إضعاف المعارضة . . فكرة للتسويق الدولى!!
د. جمال على زهران
درجت أدبيات النظم الديمقراطية على إقرار مبدأ الاعتراف بالحرية والمساواة بين الجميع سواء أكانوا أفرادا أم قوى سياسية أم قوى اجتماعية أو تنظيمات، ومن هنا برزت فكرة التعددية من خلال اقرار كل طرف بعدم التجاوز ازاء الطرف الآخر، أى برزت التعددية بمنطق المساواة أو التساوى إتساقا مع فكرة الأوانى المستطرقة التى مهما تعددت فإن إلقاء بعض الماء أو السوائل فى أول إناء يعنى أن تتساوى الارتفاعات بين جميع الأوانى المترابطة أو المتصلة. وهكذا ارتبطت فكرة الديمقراطية كقيمة بالعديد من المظاهر الدالة على وجودها كالحرية والمساواة والتعددية، وجميعها تدور حول التسليم بالاعتراف بالآخر الذى هو فى النهاية اعتراف بذاتى عندما تدور الدوائر وتتحرك السلطات من الكراسي.أو بمعنى آخر عندما تتبدل المواقع ويصبح من كان فى الحكم، فى موقع المعارضة أو العكس بالعكس.
كما أنه من الواضح، شيوعا، أن الديمقراطية قد اتسع مداها، وتعددت دوائرها كأمواج البحر، وذلك منذ سقوط تجربة الاشتراكية، وتفكك الامبراطورية الثانية المتمثلة فى الاتحاد السوفيتي. فانتقلت هذه الكتلة من خلال أشلائها التى كانت ضمن هذا الكيان، فضلا عما ارتبطت به الدول فى أوربا الشرقية، إلى الديمقراطية الغربية، وقد استدل على ذلك من خلال تعدد الأحزاب وعدم انحسارها من قبل، فى الحزب الشيوعي. كما أن التنظيمات المختلفة بدأت الدخول فى عالم التعدد والتنوع وإن كانت الأمور لازالت خاضعة لحسابات معقدة، وتداعى فى أثر ذلك، سقوط فكرة الحزب الواحد دوليا لحساب هذا التعدد بحكم سقوط التجربة فى القطب الذى كان يسير فى فلكه العديد من الوحدات الدولية المسماة بالدول القومية.
وعلى الجانب الآخر، نرى أن هناك شروطا معلنة من جانب قوى الغرب بزعامة الولايات المتحدة بضرورة مراعاة حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية والحرية، كأساس للتعاملات الاقتصادية مع الغرب، محاولة منها فى ممارسة الضغوط على بعض الدول المتميزة والتى لها تأثير القطب على من هم حوله من توابع يسيرون فى فلكة ونموذج ذلك ما ظهر فى التعامل الأمريكى مع الصين، عندما كانت تشترط الإدارة الأمريكية عليها مثل هذه الشروط لكى تمنحها الدولة الأحق بالرعايا مما يعطيها مزايا تفضيلية فى عملية الاستيراد والتصدير، وذلك إلى أن جاءت إدارة كيلنتون لتنفى هذا الشرط كوسيلة للمقايضة، لكن تعتبره وسيلة ضغط عامة على النظام الصينى، وهو ما ظهر فى اللقاء الأخير بين كلينتون والزعيم الصينى فى واشنطن، كما أن أوربا ذاتها تشترط على تركيا ولأسباب عديدة، ضرورة مراعاة حقوق الانسان كشرط أساسى لانضمامها للاتحاد الأوربى، فى الوقت الذى تسعى فيه تركيا لبذل كافة الجهود إلى حد الركوض – والتحالف مع اسرائيل مرضاة للغرب أو كوسيلة ضغط بإظهار المحاباة لأحد ركائز الغرب فى المنطقة وحامية لمصالحه. ولكن الانحناء لم يأت بنتيجة حتى الآن ,وإن كان فى الطريق إلى تخفيف القيود تدريجيا لاحتواء هذا القطب الإقليمى القادم ‘تركيا’ .
