يحيى الرخاوى طبيب نفسى
حـــوار
استجابة محدودة حول
حكاية انفجار جهاز الأمن
د. سيد حفظى x الرخاوى
د. عصام اللبادx الرخاوى
د. سيد حفظى: بخصوص الحوار الذى بدأ على صفحات العدد 26 من مجلة الانسان والتطور فأننى أرى أن الحوار بهذه الطريقة لهو استمرر لأحاديث المقهى السياسي.
الرخاوى: عفوا، فماذا تعنى بـ “المقهى السياسى؟ وهل تمدح أم تذم؟ هل تعنى انه مجرد كلام لتزجية الوقت أم تشير إلى مقهى احسان عبد القدوس؟ ثم أين المقهى السياسى الآن أو المصطبة السياسية؟ أو الدوار السياسي؟ بعد أن عودوتا على أن توزع “السياسة’ فى علب بلاسيك مع بطاقة التموين، ويهددونا أنهم سيرفعون “الدعم’ حتى عن هذه المعلبات السياسية، لا أظن يا سيد أن ثمة مقهى سياسيا الآن، فقد احتل المقاهى المعاصرة بلهاء التليفزيون على ناحية، ومثقفو (زمارو) النفخ فى رموز ميتة على ناحية أخرى.. وهات يا منشورات معادة كل صباح، والشاطر يفهم أى شىء، من أول فوائد ديون التسليح (تسليح “من’ ضد “من”؟) حتى بدعة الصوب (ان شاء الله البعيد ينصاب..!!).
د. سيد حفظى: (حقيقة) انى لا أفهم كثيرا أو قليلا فى السياسة والاقتصاد، غير أن السياسيين والاقتصاديين هم الذين يصيغون عقول الأفراد بما يفرضونه عليهم من قيم ووسائل معيشية مثل ياميش رمضان وتكامل السودان.
الرخاوى: ما أدق حدسك: تجمع بين ياميش رمضان وتكامل السودان، أهو خطأ “جيد’ أم أنك تعنى عمقا قد غاب عن الساسة الساسة؟ ولكن سواء فهمنا فى السياسة أم لم نفهم، فهى مقررة علينا، فنحن ننتخب رئيس الجمهورية وننتخب الساسة!! (قال يعنى!!) ثم ندفع ثمن هذا “الزعم’ مما حدث و ما سيحدث، حتى بدون فهم – أليس الأولى أن نفهم؟ أو نتصنع الحوار.
د. سيد: ليس فى هذا الحوار بالجديد، فهو لا يختلف عما يدور فى الصحف اليومية، فالكل يعلم (أ) أن القوى العظمى فى العالم تتلاعب بالدول المتخلفة وفقا لقواعد لعبة شطرنج عالمية (ب) أن العالم كله أجمع على اعلاء شأن اسرائيل على حساب تصفية وانهاء وجود شعب فلسطين (جـ) أن مجتمعنا يرزخ تحت عبء اللامبالاة وأن حل مشكلة الانتاج هو المفتاح الحقيقى لحل بقية المشاكل.
الرخاوى: رغم موافقتى لك من حيث المبدأ على هذه التعميمات الا أنى أحيانا ما أحتار أمام مثلها وأتساءل عن جدوى الاختزال: كأن تقول الخير جيد، والشر سيء، والاخلاص فى العمل سر النجاح (نقطة!!) وأنا لا أبريء نفسى من تعميماتك، وان كنت قد حاولت فى المتن المنشور أن أحدد رؤوس مواضيع باشارات مفصلة كنت أحب أن تكون موضوع حوارنا، وعلى سبيل المثال، كنت أنتظر رأيك فيما أذهب إليه فى “كيف تهدر القوى الانتاجية البشرية’، أو فيما يتعلق مثلا بأسرة المستقبل، وعلاقات الانتاج، واغتراب التعليم، أو فيما يتعلق باهدار الانتاج الفكرى تحت وهم الجامعات والشهادات والبحث العلمى (تحصيل الحاصل) والجوائز والألقاب – فهذه كلها تفصيل لا تعميم، وهو تفصيل يحتاج إلى مراجعة حاسمة، يمكن أن تترجم إلى فعل يومي، أما موضوع القوى العظمي، وهدهدة اسرائيل فهى أرضية للحوار ولكنها لم ترد فى صلبه، ومسئوليتنا قائمة برغم كل ذلك، وامتحان الانتقال إلى ما هو انسانية بعد عبور المأزق العسكرى (بكل صوره) ملقى فى وجوهنا مع كل تعميماتك ومن خلالها.
