الفن الفطرى
عصمت داوستاشى
مقدمة :
منذ أن كان لى شرف المساهمة فى هذه المجلة التى أعتبرها رائدة فى مجالها التحريرى وذات خصوصيات طيبة تثرى الحركة الثقافية وتقلب عليها أوجاعها..
ورغم الصمت الذى يحيق بها ويضيق به رئيس تحريرها من وقت لآخر وكذلك المساهمين فى تحريرها …. ورغم أنى أزعم أن للمجلة حضورا قويا فى وسط المثقفين والأدباء فان طموحى فى ان يواكب اخراجها الفنى مثيلتها من حيث غلاف ملون( أوفست) وجمع تصويرى وطباعة الرسوم على افلام وليس على اكليشيهات تمشى على اربع أرجل الخ….. الخ مما يجعل عم سيد الذى يطبعها بروح المسئول الأول عنها يغضب منى غضبة كبرى (على وزن الصحوة الكبرى) .
اقول انى مستعد أن أتراجع بكل طموحاتى من أجل استمرارها بهذا الشكل المتواضع الذى أصبح علامة مميزة لها ولكن هذا لايغفر لى تقصيرى تجاه طموحات اخرى لم أتمكن من تحقيقها فى تحرير المادة الفنية من الرسوم المرافقة للموضوعات الى تحرير كلمة عن الفنان المبدع الذى يقدمها وعن الرسوم أو اللوحات نفسها .
كنت أتخيل فى البداية امكانية ان أستضيف فى كل عدد أعمال فنان تشكيلى ,وأن أكتب عنها وهذا لم يحدث لأنى كنت أطلب من الفنان فلانا مثلا أن يجهز لى مجموعة رسوم بالأبيض والأسود من أعماله لكى أختار منها ما يناسب النصوص التى تصلنى فى آخر لحظة ولكن هذا الفنان الفلانى مثلآ يحتاج أن أنام وأصحو عنده وأن أعطيه الفرشة والأخبار والورق لكى يرسم وبذلك لم تصلنى أى رسوم من أى فنان طلبت منه تزويدى بها فللفنان التشكيلى المصرى مشاكله التى قد أنتهز فرصة أخرى مناسبة مثل هذه الفرصة لأتحدث عنها. ولكنى الآن أنتهز الفرصة لأتحدث عن علاقتى الحميمة بالمجلة من خلال محاولة تقديم رسوم هذا العدد وبطريقة( الكتابة الفطرية) على نسق الرسوم الفطرية التى تراها مصاحبة لموضوعات المجلة والتى رسمها الأديب نبيل نعوم وهو أديب وليس فنانا تشكيليا، وأنا أكتب مثل ما يرسم هو لأنى فنان تشكيلى ولست أديبا .
نعاود مجرى الحديث السابق، فأقول انى وجدت نفسى أرسم معظم اعداد المجلة ولى فى ذلك ذكريات طيبة كثيرة ولكن لأنى حيوان اجتماعى أعلن دائما ضرورة العمل الجماعى فيما يتعلق بالأنشطة الانسانية جاعلين عالم الحيوان مثالا رائعا لنا …. أخذت أقتفى أعمال فنية لفنانين آخرين لكى أضعها داخل صفحات المجلة ومعظم هذه الأعمال أعثر عليها فى مجموعتى الخاصة وعادة أستأذن الفنان فى النشر الذى يفرح كثيرا حين يرى رسمه لكى يكون عددا كاملا من المجلة مخصوص له….. كم وقتها ستكون فرحته، ألسنا جميعا نسعى الى نشر أعمالنا فما بال الفنان التشكيلى كسول ومترفع الى هذه الدرجة ولكن هذه قضية أخرى، والى أن هدانى الله وقررت أن أخصص كل عدد لفنان رغم أنف الجميع وكانت خططى أن أقدم رسوم فنان شاب معاصر وهكذا وللعلم فان وضع رسوم مع القصص او المقالات ليس عملا تزيينيا، ولكنه عمل فنى بالدرجة الأولى والهدف منه يماثل ويوازى ويساوى أى عمل آخر منشور بالمجلة بمعنى أن ما نقدمه فى هذه المجلة من رسوم مصاحبة ليست( الستريشن) أى رسوم توضيحية للموضوع المكتوب مثل الرسوم المصاحبة