المخ والسلوك: فى الصحة والمرض
” حول مقال فاينبرج عن الفصام”
د. رفعت محفوظ
أولا : ابتداء أود أن أؤكد أهمية هذا المقال، فى هذه المرحلة من تطور ” العلوم النفسية” بصفة عامة، ” والطب النفسى” بصفة خاصة . وقد وصف المقال، فى التقديم له من رئيس التحرير، بأنه ” رؤية شاملة تبدأ من منطلق بيولوجى”، فلقد استخدم المقال لغة المخ “Brain Language “، أى ما يحدث داخل المخ من تغيرات، فى محاولة لتفسير بعض المظاهر السلوكية فى الصحة والمرض(بالتحديد هنا مرض الفصام )…. وهذه اللغة فى حد ذاتها ليست جديدة فى مجال الطب النفسى، ولكن الجديد فيها هو أبجديتها، والتى تلزم لشرح نتائج ومعطيات الأبحاث المعملية الحديثة، ومحاولة الربط والتركيب فى فروض عاملة، تثير البحث والتفكير للوصول الى أبجديات أخرى كثيرة فى معجم هذه اللغة القديمة، ألا وهى “لغة المخ ” .
ثانيا : الملاحظات المتأنية للمظاهر السلوكية، بمداها الواسع، فى المرحلة الهامة والثرية والحرجة معا، ألا وهى مرحلة المراهقة، تدعو للتساؤل دائما عما يحدث فى ” المخ البشرى” من تغيرات …. وهذه الملاحظات تتسق مع ما ساقه “فاينبرج” من أن ” المخ البشرى يعاد تنظيمه جذريا خلال مرحلة المراهقة ” …… وهنا أحب أن أشير الى الملاحظات التالية :
1 – أن ما ساقه المؤلف من دلائل بيولوجية أنما يشير فقط الى ان ” هناك تغيرا جذريا يحدث “، ولكن لا يشئ بالشئ الكثير لمعرفة ” طبيعة هذا التغير” أو ” مداه ” .
2 – هذه الدلائل نفسها قليلة جدا، بالنسبة لما يمكن أن يتصور حدوثه، ,ان هناك الكثير الذى يحتاج الى البحث، وكلما زادت الأبحاث وتعمقت فى هذا الاتجاه، زادت القدرة على وضع فروض أكثر اقترابا الى طبيعة التغير فى المخ .
3 – بخصوص الفرض الأساسى الذى يأتى به فاينبرج كاحتمال لتفسير تلك المظاهر
- انه يظهر أهمية المشتبكات العصبية كأساس للتغير الذى يحدث فى هيكلية المخ البشرى ……. وهذه الأهمية تتسق مع منطق ” تركيب ونظام عمل المخ البشرى).
(ب) أرجح أن هذا الفرض يتكلم عن المشتبكات العصبية فى القشرة المخية (اللحاء) فقط . فماذا عن باقى المشتبكات العصبية فى مخ يحتوى – وكما يقول فاينبرج – على ” عشرة بلايين خلية عصبية، كل منها قادر على عدة مئات الآلاف من الوصلات العصبية”؟!
(جـ) هو فرض – بالرغم من جودته – يمكن أن يوصف بالاختراق والعزل، اذ قد يفسر بعض المظاهر البيولوجية التى أثبتها المؤلف فى مقاله، ولكن يجب ألا ننسى أنه عند معرفتنا بمظاهر أخرى لهذا التغير فاننا سوف نحتاج الى فروض أشمل وأعم .
(د) أن عملية اختزال المشتبكات العصبية التى يفترضها المؤلف قد تكون هى فى حد ذاتها مظهرا لتغير آخر أكثر جذرية .
ومع ذلك فانى أعتقد أن هذا الفرض يشير الى اتجاه هام ومفيد، ألا وهو البحث والتفكير فى التغيرات التى تحدث فى المخ، من خلال ما يحدث على مستوى المشتبكات العصبية من الناحية التركيبية الوظيفية .