د. سيد: لماذا نعتبر أن ما بنا هو معاناة أزمة نمو وانتقال من ديكتاتورية عسكرية إلى انسانية مبدعة، ألا يمكن أن يكون هذا استدراج حتى نقف هذا الموقف، ولكننا نكون فى الحقيقة تحت وطأة استمرار المرحلة القائمة مع تعمق استراتيجياتها بارتباطها بما هو أكبر؟
الرخاوى: ممكن!!
د. سيد حفظى: لماذا وجب علينا أن نحلم بأن تكون الانسانية المبدعة هى المتحدثة باسم المجتمع؟ أليست هى ذاتها من ضمن مسئولياتها أن تبحث لنفسها عن طريقة تحقيق وتثبيت حضورها وتجديد ابداعها فى أى ظروف وتحت أى ضغوط؟
الرخاوى: من قال أننا نحلم بذلك؟ وما هى الانسانية المبدعة التى سوف تتحدث باسم المجتمع أو تكون وصية عليه، لعل هذا هو تصورك أنت، أو هو تخوفك أنت، أما أنا فلا أذكر أنى أشرت إلى ذلك بل أنى نبهت (ص177، 178) مثلا إلى تسييس الفن واستعماله كأداة، واهمال علاقة الجسد بالانتاج الفكرى (لم أعن الرياضة) وانفصال الانتاج الفكرى عن الواقع الزراعى والصناعى هم جميعا من مظاهر اهدار القوى البشرية، فكيف تصورتنى أدعو إلى “انسانية مبدعة وصية تتحدث باسم المجتمع‘ وكأنك خفت أن أكون أعنى بالابداع “الناتج الرمزى لحركات العقل البشري’، فهذا غير وارد عندي، وانما الابداع الذى هو ضد العسكرية هو الحركة المرنة، على أرض الواقع، المتخلفة من جدلها إلى ما هو أسمى (أعمق وعيا، وأوسع عطاء) – هذا هو الوجود البشرى الذى يعوقه العسكر، والأصنام، والظلام – أم لعلك تصورت أنى أنصب نفسى مثلا – بوهم ابداعى حكيم الزمان وصاحب الحل الأوحد بنشرى هذه الرؤية المترامية فى غير تخصصي.
د. سيد: ألا يمكن أن تتحول حينئذ إلى وسيلة من وسائل السياسة الشطرنجية مما قد يفقدها ابداعها.
الرخاوى: ممكن، فالحذر دائما واجب واقتراح الوصاية مرفوض. وان كان حتم الريادة وارد، والاجتهاد مطلوب.
د. سيد: قال “سيدنا’ هيكل انه لتكوين فكرة عن موقف ما، فان الكم المتاح من المعلومات هو الذى يحكمنا ويحدد رؤيتنا، فكيف تكون هذه الرؤية وهى من خلال معلومات تبثها وسائل الاعلام المختلفة المتفقة؟
الرخاوى: أى والله، وخصوصا حكاية المختلفة المتفقة، وأحسب أنى أوردت مثل ذلك وأنا أجمع المعارضة مع المؤيدة فى خندق واحد.
