مقتطف وموقف
من الذى أحرقه النازى فى الأفران؟
اليهود أم المسلمون؟
المقتطف
(من كتاب الإنسان يبحث عن معنى. تأليف: فيكتور فرانكل)(1)
1 – (ص 29): .. . هل تعرف ماذا نعنى بــ “مسلم”؟ إنه الشخص الذى يبدو بائسا، منحطا، ومبعدا، عليلا، وهزيلا، الذى لم يعد يستطيع أن يقوم بعمل جسدى شاق .. .، هذا هوالمسلم، “وأن عاجلا أو آجلا، فإن كل مسلم يذهب إلى حجرة الغاز”.
2 – (ص 71). . . وحين وصلنا، كان أهم الأنباء هو أنه لا يوجد “فرن” لا توجد “محرقة”، لا يوجد غاز، وهذا يعنى أن الشخص الذى أصبح مسلما لن يذهب مباشرة إلى حجرة الغاز، ولكنه سوف ينتظر “موكب السقماء للعودة إلى النمسا” (2)
3 – (ص 84) .. . وتم فحص المسلمين، دون خجل، حتى نستطلع ما إذا كانت معاطفهم أو أحذيتهم أفضل مما نملك (فنستولى عليها)، فقد كان مصيرهم قد تحدد على أى حال، ولكن أولئك الذين بقوا فى المعسكر من الذين ما زالوا يستطيعون القيام بعمل ما، عليهم أن ينتفعوا بأى شيء، وأن يسلكوا أى سبيل يزيد من فرصتهم للبقاء أحياء.
الموقف:
أوردنا هذا المقتطف لغرض هو أبعد ما يكون عما يوحى به اسم الكتاب، أو الغاية الظاهرة المؤلفة .
فالكتاب بعنوان (الإنسان فى بحثه عن المعنى. . . أو يبحث عن معنى) يوحى بتقديم نظرة إنسانية تعبر عن إتجاه إيجابى لمفهوم متطور للحياة .
ومؤلفه صاحب مدرسة فى العلاج النفسى يقال لها “العلاج باحياء المعني”، وهى الترجمة التقريبية للإسم الذى أختاره لمدرسته (أو أسلوبه العلاجى هذا) logo therapy ، وفكرة هذا العلاج شديدة البساطة، ولكنها خطيرة الدلالة، فهى تبنى على حفز المريض أن يعى هدف ودلالة مسيرته (الفردية فالجماعية) فإذا حلت هذه “الغاية” (واقعيا) فى وساد الوعى أصبحت تمثل قوى جاذبة نحوها بما يبرر الحياة، فيعيد إليها تناغم أجزائها المتباعدة أو المتنافرة، فيخف المرض أو يختفى، وهذا المفهوم إنما يعبر عن الإتجاه الجديد نحو التأكيد على النظر للحياة “الآن” وهى مندفعة إلي تحقيق معنى فى ذاتها، معنى يتجه إلى مستقبل نابع “مما هي”، تلك النظرة التى تعادل، وتعدل رؤية الحياة بإعتبارها “نتيجة” لدوافع راسخة فى الماضى أساسا، وبالتالى دافعة إلى ما يحتمه هذا الماضى بشكل أو بآخر (وهى النظرة الغالبة فى مفاهيم شائعة عن ما هو “تحليل نفسي” – نقول: إنه بالرغم من عنوان الكتاب، وإغراء ووجاهة هذا الإسلوب الجديد للعلاج فإننا لم نقتطف منه ما يتعلق بهذا أو بذلك، ولكنى أوردت هذا الموجز فى عجالة لأنبه إلى إحساسى كقاريء بأن المؤلف قد خدعنى، بقصد أو بدون قصد، ذاك أنه ظل يحكى معظم الكتاب عن خبرته الشخصية أثناء إعتقاله، يهوديا فى معسكر للنازى، وقد راح يكرر مآسى النازية ضد السامية مما كاد أن يصبح مقررا على الوعى البشرى المعاصر، لدرجة غسيل المخ، حتى كاد الإنسان المعاصر أن ينسى كل إضطهاد آخر، يجرى حاليا جهارا نهارا: ألعن وأخطر وأجرم وأنذل، كما كاد ينسى بداهة كل الإضطهادات الأبادية الأخرى عبر التاريخ، فأول موقف إتخذته من هذا الكتاب هو موقف الدفاع عن النفس، عن عقلى ووعيى حتى لا يستدرجنى هذا الموقف إلى مزيد مما أراد، أو أريد به، أو يراد بى، ذلك أنه لا توجد علاقة مباشرة بين إضطهاده هو وأهل ملته وبين هذا النوع من العلاج القديم قدم العقل البشرى، والوعى البشرى، والإرادة البشرية، وقد توصلنا فى مصر إليه تلقائية دون إضطهاد أو أفران بمجرد حضورنا فى مشاكلنا الآتية، وتوجهنا إلى تناغم غائى كامن فى بيئتنا وديننا، وذلك فى إطار ما يمكن أن يسمى الآن (من مصر) العلاج التطورى التكاملي* بإستعمال العلاج الجمعى علاج الوسط أساسا، ولما كنت قد أهتديت إلى ذلك قبل أن أقرأ المؤلف، ولما كنت قد تجاوزت ما ذكر من تقنيات دون نازية ولا سامية، فأنى شعرت بالإقحام وسوء التأويل، وبعد ذلك أنتبهت إلى هذه المقتطفات الثلاثة التى أوردها المؤلف عفوا، فوجدتنى أقول: لا، وإذا كان قد غاب عليه ماذا تعنى، فإنه لا تصبح أن تغيب عنا، والبصقة تملؤ وجوهنا، أما أن يستدرجنا هكذا وهو يقدم نوعا من العلاج يظن أنه مبتكر، فيسرق وعينا فى إتجاه قضيته الخاصة، العنصرية والمشبوهة، فلا .
