الخوف فى الأنظمة العسكرية
(نظرة عامة)
مانويل أنطونيو جاريتون
ترجمة: سعد زهران
الخوف صفة أصيلة فى صلب المجتمع البشرى، وفن أساس الحالة الإنسانية المحاطة بالمخاطر. فنحن نخاف الموت، والخسارة والمجتمع، والماضى والحاضر، والألم والمجهول. وكما أننا لا نستطيع أن نهزم الموت، فإننا لا نستطيع أن ننتصر فى معاركنا الأخرى مع الخوف. غير أنه ليس من المستحيل أن نخفف العوامل التى تولد الخوف، ونرفع قدرتنا على مواجتها.
وليس موضوعنا هنا هو الخوف الوجودى، الذى هو جزء لا يتجزأ من النفس البشرية، وإنما موضوعنا هو الخوف المتولد عن عوامل سياسية، أو هو الخوف فى ارتباطه بالنظم السياسة. وكما أن علم النفس يهتم بالخوف الفردى فإن العلوم الاجتماعية تهتم بالخوف الجمعى، وبالظروف الاجتماعية التى تولده، وتلك التى تمكن من التغلب عليه. ولأن كل المجتمعات والنظم السياسية تصنع الخوف، بوعى، ثم تدخل فى صراع معه، فإننا يمكن أن نصنفها وفق أنواع المخاوف السائدة فيها. وعلى الرغم من أن النظم الديموقراطية لم تتخلص من الخوف تماما، إلا أنها تخلق آليات قادرة على وضع أشكال من الخوف تحت السيطرة، والتغلب عليها. وعلى كل حال، سنركز هنا على الأنظمة التراجعية (1) تاريخيا، التى فيها يعتبر الخوف الأولى (2) من الموت هو النوع السائد. وليس صدفة أن يكون الموضوع الإيجابى الأساسى فى هذه الأنظمة هو حقوق الإنسان التى هى امتداد [حضارى – ثقافى – تاريخي] لحق الحياة. (1)
وسيكون حديثنا قاصرا على نمط محدد من الأنظمة التى ظهرت فى المخروط الجنوبي3)) فى سبعينات هذا القرن، هى الأنظمة الدكتاتورية العسكرية – الشمولية. الشمولية هى، حسب تعريفنا، نظام حكم، هى نمط للعلاقة بين الدولة والمجتمع، وليست نظاما اجتماعيا. ولن نبحث هنا العلاقات الشاملة بين الشمولية والخوف، التى تغطى جميع الأفراد والمجالات، وإنما سنعتبر الدكتاتورية العسكرية نمطا من الأنماط التاريخية للشمولية، ونكشف عن سماتها المميزة، وما يترتب عليها فيما يتعلق بموضوع الخوف.
وخدمة لأهداف هذا التحليل، علينا أن نميز أولا: بين أنماط الخوف السائدة، وثانيا: بين الجماعات التى تعانى الخوف. يوجد نمطان أساسيان من الخوف، يمكن وضعها فى إطار التجربة والتعبيرات الطفولية: “الخوف من الغرفة المظلمة” و”الخوف من الكلب العضاض” الأول هو الخوف من المجهول، وهو إحساس بفقدان الأمن والأمان، مصدره شئ سئ، موجع، شرير، كريه، وشديد القسوة. ونحن نعرف أن هناك خطرا، ولكننا لا نستطيع أن نتبين كنهه بالدقة. بتعبيرات علم الاجتماع الكلاسيكى، هذا النمط مرادف للخوف من حالة مجهلة. فعلى الرغم أننا نرى أن الأذى أو الضرب وشيكا، إلا أننا لا نعرف متى ينزل علينا، ولا بأية درجة من الحدة والعنق والقسوة. أما النمط الثانى (الكلب العضاض) فإن مصدره خطر معروف، ويتوقع الإنسان الضربة، وينبثق الخوف من تجربة ما تزال عالقة بالذكراة، أبعاد أذها مألوفة تماتما لدى الإنسان المستهدف.
أما فرائس الخوف (أو – ببساطة – الخائفون)، فإن علينا أن نميز، فى داخل الأنظمة السياسية المعينة، بين خوف المنتصرين وخوف المهزومين – وغنى عن الذكر آن العلاقات بين الجانبين غير متساوية، إن لم تكن – كما هى العادة – صراعية وعدائية.
خوف المهزومين خوف يتخلله إحساس بالهزيمة، وإدراك للقوة الطاغية للعدو، وشعور بالضعف والفشل لا يمكن إلقاء مسئوليته على الآخرين، وإحساس بضياع الفرص لتحقيق الذات الفردية أو الجمعية. إنه يجمع بين الخوف من الإرهاب الحال والخوف من المستقبل – أى الخوف من أن تجد أوضاع جديدة مشحونة بمخاطر مجهولة.
أما خوف المنتصرين فمصدره الصدمات والجروح التى سبقت انتصارهم؛ وإدراكهم لفداحة الآثار التى ألحقها انتصارهم بالمهزومين؛ والشكوك التى تراودهم من تحول آليات القمع التى صنعوها وأطلقوها إلى وحش مهول ومجهول (فرانكنشتاين) يخرج على طوعهم وسيطرتهم؛ وإحساسهم بأن زمن النصر قصير وأن المناضد – فى يوم قريب – يمكن أن نتغلب على رؤوسهم، ويأخذ الخاسرون بثأرهم.
ويتغذى كل من هذين النمطين من الخوف على الآخر، على الرغم من أن لكل منهما استقلاله، ولكل آلياته اللخاصة المستقلة. فكل من الجانبين تنبابه المخاوف المعروفة والمجهولة. والعلاقة الجدلية بين خوف المنتصرين وخوف المهزومين تتحلل ظهور الأنظمة العسكرية وتطورها، ثم تدهورها ونهايتها، ثم إن لها تأثيراتها على ما يعقب انتهاء الأنظمة العسكرية من عمليات الانتقال إلى الديموقراطية ودعمها. هكذا، يمكن اعتبار الدكتاتوريات العسكرية أنظمة منتجة للخوف، تتحداها عمليات وصراعات للتغلب على الخوف.