د. سيد حفظى: اذن ما السبيل؟ هل تكون كل هذه الأحداث مسرحية معادة؟ أظن أنه ضرب من الجنون!! حتى التفكير فى هذا، لكن – كما عودتنا المجلة – لم لا؟ ما المؤشرات؟
الرخاوى: آسف لأنى لم أستطع أن ألتقط الرابط المحورى فى هذه الفقرة، … “مسرحية”؟ على المدى الأوسع “نعم’ …معادة؟ أحسب أنه ما دامت المقدمات واحدة، فالاعادة واردة!! …جنون؟ لا، فكل الاحتمالات واردة، وشكرا أن أصبح لهذه المجلة طابعها الذى ذكرتنا به أنه “لم لا؟’ – أما عن المؤشرات فلم ألتقط أية مؤشرات تقصد، وهل تركز على الموقف السياسى ولعبة الاعادة مثلا؟
د. سيد حفظى: أنا لست من الذين يفهمون فى السياسة أو يقرؤن كتبا سياسية، ولكنهما يمكن أن تكون احساسا أو انطباعا خاصا.
الرخاوى: “تاني”؟ وهل السياسة الا انطباع خاص، فمشاركة مسئولة؟ وكما تعلم فان هذه المجلة لا تتكلم فى السياسة الا من هذا المنطلق المتواضع.
د. سيد حفظى: أرى أن أطرح المواضيع السياسية للحوار على صفحات المجلة يجب أن يكون مختلفا فى طرحه عن المحاولات الأخرى المختلفة، كما لابد أن تتضح علاقته بهدف المجلة (اثارة – تحريك – ابداع – معلومة)
الرخاوى: ولا أحسب أنا أيضا أنه كذلك تماما، ولم أفهم هل أنت تذكرنا بما يدل عليه هذا الحوار فعلا، أم إنك وجدت فى هذا الحوار غير ذلك فأردت أن تعيدنا إلى ما ينبغي، ولكن دعنى أدعوك لحضور جانب من الاستجابة لهذه المحاولة الحوارية مع أسفى ان الاستجابة محلية داخلية. أهلا يا عصام.
عصام اللباد: بداية، أنا أود الاشارة إلى اعتراضى على ما أوحته لى كلمة “انفجار’ التى استخدمت لوصف “ما قد وقع’ داخل “وحدات الأمن المركزي’، فمع اقتناعى بأن ما “قد وقع’ قد وقع فى نفس المنطقة (انفجر – تفجر) الا أن ما أوحته لى كلمة انفجار، ولعله يجد بى بداية أن أقر أننى لم أبحث فى أصول أى من الكلمتين بأى من القواميس والمعاجم، لأن ما أهتم به أكثر هو الايحاءات، واشارات الكلمة وأحرفها وهى ما وراء استخدامنا لكلمات وصفية أكثر ايحاءا وأقل وصفا لما يقع من أحداث فى حياتنا، والأمثلة كثيرة منها “القلة، الانحراف، النقود، الجرم، الحرامية.. الخ’.
الرخاوى: أهلا يا عصام، هكذا فجأة، سحبتنا فجأة إلى منطقة حرجة، حين انفجرت فى عدة اتجاهات معا، وبداية فقد راجعت متن الحوار بسرعة لأعثر فيه على ما وضعته أنت بين علامات التنصيص غير كلمة انفجار التى لم ترد الا فى العنوان (مثل: “ما وقع’) فلم أجد لها أثرا أصلا، بل إنى لم أستعمل كلمتى “وحدات’، ولا “مركزي’ بل قلت جهاز الأمن فحسب، فهأنذا – ومن البداية أضبطك (أو أتهمك بـ) قراءة، وحوار ما فى عقلك، لا ما هو أمامك، وأنا أحترم اسقاطاتك ومخاوفك – ربما لأنى مثلك – ولكنى سأدعك بعد الإيضاح ترد عليها.