ومن واقع كلامه: ألم يدرك وهو يكتب هذا الكلام (المقتطفات الثلاثة) أن المسلمين (هكذا) هم أكثر إضطهادا من بنى ملته من اليهود؟ ألم يذكره هذا ولو بمجرد الصفة بمضطهدين غير بنى ملته عبر التاريخ سواء كانوا من مسامى الأندلس، أم من الهنود الحمر، أم أقلية “الأرمن” ناهيك عن فلسطينى (العرب!!)؟
ومن هذا المنطلق تسلسلت بى المواقف هكذا:
أولا – مواقف مبدئية:
فكلمة “ملسم” هنا، وكما وردت فى هذا الكتاب فيما أوردنا، قد أوحت إلى بما يلي:
1 – أن كلمة “مسلم” تستعمل عند هذا الكاتب أو أمثاله) بمعني: قذر، أو نتن، أو عالة. . الخ، وهى صفة سلوكية وليست علامة دين سماوى آخر، وقد سمعت الأطفال الفرنسيين المسيحيين الشقر فى المدارس الفرنسية يسبون بعضهم البعض بقولهم “يا مسلم يا وسخ)Sale Musulman’ دون أن يكون الزميل الموجه إليه السباب مسلما دينا، وإنما هى أقذر الشتائم يستعملها الأطفال بإعتبارها أقذع الصفات.
2 – أن هذا المؤلف اليهودى (المضطهد!!) إنما يصف الجارى، وهو لم يخترع هذه الصفة ولكنه يحكى ما إتفق عليه الجميع النازى واليهودى، السجين والسجان، على حد سواء، وهذا يدل على أن المسألة كادت أن تصبح من البديهيات، وهى لم تثر عند الكاتب أى موقف مراجعة أو تساؤل.
3 – وكأن الذين أعدموا فى أفران الغاز (إن كان هذا قد حدث فعلا بتلك الصورة الدعائية)(3) لم يكونوا يهودا، وإنما كانوا يمثلون تلك الفئة من المعتقلين التى إكتسبت صفة “مسلم” بالتعريف السالف الذكر، ولم ينتبه المؤلف من خلال ذلك إلى أن المسألة لم تكن مسألة دينية بحتة، بقدر ما هى صفات محددة المعالم تصف شخصا: فيعتقل، ثم صفات أخرى نضف فئة من المعتقلين فيعدموا، فالتعامل من هذا المنطلق لم يكن تعاملا مع “معتقد” و “أهل ملة” بذاتها، بل كان تعاملا مع صفات ومواقف بعينها، وكانت صفة “مسلم” هى الأخطر بما يستأهل الإبادة، أما صفة “يهودي” فهى مشروع مسلم يباد حتما (أو هى مشروع) “وطني” حسب جهده ومظهره وإحتمال عودته إلى حظيرة الإنتماء (أنظر بعد).
