى بالحكم الرهيب وعند ذاك دوى الصوات فى قاعة الجلسة.
تذكرنا هذه الفقرة بأم البيه فى الفقرة ؟ “مفترق الطرق ” لكن مفترق الطرق هنا جعل الولد المفقود قاضيا يحكم على أخيه المتهم بحكم يستاهل دوى الصوات فى قاعة الجلسة فتتذكر أيضا الفقرة الفاترة (؟) التى حكم فيها الزميل القاضى على زميل الدراسة المجرم.
115- ربه البيت
ياربة البيت اصحى، صلى ثم إبسطى يديك بالدعاء. جهزى الفطور وأدعى إلى المائدة رجلك وأولادك. عاونى الصغار على تنظيف أنفسهم وكشرى لمن يركن إلى الكسل. اكنسى بيتك ورتبيه وتسلى بترديد أغنية. سوف يجمعهم الحظ السعيد حول مائدة العشاء إذا سمح الدهر ويبقى الأولاد للمذاكرة ويذهب الرجل إلى المقهى للسمر. اغتسلى ومشطى شعرك وغيرى ملابسك وبخرى غرفة النوم ، قد شهد اليوم ما يستحق الشكر والحمد. تذكرى ذلك إذا جاء اليوم الذى يتفرق فيه الجميع كل إلى مسكنه، واليوم الذى لا تجد هذه الذكريات من يتذكرها.
فى محاولة خطابية لتقديس دور الزوجة الأم المتفانية فى خدمة البيت والزوج والأولاد ألقى محفوظ علينا هذه الموعظة فى فضائل ربة البيت ، ولم يصلنى أنه نجح فى ذلك.
فهل يا ترى يرجع ذلك إلى أنه غير مقتنع – شخصيا – بهذه الخطبة أم أننى أنا الناكر لفضلها هذا الذى كتم عنى الوهج الإبداعى فجأة .
116- سيدتى الحقيقة :
عرفت منازل الحقيقة فى عصر الفطرة. عندما تقرفص المرأة أمام طشت الغسيل أقرفص قبالتها فتلعب يدى فى الماء وتسترق عيناى النظر. عندما ألهو فوق السطح فى الليالى البدرية أمد يدى فى الفضاء لأقبض على وجه القمر. عندما نزور القبر فى المواسم أركز عينى على جداره لأرى. نعم الرفيق الشغف والمنازل.
قصيدة شديدة الجمال يعد ما أصابنى من فتور الخطبة السابقة ” نعم الرفيق الشغف والمنازل ” كيف يتنازل محفوظ عن أنه حداثى حتى النخاع ، ما علينا ، أنظر إلى النقلة من استراق النظر إلى حقيقة الجسد والفخذان منفرجان حول طشت الغسيل، إلى استراق الخيال وهو يمد يده يقبض على وجه القمر، إلى اختراق جدار القبر بنظرات تتعرف على حقيقة ماوراءه ، كل هذا يفرضه عصر الفطرة ولغتها حيث تترجح الحقيقة بين بؤرة جسد امرأة ، وحضور وجه القمر ، واستكشاف الموت لتنتهى القصيدة بهذه الحركة النابضة: ” نعم الرفيق الشغف والمنازل ”
رغبة الطفل فى الاستكشاف ، وطبقات المعرفة التى يختلط فيها المجرد بالعينى، والخيال بالواقع، هى الأرضية التى نسجت فيها هذه القصيدة الجميلة
117- شهر الضحك علينا
شهدنا مجلس السمر بالحديقة على أتم ما نكون من العدد والمرح، ينتقل بنا الحديث من شأن إلى شأن كالنحل بين الزهور، والجو الرطيب يضج بضحكاتنا . فى تلك الجلسة نسينا الدهر ونسيناه، وإذا بأحدنا يقول فجأة ودون مناسبة ظاهرة. ” تصوروا اين وكيف نكون بعد نصف قرن!” الجواب أيها الصديق غاية فى البساطة وإن يكن فى الوقت نفسه غاية فى التعقيد، ولكن لماذا تذكرنا بذلك؟ اليوم يمر على تلك الجلسة ربع قرن فقط. على ذاك لم يبق من سمارها إلا اثنان، ويذكر أحدهما الآخر بقول العزيز الراحل، ويتنهدان ويتخيلان أين وكيف ما حلا لهما التخيل. هل حقا عاش أولئك جميعا وتبادلوا المودة والأمل؟!