الأنظمة العسكرية المخروط الجنوبى
فى هذا الجزء، لن نخوض فى الجدل الدائر حول طبيعة الأنظمة العسكرية التى نصبت فى الأرجنتين والبرازيل وشيلى وأورجواى، وإنما سنكتفى بإلقاء نظرة موجزة على بعض من أهم خصائصها وملامحها، التى تتناول أعمال أخرى عرضها بتفصيل أوفى (2) كانت هذه الأنظمة صيغة مؤسسة، ومرحلة معينة من تطور الرأسمالية فى مثل هذه المجتمعات، وتعبيرا عن نمط جديد للعسكرة – كل هذا معا، حيث لا يمكن أن تختزل إلى واحد فقط من هذه الأبعاد. وتبادلت هذه العوامل، فيما بينها، التأثير بمختلف الأساليب. فالأنظمة العسكرية، أولا، وثيقة الارتباط بمحاولة إيجاد حل لأزمة سياسية، كانت بذاتها تعبيرا عن المشكلة الأصيلة للسيادة، والتى كانت قد أصبحت من الأمراض المتوطنة منذ زوال الدولة الأوليجاركية (4) وكانت الأزمة السياسية تتميز بدرجة عالية من الاستقتطاب الاجتماعى السياسى بين القطاعات الشعبية النشيطة والمعبأة، والتى كانت منابرهاالسياسية تشارك السلطة بدرجة أو أخرى – من جانب، والقطاعات المسيطرة – من جانب آخر.
وكانت هذه الأخيرة ترى الأوضاع كارثية، تراها أزمة لا يرجى لها حل، وكل شئ فيها مهدد. وكانت القطاعات المسيطرة قد تمكنت من نقل مخاوفها إلى الطبقات المتوسطة. ثانيا وأيا كانت هذه الأنظمة، فإنه يمكن اعتبارها جزءا من عمليات التحديث والتأهيل المهنى والتوجيه الإيديولوجى للقوات المسلحة – وذلك، طبقا، فى الإطار العام للتبعية، فى النظام السياسى الجغرافى (الجيويولتييكي) الأمريكى. وثالثا، كانت الأنظمة العسكرية المعينة قد أخذت على عاتقها مهمة إعادة هيكلية اقتصادياتها الرأسمالية، ثم إعادة دمجها فى المهنظومة الرأسمالية العالمية.
هذا التحليل يمكننا من فهم المنطق المزدوج لهذا النمط التاريخى من الأنظمة العسكرية – أو بتعبير آخر، وفهم ازدواجيه أبعاده. فمن جانب، كانت هذه الأنظمة رد فعل ضد شئ ما، ربما كان هو المجتمع الشعوبى populist، أو هذه “دولة التنازلات المتبادلة بين الطبقات”، أو هو “التعبئة الشعبية التى من صنع الدولة” ومن جانب آخر، كانت الأنظمة تحاول أن تبنى شيئا جديدا تماما. فالأزمة الساسية التى كانت بعض القطاعات المسيطرة قد اعترتها أزمة حياة أو موت، أزمة كارثية تهدد مكانتها الاجتماعية تهديدا واضحا هذه الأزمة كانت هى الحافز الذى دفع الأنظمة العسكرية المعينة إلى تفكيك أوامر المجتمع السابق. ووسيلة اختبار منطق رد الفعل الارتجاعى recactive فى كل من هده الأنظمة هو – باختصار – القمع. فقد اعتمد كل منها على أجهزة قمعية قوية وضاربة، موضوع تحت تصرفها موارد هائلة، وتقنيات وأدوات لممارسات وحشية لم يسبق لها مثيل. واختلفت كثافة هذا البعد الارتجاعى وحدته، من بلد إلى إلى آخر، حسب طبيعة الأزمة التى سبقت الانقلاب العسكرى وكانت من بين أسبابه المباشرة. ، ودرجة الاستقطاب الاجتماعى، ودرجة تحذير المواقف حينذاك، ومستوى النشاط والتنظيم الذى كانت قد وصلته القطاعات الشعبية ومنابرها السياسية، ودرجة تجانس وكفاءة أجهزة القمع العسكرية.
غير أن سلسلة العمليات التى قامت بها الأنظمة العسكرية فى دول المخروط الجنوبى اتسعت لتتجاوز مجرد نزع سلاح المعارضين، وتفكيك أوصالهم، وتفتيت قواهم، وملاحقتهم وقمعهم. ذلك لأن هدف هذه الأنظمة، على خلاف أنظمة دكتاتورية أخرى أكثر تقليدية. كان هدفها هو تحويل المجتمع to transform society حيث كانت الخطة هى:
أولا: أعادة تشكيل العلاقات بين الدولة والمجتمع المدنى من أجل تأسيس نوع من الرأسمالية لا يسمح بالمشاركة ولا بإعادة توزيع الثروة، ثم – إعادة إدماج كل بلد فى المنظومة الرأسمالية العالمية. وسنسمى هذا: المنطق (أو اللبعد) التأسيس أو التحويلى للعملية. وفشل هذا النظامم أو ذاك فى تحقيق ذلك لا يعنى أنه لم يكن هدفا أساسيا لهذا النوع من الأنظمة. والعوامل المحددة لهذا لهذا البعد هى: القدرة على خلق نواة مسيطرة فى قلب إئتلاف المنتصرين، يضم جانبا من القطاع المدنى (البورجوازية، التكنوقراط، المثقفين. المحافظين)، يعبئ جهوده إلى جانب جهود العسكريين فى توجيه وقيادة المحاولات التى تبذل لإعادة تشكيل الرأسمالية. والعامل الثانى هو الدرجة التى تصل إليها قدرة المجتمع، أو قطاعات ذات وزن فيه، على مقاومة التحويلات التى تصنعها الدولة.