ثم انتقل إلى حكاية انفجر، وتفجر..، فمن حقك أن تحذر من أهمية الايحاءات الشائعة المنفصلة عن الأصولة المعجمية، لأية كلمة كأئنا ما كانت، فلا المعجم وصى على مضمون الكلمات، ولا نحن آلات حاسبة ثابتة محسوبة الاستجابة، لكن ليس من حقك أن نقترض ان ما استوحيته أنت من كلمة هو هو ما قصدته أنا من نفس الكلمة، وهنا لزم الرجوع إلى السياق أولا فى ذات المقال ‘ أو مشروع الحوار’ ثم إلى الاطار المرجعى العام للكاتب، ثم إلى علاقته بلغته والتزامه المعجمى جزئيا أو كليا، ثم تعترض كما تشاء، وأنا قد فهمت اعتراضك وقبلت محتواه ومع ذلك انظر الهامش (1) ان شئت – ولو من باب التسلية أو المزاح – فبالرغم مما جاء فيه (الهامش) بأنى أحتم ما أوحى إليك من الفرق فهاتها.
د. عصام اللباد: قد أوحت لى الكلمة “انفجار’ بما يلى:
1- أن تلك الوحدة، أو ذلك الموضوع، الذى ينفجر، وكأنما قد تناثر، وأتم فعله، وأنه صار أقرب إلى التلاشى مع عدم احتمال عودة، أو وجود صفته الانفجارية، بينما أرى أن ما وقع لم يتناثر بعد، وانما صار ذو خبرة اشتعالية، لم تتم فعلها بعد، واحتمال عودتها نفسها، بنفس شكلها، ولنفس أسبابها قائم متحد، وأنه فعل ما زال متفجرا، لم ينفجر فحسب.
1- أن ما قد وقع قد وقع سلبا، بمعنى أن حدوثه كان نتيجة تفاعل عناصر سالبة، غير قادرة، وتحت ضغوط خارجية لا يد لتلك العناصر فيها، بينما أرى حدوثه نتيجة تفاعل موجب، التقطت احدى عناصره طاقه، فتفاعلت بالصدفة بلا ترتيب، وان كان ليس سلبا، وان عناصر هذا التفاعل، وأهمها أفراد وحدات الأمن المركزى كانت لها حركتها الذاتية النشطة، واعية بما سيقع، وبكيفيته، ونتائجه المحتملة دون ترتيب وتنظيم، وان هذا الوعى كان وعيا اجماليا أقرب إلى الحدس والخبرة منه إلى التنظيم فقد كان لدى هؤلاء الأفراد احساس واضح أقرب للتأكد – من وقوع ضغوط هائلة غير عادلة عليهم، وبمدى اهمالهم، وعدم مراعاة ظروفهم، واستعمالهم بلا مقابل، وبسوء التخطيط لحياتهم ومستقبلهم، وقد تكاثرت شكواهم (لبعضهم البعض، ولأسرهم وأصدقائهم) من الظروف بالغة القسوة والتى تمثلت فيما يأتى:
(أ) قسوة وسوء حياتهم البالغ داخل معسكرات التدريب ومعسكرات التوزيع.
(ب) طول مدة التجنيد الاجبارية، وقلة الاجازات.
(جـ) غياب الحقوق.
(د) استعمالهم بلا مقابل: جماعيا من قبل القيادات العسكرية وقيادات الشرطة فى أعمال عامة) منها أعمال الحفر والردم فى عمليات اصلاح شبكة مجارى القاهرة الكبري، انشاء سنترالات التليفونات الجديدة الكبارى العلوية التى قام بانشائها سلاح المهندسين بالقوات المسلج، وأعمال صورية ساخرة (مثل تنظيم المرور بلا حقوق أو مسئوليات أو صفة حقيقية).
واستعمالهم بلا مقابل بصفة شخصية من قبل بعض الضباط والقيادات الصغيرة فى أعمال خاصة كبياض الشقق وأعمال السباكة المنزلية وأعمال أخرى أقل احتراما وأكثر امتهانا واستغلالا.
