حالات وأحوال: الجزء الأول
المرض البطئ والعدوان السلبى
السيد/ م. س. ص. 42 سنة، طبيب أسنان، أعزب، والده أستاذ فى كلية طب الأسنان، تخرج فى كلية طب الأسنان من سنة ونصف، وظل يعمل بانتظام فى مستوصف صحى شعبى، وهو المسئول الوحيد فيه عن تخصصه هذا، ثم قرر عدم العمل منذ أسبوع..
جاء يحكى ( لا يشكو) من أنه: أنسجم مع الكثرة، وبدون سبب، فيه عصبة ضدى، وتلقى إللى يقول وإللى يتدخل والأذية والنوم القليل، والكتير، والمعاكسات، وهى ملكات وقدرات وملائكة يصلوا على، من أرادنى فيحج إلى، وجاى لغاية هنا، طز فى الطب ولا تقولى مسيحيين ولا يهود، ولو سمعتم إللى باسمعه كان بقى فيه كلام تاني
ويقول زوج الأخت المصاحب:
هو رفض ياخد الدوا، وما فيش حقن خالص، وبدأ باللخبطة والمشى فى الشوارع والجلوس على القهارى، وما فيش نوم، ويقول الجواز وإسرائيل والإسلام، وبيقول إنه بيبحث عن مملكته الخاصة.
وقد بدأت الحالة من عشرين سنة، وكانت هذه هى المرة الثالثة لدخوله مستشفيات مماثلة، وكان طالبا متفوقا قبل ذلك (الإبتدائية 96% الإعدادية 92% والثانوية 81%) ثم بدأ التعثر الدراسى قبل ظهور الأعراض الصريحة بسنتين، وظل الرسوب والاعتذار يتكرران حتى تخرج بعد 15 سنة من الدراسة فى كلية طب الأسنان، وهو مصاب منذ الطفولة بربو شعبى اختفى بعد إصابته بهذا المرض الحالى، وله أخت واحدة، وأمه خريجة كلية العلوم، كانت الأولى على دفعتها، لكنها رفضت وظيفة معيدة بالكلية ولم تعمل أبدا، وخالته مصابة بوسواس النظافة حتى توقفت عن السلام على الناس باليد نهائيا.
القراءة الأولى:
هذه حالة فصام تفسخى (هبيفرينى) – Hebephrenie مصاحب باضطراب وجدانى أقرب إلى الهوس. يبدو فيها التناثر فى التفكير، وضلالات العظمة، ولا “توافق”الوجدان مع المحتوى الفكرى أو السلوك الظاهرى.
القراءة الثانية:
اولا: عموميات:
(1) نلاحظ أن هذا الطبيب قد تخرج وعمره أكثر من أربعين سنة.
(2) نلاحظ أن والده أستاذ فى كلية طب الأسنان، فى حين أن مريضنا طبيب الأسنان يعمل فى مستوصف شعبى خاص، لا فى عيادة والده.
(3) نلاحظ أن الأعراض الإيجابية (الضلالات والهلاوس) غامضة رغم شذوذها وهو لم يصرح بمحتوى الهلاوس بالذات.
ثانيا: هذه الظاهرة التى تجعل الوالد يريد أن يمتد فى ابنه، وأن يسلمه الراية، وأن يكمل رسالته .. إذ يمتهن مهنته إلخ، ليست ظاهرة سلبية فى ذاتها حين نشاهدها فى الحرفيين وأصحاب المهارات الخاصة، وأصحاب المهن التى فيها “سر”ما (سر الصنعة) – وهذا ما يسمى عند العامة”شغل المعلم لابنه”، لكن إذا كانت المسألة مجرد دراسة مكررة، ولافتة معلقة، ونقص عند الوالد يكمله مسيرة الإبن، فإن احتمال الضرر يظهر حين تشمل هذه العملية إلغاء كيان الإبن ككيان مستقل فيصبح كيانا بديلا وليس كيانا ممتدا أو مستقلا.
وهنا ينبغى أن نتفهم أن رفض الإبن لمتابعة مسار والده لا يتعلق بالمسار نفسه بقدر ما يتعلق برفض فكرة إلغاء الذات، ولو أنه وصله أنه امتداد لأبيه وليس نسخة منه لما كان رفضا ظاهرا أو باطنا ونضيف أنه فى حالتنا هذه لم يقل: لا الإبن ولا الأب أن ثمة رفضا ظهر صريحا فى انتقائه كلية والده.
ثم لابد من التأكيد على أن هذا الرفض المحتمل (كفرض) لايمكن أن يسبب هذا المرض بطريق مباشر، وإنما هو عامل هام جدا لابد أن يوضع فى الاعتبار.