وقد يؤكد هذا النظام أو ذاك، من نظم المخروط الجنوبى، على البعد الأول أو البعد الآخر، وقد يساعدنا على تبين مراحل مختلفة فى تطورها. هكذا يمكننا تبين وجود مرحلة رد فعل ارتجاعى reactive phase ومرحلة تأسيسية foundational phase ومرحلة يظل فيها البعد التحويلى سائدا، على الرغم من استمرار بعد رد الفعل الارتجاعى.
ومن هايتن المرحلتين تتفرع مراحل أخرى، من بينها مرحلة يمكن أن نسميها مرحلة الأزمان المتكررة، وهى تأتى عندما يكون النظام قد استنفد قدرته على تحويل المجتمع، أو عندما تتكاثر عليه صعوبات مرحلة الإنجاز. حينذاك، تكون المشكلة الأساسية التى تشغل النظام هى الاستمرار، وليست هى تغيير المجتمع أو كيفية القمع. ثم تأتى مرحلة أخرى، عى مرحلة تراكم الأزمات، ويمكن أن نسميها المرحلة النهائية، وتصبح المشكلة هى كيف ينسحب النظام أو يرحل. وبتعبير آخر، هى مرحلة الإدارة الختامية. وهذه المرحلة تسبق أو تصاحب، المرحلة الانتقالية بين النظام العسكرى والنظام السياسى الذى يحل محله. وتعد ما تسمى بـ الحرب القذرة” مثلا واضحا ومعبرا عن مرحلة رد الفعل الإرتجاعى، بينما الازدهار الاقتصادى، والمنجزات والمعجزات، هى النغمات التى تعزف فى المرحلة التأسيسة (أوالتحويلية). أما مرحلة الأزمات المتكررة، فسمتها هى التعبئة والتحركات الشعبية ضد النظام، بينما الحشد والتفاوض (المباشر أو غير المباشر) بين العسكريين والمدنيين، إلى جانب بعث الأحزاب السياسية، هو ما يميز المرحلتين، الختامية والانتقالية. وعلى الرغم من أن التجربة التاريخية تدل على أن الاحتمال كبير أن تتابع هذه المراحل وفقا لهذا الترتيب الزمنى، إلا أن هذا الترتيب ليس حتميا. وبخلاف المرحلتين النهائية والانتقالية، فإن المراحل الأخرى يمكن أن ترد بأى ترتيب، ويمكن أن تقفز العملية من مرحلة إلى أخرى، ثم تكر عائدة إلى مرحلة سابقة. كذلك تحتوى كل مرحلة، بدرجة أو أخرى، على عناصر من المراحل الأخرى.
مراحل الخوف
حكم الإرهاب
هدف رد الفعل الارتجاعى، الذى يعقب مباشرة إقامة النظام العسكرى، هو شل حركة النظام الاجتماعي/ السياسى السابق، وتفكيك أواصره. وعلى الرغم من أنه ليس من الضرورى أن تعتمد هذه المرحلة تماما على القمع، إلا أنها – أولا وقبل كل شئ – مرحلة عسكرية، حيث لا تكون النواة المدنية فى المجموعة المسيطرة قد تبلورت وتدعمت بعد، وطبيعة التحول الاجتماعى لا تكون قد تحددت. وعدم الاتفاق بين أفراد المجموعة العسكرية على المسيرة المستقبلية يعووضه الإجماع على القضاء على العدو بأى ثمن العدو- عادة- هو القطاع الذى قام الانقلاب العسكرى بإبعاده عن السلطة. ويضم هذا القطاع أيضا كل من يسمونهم المتعاونين مع الحكم السابق، ويضم كذللك المجتمع السياسى بوجه عام. كذلك، يعتبر كل من يدخل فى عداد المسئولين عن”الفوضي” التى حفزت على إحداث الانقلاب العسكرى – يعتبر خائنا وعدوا للدولة. وعلى الرغم من الجهود التى يبذلها المهنيون التكنوقراطيون والمثقفون المحافظون لضبط توجه سلطة القوات المسلحة الشديدة الوطأة، إلا أن جعبتهم – نعنى التكنوقراط والمثقفين – ليس فيها مشروع محدد يتجاوز التأكيد العام على “الاستقرار”. و”النظام” (3) وعلى الرغم من أن حدوث الانقلاب العسكرى يتضمن – بداهة – إنتصار فريق على آخر، إلا أن المنتصرين يصرون على اعتبار المجتمع ما يزال فى حالة حرب. وإذ يروجون أن هذه الحالة حتمية، فإنهم – بذلك – يبررون ممارسة القمع والقهر على مؤيدهم، وعلى كل المجتمع الذى تقبلهم فى صمت. والايديولوجية السائدة فى هذه المرحلة أيديولوجية عسكرية نزاعة للحرب والعتال، يمكن أن نسميها “مبدأ الأمن القومي” (4)
فى هذه المرحلة، التى يكون فيها المجتمع خاضعا لأقصى حالات القمع والقهر، وحيث يكون التأييد المعلن والضمنى للانقلاب فى الذروة – فى هذه المرحلة، لا وجود لمعارضة بالمعنى الدقيق للكلمة (بمعنى كونها عالما يضم أفراد وهيئات معترف بها، تتشكل من القوى الوسيطة، والخصوم، والبدائل) – فالأوضاع ما تزال فى بدايتها، والهموم والانشغالات أولية تتلخص فى المقاومة للبقاء على قيد الحياة، أو – على الأكثر – شيء من التنظيم. وعليه فالموضوعات التى لها الأولوية هى من مشاكله حق الحياة، وحقوق الإنسان بوجه عام، وهى التى تضع فى دائرة الضوء دور الشخصيات والهيئات القومية والعالمية التى تجيد استخدام هذه اللغة العالمية لعالم “ما فوق السياسة” وتقوم الكنيسة فى بعض البلاد، بدور مفتاحى فى هذه الجهود. وفى بلاد أخرى، تقوم جمعيات حقوق الإنسان بهدا الدور.