ثالثا : بخصوص مرض الفصام، يفترض المؤلف أن ” خطأ أو عيبا فى عملية الانخفاض المبرمج لكثافة المشتبكات العصبية، والتى تحدث لدى ملحوظ الأهمية فى مرحلة المراهقة، قد يكون مسئولا عن حالات من الفصام مما يظهر خلال مرحلة المراهقة” ……. ولى هنا بعض الملاحظات:
1 – يؤكد الفرض أهمية ما يحدث على مستوى المشتبكات العصبية، كأساس لتفسير المظاهر المرضية .ولكن يجب ألا ننسى أن الفروض السابقة، كفرض الدوبامين، أعطت أهمية لما يحدث على مستوى المشتبكات العصبية بين الخلايا، وليس بافتراض تغير يحدث فى عدد هذه المشتبكات .
2 – فى حدود هذا الفرض، ومع التزكير على حالات الفصام التى اهتم بها فاينبرج، والتى يمكن أن تحدث” بشكل مفاجئ عند الصغار الذين يظهرون سلوكا سويا، أو حتى عند أولئك الذين يظهرون سلوكا – قبل المرض – بارزا وظاهره البراعة والتواؤم ” …. أقول انه فى هذه الحدود، فاننى أتصور – ومن خلال ملاحظات اكلينيكية متواضعة – الآتى :
ان هذه النوعية من الأفراد الصغار، يظهر عندهم ما يسمى بالتفكير الممنطق الناضج، والقدرة على حل المشكلات، بصورة مبكرة وسابقة لأوانها، وأننا قد نستنتج من هذا أن عملية تشذيب المشتبكات العصبية فى القشرة المخية تحدث بصورة مبالغ فيها وقبل أوانها – أى قبل المراهقة – وان هذا بدوره قد يكون هو الذى يعطى دفعة لمرض الفصام عند هؤلاء.
وبناء على تلك الملاحظة، ومحاولة الاستنتاج من خلال اطار فرض فاينبرج، فان دراسة الدلائل البيولوجية التى أشار اليها المؤلف فى مقاله، فى هذه النوعية من الأطفال – قبل حدوث الفصام – قد تكون مفيدة فى تعديل هذا الفرض وتطويره .
وهنا – وكملاحظة جانبية – أحب أن أشير الى مجموعة خاصة من الأطفال الصغار، يلاحظ عليهم أيضا سرعة ظهور التفكير الناضج فى سن مبكرة جدا، وفى نفس الوقت يظهر عندهم عيب معين فى الكلام “التهتهة Stuttering
هذه المجموعة اعتقد أنها أقل عرضة للاصابة بمرض الفصام، وهى تحتاج الى دراسة خاصة فى اطار هذا الفرض.
3 – أوافق زميلى د. عماد حمدى على الخلاصة التى أنهى بها تعقيبه على مقال فاينبرج، وهى ان المؤلف” يسوق الأدلة التى تقول ما معناه أن عملية نضج المخ قد تختل وهذا الخلل قد يؤدى بصورة أو بأخرى الى الفصام “(19
رابعا : أوافق رأى التحرير بأن المؤلف فتح” ملف(التطور) وبرمجة موت الخلايا بشكل ابداعى رائع…..” …… ولكنى أعتقد أنه لم يفتح هذا الملف بصورة كاملة، ليستفيد من كل امكاناته الهائلة، وهى فى نظرى، الأقدر فاينبرج الذى بين أيدينا…. وأتمنى أن ينصب اهتمام المجلة ـ – بعد الانتهاء من التعليق على فرض
فاينبرج الذى بين أيدينا…. على فتح هذا الملف، وقد تسنح الفرصة مرة أخرى باعادة قراءة ومناقشة مقال فاينبرج من خلال ” منظور تطورى ” ………
خامسا : هناك تلميحات فى المقال الى آراء علماء ومنظرين سابقين من أمثال بلويلر، وفرنيك، وسترانسكى…. والتى تشير فى اجمالها الى :
خطأ نسبى فى تكامل الأنساق النيورنية المخية بينما تكون هذه الأنساق سوية فى حد ذاتها ” ……. وهذا الاتجاه فى التفكير يتناسب تماما – فى رأيى – مع المنظور التطورى ….. وفى نفس الوقت يسمح باعادة صياغة فرض فاينبرج……. فيمكن أن نرى أن الخلل فى المشتبكات العصبية الذى أشار اليه لا يحدث أساسا على مستوى القشرة المخية، وانما على مستوى المشتبكات العصبية التى تعمل تكامل الأنساق النيورنية فى المخ البشرى، وان حدوث الخلل فى مشتبكات القشرة المخية هو نتاج هذا الخلل الأساسى……..