(هـ) الخروج، بعد الانتهاء من فترة التجنيد، بلا مهنة حقيقية لغياب دور التدريب المهني، وبلا خبرة حقيقية مهنيا، وبخبرة اجتماعية سيئة تتمثل فى انسحاق ذواتهم، والغضب، والاحساس بعدم القدرة وضياع سنوات من العمر، بلا مقابل اللهم الا ورقتان فى اليد، انهاء الخدمة العسكرية (قدوة حسنة دائما)، وتصريح بالسفر، سفر أمل، بلا مهنة، ولا تنظيم، ولا أمان أو مساندة.
الرخاوى: آسف اذا أجدنى مضطر لأن أقاطع حماسك لأقول، ان كل ما ذكرت هكذا متحمسا هو اعتراض على رأى لم أقله أصلا، بل انى ما كتبت هذا “المتن’ بكل الألم والمسئولية الا لأعلن أن المسألة لم تنته أصلا، وأنه ما دامت مكونات المعادلة من قوى فاعلة سرية، وقوى ظاهرة عاجزة، ثم انتاج مهدر فان الفراغ سيختلط بالناس منتجا غاز التفجر القابل للاشتعال باستمرار، فأين التناثر الذى انتهي، وأين التأكيد على العناصر السالبة التى تؤكد أنها ليست سالبة إلى آخر ما ذهبت إليه؟ صحيح أنى لم أركز بوجه خاص على عناصر “الأمن المركزي’ ولعل هذا ما قصدت إليه، فان هذه المعادلة العامة قد تجد ظروفا مثل الأمن المركزى بلا أمن مركزي، فالمجندون الذين لا يجندون، والطلبة الذى لا يدرسون، والموعودون الذين لا يجدون، والعلماء الذين يبحثون، والجيش الذى لا (ولن يحارب)، والموظف الذى لا يتوظف، هو مشترك فى ظرف آخر ومناخ آخر، لينتج غاز التفجر ليشتعل، وأرى أنك جددت القابلية للاشتعال المتكرر فى هذه الفئة المظلومة وظروفها اللا انسانية، فى حين أنى عممت التحذير يا أخى أضعافا مضاعفة، وعليك أن تراجع المعادلة – باعتبار أنها فرض – وسيمكنك أن تجد أنها – للأسف – قابلة للاشتعال طول الوقت.
أما موضوع الوعى بالحدث، وبما سيقع. وبكيفيته، ورغم تأكيدك على أن المصادفه فى التوقيت وغيره لا تنفى الوعى من عمق ما، فلا اعتراض لى عليه، وانى أقدر تخوفك من عرض الأمر وكأن “الأمن المركزي’ كان مجرد مخلب القط، أو آلة الانطلاق، وأنا لم أقصد هذا، وان كنت اعذرنى لأنى لم أوف هذه التفصيلة حقها، لكنى أطلب أن تعذرنى بدورك فأنا لم أتناول قضية الأمن المركزى الا كمظهر لقضية عامة، وخطر مهدد من أى موقع يختلط فيه اليأس بالفراغ فالقابلية للاشتعال، وقد يكون من المفيد أن نستمع إليك أكثر وأنت تعيد التأكيد على خصوصية وعى هذه الفئة.
عصام اللباد: قد كان وعى أفراد وحدات الأمن المركزى بكل تلك الظروف أمرا لا يمكن تجاهله، الا لو تجاهلنا كونهم بشرا أو تجاهلنا وجودهم برمته.
ثم يجيء وعيهم بما فعلوه; الذى يبدو واضحا فى اختيارهم أهدافهم التى أصابها تفجرهم، وقد انحسرت فى معسكراتهم أو ظروف معيشتهم القاسية، وضد بعض القيادات التى تخلت عن مسئوليتها عنهم من زمن، وضد رموز رفض المدينة وتجاهلها لهم. تلك المدينة التى انطبعت فى أذهانهم لاهية عن قسوة ظروفهم، مستخدمة لهم، بملاهيها المنيرة، وسياراتها التى تمرق من وراء ظهورهم فى وقوفهم عند مرور سيارات المواكب الرسمية ومباريات الكرة. المدينة التى لا يستطيعون الانضمام لها والاستمتاع بها وبأقل القليل منها، والتى ترفضهم بعفار معسكراتهم وحشراتها، وملابسهم المتسخة، وعدم رقتهم، وعفويتهم، وقروشهم القليلة جدا.