فى مثل هذا الزمن، يعم الخوف المجتمع بأسره. ويبدو كما لوكان كل إنسان قد وضع فى المأزق السار ترى(5)، حيث عليه أن يكون بطلا أو خائنا. ويصبح كل شخص خائفا من كل شخص آخر. هذا الخوف، وقد بلغ الذروة، يزداد تفاقما وقسوة بالخطب والبيانات الرسمية، التى تستيشر مزيدا من مخاوف المنتصرين بتصوير كيف كانوا على حافة الكارثة، ومزيدا من مخاوف المهزمين بشرح وبيان ما حققه القمع والقهر، وبالإمعان فى إدانة حضور العدو الخفى، الذى ما تزال أمام المجتمع أشواط فى سبيل القضاء التام عليه. وبدعوة المجتمع للتعاون من أجل التطهير النهائى فإن الخطب والبيانات المثيرة تفاقم حالة الخوف فى المجتمع بأسره.
الخوف الذى يتملك المهزومين، فى هذه المرحلة، هو نوع من الخوف الأولى الوجودى (أى الذى يتعلق بالوجود نفسه). فهم فى خوف من الموت، ومن التشويه الجسدى. وهم يخافون أن يختطفوا ويودعوا فى أماكن مجهولة فيصبحوا فى عداد المفقودين. وهم يخافون من التعذيب، ومن تدمير النسيج الثقافى الحضارى الضرورى لسلامة العقل والعاطفة، ويخافون من أن ينتزعوا من جذورهم وتفرض عليهم الحياة فى عالم مظلم. وخوفهم خليط من الرعب من المعلوم (الكلب العضاض)
المأزق السارترى -نسبة إلى الفيلسوف الوجودى الفرنسى جان بول سارتر والمقصود من هذا التعبير وضعا يضطر فيه الإنسان المستهدف إلى أن يختار بين أمرين، كلاهما مر.
والفزع من المجهول (الغرفة المظلمة) ومصدر معلوماتهم يقتصر على كلمات يقولها الأصدقاء والمعارف وهم يرون فظائع الإرهاب فى الشوارع وفى زنازين التعذيب، وفى المعتقلات والسجون. وأحيانا – كجزء من الحرب الدائرة فى المجتمع، يعلن العسكريون تخذيرات حكومية وتهديدات رسمية وفوق ذلك، تحاط الأشكال المختلفة للتعذيب والآلام بالشائعات والتجهيل وعدم اليقين والمباغتة. ويميل العسكريون إلى المبالغة فى حالة الترويع وعدم اليقين بإحاطة تعريف الأعداء والأشخاص المستهدفين وأشكال العقوبات بجو من الغموض المقصود، والإيحاء للناس بأنه طالما العدو موجود ونشيط فلا مناص من جرعات متصاعدة من القمع.
وإذ تصبح الدولة هى الوجود كله، ويصبح المجتمع غارقا تحت السطح أو مدفونا تحت الأرض، فإن النضال ضد الخوف يتجه إلى أن يصبح جهدا فرديا، مفتتا ومتناثرا. ويبحث الناس عن ملاذ فى أصغر النوبات، وأكثرها قربا إليه، فى الجماعة البدائية. (5) وفى بعض البلاد، تقوم مؤسسات (مثل الكنيسة) بدور مزدوج فى عملية التغلب على الخوف، حيث تقدم مكانا لإعادة الصلة بين الناس وتجميعهم، وجمع المعلومات والأخبار وتوزيعها، من أجل تقليل وطأة الغموض وعدم اليقين.
أما مخاوف المنتصرين، فإنها مخلفات من بقايا مخاوف فترة الأزمة التى كانت قد بلغت الذروة فى لحظة الإنقلاب. إنها مخاوف تعكس أحساسا بأن العسكريين قد نجوا من صدمة هائلة أو من تهديد خطير لأمنهم. والانفراجة النفسية التى تعقب الانقلاب تحول الخوف من الماضى إلى توجس تأمرى، وأحيانا إلى الاندفاع فى أعمال انتقامية معينة. وكلما تدعم النظام يخف هذا الخوف ويتجه للاختفاء. ولكن، بمجرد أن يشعر المنتصرون أن “شيئا ما يحدث”، مثل إعدام عدد من الناس أو أن أقارب الضحايا أصبحوا – هم أيضا – هدفا للاضطهاد والبطش، فإن الخوف مما كان يمكن أن يحدث فى الماضى يمكن أن يتحول إلى خوف دفين مما يمكن أن يحدث فى الحاضر، خوف من الوحش (فرانكنشبين) الذى ساعدوا على خلقه، الذى يخرج اليوم عن السيطرة. وفى المرحلة التأسيسية تحدث عملية تسامى لهذا الخوف الدفين، فى أوهام القيام بأعمال عظيمة ومنجزات هائلة.
العجز والتشامخ
تهدف المرحلة التأسيسية (أو التحويلية) للنظام، الذى يظل محتفظا بسماته القمعية، إلى إعادة تشكيل المجتمع وتدشين نظام اجتماعى جديد يتواءم مع نمط الرأسمالية الشمولية المطلوب . وذلك هو زمان المشروعات الكبرى . فيه يحاول العسكريون أن يأسسوا الأوجه المختلفة للحياة الاجتماعية ( أى يبتدعوا لها مؤسسات تحمل طابعهم)، وينفذوا سياسات تعيد الساعة إلى الوراء، وبالذات فيما يتعلق بالمكاسب الذى كان قد حققها الذين سبقوهم فى العمل الاجتماعى العام، خاصة فى القطاعات الشعبية. إنه زمان اختراع المثل العليا،” و المعجزات ” والمنجزات “الاقتصادية، والفتوحات المظفرة، والاستفتاءات بعد الاستفتاءات . والهدف من كل هذا إدماج القطات المسحوقة، رغم كونها مسحوقة، فى عملية خلق ” الدولة العظمي” أو ” ديمقراطية المستقبل الجديدة ” أثناء هذه المرحلة يجرى – داخل الكتلة المسيطرة- بناء النواة العسكرية / المدنية المهيمنة، التى تزود الآخرين بالخطوط المرشدة والمادة الأساسية للمشروع الرأسمالى الذى يهدف إلى إعادة تشكيل المجتمع وإعادة إدماجه . وبالاضافة إلى أن النواة الحاكمة لديها طموح أن تفتح السوق وتحدث بعض المجالات الاجتماعية، إلا أن أقصى أمانيها هو خلق مجتمع تصبح فيه السياسة غير ضرورية وغير ذات موضوع . ويسرف الجميع فى إطراء النظام العسكرى باعتباره الشرط التاريخى اللازم لخلق مثل هذا المجتمع .