فضلا عن هذين النموذجين، فإن أوربا الشرقية، بل وروسيا ذاتها تحصل على دعم الغرب مقابل استمرار التعددية والاقتصاد الحر. وفى هذا السياق تظهر دول أمريكا اللاتينية التى استقبلت عددا منها الرئيس كلينتون مؤخرا، وكذلك عددا من الدول الأفريقية عندما قامت أيضا مادلين أولبرايت وزير خارجية الولايات المتحدة بزيادتها لحثها على الاستمرار فى التعددية السياسية، ومحاضرة الفكر الواحدى، وإن كانت هناك خفايا أخرى من وراء الزيارة إلا أن المعلن هو دعم النظم الديمقراطية ومن يسير فى هذا النهج، بدعم اقتصادى مواز!!
أما فى الواقع العملى، فان السؤال المطروح هو: هل يسير الواقع فى ظل مختلف المتغيرات وعلى كافة المستويات فى ظل منطق التعددية، واحترام الآخر، والافساح للجميع – مهما كانت أفكاره فى التواجد والاستمرار على المسرح الداخلى أو الاقليمى أو الدولى، أم ماذا؟
فعلى الصعيد الداخلى، يلاحظ أنه من خلال تأمل ما يجرى فى العالم، وجود عدد من الأنماط المحددة للعلاقة التعددية المتوازية وغير المتوازية. ويشير النمط الأول إلى ذلك النوع من الدول التى استقرت فيها قواعد اللعبة الديوقراطية ومبدأ اقرار التعددية والاعتراف بالآخر حتى لو كان هذا الآخر معاكسا للاتجاه العام. وإن كنا غير متجاهلين لوجود ‘توافقات ضمنية’ بين جميع الأطراف المتصارعة على الأسس والمباديء، مع اختلافات شكلية فى الأساليب والأدوات. وهذا النمط يتركز فى الشمال الأمريكى، والغرب الأوربى عموما، وهذا ما عبر عنه ‘موكوياما’- يابانى الأصل أمريكى الجنسية فى مقالته الشهيرة ‘نهاية التاريخ’ والمقصود هيمنة هذا النمط فى ظل سقوط وانهيار الشرق باستبداده واشتراكيته رامزا بذلك إلى القطب الثانى – الذى كان – وهو الاتحاد السوفيتي.
أما النمط الثانى، فيتمثل فى الديموقراطيات الحديثة التى تحولت إلى هذا النمط الغربى بفعل ضغوط التحولات والتغييرات، فسارت فى الركب خشية الانهيار الكلى، وكوسيلة للحصول على الدعم الاقتصادي. وتركز هذا النمط فى دولة الاتحاد السوفيتى التى أصبحت – روسيا – ومعها (14) دولة أخرى مستقلة، بالاضافة إلى دول أوربا الشرقية. وهؤلاء جميعا تتم معاملتهم من جانب الغرب على أساس المقايضة. حيث تسودالديمقراطية الغربية مع الاقتصاد الحر الرأسمالى، يمكن للمعونات والمساعدات والاستثمارات أن تتدفق عليها، وفوق هذا الرضى الأمريكى والأوربي.
ولولا أن هذه الدول قابلة لهذا الافتراق وتلك الضغوط من الخارج، لما سارت فى هذا النهج. ورغم أن الانتخابات فى أغلب هذه البلدان على مستوى رئاسة الدولة، أو على مستوى البرلمانات، قد أتت بأصحاب الاتجاهات اليسارية والشيوعية، إلا أن هؤلاء من طراز جديد قابل للتعديل والتكيف واعادة الهيكلة، وقادر فى نفس الوقت على المساومة.
ولا ضرر لدى الغرب المهيمن بآلياته، طالما أن أهل الحكم من هذه الدول يحافظون على قاعدة الاتفاق باستمرارية التعددية وفقا لنهج غربى، واقتصاد ليبرالى غربى بطبيعة الحال. وإذا خرجت احدى الدول الأعضاء فى هذا النمط عن ذلك، فإن الجزاء والتهديد بالعقوبات جاهز للتنفيذ فأى اعتراف اذن بالآخر الذى من المفترض أن يسير وفق ارادته؟!