كانوا على وعى اذن بأهدافهم.
وقد كانوا على وعى آخر بما يمكن أن تحققه حادثتهم من مكاسب، ومن تراجع فى موقف قيادتهم واهمالها لهم، وقد كان للتراجعات الرسمية فى القرارات والتى سبقت ما وقع منهم، أثرا ما فى نمو وعيهم بامكان تحقيق تحسن ما فى ظروفهم.
انها لم تكن اذن انفجار سالبا، وانتهي، وانما كانت فى رأيى تفجرا وغليانا لم ينته، وان سكن خارجه، وأنه كان هناك وعى ذات به، وتحركا “حثيثا’ فى اتجاهه، وذو أهداف.
الرخاوى: “تأتي؟!’ تعترض على أنه انفجار سلبي، وهل يوجد انفجار سلبى أصلا يا أخي، لقد تركتك ترد على مخاولك لا على ما كتبت – وان كنت لا أخفى عليك انى كنت أتمنى أن تنتقل إلى المناخ الأخطر الى تفجر فيه هذا الحادث بوعى ما وايجابية لا شك فيها، وان كانت آثاره ما زالت سلبية على الفريقين، فلا الدرس وصل للظالم، ولا الحق أعطى للمظلوم، وحتى لو أعطى حقه عن هذا الطريق، فهو تثبيت لوسيلة خطرة، ولعبة لا يعرف أحد مدى حدودها، ولابد أن أنبهك أنه بالرغم من اتفاقى على درجة من الوعي، الا أنى لا أعترف ضمنا بالقصد أو التدير أو الهدف الأبعد.
د. عصام: هنا أود أن ألمح أن كل ما سبق من ضغط وكبت لم يكن خفيا أبدا (كما جاء فى المقالة) على الأقل بالنسبة لأفراد وحدة الأمن المركزي، فوعيهم به – كما جاء سابقا – كان كاملا ومتراكما.
الرخاوى: والله أنى أعجب لاعتراضاتك المتكررة هذه، وأرجو أن تذكرنى بأى صورة كيف جاء فى المقال أن الضغط والكبت كان خفيا؟؟ هكذا لقد نبهتنى بحماسك المنقطع النظير هذا إلى أنك لم تقرأ مقالى أصلا، وأنك لا ترد الا على مخاوفك التى ترجع – بشكل ما – أنى كتبتها فماذا أفعل بالله عليك؟ ولكن دعنا نتناول جزئية – كمثال – بعض ما جاء فى المقال.
د. عصام: ما جاء تحت “دلالات فى موقف الشعب…’ فاننى حقيقة لا أرى أنه كان للشعب موقف غير “اللا موقف’ وغير الانتظار، والمراقبة عن بعد، ومحاولة الاستيعاب، وكأنما كان موقفه موقف التوجس، الذى ينتظر أن يفهم أكثر، المنفصل عن تلك الواقعة، اللهم الا الموقف التليفزيونى وعبر الجرائد القومية والحزبية وقد كانت كلها فى رأيى مواقف مصنوعه، تربح من لا شيء، وانما موقف الشعب ان كنت تقصد هو موقفكم أنتم، وموقفي، ومواقف الآخرين .. وهى مختلفة بالطبع لا تحتمل أن توزن لحساب هذا الجانب أو ذاك، قولا، بلا دراسات واستطلاعات رأى حقيقية غير اعلامية.