ثانيا: مواقف تساؤلية:
وإنطلاقا من هذه المواقف المبدئية رحت أتساءل على الوجه التالي:
1 – ما الذى أوصل المسلمين إلى هذا “الدرك الأسفل” حتى تصبح صفة “مسلم” (هكذا) تستأهل الإبادة فورا، فاليهودى يظل معتقلا فحسب، فإذا تدهورت صحته وتشوهت هيئته، وتقرر عجزه، فإنه ينتقل هابطا إلى درجة مسلم، فيحرق، أقول ما الذى أوصل المسلم أن يصبح علامة “مسجلة” لما هو هذا الوجود العالة والقذر والمشلول. الواجب الإبادة؟
2 – هل حقيقة أن المسلمين كذلك؟ أم هى صورتهم كما يراهم اليهود والغرب؟ أم هو تفكيرهم (اليهود والغرب) الأمل، أى أنهم يريدون أن يروا المسلمين كذلك، فهم كذلك؟
3 – لماذا لم يثر المسلمون للحركة المضادة للمسلمين نفس ثورة اليهود للحركة المضادة للسامية؟
4 – هل هذا النموذج اليهودى الصهيونى الذى يريد أن يمحو عار البشرية التى إضطهدت السامية، هو النموذج الناجح المطروح على كل مضطهد من مسلم أو غيره؟
وماذا لو لجأ كل المضطهدين إلى هذا التعصب المضاد؟ أليست هى الردة إلى التشرذم على أساس دينى عقائدي؟ ما دامت المسألة وصلت إلى أن يكون الدين “صفة” تبرر الإبادة!!؟
وهل ما يسمى بالصحوة الإسلامية، بالنموذج الخومينى، أو بفكر الجماعات الإسلامية، هو “الرد من جنس العمل”؟ فإلى أين؟
5 – وإذا قدرنا أن هذه النكسات التدهورية لن تنجح فى إزالة الإضطهاد، بل هى ستبرر الإضطهاد المتبادل، فما هو السبيل الآخر الذى ينبغى إتباعه وراء الإنقراض الذى يهدد البشرية نتيجة التشرذم العقائدى هذا، سيرا وراء جنون أقلية عنصرية لا منتمية.
ثالثا: مواقف تفسيرية:
وبدرجة متوسطة من المغامرة، تولدت فى وعيى إتجاهات فى محاولة تفسير هذه النكسة الإنقراضية الخطرة على الوجه التالى:
1 – … إذا كان لفظ “مسلم” عند هذا المؤلف اليهودى وأقرانه، ومضطهديه، قد جاء كـ “صفة” إحتاجت إلى هذا التعريف، ألا يحق لنا أن نراجع لفظ “يهودي” كما إستعمله النازى، علنا نرى وجهة نظره وهو يعتقل هذا اليهودى، ثم يختبره فإذا ثبت أنه “مسلم” أعدمه، أما إذا ظل يهوديا ذا نفع ما تركه، أو أهله للمواطنة؟ ولعل هذا الألمانى الحريص على تفوقه، الفخور بجنسه، المحتاج لقوى أهل وطنه البشرية قد وضع تعريفا لليهودى يبرر له ما لجأ إليه (أو قل – من وجهة نظره – ما اضطر إليه) فتصورت أنه عرف اليهود على الوجه التالى (بغض النظر عن حقيقة ديانته) .
”اليهودي” هو كل شخص:
(أ) يعيش على أرض لا ينتمى إليها رغم أنه يحمل جنسيتها ويأكل خيرها .
(ب) يختزن مواردها ويستغل ناسها لصالح أقلية محدودة تشاركة معتقده ودينه .
(جـ) يفضل مصلحة فئته المعتقدية على مصلحة سائر بنى وطنه .
(د) يسعى إلى تملك مقاليد القوة (المال فالدعاية) لتسخير المجموع لصالح الأقلية التى ينتمى إليها (قارن موقف اليهود فى الولايات المتحدة).
(هـ) يرفض، فيستحيل، أن يتغير عن صفاته السالفة الذكر بأسلوب تربوى أو تأهيلى أو علاجى .
وبعد أن أطمأن النازى إلى هذا التعريف، راح يجتهد فى الإصلاح، فإذا عجز، فهو البتر، فإتبع الأسلوب التالي:
1 – يعطى هذا “اليهودي” (اللامنتمي: بغض النظر عن ديانته الحقيقية) فرصة أن ينتمي* فيختبر تحت ظروف ملائمة (وهى صعبة نظرا لإفتراض البند “هـ” فى التعريف السابق) .
2 – إذا لم يأخذ هذه الفرصة، يحتجز هذا اليهودى جسديا (خاصة أيام الحرب) أولا: لكف خطره، وثانيا لإحتمال تأهيله: ليتوب عن الصفات السالفة الذكر التى ألحقت به لفظ “يهودي” (الذى لم يعد دالا على مجرد الإنتماء إلى دين بذاته).
3 – من “يرقد” منهم بعد ذلك فى “الخط” يصبح “مسلما” بالتعريف السابق، فيجب حينئذ التخلص منه للتفرغ لغيره، من القابلين للتأهيل من “اليهود” الذين لم يصبحوا بعد “مسلمين” !!! .