وتأكيدا لهذا الاستخلاص فإن الغرب غير قادر على تقبل فكرة تغيير الرئيس الروسى ‘يلتسين’ ومن ذلك مثلا كان التدخل الأمريكى مع انحياز كلينتون شخصيا ورسميا إلى نجاح يلتسين فى الانتخابات الروسية فى صيف العام الماضى (1996). وذلك باعتبار أن شخص يلتسين هو المناسب للمرحلة التى يتم بمقتضاها تقويض الآخر نهائيا واضعافة كقوة معارضة تمهيدا للاخضاع التام والسيطرة النهائية عليه.
كذلك فان هناك أنماط أخرى فى أمريكا اللاتينية حيث تلعب فيها الولايات المتحدة بارادة منفردة بحكم جغرافية المكان، وهذه الدول تمارس فيها الديمقراطية التى لا تهدد المصالح الأمريكية، ومن ثم فان أى خروج عن ذلك يقابل بالحصار مثلما يحدث فى كوبا – العضو النشاذ – فى تلك القارة. ولذلك فان بقية دول هذه القارة الجنوبية استسلمت لهذه الأوضاع بدون مقاومة، لأنه لم يعد عليها منافسة من آخرين، مثلما كان يحدث خلال وجود الاتحاد السوفيتى على خريطة العالم كقوة عالمية منافسة. أما النمط الآخر فى أفريقيا، فإنه يشهد صراعا ‘أمريكيا فرنسيا إنجليزيا’، وفى النهاية هو صراع مصالح وقتى لكن الجميع يتفقون على عدم الاعتراف بالآخر، بل إنه ليس من الضرورى الافساح للمعارضة التى يمكن أن تهدد الكثير من المصالح الغربية فى حالة وصولها للحكم. ولذلك فإن الابقاء على ما هو قائم – دون الاعتراف بالآخر – هى الآلية للتعامل الغربى مع غالبية الدول الأفريقية. وإذا حدث وصول معارضة للحكم، فان البديل هو احتواؤها ثم مساندتها وهوماحدث فى ‘الكونغو كينشاسا’ التى أصبحت ‘الكونغوالديمقراطية’ كلافتة يتخفى وراءها الآخر كسبا للاعتراف، وإعلانا عن القابلية للاختراق، وسعيا نحو أداء الدور الذى كان من هم قبله يؤدونه باحتراف!!
كذلك الأمر فى أسيا، وأن كان الأمر يختلف لوجود تباينات كثيرة يصعب احتواؤها حتى الآن، وإن كان المخطط هو عدم الاعتراف بالآخر فى هذه البلدان ولكن بطريقة ‘الخطوة – خطوة’ فالتيار الإسلامى فى إيران وأفغانستان وباكستان ودول وسط آسيا الإسلامية، لهم طريقة لتفويضهم نهائيا انطلاقا من عدم الاعتراف بالآخر الإسلامى، وهذه الدول تمارس الديمقراطية والتعددية بطريقتها بحيث أنه فى النهاية يسود هذا التيار دون غيره، والمساعى الخارجية تبذل فى الاتجاه المضاد. كما أن دولا أخرى كالصين والهند ودول جنوب شرق أسيا، فإن قبول أوضاعهم الداخلية عل مختلف تناقضاتهم تأتى فى سياق تربص للفرصة لاستغلالها فى تقويض الآخر القائم، وليس عن قناعة بهم أن يسكت الغرب عنهم حاليا.
وهنا يلاحظ أن التقدم الاقتصادى الذى حدث فى عدد من الدول الأسيوية له أسباب مختلفة، وهو خروج عن خط التطور الذى حدث فى الغرب الأوربى والأمريكي. ومثل هذا النمط يمكن أن يشجع آخرين على عدم الخضوع لهيمنة مراحل التطور الغربي. لذلك فإن التفكير فى تقويض هذه التجربة ماثل فى الذهن، وأن التعامل مع هذه الأنظمة يأتى فى سياق التلاقى بين الأمر الواقع وتقديم المصالح العاجلة .