الرخاوى: بصراحة، هنا اختلف معك كثيرا، وعنديا، فموقف الناس، أغلب الناس، بحركتهم الهادئة، وتوجسهم النشط، وتعاونهم التلقائي، وتنظيم مرورهم المنساب، كل هذا لا يمكن انكاره أو التغاضى عن دلالاته، قد لا يكون معناه التأييد غير المشروط للحكومة، ولكنه على كل حال ليس هو “اللا موقف’ فقد ثبتت ممارسات ضابطة، ومنظمة وتلقائية أرجو ألا تنساها أصلا مهما بلغ سخطك أو شكك، ثم أنه ما أنا وأنت والآخرين الا جزء من هؤلاء، وأخيرا فانى أحذرك من استطلاعات الرأى فى بلاد ليس فيها أمانة وسائل الاستطلاع، ناهيك عن شجاعة ابداء الرأي، فدعنا نثق فى حدس المراقبين شريطة اجتهادهم المثابر – وأكرر أنى أرفض وصفك للموقف السلبى بأنه لا موقف، وكنت قد أتفق معك فى ضرورة الاختلاف حول دلالته، فما رأيك.
عصام: لم أفهم فى هذا المجال ما قصدتموه من أن هذا الموقف الشعبى كان رغبة منه فى الحفاظ على الاستقرار والديمقراطية، اللهم الا أن يكون مفهوم الاستقرار (اياه) قد استقر تماما بأن الاستقرار هو اللاتفجر، وأن يكون مفهوم الديمقراطية قد صار مقبولا للأمر الواقع، والسكون، والاعتراض الهامشى عليه، وان كان هناك موقف للشعب غير اللا موقف، وأن غرضه كان متعلقا بأمر الديمقراطية، فربما كان خوف من أن تنقض احدى الجهات على الديمقراطية متخذة التفجر ذريعة كافية.
الرخاوى: أوافقك على حذرك من أن يكون الاستقرار هو الاستسلام والهمس، لكنى أنبهك إلى أن الدلالات ينبغى ألا تؤخد الا مع المحاذير، فمثلا أن خطورة الاستغاثة بالقوات المسلحة (التى جاءت بين قوسين ص 171) هو تحذير بالغ الأهمية يتفق مع ما ذهبت أنت إليه بقولك “أن تنقض احدى الجهات … الخ’ كذلك ان الاستدراك الوارد فى الهامش فى نفس الصفحة، كان بمثابة حوار داخلى خشية أن يفهمنى الناس أنى أصفق – أكثر من اللازم – لديمقراطية شديدة التواضع، جاهزة للتبخر اذا لم تترسخ قواعدها من جوف الممارسة لا من منح السلطان ولعلك لاحظت اعتراضى – فى الهامش – على تمادى وسائل الاعلام فى النفخ فى فضل الحكومة فيما حدث من منح ديمقراطية .. الخ.
عصام: عن دلالات (حضور) جهاز الدولة (تنفيذيا واعلاميا). فلم أعد قادرا على مناقشته أو البحث فيه بعد أن أختفى ومات فور الاحتواء المؤقت لما وقع.
الرخاوى: ولا أنا.
عصام: وان كنت أرى فى وفاته (الطبيعية) تلك منذرا وتراكما جديدا لغليان ما تحت السطح.
الرخاوى: وأنا لم أكتب ما كتبت مما لم ينشر فى أى مجال صالح للتنبيه الا لأؤكد على خطورة اغفال استمرار الغليان، وخطورة التمادى فى المن الحكومى بضبط الموقف بلا تعلم ولا تعديل جذري، وأنا لا أخفى عنك سخطى على ما كتبت، وخيبة أملى فيمن تلقى ما كتبت، حتى أنى فرغت مشاعرى – بنفس الخيبة – فى شعر لم أحاول أصلا أن أطلع أحدا عليه، ناهيك عن نشره، فما فائدة كل ذلك، ولكن لا بأس اذا سمحت أن أضعه أمامك حتى تدرك مساحة الاتفاق، وكم الألم الدائري، وأنى لم أنس – من منطلق أدبي، وليس تحليلا مسئولا، لم أنس خصوصية ظروف هؤلاء البشر “جدا’.