ثم أقول:
1 – إن هذه “المواقف” التى فرضت على تجاه هذا “المقتطف” ليست دفاعا عن وجهة نظر النازى، ولكنها دعوة للتفكير فى ضرورة الإنتباه، والحذر، والمراجعة، فالدعاية “ضد – ضد – السامية”Anti-anti-samitism للدرجة التى وصلت إليها تجاه “فالدهايم”، إنما تعلن إنسياقا خطيرا للبشرية وراء نهاية غيرمحسوبة، تدفعها إليها فئة مجنونة بذاتها، تتصور أنها تنتقم، وهى تنتحر بنا جميعا
2 – إن التعامل مع ألفاظ مثل “اليهودي”، أو “المسلم” أو “النازي” أو “الشيعي” . . الخ لم يعد تعاملا من وحى دلالة هذه الألفاظ التاريخية، بل من وحى مضامينها المستحدثة، فلم تعد هذه الألفاظ وغيرها دالة على عقيدة، أو عبادة، أو ديانة، بل هى دالة على ما تدل عليه فى إطار مرجعى جديد، فاليهودى هو الجسم الغريب غير المنتمى القابل النمو السرطانى، والمسلم على حد ما ورد فى المقتطف، هو الجسم الزائد عن الحاجة، العالة، القذر. . الخ
3 – إن الرد على هذه الجريمة المعاصرة، المتجسدة أمامنا عيانيا فى الكيان الصهيونى، والجاثمة حقيقة وفعلا فى كيان “الحكومات السرية” التى تحكم العالم (الغربى خاصة) أقول أن الرد على هذا وذاك قد يبدأ بنفس أسلوبه، ولكنه لا ينجح ولا يكتمل إلا بتجاوز هذا الأسلوب التشرذمى، التعصبى، البشع.
4 – إن العالم حين يستشعر الخطر الفعلى من الكيان الصهيونى (كدولة) قد يضطر إلى أن يعاملها بالتعريف السابق لما هو “يهودي” – أى بإعتبارها دولة غير منتمية إلى المجتمع البشرى. . الخ، فإذا أصر هذا الكيان اليهودى (بالتعريف السابق) على أن يمارس وجوده الصهيونى بنفس الأسلوب (الجسم الغريب. . . فالسرطان الزاحف) فلابد أن ينتظر يوما يواجهه العالم بما يستحق ويكون الخيار للأسف .
(أ) أما أن يحجر عليه (عقوبات عالمية) حتى يتوب، ويؤهل ليندمج فى العالم البشرى، فإذا فشل فى ذلك يجتث من جذوره (الحل النازى).
(ب) وأما أن تقوم القيامة القيامة (الحل الذرى الصهيوني: على وعلى أعدائى).
وعلى كل حريص على البشرية أن يتقدم إلى المعركة، الآن، وفورا، وبكل وعيه ضد كل دعاية وأوهام .
وعلى ذلك، فابادة الكيان اليهودى (بالتعريف السابق) مؤجلة عالميا على أمل الآفاقة التلقائية بعد الإستقرار الوطنى (دولة) – أو بافتراض أن الصراع الداخلى (مثلا بين المتدينين المتطرفين والملاحدة الأحرار فى اسرائيل) سوف يشفى هذا الجسم الغريب من إنفصاله عن جسد البشرية – فإذا لم يشفه هذا أو ذاك، فقد يواجه عالميا حتى يشل ويعجز فيصبح “مسلما” بالتعريف السابق فيباد!!!.
وأخيرا، فهل يليق بنا أن نوهب الشجاعة لنراجع التعريف الوارد فى المقتطف، ونراجع الصفات التى يتصف بها العالم المسلم (والثالث) المترامى المتراخى، وننتبه إلى أنها صفات لم تذكر بمحض المصادفة أو التعصب؟.
وهل نتصور إستيلاءهم على موادنا الخام وقروشنا الطيارة إلى بنوكهم هو ما يقابل إستيلاء اليهودى المعتقل على معطف أو حذاء “المسلم” المحكوم عليه بالحرق، تحت مبدأ (الحى أبقى من الميت) أنظر مقتطف 3)؟
الموقف الأخير:
إنه بعد كل هذا لابد من القول اننا لا نثير بهذه المواقف دعوة إلى التعصب (إلا كمرحلة) وإنما نحن نتصور أن التجاوز: بالإبداع والإقتحام والإلتحام بكل ما هو إنتاج وعمل ونظافة وتكامل: هو الذى سيفجر مضامين جديدة لتعريف جديد لما هو “المؤمن الإسلام الفطرى العالمى” أو ما شابه.
وهذا حديث آخر .
[1] – Victor E. Frankl (1963) MAN’S SEARCH for MEANING Pocket Books New York 84 ، 71 ، 29 ص
[2] – ايضاح لم يرد فى النص، أضيف من السياق قبل وبعد المقتطف
[3] – صدرت مؤخرا بعض المراجعات التاريخية التى تقلل من حجم مثل تلك الادعاءات.