تعليق على مقال:
نظرية التحليل التفاعلاتى(1)
Transactional Analysis Theory
د. رفعت محفوظ
سوف يتضمن هذا التعليق الموجز ثلاث نقاط أساسية، أولها مدى أهمية هذا المقال وتوقيت ظهوره على صفحات هذه المجلة، والنقطة الثانية تدور حول الجوهرى والجديد فى النظرية، وسنشير أخيرا إلى عمق الأصالة المصرية فى فهمها واستيعابها لهذه النظرية.
أولا- أهمية المقال:
أرى أن عرض نظرية “التحليل التفاعلاتي” بطريقة منظمة قد جاء فى أوانه من مسيرة “مجلة الإنسان والتطور”، لأن المفهوم الأساسى الذى تتبناه هذه المجلة، والخاص بطبيعة الإنسان (إلا وهو مفهوم “التعدد والكثره داخل وحدة الكيان البشري”)، يعتبر جوهر هذه النظرية، ومحورها الأساسي، ولقد قدم لهذا المفهوم الدكتور يحيى الرخاوى فى مقال على صفحات هذ المجلة(2).
من هنا تأتى أهمية عرض النظرية فى صورتها المتكاملة، لأن واقع الحال يقال: أن الكثير من الأعمال التى نشرت فى هذه المجلة، ابتداء من عددها الأول، احتوى على الكثير من التوضيح، والإضافة إلى هذه النظرية، ناهيك عن استخدامها، أو استخدام نفس الاتجاه فى التفكير، فى الكثير من المجالات التطبيقية الهامة، وذلك مثل قراءة الأعمال الإبداعية من قصة وشعر، أو الكلام عن الأمراض النفسية بصفة عامة، والجنون بصفة خاصة، والعلاج النفسى.. الخ. وأنا أرى أن ذلك يسهم فى اعطاء النظرية أبعادا هامة وعميقة، واسهامات المجلة فى هذا المجال تحتاج إلى المراجعة والدراسة..
وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه النظرية – أو هذا المنحى من التفكير – لم تأخذ حظها ولا مكانتها بين نظريات الشخصية السائدة، وبالتالى فإنها لم تستخدم كما يجب فى مجال الطب النفسى التشخيصى والعلاج معا.. مع أنها تصلح أن تستوعب فى اطارها المعطيات الهامة للكثير من النظريات الأخرى السابقة عليها، مما يقرب هذه النظرية إلى الفهم والمعايشة والتطبيق.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن المؤسس الحقيقى لهذه المدرسة فى التفكير والتنظير، ألا وهو فيدرن، لم يجد أتباعا كثيرين له، إلى أن أتى أريك بيرن وأعاد الاكتشاف، ووجد أنه يتبع نفس الطريق. وسوف أقتطف من الدكتور يحيى الرخاوي، ما يوضح لماذا كل هذه المقاومة، والتجاهل:
”إن تغير النظرة إلى الإنسان كوحدة استاتيكية (أو حتى ديناميكية) إلى اعتباره (مجمع شخوص) يمثل موجزا للتاريخ ومحتوى العالم فى آن واحد، خليق بأن يقلب كل الموازين السائدة حاليا عن مفهوم الإنسان ومفهوم الحضارة ومفهوم النمو الفردى ومفهوم التطور البشرى جميعا، وتغير هذه المفاهيم هو أمر خطير، لكن الأخطر منه هو ما يستتبع تغيير مثل هذه المفاهيم من طبيعة المسيرة البشرية”(3)
ثانيا: الجوهرى والجديد فى النظرية:
تمثل نظرية “الأنا” Ego Theory التى بدأت بفرويد فى إطار نظريته التركيبيةStructural Theory، ثم تطورت بعد ذلك على أيدى الكثيرين من أتباع التحليل النفسى تحت عنوان ما يسمى علم نفس الأناEgo Psychology (4)] اتجاها معينا فى التفكير والتنظير فيما يخص تركيبة النفس البشرية، فى حين أن نظرية “حالات الأنا”Theory of Ego States والتى بدأت بفيدرن ثم تلميذه فايس لتصل عند أريك بيرن إلى درجة عالية من التقسيم والتوضيح والتطبيق – تمثل اتجاها آخر يختلف اختلافا جوهريا عن الاتجاه الأول.. وسوف أوجز هنا الفروق الهامة بين الاتجاهين لعلها توضح ما هو جوهرى وجديد فى نظرية التحليل التفاعلاتى:
1- من حيث المنهج: تعتمد نظرية “حالات الأنا” على المنهج الفينومينولوجي، والذى يرتكز أساسا على الوصف الدقيق للخبرات الذاتية، وعلى ما يخبره الفاحص المنظر داخل نفسه، ودقة ملاحظته وحدسه الإكلينيكى ومعايشته للوقائع النفسية عند الآخرين.. وهنا نقول:
(أ) لولا هذا المنهج لما كانت الاكتشافات الجديدة الخاصة بتركيبة النفس البشرية، وبالتالى لما كانت هناك مفاهيم جديدة.. وهذا يؤكد أهمية وخطورة منهج الدراسة، وكذلك الارتباط الشديد بين طبيعة المنهج وعمق وجدية النتائج التى يتوصل إليها.
