الافتتاحية (2)
العمل الجماعى هو الحل
أ. فريد زهران
لاشيء يعادل الإحساس بالوحدة فى مرارته، ولاشىء يعادل الإحساس بالأسى إلا أن ترى على ساحة العمل العام أشخاصا منغمسين فى وحدتهم الموحشة دون أن يعلنوا عن شعورهم بالمرارة، وأحيانا، وإمعانا فى الغرابة- دون أن يشعروا بأى مرارة أصلا!، وقد يرجع ذلك لأن البعض مستغرق حتى الثمالة فى الاشتباك مع طواحين الهواء بصورة دون كيشوتية تمتزج فيها السذاجة المفرطة بقدر أو آخر من البلاهة، والبعض الآخر يؤدى دوره “المرسوم”على ساحة العمل العام بروح وطريقة “الموظف “المصرى الآن الذى لا يعنيه سوى ما يتقاضاه من مرتب آخر الشهر ولا يشغل باله كثيرا بجدوى أو نتيجة ما يفعله .
إن اللذين يشعرون بمرارة العمل الفردى وعبثيته قد طردوا – أو خرجوا بمحض إرادتهم – من مؤسسات العمل العام الفردية الطابع والأداء، واحتفظت هذه المؤسسات لنفسها – أساسا – بالسذج والموظفين إلى جوار قلة قليلة تعض على وجودها داخل هذه المؤسسات بالنواجز مخافة الخروج إلى قارعة الطريق، لأن ذلك قد لا يحرمهم من أى عمل عام فحسب، بل سيجعلهم أيضا يسقطون فى براثن وحشة خانقة وقد ابتعدوا عن “المجتمع “الذى يعرفهم ويعرفونه بصرف النظر عن موقفهم أو ملاحظتهم على هذا المجتمع . ترى كيف يمكن لنا أن نخرج من هذا الوضع الخانق ؟!
يقول بعض المتفائلين عن جهل واضح أو يأس دفين – أن النفط الذى أعطى الحل الفردى مبرره الموضوعى وأفقد العمل الجماعى المطلبى جدواه – قد أوشك على النفاذ ومن ثم فإن الأمور – بعد زوال النفط كسبب – ستعود إلى ما كانت عليه، وبعودة العمل الجماعى المطلبى – الذى يعد عصب العمل الجماعى الطوعى المنظم – ستدب الروح الجماعية من جديد فى أوصال الوطن .
نحن نرفض هذا الكلام جملة وتفصيلا لأننا نعرف أن أربع بلدان عربية خليجية (هى بالتحديد : السعودية – الكويت – الإمارات – العراق ) تملك 55% من إجمالى احتياطات النفط فى العالم وتستطيع إمداد العلام بما يحتاجه من نفط وفقا لمعدلات الإنتاج الحالية لما يقرب من قرن كامل !، ومن ناحية أخرى فإن الناس قد تعودت على النمط الفردي، ولذا فإن نفاذ النفط لن يؤدى أتوماتيكيا إلى تغيير مزاج الناس وطريقتها فى التفكير والأداء، ونحن نسوق هذه الحجة الأخيرة إذا كان من المنطقى أصلا أن ننتظر قرنا كاملا حتى ينفذ النفط !!
ويزيد من قتامة الصورة وسوداويتها فى مصر أن الهامش الديمقراطى الذى نحيا فى ظله لا يتجاوز حدود حرية الرأى والتعبير ولا يمتد أبدا ليشمل حرية العمل الجماعى المنظم، وفى ظل هذا الهامش الديمقراطى المحدود، وفى ظل استمرا النفط قادرا على جذب مئات الألوف من المواطنين إلى مستنقع الحل الفردى المهين بكل ما يترتب عليه من ثقافة متخلفة وتطهرية، ينبغى أن نبحث عن نقطة بداية تنطلق من الوضع المأساوى الراهن الذى أصبح فيه معظم المثقفين المصريين بدون اطر أو أشكال جماعية تنمى من قدراتهم وتزيد من فاعليتهم، بل على العكس فهؤلاء الذين خرجوا من مؤسسات العمل العام لأنها مؤسسات فردية قد تحولوا هم أنفسهم – ومع الوقت – إلى حالات معادية للعمل الجماعى بحكم ما اعتادوا عليه من ممارسه لسنوات طويلة رغم أن هؤلاء المثقفين انفسهم قد نجحوا بشكل فردى وتحول بعضهم إلى نجوم وهامات فكرية سامقة، وهو الأمر الذى يزيد من صعوبة اندماجهم أو انخرطهم مرة أخرى فى عمل جماعى .
بصياغة أخرى نحن إزاء مجموعة مؤسسات عمل عام هرمه، عجزت أو ترهلت، وليس من المتوقع أن تقوم لها قائمة، وفى نفس الوقت نحن إزاء مئات أو آلاف المواهب والكفاءات والملكات الفكرية والثقافية والسياسية المبعثرة فى كل المجالات تقريبا، ومعظم هؤلاء الموهوبين الأكفاء قد نجحوا فى صياغة نوع من النجاح الفردى المهنى أو العام – بصورة تجعلهم لا يشعرون البته بأن هناك ما ينقصهم، أو أن هناك ضرورة ملحه من أى نوع لخوض معارك بناء عمل جماعى أيا كان .