فى هذه الظروف، يتجه برنامج المعارضة إلى أن يكون برنامجا اجتماعيا ثقافيا، حيث الأبنية السياسية، أى الأحزاب، لا تكون قد تمكنت بعد من إصلاح ما أصابها من تخريب وهدم، ولا تزال تحاول إعادة الصلة بحركة المجتمع . وتبدأ فى الظهور والانتشار الأعمال الأدبية والفنية التى تقتصر على التعبير عن قضايا حقوق الإنسان، تصور الواقع الجديد وتنقده، من جانب، وتعبر عن أشكال من مقاومة التحويلات التى تعيق التقدم التاريخى للحركة الاجتماعية، من جانب آخر . كذلك يحدث إنعاش وتجديد لنشاط النقابات والحركات النسائية وغيرها من القطاعات التى تأثرت بالتغييرات الاقتصادية / الاجتماعية التى فرضها النظام العسكرى . يضاف إلى هذه التحركات سخط قطاعات كانت قد أيدت النظام الدكتاتورى فى بدايته، حيث تبدأ تتململ من تجاوزاته وطول بقائه فى الحكم، أو تبدأ فى التعبير عن عدم الرضا العام عن التغييرات الاجتماعية والإقتصادية . هكذا تشرع المعارضة فى النهوض بمهمتين : إعادة بناء الروابط بين ما هو اجتماعى وما هو سياسى، والتحريض ليس فقط ضد الطبيعة الدكتاتورية للنظام، وإنما أيضا ضد الإجراءات التى يتخذها والسياسات التى ينتهجها . وعلى معارضى النظام، فوق ذلك، أن يقوموا بتلك المهمات فى وضعية تتميز بالتشرذم والتفتت . فالأصح أن نتحدث عن أكثر من معارضة، وليس عن المعارضة ككل، لأن مثل هذا الكيان الاجتماعى /السياسى لا تكون بالفعل .
ما هى المخاوف التى تسود المجتمع أثناء هذه الفترة ؟
طالما أنه لم تحدث أيه تغييرات محسوسة فى عمليات القمع، فإن مخاوف المهزومين تظل-جزئيا-امتدادا للخوف من البطش والتعذيب الذى ساد فى المرحلة الأولى . والتحولات التى حدثت فى المجتمع، والتى كان تأثيرها المباشر أشد على المهزومين، تجلب معها – أيضا – الخوف من المجهول الناتج عن التحولات المادية والثقافية التى يتعين على المهزمين الحياة فيه : وعلى الرغم من أن هذا النوع من مخاوف الحياة اليومية يمكن التغلب يمكن جزئيا فى الأماكن المتاحة للاجتماعات والاتصالات فى المرحلة التحويلية، إلا أن التغلب عليها تماما أمر مستحيل طالما ظل المجتمع متلفعا فى عباءة الأكاذيب وأوهام الأنتصارات والمنجزات، هذا الخوف الذى مصدره الغموض وعدم اليقين، خوف الغرفة المظلمة، مصدره أيضا العجز عن مواجهة الدولة الكلية القدرة، والعجز فى مواجهة التغيير، والعجز فى مواجهة الحاضر والمستقبل الخارجى على السيطرة .
فى هذه المرحلة، من الجانب الآخر، يتسامى خوف المنتصرين بانغماس مفرط ومعربد فى الاستهلاك والغرق فى توهم مستقبل يستبعد تماما إمكانية عودة الماضى، وفى الرد على ما يقال من أن ثمنا باهظا قد دفع بقول : ” ليكن . فنحن الآن فى أحسن الأحوال، وغدا سنكون أحسن ” . وإذا كانت الدولة الكلية الوجود والمجتمع المدفون تحت الأرض هما العاملان الأساسيات المكونان للمرحلة السابقة، فإن هذا هو زمان المجتمع المصاب بانفصام الشخصية ( الشيزوفرينيا )، زمان المنجزات والشموخ، والدفن تحت الأرض، والخوف .
الأمل وعدم اليقين
مرحلة الأزمات المتكررة، وهى ليست – بالضرورة – بعيدة عن الأزمة النهائية، يمكن أن تستمر وقتا طويلا. ما يحدث هو أن النظام العسكرى إما أن يفشل فى تحقيق مشروعه التأسيسى، أو أن هذا المشروع نفسد ينهار. حيئنذ يصبح لا هم للنظام إلا أن يستمر فى الحكم. وإذ يصبح النظام وليس لديه شيء يقدمه للمجتمع، فإنه يفقد القدرة على بعث حيوتيه، حتى بالقياس إلى قدراته السابقة، التى كانت -أصلا – محدودة وضئيلة.