(ب) أن الحقائق والمعطيات المتضمنة فى نظرية حالات الأنا، كانت تتبدى للكثيرين، وأولهم فرويد، ولكن نظرا لبعدهم عن المنهج الفينومينولوجي، واتجاههم العقلانى فى التفكير، فأنهم لم يكملوا ما تكشف لهم فى اتجاهه الصحيح.
(جـ) عند قراءة أعمال كل من اتبع المنهج الفينومينولوجى فى الدراسة، نجد أنهم، وبالرغم من عدم استخدامهم لمصطلح حالات الأنا، قد اكتشفوا – أو أعادوا اكتشاف – تعدد الكيانات والتنظيمات داخل النفس، ومن أمثلة هؤلاء: يونج، وسيلفانو أريتى.
(د) لقد اهتم اريك بيرن ابتداء بالمنهج مع ترك المفاهيم السابقة جانبا، فوجد نفسه يعيد اكتشاف “تعدد الكيانات” داخل النفس، ثم وجد أنه يسير فى نفس الطريق الذى اتجه إليه كل من فيدرن وبنفيلد، واللذين اعتبرهما أساتذته فى هذا المجال.. ويشير بيرن إلى أنه من خلال هذا المنهج تقفز هذه النظرية كمدخل طبيعى Natural لعلم النفس والطب النفسى.
2- تتحدث نظرية “حالات الأنا” عن مكونات النفس بلغة الواقع الملموسRealities، وليس فى صورة افتراضات نظرية ومفاهيم مجردة كما هو الحال فى نظرية الأنا.
3- هذا الواقع الملموس يعيشه الشخص نفسه، ويمكن ملاحظته ووصفه مباشرة، وذلك فى مواقف الحياة العادية، وفى الموقف الإكلينيكي، بينما تجد أنه فى “نظرية الأنا” تلزمنا خطوات استنتاجية كثيرة ومعقدة لنصل بين ما هو ملاحظ وما نريد التوصل إليه من مفاهيم وافتراضات.
4- وهكذا فإن وحدة تركيب النفس الإنسانية تتجلى فى صورة “كل متكامل” ومتسق من المشاعر والأفكار وتعبر عن نفسها فى صورة نمط سلوكى محدد. وهذا الكل هو ما يسمى “حالة الأنا”Ego State فى حين أنه فى نظرية الأنا يكون الحديث عن “أجزاء”. وهذه الأجزاء غير قابلة للملاحظة المباشرة أو المعايشة، مما يضطرنا إلى تعريفها عن طريق ما نتصور أنه وظائفها، وبذلك نجد أنفسنا فى موقف دائرى محير. حيث أننا نفترض وظائف لشيء لا نعرفه، ثم تعرف هذا الشيء غير المعروف عن طريق وظائفه.