أما النمط الأخير، فهو نمط المنطقة العربية باعتبارها كيان حضارى ثقافى وجغرافي. والملاحظ أن هذه المنطقة تمثل تداخل بين اعتبارها المعين الذى لا ينضب فى الأجل المنظور – على الأقل – للمصالح الغربية من بترول وغيره، وبين امكانيات الاحتواء بدعم الكيان الإسرائيلى الصهيونى، وبين الحفاظ على الأوضاع القائمة للحيلولة دون وصول الآخر الإسلامى الذى يمكن أن يهدد المصالح الغربية كلها، ولذلك فإن التعامل معها يستلزم آليات متعددة فى نفس الوقت، وبنفس القوة واليقظة. ومن أهم هذه الآليات دعم النظم القائمة رغم استبدادها وتسلط غالبية الحكم، وقهر الارادات الآخرى، وعدم التسليم بقواعد الديمقراطية، وعدم الاعتراف بالتعددية الحقيقية وليست كمظهر للحكم. ولذلك فإن التدخل الغربى لدعم الاتجاه الديموقراطى ليس له وجود مثلما يحدث فى مناطق أخرى كأوربا الشرقية مثلا.
- وخلاصة هذه الأنماط أن هناك تسير لنمط ديموقراطى تعددى، لا يقابلة سوى أنماط أخرى لم تصل بعد إلى هذا الوضع أو هذه الدرجة لأسباب مختلفة وفى سياق ظروف متباينة.
أما على المستوى الدولى، فإن الملاحظ أن الولايات المتحدة وهى فى سبيلها للقضاء التام على الآخر السوفيتى وبقاياه فى الآخر الروسى، تسعى جاهدة للحيلولة دون ظهور آخر أوربى أو آخر صينى أو يابانى، وتقاوم أقصى ما تستطيع للوصول إلى هذا الهدف. وهو ما يترجم فى النهاية المسعى الأمريكى خصوصا، لتقويض فكرة الآخر.
وعلى المستوى الاقليمى يحدث نفس الشيء، فعندما وصل المسلمون فى تركيا للحكم من خلال حزب الرفاة، لم يحدث اعتراف به، وحدث إصرار على إخراجه من الحكم بتأثيرات خارجية، مقايضة مع إلحاق تركيا بالاتحاد الأوربى مع ضرورة إعمال التحالف مع اسرائيل، كما أن الآخر فى العراق وفى ليبيا وفى السودان، وفى الجزائر على وجه التحديد، يلاحظ أن الغرب يتعامل معهم بمنطق الرفض، ومن خلال آليات الحصار والتوظيف السلبى للشرعية الدولية التى تعكس هيمنة انفرادية دون إقرار بالآخر على كافة المستويات , وأن الدعم لاسرائيل يأتى بالاعتراف الغربى بالذات، وليس باعتبار إسرائيل ‘آخر’ عنها، وهذا ما يحدث أيضا مع إيران وأفغانستان وغيرها. ولذلك فإن المحاولة الغربية الأخيرة لإحداث الانهيار الشامل فى بورصة دول جنوب شرق آسيا، يؤكد عدم الاعتراف بالآخر على المستوى الاقليمى للحيلولة دون وصوله إلى آخر دولى، أى قطع الطريق على كل من يسعى فى طريق الآخر بأى ثمن.
واستخلاصا لما سبق، فإن الملاحظة الموضوعية لخطوط التلاقى والتباين، يجد أن هذه الخطوط تضيق فى التباين بحكم السعى نحو تقويض الآخر، لكن هذا لا يعنى فى نفس الوقت دعم خطوط التلاقى، لأن القهر واستخدام هذه الآليات وتلك، لا يمكن أن يلغى الارادة المعاكسة مهما كان التصور. ولكن الحادث هو أن فكرة تقويض الآخر أصبحت فكرة دولية صالحة ‘للتسويق’ الثقافى، وتعكس مدى هيمنة الاتجاه الواحد، والفكرة الواحدة، والحقيقة الواحدة، وهذا ما يتعارض مع قواعد اللعبة الديمقراطية ومباديء التعددية السليمة، فلنحذر من هذا السبيل، وليكن فى الحسبان أن الطريق الديمقراطى هو التطور الطبيعى لاستقرار المجتمعات، وأن ‘ التغيير الارادي’ أفضل لدفع المجتمعات للأمام، عن ‘التغيير القهرى’ الذى يسعى لفرض واقع هو فى النهاية أمر غير مضمون، ولا تتوفر له مقومات الاستقرار الذى يمكن أن ينتج فعليا من التغيير الإرادى.