ولأزمة المشروع لاتأسيسى (أو التحويلى) مؤشرات عديدة، من بينها: تفكك وتحلل النواة المسيطرة، وعزلة العسكريين عن المجتمع، وترويج النظام لسياسات غير متوقعة، (كثير منها متضارب مع سياسات المرحلة التحويلية)، والاعلان عن عزم النظام على القيام بمشروعات مشوشة وغير مدروسة. ومن المؤشوات أيضا، على الجانب الآخر، تصاعد الضغوط من طرف القطاعات التى تتمتع بقدر من التماسك، والتى فاض بها من النظام، ومن ثم، تبدأ عمليات التعئبة الشعبية، التى أطلقوا عليها اسم “بعث المجتمع المدنى” وتأتى عمليات للقمع والبطش المتزايدان، من جانب النظام، كرد فعل لهذا البعث. ويجبر النظام على عمل تنازلات، وإن تكن بنية إحتواء القطاعات القادرة على زعزعة استقراره. فى هذه الظروف، تصبح المشكلة التى على المعارضة التصدى لحلها هى تحويل السخط والتعبئة الشعبية إلى قوة سياسية موحدة ومتوازنة، قادرة على الانتقال من مرحلة الأزمات المتكررة إلى مرحلة الأزمة النهائية وتضمن هذه المهمة توحيد القطاعات التى فاض بها من النظام، والتقدم باقتراح لإنهاء الوضعية الراهنة، اقتراح يوحى بالمصداقية ويلقى الاتفاق من الجميع . فى هذه المرحلة، تبرز عوامل تساعد على تخفيف مخاوف المهزومين، منها: الإدراك الواسع، والمتزايد، لضعف النظام؛ والتعئبة الجماهيرية والانتقادات التى أصبحت على لسان الجميع ؛ والثغرات السياسية التى تفرض على النظام، وتسمح بتجميع القوى الشعبية فى تيار واحد. تفعل عمليات النقد والتعبئة فعلها فى تحطيم الحواجز والقيود التى كانت قد فرضت التشرذم والتفتت، ومكنت لقوى التخويف والترويع. والإحساس بحضور آخرين فى الساحة يقوى إحساس الفرد بالأمان. ويجرى التغلب على المخاوف الشخصية فى الحياة اليومية خلال العمل الجماعى بل ويتحول إلى إقدام وبطولة. والأمل فى التغيير يزيح بعضا من كوابيس الخوف الدائم والفزع المقيم . أما وأن مصادر الخوف ما تزال فى مواقعها ويمكن أن تطلق قوى البطش من عقالها فى أية لحظة، فإن عملية إزاحة الخوف لا تكون إلا جزئية. بعبارة أخرى. بعبارة أخرى ما يزال عدم اليقين (أوعدم الوضوح) موجودا، ويمكن أن يتزايد فى أية لحظة. وغالبا ما يحدث بعد انفجارات السخط الأولى، أن تعود الخطب والبيانات الرسمية مخاوف الأيام الأولى للانقلاب، والترويع من ذكريات “الفوضى” وتصيب نيران الخوف، التى أعيد تأجيحبها بعض قطاعات كانت قد بدأت تعبئ قواها ضد النظام. فما تكاد تتبدد طاقة الانطلاق ومشاعر الفرحة الأولى، إلا وتبدأ هذه فى الانسحاب أمام التهديدات والإنذرات، وبفعل عدم الوضوح وعدم اليقين. وفى هذا الجو، أيضا، تشتعل مخاوف على الدعاية الحكومية التى تنذر وتخدر من “العودة إلى الفوضي” وتصبح المشكلة الأسياسية التى على المعارضة التصدى لحمها هى كيف يمكن التقليل من الشعور بعدم الوضوح (أو عدم القين) فيما يتعلق بالنظام. ذلك أنه – فى مواجهة نظام ممزق ومفلس- تبدو المعارضة عاجزة عن تقديم مشروع واضح لإنهاء الوضعية الراهنة. أى أنه على الرغم من أن الولاء للنظام قد انتهى، إلا أن الخوف من التغيير ما يزال موجودا.
ارتدادات- وبقايا نظام - وطرد كوابيس الخوف
المشكلة المركزية فى المرحلة الختامية هى اكتشاف وصياغة أشكال وآليات الخروج من الأوضاع التى وصلت إلى أزمتها النهائية – كيف تنزل القوات المسلحة عن مواقعها. والمشكلة فى المرحلة الانتقالية، التى يمكن أن تتطابق مع المرحلة النهائية، هى إقامة نظام بديل – الذى هو، فى هذه الحالة، نظام ديموقراطى. وتلك عملية تحتوى- أساسا – على: تحلل النظام؛ والتعبئة الاجتماعية فى ارتباطها مع آهداف سياسية/ مؤسساتية؛ ومفاوضات بين السلطة والمعارضة (طالما أن التحولات تحدث بغير هزيمة عسكرية ودون الالتجاء إلى العصيان المسلح)؛ وعمليات وساطة بين النظام والمعارضة بواسطة وسطاء لا ينتمون إلى الأطراف المتنازعة (7) تسعى النواة التى فى مركز السلطة، مع القطاعات المسيطرة، إلى المحافظة على سلامة القوات المسلحة والإبقاء على ما تتمتع به من حصانة رسمية؛ والتمسك بأقصى ما تستطيع التمسك به من امتيازات ومكاسب كانت قد حصلت عليها. ومن جانبها، تسعى المعارضة إلى ضمان التقدم الحثيث نحو الأنتخابات الديموقراطية والحكم الدستورى، بينما تحاول قطاعات كثيرة من المعارضة استثمار الفرص التى تتيحها الفترة الانتقالية فى إحداث تغييرات اجتماعية تعبر عن الاستجابة لمطالب متراكمة. غير أنه من الأرجح أن تظل محاولات تعميق عملية التحول الديموقراطى معلقة إلى أن تجئ مرحلة الدعم، التى تلى ذلك.
فى هذه المراحل، يكون الخوف هو خو ف المنتصرين، (أو – بالأحرى – من كانوا منتصرين)، ثم أصبحوا مهزومين. ويتحقق المجتمع، على نحو متزايد، من حجم الجرائم التى ارتكبوها، وتتسع المطالبة بتحقيق العدالة وانخال العقاب بمرتكبيها الذين أصبحوا – هم أيضا – على وعى لا لبس فيه بالأثام التى اقترفت، وباتوا فى خوف من أن تنقلب المناضد عليهم. ويدفع هذا الخوف أجهزة القمع إلى أن تلعب بآخر أوراقها، فيحاول البعض القيام بانقلاب وقائى، ويعلن آخرون أنهم كانوا غير مذنبين، بينما يحاول فريق ثالث التفاوض من أجل السلامة الشخصية وإتاحة فرصة أمامهم لبداية جديدة.