ثالثا: نلاحظ أن طول مدة الدراسة مع وجود المرض الصريح أو الخفى، الحاد أو المتبقى تشير إلى أمور منها.
1 – إن ثمة إصرارا من الوالد (وربما الأسرة) على تجاهل أو إنكار الرفض الخفى من جانب الإبن لهذا الدور “البديل”(امتداد الوالد فيه!!).
2 – إن ثمة إصرارا (من الوالد على الأقل) على فرض إكمال الدور المأمول.
3 – إن ثمة احتمالا ضعيفا لممارسات مجامـلة متعددة المراحل – هى التى أدت فى النهاية إلى تخرج الإبن كهلا من الكلية (مؤهلا، ولكن ليس بالضرورة طبيبا بمعنى صاحب الخبرة المسئولة).
رابعا: وبالرغم من حرص الوالد على أن يحمل إبنه نفس اللقب ويمارس نفس المهنة إلا أنه يبدو – وهو الاستاذ – أنه يعرف مدى عجز ابنه من البداية، وهذا ما جعله يعمل فى مستوصف شعبى (أناس ليس لهم سعر غال!!) ولا يتمرن معه فى عيادته الخاصة مثلا (احتمال).
خامسا: إن السماح لطبيب صغير بهذه الكفاءة المحدودة أن يمارس المهنة وحده دون إشراف فى مستوصف شعبى خطأ مهنى وخطر مهنى لا يصح إغفاله فى هذه الحالة.
سادسا: إن إصابة خالته بوسواس النظافة التى وصلت إلى درجة عزوفها عن السلام على الناس جميعا (وليس مجرد تجنب السلام على الرجال تدينا)؟ هو إشارة إلى إيجابية الاستعداد لمرض ما، فتاريخ الأسرة إيجابى من الناحية الأموية، فإذا أضفنا إلى ذلك عزوف الأم – فجأة – عن العمل نهائيا، وبالذات كمعيدة بعد تفوقها (الأولى على دفعتها) لأمكن افتراض أن الرضا هكذا بحياة ربة المنزل مع قلة عدد الأولاد قد يذكرنا بما ذكره “يوجين بلويلر عن مرض فصام ربة المنزل”حين يجعلها الإنزواء عن مسئولية العمل الخارجى والاحتماء بحماية البيت أبعد عن ظهور أعراض صريحة، ولكن هذا لا ينبغى أن يعمم ليعتبر كل ربة منزل سلبية، لكن فى حالتنا هذه، وبعد كل هذا التوقف، ومع مرض الخالة، وحالة الإبن – لابد من وضع هذا الاحتمال فى الاعتبار
سابعا: إن قراءة فى أعراض وشكوى المريض يمكن أن تشير إلى أحوال دالة نذكر منها:
( أ ) أنسجم مع الكثرة:
ويبدو هذا التعبير غريبا من مريض بالفصام، وهو المرض الذى يشاع عنه إن المريض يبدى بع عزوفا شديدا عن صحبة الناس، إلا أنه – فى هذه الحالة مع إمكان تعميم الدلالة – يشير هذا التعبير إلى عزوف من نوع آخر، حيث يفهم التعبير ليس على أنه رغبة فى الانسجام مع الجماعة، ولكن على أنه عجز عن الانسجام مع فرد بذاته ، ونرى هذه الظاهرة أحيانا فى الظروف العادية حين يستبدل “حب الناس “أو حب البشر أو “حب الجميع أو “حب الكل”بحب فرد بذاته من لحم ودم قريب مختلف محاور ، “فالانسجام: مع الكثرة هنا – من هذا المنطلق – يعلن عجزا عن عمل علاقة ، أكثر منه قدرة على الالتحام بالمجموع
(2) وتلقى اللى يقول ، واللى يتدخل، والأذية والنوم القليل، والنوم الكثير، والمعاكسات .
هكذا فجأة نجد سلسلة من الألفاظ الشاكية الدالة، وهى لا تدل على عدم الترابط فقط رغم أنها فعلا غير مترابطة ، وإنما تدل أكثر على “زحمة “ما، وتدفع ما يشكو منه ، وهى تشمل ضمنا أن بعض الأعراض المتناقضة ( النوم القليل و النوم الكثير ) يمكن أن يفسرها المريض بما يستشعره من التدخل بالأفعال والأقوال والتأثير المباشر والغير المباشر.
ثم هو يردف مباشرة:
(3) وهى “ملكات”وقدرات وملائكة يصلو على ، من أرادنى فليحج إلى .