قلت:
-1-
حريق:
لم تدع أن الأصل نبض سادم
زنبقة سوداء
أخفت تضاريس الألم
فى مقصف البلادة
تقوست فأقعت
تنفض عن غبارها المناضد
الزئبق الدوائر
يطير فى تراكم المخاتلة
تزين الحروف وشما شائها
طلاسم المعادلة
والنسمة البلهاء تاهت فى سحابة الملاحقة
-2-
مطاردة:
قال المهند القصى “الماقضي’:
يا سيدى: لم تلثم
فى ليلة القهر التى لم تنم
اذ شاك ناب اللؤم ضرع البقرة
قالوا لنا: ما لونها؟
تشابهت علينا
قلنا اذبحوها سممت آبارنا المجففة
والمبتدي
مذنب ضل المسار
[كأنها حمر من قسورة فرت مستنفرة]
-3-
دخان:
فهل ترى الزهيره؟
تناثرت، تكاثرت، تعثرت، تخثرت
وأجهضت براعم منتحبه
طين السماء جلجلته قبره
فى صمت بؤرة الندي
-4-
ظلمة:
أمرنا بليل:
يموت الأمل
-5-
انضباط:
حظر التجول: من قبيل الغسق
حتى جناز الرؤية المنبثقه
قف!!
من هناك؟
ما كلمة الليل؟
(انقضي؟؟)
- اللغز تحت المنضدة
(أذن له “بالضبط’ الا أربعة!!)
-6-
كفن:
حمام الزاجل
[حلم لاح بعين الساهر]
وهمسة شاردة تقنفذت
تهاوت
تماوتت = فماتت
أجنة الرياح/
حضرة السلطان/
تاب القهر/
لون البقرة.
لف الدثار أحكم المراوغة.
تساقطت رسالة منتهكة.
من حول ساقها.(2)
[1] – (أ) استعملت كلمة تفجر (178) مثلما استعملت كلمة انفجار
(ب) رغم اعتراضك سجن المعاجم، فهى مرجع طيب اذا اختلفت الايحاءات ولو كنقطة من لغة مشتركة، الى لغة أكثر مشاركة، فأذكرك:
(أ) أن مادة الاشتقاق هى “فجر” وهى فعل سئ السمعة منه الفجور، والفاجرة ، والفجار
(ب) ان يوم الفجار هو يوم للعرب بعكاظ : تفاخروا فيه واستحلوا كل حرمة
(ج) انه من المجاز: انفجر عليهم العدو: اذا جاءهم بغتة بكثرة (وهذا ماحدث).
(د) ان انفجر مطاوع فجر (بفتح الجيم) وأن تفجر مطاوع فجر بتشديد الجيم وفتحها) فكلاهما مطاوع وفجر (بالتشديد) هو مبالغة فى فجر ليس الا (بما لا يحمل الفرق الذى خفته فى اختصاص الأول بالتلقائية والصدفة والاثنى بالقصد والوعى)
(هـ)أن ما جاء فى التنزيل قد يواكب ما استوجبته من مدخل آخر، فقوله تعالى: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) (البقرة:60) لمقابلة (وان من الحجارة لما يتفجر منه الانهار) (البقرة: 74) يوحى أن الانفجار يحدث بفعل فاعل آخر، فى حين ان التفجر هو من داخل الذات – ومع ذلك فلا تطمئن كثيرا ففى الاسراء (90 ، 91) (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا) فهنا التفجر ليس بوعى ذاتى كما أوهمتك من قليل لكنه بفعل فاعل، فقهم الله.
[2] – كتبت هذه القصيدة فى 6 / 3 / 1986، وما أزحت عنها الستار الا لاطمئن مخاوفك وأدعوك الى حوار !! من يدرى لعلنا يوما نتحاور بحق !!