ونحن من جانبنا نرى أن الأمورلا يمكن أن تسير على هذا النحو، وإذا كان أمن مصر الخارجى قد انهار فى 67 فإن أمن مصر الداخلى قد انهار مع عملية الأقصر بطريقة تؤكد لكل من يعنيه الأمر أن الأمور لا يمكن أن تسير على هذا النحو، فلسنا إزاء أخطاء ارتكبها رجال شرطة – رغم أن هذه الأخطاء موجودة – وإنما نحن وبالأساس إزاء حالة من التخبط لم تعرفها مصر من قبل لدرجة أن د. الرخاوى – وهو مالم يفهمه الكثيرون – كان يضع يده بشجاعة ووضوح على جوهر المشكلة عندما أعلن أننا فى عرض أى نظام حتى لو كان هذا النظام استبدادى على غرار النظام السورى وكان د. الرخاوى ينبهنا بذلك الى أن الدولة المصرية تفتقد إلى الحد الأدنى من التوحد والتناغم القادر على صياغة اتجاه واضح أيا كان هذا الاتجاه، وكلنا يعرف كيف أن الكثير من وزارء مصر وأقطابها الحاكمة مشغولون بالصراعات الشخصية على المغانم المبتذلة أكثر من انشغالهم بأى شيء أخر، ولا تبدو الصورة فى المبعثرين الذين لا يعرف معظهم مجهود وانتاج بعضهم البعض .
لقد لاحظ د. الرخاوى كيف أن الأصوات العاقلة والأفكار النيرة لاتصل إلى من يعنيه الأمر، ومن ثم فهى لا ترى النور، وأنا اعتقد بوضوح أن السر وراء ذلك أن هذه الأصوات فردية ومن ثم ضعيفه، ولا تشق طريقها عبر ضجيج الأصوات الأخرى لكى تفرض على من يعنيه الزمر أن يسمعها، حيث باتت الأصوات الممزوجة بدوى الرصاص هى الاصوات الوحيدة التى تصل إلى من يعنيه الأمر، لكى نفاجأ جميعا – وكأننا سكان كوكب أخرـ أن جماعات التطرف الاسلامى كانت تتحاور مع الدولة أو مع من يعنيه الأمر – لعشر سنوات مضت! عن أى حوار يتحدثون؟! كلنا يعرف أن الحوار بين أفكار التطرف الإسلامى والقوى الديمقراطية والعلمانية محتدم على صفحات الصحف وبين دفتى الكتب، فهل يعتبر مادار فى خفية عن الناس حوار ؟! أما كان أجدر بهم أن يطلقوا عليه “مفاوضات”؟! نحن أميل لهذه التسمية على اعتبار أن الاتصالات بين الدولة والجماعات الإسلامية المتطرفة كانت وكأنها اتصالات بين طرفين متنازعين بغرض تسوية النزاعات بينهما والوصول إلى اتفاقات عملية.
والسؤال المطروح هو: لماذا لم تعلن الدولة عن هذه المفاوضات فى ظل هدنة بدلا من أن تتواصل الاتصالات ويتواصل سقوط رجال الشرطة والمواطنين والسياح؟!
نحن نرفض هذه المفاوضات ولكننا نرفض أيضا وبنفس الدرجة والقوة هذه الميوعة التى تنتهجها الدولة ونريد لها أن تحدد موقفا واضحا حتى يتسنى لآخرين أن يحددوا منها هى نفسها موقفا واضحا، ونرفض أيضا وبنفس القوة التكتيكات التى تجرى فى الظلام، وفى نفس الوقت فنحن مع استمرار الحوار حول قضايا تحديث وإنماء مصر مع كل القوى الراغبة فى ذلك، ونحن نرى أن ذلك قد بدأ منذ فترة طويلة وانتعش مع الهامش الديمقراطى الحالى. ومن المقدر له أن يستمر لفترة طويلة أخرى .
صياغة مشروع جماعى – أو بالأحرى مشاريع جماعية – هو الحل الوحيد للنجاة وفى ظل تصدع مؤسسات العمل العام فى مصر الآن ووقوعها فريسة للعمل الفردى والموظفين أنصاف الموهوبين فإن عبء هذه المهمة ملقى على عاتق المثقفين المبعثرين اللذين اعتادوا أن يعيشوا حياتهم كأفراد ناجحين، والأمر إذن فى حاجة إلى تضحيات جسيمة وجهود مضنية لكى ينجح هؤلاء المثقفون فى مد جسور من التواصل بينهم من خلال حوار واسع وعميق حول هموم الوطن وقضاياه، ومثل هذا الحوار يتوفر له بعض الشروط والتقاليد التى قد يتسع لها مقال آخر بإذن الله.