فى الصحافة اليومية أو الأسبوعية ولكن ما نقدمه هنا هو عمل فنى متكامل مثال ذلك ما بدأت به مشروعى هذا من تقديم أعمال الفنان الفطرى حسن مختار فى العدد الحادى والعشرون1985 وسأشرح لماذا هذا الفنان فطرى ومعنى هذه الكلمة ولماذا أقدمه ثم فنانا فطريا آخر فى هذا العدد ولماذا الفن الفطرى، كما قدمت بعد ذلك فى العدد الثالث والعشرون1985 رسوما من أعمال الفنان الكبير محمد ناجى رائد فن التصوير والرسم المصرى المعاصر وهو فنان توفى عام1956 وترك ثروة هائلة من الأعمال الفنية وله متحف خاص فى أول طريق الهرم وله شهرة عالمية، وهكذا أود أن أستمر بعد أذن أسرة التحرير واذن قراء هذه المجلة وأن أتوارى أنا برسومى الخاصة بقدر الامكان وأن تكون الرسوم المنشورة فرصة لقراء الفن التشكيلى كلاسيكيا كان أو معاصرا أو حديثا….. لفنانين كبار رحلوا عنا أو ما زالوا بيننا الى فنانين شباب الى فنانين لا يعرفون عن أنفسهم انهم فنانين ولكنهم أكثر أصالة من كثيرين ممن يطلقون على أنفسهم لقب فنان وهذا هو محور حديثى التالى .
الفن واللافن :
من البديهى أن نعرف أنه ليس كل ما نقرأه من أدب هو أدب كذلك ليس كل ما نراه من فن، فالابداع الذى يبقى مع بقاء الزمن ويظل تأثيره التحاورى أو التأملى أو الجمالى عند الانسان باقيا هو ابداع أصيل له مواصفات خاصة فكل ابداع الحضارات القديمة له أصالته وله مواصفات بقائه الى الأبد فى متحف الانسان وكذلك الحال بالنسبة لفنون الشعوب البدائية وهو ما يطلق عليه الفن البدائى هو فن أصلى وكذلك الحال مع كل انسان يحاول أن يبدع فن، أن يمسك قلم ,ان يرسم به وهو يعلم تماما أنه لايعرف الرسم لم يتعلمه بل أنه يقف غالبا أمام أعمال الفن الحديث غير قادر على تفهمها أو استوعابها ولكن هذا الانسان الذى يمكن أن يكون هو أنت وأنت بالذات وأنا الآن سانتظر رسوماتك ….
فامسك القلم وارسم وأبعث لى برسوماتك ولنحاول أن نقرأها سويا…….
أنت بالذاب سيكون اسمك، فنان فطرى والفن الفطرى يعنى فن شعب متمدين متأثر بالرغبة فى خلق شعور بالجمال البدائى وليس لابداعك هذا أى علاقة بجودة العمل أو قبحه، ذلك لأنك تعبر بالخطوط عن رؤيتك أنت وعن ما فى داخلك بأداء بدائى( الرسوم ) فى اطار فطرى (حياتك الراهنة) فأنا أقول أن ما يبدعه البدائيون المحدثين والفطريون والأطفال والمجانين هو ” فن” وان ما أنتج خلال الثمانين العام الماضية فى المدرسة العالمية للفن الحديث هو (اللافن)
باستثناء ابداعات قلة قليلة فالفن الفطرى مظهر من الفن البدائى مارسه صاحبه بمجهوده الشخصى، وهم الذين لم يفكروا أصلا ليكونوا فنانين، ويرى الفنانون الأكاديميون أن الفن البدائى فن خشن مليئ بالأخطاء وغالبا ما تظهر الأشخاص بعيدة عن النسب الطبيعية، وهناك اهمال فى قواعد التصوير وموضوعات الصور غريبة العلاقة، غير أن بعض أصحاب الأفكار المتحررة جذبهم التصوير ذو الصبغة الصبيانية واكتشفوا فيه بعض الصفات الجمالية الهامة، وحيوية لا تنكر ، وجاذبية لطيفة، وفضلا عن هذا كله حظا من القوة، مع تصميم ممتع، ويتميز التصوير البدائى الحديث بالحساسية المرهفة (1) .