وهو لم يربط بين الجمل الأولى وإنما قفز بعد “المعاكسات: إلى “هى ملكات وقدرات “، ونقف نتساءل “ماهى “التى تعود عليها صفات ملكات وقدرات، أهى ملكاته المتميزة التى ترتب عليها الحسد ومن ثم الاقتحام والإضرار ؟
ثم فجأة نشم رائحة النبوة “وملائكة يصلوا علي”(إن الله وملائكته يصلون على النبى ) التى تتنامى إلى الألوهية المعلنة ضمنا “من أرادنى فليحج إلى “
(4) وجاء لغاية هنا . طز فى الطب النفسى ، والدكاترة النفسيين دول ما بيعرفوش حاجة ، وحاتجوز سناء والجنة للمسلمين فقط ، وكل من أرضى عنه، ولا تقول مسيحيين ولا يهود .
هاهو يهبط إلى الأرض “هنا “متلفعا بكل دفاعات الهجوم على الأطباء والعلاج للحفاظ على حالة المرض، هو ينتقل إلى الزواج فإعلان التعقب مباشرة دون أى رابط ظاهر
ووقفة عند هذا النوع من التعصب الدينى: نجد أنه يكاد يكون عقيده كل متدين بالنسبة لدينه، وبالمراجعة النقدية يمكن أن نثير تساؤلا عن “لماذا نعتبره شذوذا؟ أليس كل صاحب عقيدة أو كل متدين يعتقده هوهو، فلماذا نعتبره هنا بالذات خطأ فظيعا وصل إلى درجة الضلال ; ولماذا إذا قال مسلم عادى أن الجنة للمسلمين فقط ، نعتبره سليما مائه فى المائه، و إذا قالها هذا المريض نعتبرها ضلالا ؟ الإجابة سهلة فى الظاهر، وهى: لأنها قيلت هنا فى سياق مرضى.
ولكن ألا يحتاج الأمر إلى تأمل أعمق ؟
ثم إن المريض أقصى كل غير المسلمين وحدد المسيحيين واليهود بهذا الاقصاء، لكنه فى نفس الوقت أعطى لنفسه حق الاستثناء (الشفاعة) بأنه – ربما بصفته النبوية، وربما بصفته الإلهية: العفو لإدخال الجنة لمن يرضى عنهم
(5) ننظر الآن فى قول زوج أخته نقلا عنه: “وبيقول الجواز وإسرائيل والإسلام ، وبيقول إنه بيبحث عن مملكته الخاصة.
هنا إيجاز مزدحم دال وخطير، وكأن زوج أخته يكرر اللا ترابط الظاهره بشكل مكثف دال، وقد التقط المرافق (زوج الأخت) حديث المريض عن بحثه عن “مملكته الخاصة”وهذه الظاهرة لم تعد تظهر بسهولة فى الصورة الإكلينيكية نظرا لتغافل الأطباء عن البحث عنها رغم أنها تعتبر محورا للسيكوباثولوجيا فى كثير من حالات الفصام (البحث عن مملكة خاصة) بل إنها تعتبر محورا فى بعض الظاهرة الإبداعية، وأيضا فى لاشعور الكافة من الناس العاديين مما سوف لاندخل فى تفاصيله حالا.
تعقيب ختامى:
إن قراءة هذه الحالة بالطول (المسار الطويل، والعناد، والتأجيل والتغطية، واندمالات الوجود بعد التصدع المتكرر ) ثم بالعمق (الدلالات الظاهرة المرضية فى محتوى الفكر والسلوك) يشير إلى ضرورة الانتباه إلى عدة نقاط فى تناول مثل هذه الحالات من أهمها:
1 – ضرورة المسار مبكرا حتى لا يكون الإصرار على المسار الخاطيء سببا فى تدهور خطير، لدرجة ألا يتبقى فى المريض بعد سنين إلا “آثار إنسان”.
2 – ضرورة الانتباه إلى مسئولية المجتمع لما يمكن أن يترتب على ممارسة مثل هذا المريض مهنته دون إشراف.
3 – ضرورة التعمق فى فهم معنى الأعراض ومحاولة إرجاعها إلى أصل تطور المرض (مع استعمال العقاقير والعلاجات المناسبة الأخري).
4 – ضرورة الانتباه إلى الاستعداد الوراثى جنبا إلى جنبا مع التمهيد لظهور المرض بالقراءة العاطفية والذاتية التى تستعمل الأبناء كوسائل لتحقيق طموحات الأهل، وليس كذوات مستقلة مهما كانت امتداد محتملا.