5- تتيح لنا نظرية “حالات الأنا” الكلام عن العلاقات بين مختلف حالات الأنا، وكيفية تفاعلها مع بعضها فى حالة السواء والمرض، وذلك من خلال ما يسمى بالتحليل التركيبيStructural Analysis، فى حين أن الكلام عن العلاقة بين أجزاء النفس فى نظرية الأنا يكون مبهما وغير واضح… ومن هنا فإن النظرية التى بين أيدينا أتاحت لنا اكتشاف الميكانيزماتFormal Mechanisms التى تكمن وراء المرض النفسى والعرض النفسي، فى حين أن نظرية الأنا لا يمكن من خلالها تصور مثل هذه الميكانيزمات.
إن هذه النظرية أفسحت المجال لحل ما تحتويه “نظرية الأنا” من تناقضات ونقائص، وهى كثيرة لدرجة أدت بالبعض – مثل هولت – أن يعلن موت النظرية التركيبية الفرويدية (5) .
ثالثا: الأصالة المصرية.. وموقفها من النظرية:
تتجلى الأصالة المصرية فيما أضفاه فكر د. يحيى الرخاوى لهذه النظرية موضوع المناقشة من أبعاد جديدة، وتعديلات كثيرة، مما يحتاج إلى دراسة طويلة ومتأنية.. وما أذكره هنا هو مجرد أشارات فقط إلى بعض النقاط الهامة:
1- الاهتمام الشديد بالبعد الطولى فى رؤية وفهم العلاقات بين الكيانات المتعددة داخل الوحدة البشرية.. ما يفتح المجال على مصراعية لفهم مسيرة النمو الديالكتيكى على مستوى الفرد، ومستوى التطور البشرى… وهذا البعد لم يأت ذكره إلا من خلال أشارات عابرة عند أريك بيرن.
2- التأكيد على المنطلق البيولوجى ومحاولة ترجمة “حالات الأنا” إلى ما يقابلها من مستويات وتنظيمات مخية مختلفة، مع الإشارة إلى احتمال وجود ما يقابل هذه التنظيمات من تنظيمات على مستوى الخلية… وامتداد هذه المحاولة إلى ترجمة العلاقات والتفاعلات بين هذه الحالات – سواء عرضية أو طولية فى السواء أو المرض – إلى “لغة المخ”Brain Language والتنظيمات النيورونية.
3- عدم التقيد بتقسيمات اريك بيرن لحالات الأنا، والكلام عنها – وما يقابلها من مستويات مخية – بطريقة لا نهائية ممتدة شاملة كل التاريخ البشرى، بل وتاريخ الاحياء..
4- تعدد مجالات التطبيق لتشمل الكثير من الظواهر البشرية، وذلك غير ظاهرة المرض النفسي، مثل الحلم والإبداع.. وذلك فى تناول متعدد الأبعاد، مما يؤدى إلى تعميق النظرية، وإضافة الكثير إليها…
وباختصار فإن ثراء نظرية “حالات الأنا” وعمق عطائها يتجلى واضحا فى فكره من خلال الفروض الكثيرة الخصبة والمتشعبة والمتولدة منها على يديه.
وأخيرا…
فلا يسعنى إلا أن أشكر هيئة تحرير المجلة ود. عماد حمدى غز على ظهور هذا المقال، مع المامه بالجوانب الهامة فى النظرية، وسهولة العرض، واللمسات الإضافية فى فهم النظرية، مع إضافة بعض التعديلات فى الكثر من المواضع، فكان المقال عرضا للنظرية وحوارا مثريا معها فى آن واحد… فشكرا.
[1]- الإنسان والتطور. إبريل 1986، ص 13 أعداد هيئة التحرير و د. عماد حمدى غز.
[2]- د. يحيى الرخاوى: الوحدة والتعدد فى الكيان البشرى. الإنسان والتطور. اكتوبر 1981، ص 19.
[3] – . يحيى الرخاوى: الوحدة والتعدد فى الكيان البشرى. الإنسان والتطور. اكتوبر 1981، ص 23.
[4] – موضوع مقال قادم على صفحات هذه المجلة
[5]- سوف نتطرق إلى هذه النقطة بالتفصيل فى المقال عن علم نفس الأنا.