وأخيرا، هل يعنى إنهاء النظام العسكرى والانتقال إلى الديموقراطية السياسية أن الضحايا والمهزومين السابقين لن يعيشوا تحت وطأة الخوف بعد ذلك، وأنهم بسبيلهم إلى الولوج فى مجتمع لا يعرف الخوف؟
يمكن اعتبار أن المرحلتين، النهائية والانتقالية، هما مرحلتا التخلص من الخوف. فعملية التعبئة الشعبية التى تحقق مزيدا من الانتصارات، تقوى الإحساس بالأمن الشخصى، تقوى إحساس الفرد بأن ثمة من يحميه. والأجهزة القمعية تنهار بوضوح. وتفرض ضمانات واضحة بأن الجرائم التى ارتكبت سيحاسب مرتكبوها. وفى الواقع الموضوعى توجد حريات متزايدة. والنهاية الوشيكة للمنتصرين السابقين تجعل الأفراد والجماعات تتنفس الصعداء بارتياح كذلك يحدث النشر الواسع لمعلومات عما كان يحدث، والإدانة الجماهيرية لما اقترف من جرائم – يحدث نوعا من التنفيس النفسانى، الفردى والجمعى، الذى يخفف كثيرا مما كان قد أثقل على النفوس والقلوب، ويخلق نوعا من التعاهد الجمعى على أن نحول دون أن ينزل بالمجتمع مثل هذا الوباء فى المستقبل:
ولكن يحدث أيضا – على الرغم من كل شئ – ألا يشعر عدد كبير ممن بقوا على قيد الحياة بأنهم قد تخلصوا من الخوف، وأن ماتزال فى نفوسهم جروح لن تندمل. وهذه التركة (أو هذه الأعباء النفسية المعنوية) لا تقتصر آثارها على سلوكهم الفردى وحياتهم الخاصة، بل تمتد أيضا لتصيب قدرتهم على التواؤم مع المجتمع والثقة فى الأخرين، أفرادا وجماعات، وقبولهم أو رفضهم للسياسة. ولكن هذا موضوع يحتاج إلى مزيد من البحث والتفكير.
إنتاج الخوف والتغلب عليه
كانت دكتاتوريات المخروط الجنوبى (الأرجنتين، البرازيل، شيلى، أورجواي) أنظمة ممأسسة (6) معدة بقصد صناعة الخوف وإشاعته. اعتمدت تلك الأنظمة على أجهزة، لم تكن معروفة من قبل، للقمع والبطش والدعاية. وتعمدت أن يعم الخوف فى المجتمع بين المهزومين (الذين هزمهم الانقلاب العسكري) بمختلف أساليب القمع ووسائل الدعاية. وعلى نحو غير مباشر، شاع الخوف بين المنتصرين أنفسهم، لأنهم ما كانوا ليقدروا على الإلغاء التام لوعيهم بالجرائم والمؤامرات التى انغمسوا فيها. ثم إن الخوف شاع وانتشر، على نحو مباشر وغير مباشر معا، خلال التأثيرات المشتركة للسياسات القمعية، وإلغاء دور المؤسسات التى تحمى الناس، والنمط الذى يفرضه النظام للتحول الاجتماعى وجدت هذه السمات فى كل تلك الأنظمة، وإن اختلفت فى الدرجة من بلد إلى آخر.
جمع النظام بين الخوف مما هو معروف (الكلب العضاض) ومما هو مجهول (الغرفة المظلمة). ينفث النظام الخوف مما هو معروف بالبطش والإكراه البدنى، والصياح بالتهديدات والتخديرات، وإحكام القبضة على المجتمع، والدعاية المستمرة، والوجود الكلى بسلطةالدولة، أما الخوف غير المباشر، فإن النظام ينفثه بالحذف والتغييب: بالإعلام المغلوط، وعدم وجود قواعد “للحرب” الدائرة فى المجتمع، وعدم وجود أماكن يمكن أن يتعارف فيها الناس ويحسوا بدفء وجود الآخرين، والإحساس بحيويتهم كذلك، ضخم النظام الجوانب والممارسات الاعقلانية فى المجتمع، وانتهج وسائل وأساليب تحكمية أوتوقراطية لفرض التغيير.
وعلى الرغم من أن الإلغاء التام للخوف أمر مستحيل، إلا أن محاولات التغلب على الخوف تظل دائما تتخلل مسام النظام الصانع للخوف. يحاول المنتصرون التغلب على الخوف بالانغماس فى حمى الاستهلاك، وفى أوهام الشموخ والعظمة القومية (القصيرة العمر). ولكن هذه ليست إلا وسائل زائفة للتغلب على الخوف. أما المهزومون والضحايا، والمنظمات والمؤسسات الاجتماعية والدينية والسياسية التى تدافع عن قضاياهم، فإنها تمكنت من إيجاد وسائل حقيقية وفعالة للتغلب على مخاوفهم. فالنضال لكسب الحريات المدنية، وتعبئة الطاقات والموارد للدفاع الذاتى (حيث مهمات الجهاز القضائى – فى جوهرها – ملغاة) ومحاولة الكشف عن الجرائم وإدانة مرتكبيها، وتعبئة القوى للوقوف ضد التعذيب والاختطاف وفظائع الجهاز القمعى فى حملته – هذه كلها ليست إلا جهودا بذلت للتغلب على الخوف من التهديدات والمخاطر المعروفة، أو التخفيف منها، كذلك كان النضال من أجل الحرية الإعلامية، ومن أجل الإقرار بشرعية الجماعات المنظمة، ومن أجل المشاركة ومن أجل حرية ودعم التنظيمات الاجتماعية والسياسية القادرة على مواجهة عمليات التفتيت والتشرذم الاجتماعى- كل هذه تدخل فى عداد محاولات تضيف مساحة العجز وانعدام اليقين، ومحاولات التغلب على المخاوف التى تولدها.