وأخيرا – وليس آخرا ـ – فانى أشكر هيئة تحرير المجلة على فتح ملف المخ البشرى بهذه الصورة، كما أود أن أسجل اعجابى الشديد بالتعليقات التى اوردها كل من الزميل المهندس ابراهيم عادل، والزميل الدكتور عماد حمدى، واشكرهما كثيرا على ذلك .
***
تعليق على التعليق :
ونحن لا نملك بدورنا الا أن نشكر د. رفعت فنقول :
1 – ان غرابة اللغة الجديدة هى حاجز أمامنا، علينا – فى هذه المجلة ابتداء – أن نتخطاها بمنتهى الاصرار والمثابرة، فأولى بنا أن نحل فى ذهن المتخصص والعامة على حد سواء كلمات مثل” التأليف الكلى” و” العزل الاختيارى” و” النيورون الأبقى” محل كلمات مثل” العقدة النفسية”و “مركب النقص” – أو على الأقل جنبا الى جنب معها، حتى لا يختزل السلوك البشرى الى أوهام رومانسية يختلط فيها كل شئ بكل شئ .
2 – ان فروض الرواد السابقين الذين أشار اليهم فاينبرج والتى أوردها د. رفعت أمثال بلويلر، وفرنيك، وسترانسكى قامت فى نفس الاتجاه دون هذه الأدلة المحددة التى أتحيت ل – فاينبرج، فلهم حق السبق حقيقة وفعلا، فأولى بنا أن نتعلم منهم، فلا نرفض فرضا متماسكا نابعا من الممارسة الاكلينيكية هى الأصل، وها هو الدكتور رفعت ينبهنا الى التخوف من سرعة نضج الصغير وحسن منطقه ( اسم الله عليه زى الكبار تمام) على حساب تشذيب سابق لأوانه لمشتبكات أكثر، كان ما زال فى حاجة اليها لمرونة نموه بحسن توقيت تشذيب مشتبكات مخه، وعلينا أن نتذكر فى هذا الصدد أولئك الذين يعترفون أنهم ” لم يراهقوا أصلا”وأن نضئ الضوء الأحمر للآباء الذين يفرحون بهذه الحكمة المبكرة، التى تتواكب عادة مع الشطارة المدرسية المتفوقة، على حساب البرمجة اللازمة فى الوقت المناسب أقول ان رؤية د. رفعت – ومثله ـ – من واقع الممارسة الاكلينيكية، جدية بالانتباه حتى لو لم نجد هذا الفرض الذى قد يفسرها، وأنها – ومثلها – حافز دائم للفروض المتجددة .
وأضيف أن فرصتنا فى مصر – مع عجز امكانياتنا المعملية ووفرة فرصتنا الاكلينيكية، وخاصة مع المرضى الذين لم يتعاطوا عقاقير لمدة كبيرة ـ – هى فرصة أكبر من كل تصور، واذا كان لحوارنا مع المتقدمين عنا فى المعمل والضبط أن يؤتى ثماره فهو سوف يفعل ذلك أذا استوعبنا معطياتهم الجزئية فى اطار تنظير ملاحق ومتجاوز نابع من خبرتنا الاكلينيكية، أما أن” تضحكوا” علينا لنكرر ما يفعلون بامكانيات أقل (حتى العدم والخلل) انتظار لاستلام الفروض الجديدة أيضا من عندهم، فهذا معطل للجميع بلا مبرر .
3 – ان تكرار الاشارة الى الحاجة الى مفهوم أشمل ومنظور تطورى، هو هام تماما، ولعل د. رفعت يفى بوعده بتقديم مترجم بهذا الشأن قد كلف به أخيرا ليتواصل الحوار من المنطلق الذى يوصى به، ثم لنعود بعد ذلك الى مفهومنا الخاص( غير ناسين أننا جمعية الطب النفسى التطورى ).
***
وما زلنا آملين أن نواصل الحوار حول نفس الموضوع فى العدد القادم .
[1] – الانسان والتطور، عدد أكتوبر 1985، ص 29