أوقـات
منتصر القفاش
اعتدت هذا، خاصة حينما تكون سائرا بمفردك، تنظر فى الأرض وإن لمم تصرف انتباهك عن عربات الطريق.
لا يهمك لو مرت أيام كثيرة، لا تعثر فيها على شيء لا يتسرب اليأس إلى نفسك، حصيلة أعوام كثيرة من العملات التى عثرت عليها فى طريقك تكفيك إلى أن تواصل تلك العادة، بل وأن تخصها بتأملات وأفكار وأحاسيس تتنامى مع مرور الأيام.
لا تعرف متى بالضبط توقفت عن التقاط العملة سريعا ما إن تلمحها عيناك، وصرت تنظر إليها لحظة، وتزحزحها عن موضعها بممقدمة حذاءك، ثم تنحنى فى بطء وتأخذها بأطراف أصابعك وتقبض عليها بكفك.
ليست محتويات العلبة الخشبية هى كل ما صادفته وجمعته من الطريق هناك – مثلا – العشرة جنيهات التى لم تستطيع أن تضمها إلى متحفك الخاص، كنت أحوج ما تكون وقتها إلى كل قرش فيها، وهناك عملات أعطيتها لأصدقائك وفاء لوعدك لهم أثناء سيرهم معك بأن تهديهم ما تلتقطه.
اليوم لا تظن أنك ستجد شيئا على الرغم من أنك تداوم على التفتيش بعينيك فى الأرض وقد ترجع خطوات إلى الوراء إذا ما خايلك شيء يلمع طرفه ومدفوس بقيته تحت التراب، لن تجد شيئا،، تكرر هذا الظن كثيرا من قبل، وغالبا ما كان يصدق ، وحينما يحدث العكس، تصير ساعات اليوم كأنها عملات تفاجأ بها ويتوالى ظهورها دون انقطاع.
إلى أين تذهب؟
ربما يكون “سعيد” فى بيته الآن.
الصديق الوحيد الذى تذهب إليه بدون موعد، وإن تجده تشعر بضيق منه وكأنه أخلف موعده معك، وإن تصادف ووجدته، تتحدثان وكأنكما تكملان حديثا بدأ منذ فترة.
سعيد يحب المشى مثلك، ويؤمن بأن الأفكار تنتظر دائما فى مكان ما على مدار سيره، وتتقاطع مع خطواته فجأة وتدخله وتتمادى فى التكاثر بقوة تجعله يعود إلى البيت شخصا عائدا من سفر طويل.
حدثك منذ أيام عن توجسه من روح تسكن بيته ولا تتركه ينعم بأى وقت يقضيه فيه، واستغرق فى وصف كيف أن الأشياء لا تستقر فى أماكنها وتلهو بها الروح كيفما شاءت.
تمنيت لو لقيته صدفه.
اتصلت به لم يكن موجودا.
لو رأيته ستحدثه عن عدم رغبتك فى العودة إلى البيت ولا الذهاب إلى أى مكان ستحدثه عن رغبتك فى أن تجد أية عملة الآن.
تذكرت إعلانات التليفزيون التى تستهل بـ “أين تذهب هذا المساء” وينبعث صوت” مطمئنا قويا يعلن عن أسماء الأقلام والمسرحيات، بدون مفاضلة ولا حتى أن يتم صوته عن انحياز لأى عرض صوت لا يعرف من الصوت إلا الوضوح والقدرة على عدم الخطأ.
تجذبك دائما المذيعة متى تخطيء أو تنسى فجأة على الشاشة بدون أن ينبهها أحد.
نشعر بها وقد خرجت من التليفزيون وصارت إنسانة عادية لا تؤدى الدور كما ينبغى ولا كما ترغب هى.
أشرت إلى ميكروباص، وظللت جالسا فيه نهاية الخط عند ميدان رمسيس فى ثوبه الجديد بعد أن تم تعديل مسارات المشاة والعربات فيه بحيث صار ‘بيت جحا” تلف وتدور فيه ثم تعبر من الطريق الذى اعتدته دائما.
دخلت محطة القطارات، سمعت من يسأل عن رصيف رقم 9، سرت وراءه، وعبرتما النفق المتفرع منه سلالم إلى أرصفة القطارات المختلفة، جلس هو على الكرسى الرخام وأكملت السير حتى توقفت أمام رجل يشعل سيجارته. “عرفت منه أن القطار القادم بعد عشر دقائق هو قطار اسكندرية.
ما الذى يشعر به الانسان حين يجد نفسه بدون حاجة إلى الانتظار، وينظر فى وجوه المنتظرين، فيحاول أن يكون مثلهم فينظر فى ساعته، وينفث دخان السيجارة ويتتبع تموجاته المتصاعدة، وجدت نفسك واقفا على هذا الرصيف تسترجع أوقاتا أخرى كنت تترقب فيها بالفعل وصول القطار وتحاول أن تتذكر كيف كنت، لكن لا تقدر إلا على أن تظل فى لحظتك هذه، وتستمر فى وقوفك.
اتجهت إلى باب الخروج، وقبل أن تعود إلى الميدان المصطخب أخرجت من جيبك شلن فضة، رف فى الهواء وسقط فى كفك، كررتها أكثر من مرة كعادتك حتى وصل الشلن إلى أقصى سرعة فى الدوران حول نفسه إلى حد رؤية ذبذباته الوامضة.
تحسست عينيك برفق ثم ملت بجسدك والتقطت الشلن من على الرصيف.