***
واشهر فنان فطرى بدائى فى مدرسة الفن الحديث هو ” هنرى روسو” الذى ولد فى لافال فى فرنسا عام 1844 وكان ولده تاجر صفيح وكانت أسرته فقيرة واشتهر باسم ” الجمركى” لأنه عمل فترة مفتش جمرك ولكنه وهو فى الاربعين من عمره استقال لقاء معاش بسيط ومن ثم كرس حياته للفن ولموازنة المعاش الضئيل تعلم الموسيقى والرسم، ومارس احيانا الفن الأول كموسيقى، يعزف على الكمان، يستأجر للعمل فى حفلات حدائق ” التوبليرى” على أنه ظل طيلة حياته فقيرا واصبحت لوحاته تباع الآن بآلاف الجنيهات وتقتنيها أعظم متاحف العالم.
لقد بدأ روسو فى تصوير أشخاص مجهولين وزهور ومناظر طبيعية رومانتيكة وكانت هذه صورا شعبية ظلت منذ سنة1800 شائعة فى أوربا بأجمعها والعالم الجديد. وبغض النظر عن المدة والقيمة، فقد كانت أعماله ذات تشابه عائلى، فكانت أشكالها مطابقة تمام المطابقة لمسطح الصورة وللاطار، كان مسطح الصورة يتسع بشكل هندسى يتخلله التناسق فى التخطيط والمسافات .
أما تنفيذ التفاصيل فكان دقيق الواقعية. وتتضمن أعماله الرغبة فى التعبير عن شعور حيوى. فكانت الوجوه بعيونها المبصرة مرسومة فى المقدمة مع اتزان فى الرؤية، وهناك فروق كبيرة فى الأحجام. من ذلك وجوه دقيقة فى منظر طبيعى كبيرأو شخص عظيم فى منظر خلفى مصغر، وتحوطات حادة حول مساحات ملونة غالبا، بدون ظل أو وزن .
وسرعان ما أسترعت صوره انتباه عدد كبير من الناس، كان أكثرهم غير راضين عن أعماله وعرض هذه الأعمال فى الصالون الجديد للمستقلين بباريس وهذا الصالون قد جمع كل عظماء الحركة الحديثة فى الفن، وعلى الرغم من شدة فقر ” روسو” فقد ظل مصورا حتى خاتمة حياته فى 4 سبتمبر1910 وكان فى رسومه مصمما عظيما وزخرفيا صرحيا شعريا .
وكان للفن الفطرى البدائى بصفة خاصة تأثير هدام على الفن الواقعى، فقد أبعد عددا من الفنانين عن الواقعية، وبشر بقدوم الفن التكعيبى والتصوير المجرد وهما الدعامتان الأساسيتان للفن الحديث .
وما يقال عن فن هنرى روسو يمكن أن يقال عن فن أى فنان فطرى….. ان الفن الفطرى هو فن عالمى وانسانى وهو المحور الأساسى بين الفنون الحضارية والبدائية والفنون المعاصرة الحديثة والمستقبلية .
***
هل اصبح واضحا لنا الآن لماذا الفن الفطرى أكثر أصالة وصدقا وانه فن وما عداه أقول عليه بانه” لا فن” لأن معظم إبداع الفنانين المحدثين تجارب مفتعلة فى الشكل لايجاد قوة تأثير بصرى على المتلقى، خالية من الفطرة، من التدفق الشعورى، ومن الحب .