فما هى بعد أن ينتهى النظام العسكرى، التركة التى تخلفها معاناة كل هذه المخاوف؛ أحد الاحتمالات هو أن تكون عمليات إنهاء النظام العسكرى والانتقال إلى الديموقراطية قد جرت على نحو لم يسمح بالتخلص الحاسم من الخوف، وأن الحاجة ما تزال ماسة لمزيد من الوقت والنضال لا تصاص العملية والتغلب على الخوف. وعلى كل حال، يبدو أن التاريخ شاهد على أن الخوف ينال، بدرجة عالية نسبيا، من الأفراد، ويخلف آثارا محسوسة على سلوكياتهم، بينما تتوفر المجتمعات على طاقة هائلة لامتصاص الصدمات، والتطلع إلى المستقبل دون الرجوع المباشر إلى ما فى الذاكرة وذلك أحد أبعاد المجتمع، يستحيل فهمه منفصلا عن تاريخه. ولكن، توجد أيضا طاقة كامنة خلاقة، لا يمكن أن تختزل إلى ذلك التاريخ فحسب. ومن ثم، فنحن مواجهون بأحد المجاهيل الهامة. نحن لا نعرف كم يتبقى من الخوف الذى صنعته الأنظمة العسكرية يظل بعد انتهائها يطارد الأفراد ويفزع رؤاهم، ويشوش الذاكرة الجمعية ويلطخ صفحاتها.
الخوف كما سبق أن ذكرنا، يستحيل إلغاؤه تماما. ولكن، إذا كان مـقدرا للمجتمعات الديموقراطية الجديدة أن تحرر نفسها من الصدمات والأشباح التى لابد وأن تظل تفعل فعلها، فإنه يتعين على هذه المجتمعات أن تدخل فى صراع مع التركة التى خلفها الخوف. إن عمليات التنفيس وطرد المخاوف التى ميزت المرحلة الانتقالية يجب أن تصطحب بعملية ذات شقين: الأول هو أن المؤسسة التى ولدت الخوف، أى القوات المسلحة، يجب إخضاعها لضوابط صارمة من طرف المجتمع والنظام السياسى. كذلك يجب تحجيم القوات المسلحة، كما وكيفا. ويجب أن تـستبعد، من عمليات التدريب والإعداد، الإيديولوجيات التى من نوع “عقيدة الأمن القومى “، التى – من بين أشياء أخرى – أقامت الحواجز بين العسكريين والمجتمع، وأعطتهم مهمة خاصة، هى السيطرة على الآخرين. والشق الثانى هو تقوية المؤسسات التى من نوع الهيئة القضائية، من آجل إيجاد حل حاسم للمشكلة المعلقة، مشكلة التغلب الحاسم على الخوف. ويمكن أن تقتصر هذه العملية على كشف الحقائق عن الجرائم التى ارتكبت، ونشرها – إن كان من المتعذر توقيع العقوبات على مرتكبيها، ودفع التعويضات لضحاياها. ويجب أن توجه جهود لخلق وتقوية مؤسسات لمواجهة نمطى الخوف اللذين آنتجتهما الأنظمة العسكرية، أى للتخفيف من التهديدات والمخاطر المعروفة. والمؤسسات المعنية هى من النوع الذى يعزر ويصون حريات الأفراد والجماعات، ويجرى إصلاحا قضائيا، ويوفر إمكانات وموارد لحماية الأفراد، ويحد السلطات المتاحة لمختلف الأجهزة. كذلك يجب إقامة وتقوية المؤسسات التى تعزز المشاركة وحرية الإعلام والمعلومات، وتساعد على تخفيف الخوف من المجهول.
إن التحدى الذى تفرضه المخاطر الذى تعقب إنهاء الأنظمة العسكرية، والمتمثلة فى استمرار وجود هيئات أو تنظيمات تصنع الخوف، وفى ضعف المؤسسات الموروثة – هذا التحدى يستوجب تكوين قوة سياسية قادرة على خلق اتفاق يلتف حوله الجميع، على إقامة وتطوير مؤسسات تستطيع بناء مجتمع – لا نقول خال من الخوف، وإنما – على الأقل – مجتمع قادر على دفن مخاوف الماضي
(الهوامش)
1- أنظمة تراجعية retrogressive regines – تمييزا لها عن الأنظمة الرجعية reactionry. لأنه إذا سمينا الأنظمة العتيقة التى كانت تقاوم الانتقال من الاقطاع إلى الرأسمالية فى أوروبا فى القرن التاسع عشر – إذا سميناها “رجعية” فإن الأنظمة التى تكون قد انتقلت بالفعل إلى الحداثة، ثم حدث انقلاب فاشى ( عرقى أو عسكرى أو ديني) يرجع بكثير من مؤسساتها إلى ظلام القرون الوسطى، فإنها تعتبر “تراجعية”
2) the primary fear of death – الخوف الأولى من الموت، أى الخوف المتعلق بالعناصر الأولية للحياة.
3) The Sovthern Cone – المخروط الجنوبى فى أمريكا اللاتينة، والمقصود هنا – كما سيتضح بعد قليل: الأرجنتين، البرازيل، شيلى، أورجواى.
4) oligarchy – وهى دولة تهيمن علها جماعة صغيرة همها الاستغلال وتحقيق المنافع الذاتية
5- المأزق السارترى – نسبة إلى الفيلسوف الوجودى الفرنسى جان بول سارتر، والمقصود من هذا التعبير وضعا يضطر فيه الإنسان المستهدف إلى أن يختار بين أمرين، كلاهما مر.
6) Institutionalized Systems – أى أنظـمة قائمة على مؤسسات، إيديولوجية وسياسية وإدارية، محددة، مدروسة ومعدة ومجهزة، بقصد وتدبير وسبق الإصرار.