يتبادل الأصدقاء الأنخاب والحديث الذى ينتقل بهم وبينهم كالنحل بين الزهور ! ! ما أجمل السفر ، ويتطلعون ببعد النظر إلى احتمال الفراق ، ويأتى الموت العظيم فيؤكد وجهة نظرهم ويعلو التنهد ويطل التوقع الآسى، ثم فجأة يشككنا محفوظ – وهو الرفيق الودود – فى لمحة خاتمة – فيما كانوا يتبادلونه من مودة وأمل ،بل فى أنهم “كانوا” أصلا.
118- أصل الحكاية
سارت فى ظل أمها وكان هو يلعب فى الطريق، أسعد ما يسعدها ضفيرتها الفواحة بشذا القرنفل أما هو فكان يلعب الحجلة، توقف قليلا ريثما تمر الأم وابنتها الصغيرة، نظرت إليه نظرة غامضة فامتلأ بالخيلاء، وانطلق يعدو ليشهد الجميع على قوته وسرعته. ودعت الأم بالخير لكل مخلوق وهمست:
” أخاف عليها من النظرة وأخاف عليه من الجرى فاشملهما بالرعاية يا رب.”
وكان ثمة رجل جالسا فى ركن ممن يقرءون الخواطر فقال لها، وكأنما لا يعنيها بالذات.
- فلتنظر إليه ما طاب لها النظر وليجر هو حتى تخدر قواه فيخمد.
من أجمل صور الطفولة هذا الصبى وهو يلعب الحجلة ، مع أنها لعبة البنات أساسا ، ثم وهو يجرى أمام الجميلة ذات الضفيرة الفواحة بالشذا وقد سارت فى ظل أمهما ، وبنفس النظرة المستقبلية تنطلق الدعوة من الأم لهما معا ، لكن الوعى اللامبالى الماسخ لكل نبض جميل يصنم الجميلة لتصبح مجرد بهجه للناظرين، ويصنم الصبى الحلو ليتجمد بعد الإنهاك هنا ، أشعر أن حدس محفوظ يجسد لنا حيلة نفسية تسمى التصنيم وهى حيلة نلجأ إليها حين تغمرننا الانفعالات والقلق والخوف على شيء عزيز عزيز حتى نخشى حركته حتى لا يذهب فنقلبه صنما لمجرد الاحتفاظ به ( وهذا الميكانزم مأخوذ من الأسطورة، التى كانت اللعنة فيها قد حلت بالنبوذ حتى أن كل ما يمسه يتخشب) ”
119- مأوى النعمة
ما أجمل العصفور فى طيرانه وشدوه، مرة فى سكرة من النشوة هتفت يا ليتنى خلقت عصفوا، وإذا بى انقلب عصفورا يحلق ويشدو ويثب من غصن إلى غصن ومن خبرتى السابقة حذرت القطط والزواحف وعشقت شعاع الشمس. منذ قديم وأنا أغبط العصافير على تحليقها ورؤيتها لجمال حبيبتى الذى لا يبلغه الهائمون فوق الأرض، أيقنت مع الجهد الضائع أنه لا سبيل إلى الفوز إلا بالطيران، واستراق النظر من فوق هامات الشجر. وجعلت أخطف النظرات المحترقة بالأشواق وهى تتهادى فى أعماق البيت، وارتويت برحيق الهناء حتى ثملت. ويوما رأيت فوق سور السطح طبقا مملوءا بالقرطم، فتجلب ريقى ونسيت الحذر وطرت نحو الطبق وحططت عليه ورحت ألتقم بمنقارى الحب بنهم وسرور. وإذا بيد تقبض على بحنان وصوت عذب يقول:
- أخيرا وقعت.
وأودعتنى القفص وقد بعث مسها فى كيانى سكرة لا تجيء إلا من خمر الفراديس وكلما فاض كاس خظى بالسعادة اقبلت بحسنها الدرى لترنو إلى وتقدم لى الماء والغذاء وها أنا يغمرنى جنون السرور والفرح. وفى أوقات الفراغ أتطلع إلى جماعات العصافير فوق الشجرة سعيدة بين الشدو والطيران ولكن لا شدوها ولا طيرانها بشيء يذكر إلى جانب قرب الحبيب.
مرة أخرى، يبلغنى تقديس محفوظ قفص للحياة الزوجية حتى يكتب فيها كل هذا الشعر، قصيدة جميلة لم أملك إزاءها إلا أن أقول : أفلح إن صدق ( إن صدق الشعر، وليس محفوظ بالضرورة ) .