وعلينا الآن أن نلقى نظرة على رسوم نبيل نعوم الذى ولد بالقاهرة عام1944 اى بعد روسو بمائة عام ودرس الهندسة المدنية بجامعة القاهرة وتخرج منها عام1967، لقد هاجر عام 1969 الى أمريكا وتابع هناك الحركة الفنية التشكيلية الواسعة فى نيويورك والتى كانت منبثقة من حى سوهو حيث كان يسكن وهناك بدأ محاولاته الجادة الأولى فى الرسم بالقلم الأسود على ورق ابيض عادى وكانت رسومه هناك كلها حنين الى موطنه الى بلده مصر كانت اسقاطات غير مباشرة لرموز مصرية طقوسية للمرأة، الجنس، الولادة ،العلاقة، التراث . فالفنان الفطرى أكثر جرأة فى تناول موضوعاته وأكثر انكشافا للشعور، وأكثر حوارا مع الممنوعات دينية كانت أو اجتماعية، واذا كان هنرى روسو قد ترك لنا زخارف عظيمة؛ فلأنه كان يرسم وسط عمالقة الفن الحديث ولم يكن يرسم مع نفسه ولنفسه مثل مافعل حسن مختار الذى قدمنا رسومه فى عدد سابق، ومثل ما فعل نبيل نعوم فى رسومه هذه، وأنا قد اخترت المنشور هنا من مجموعة كبيرة معظمها كان محوره العلاقة السرية بين الرجل والمرأة، وبين الانسان وربه، وبين المواطن ووطنه وقد اضطررت للتدخل فى الرسوم لجعلها صالحة للنشر بتغطية بعض المساحات باللون الأسود، ولايجاد توازن مفقود فى الرسوم الأصلية، مرجعه أن الفنان المبدع لم يكن يفكر أنه يمكن أن تنشر رسومه هذه فى يوم ما ، بعكس ابداعه الأدبى الذى نشر فى مصر” رواية الباب1977″ و”عاشق المحدث” عام 1985مجموعة قصصية نشرت أحدى قصصها بمجلة الانسان والتطور بعنوان “تحولات الآلهة” بالعدد الثامن عشر صفحة 90 وله تحت النشر” العودة الى المعبد” وترجمت أعماله الى الفرنسية والانجليزية والألمانية واليونانية،وصدر له أخيرا بالفرنسية عن المركز الفرنسى المصرى للترجمة بالقاهرة مجموعة قصصية بعنوان” القاهرة مدينة صغيرة” كان أثناء هذا كله يخربش على الورق رسومات طموحة يتفاوت مستواها الأدائى من حيث تواجده الزمانى والمكانى فلو كان قرب متحف انسانى تأثر بالمدرسة الوحشية وبرسومات بيكاسو وماتيسى، ولو كان قرب حالة تصوفية، وله فى التصوف ثقافة معايشة من خلال جولته الطويلة حول العالم حيث يوجد المعبد والكاهن، وحيث يبحث الباحثون عن الحقيقة وسط حطام الخرافات؛ نجد رسومه أقرب الى الهلوسات الوثنية التى نجدها على جدران المعابد الفرعونية أو المخطوطات القديمة السحرية .
ان القيمة التى وراء هذه الرسوم ليست فى براعة الأداء، ولكن فى حساسيته والقيمة فى صدق العلاقات الخطية وتحاورها وفى الشعور المتدفق والرموز المكشوفة بطريقة لا يفعلها الا الأطفال وما أعظم صدق تصورهم للعالم وللحياة.
***
ها أنا أخيرا قد استطعت أن أكتب لكم ….. على المنضدة التى نأكل عليها … نكتب عليها … نرسم عليها….. كتبت لكم كتابة فطرية…. أمسك القلم وأسترسل…وهذا ما أريده منكم أن تمسكوا القلم وأن نتحاور، أنتم بالرسم وأنا أعلق عليه، ماذا يمكن أن يكون وراء الأبواب المغلقة السحرية، تلك الأبواب التى نخاف أو نتكاسل عن أن نفتحها، فيفتحها أمثال نبيل نعوم وحسن مختار، فيكتشفون الفن ويبهروننا بأعمالهم….. وأنا أفتح من حين لآخر بابا فأجد قلما وورقة، وأكتب قصة أو أكتب ما أكتبه لكم الآن…. فهل لما أكتبه قيمة؟ وهل لما نفعله قيمة؟ ان المدرسة الابداعية الانسانية الكبرى هى فى الفعل، فى الانجاز، وبعد ذلك يأتى التنظير والتفلسف والنظريات والمصطلحات والتخصصات وكل ما يقدر عليه الانسان من عقد وتعقيد، ولكنى أنشد معكم البساطة وأقحم نفسى ( هكذا ببساطة ) على صفحات هذه المجلة لأتصل بكم لخلق تيار من الفن الأصيل، قالوا عنه انه فطرى أو بدائى أو حتى عيالى مش مهم المهم فى نظرى هو تلامس الأرواح وتفاعلها واقتحام المجهول وأنتظر ابداعكم فى الرسم والى لقاء فى العدد القادم .
[1] – حول الفن الحديث تأليف جورج أ. فلاناجان ترجمة كمال الملاخ دار المعارف بمصر 1962 ص 203