مقتطف وموقف
”كلمات” سارتر: بأكثر من “لغة”
المقتطف
(من: “الكلمات” لـ: جان بول سارتر – ترجمة: سارتر – ترجمة: د. خليل صابات)
(الدار المصرية للتأليف والترجمة 1966 – ص 109- 110).
من حديثه عن حبه للسينما طفلا:
”.. وفوق كل ذلك كنت أحب “بكم” أبطالى الذى لا علاج له، ولكن لا، لم يكونوا بكما لأنهم كانوا يعرفون كيف يجعلون الناس يفهمونهم، كنا نتصل عن طريق الموسيقي، صوت حياتهم الداخلية”.
”.. ويا للفرح حين توافق آخر طعنة سكين آخر نغمة فى اللحن، كنت أسعد ما يكون، لقد وجدت العالم الذى أريد أن أعيش فيه ولمست المطلق، وياللمضايقة حين تعاد إضاءة المصابيح: لقد تحرقت حبا لهؤلاء الأشخاص وقد أختفوا حاملين عالمهم معهم، لقد شعرت بإنتصارهم فى عظامي، ومع ذلك فقد كان انتصارهم هم لا انتصارى وفى الشارع، كنت أجد نفسى زائدا عن العدد”.
”.. وقررت أن أفقد القدرة على الكلام وأن أعيش فى الموسيقي”.
الموقف:
ماذا تريد أن يقول لنا سارتر بكل هذه الحساسية المرهفة والصدق الطفلى الدافع؟ وبم نرد عليه.
إن عنوان ذكرياته فى هذه المنطقة هو “الكلمات”، وهى قسمان: الأول باسم: القراءة، والثانى باسم الكتابة، (وهذا المقتطف ورد فى القسم الأول) .
وقاريء هذا العمل لابد وقد لاحظ أن سارتر طوال هذا التداعى الدقيق الطليق فى آن واحد، قد قدم لنا علاقته بالكلمات: قراءة فكتابة، حتى لنتأكد بعد حين أن الكلمة عنده، وفى ظروف نشأته ذلك، قد حلت محل كل شيء، محل الناس، ومحل العواطف، ومحل الواقع العياني، ومحل العقيدة، وأصبحت هى فى ذاتها كل ذلك معا، وعلى حدة، وقد تملكته الكلمة بكل إستقلاليتها ومثولها الحى الطاعي، ثم تملكها. . وإن كان بدرجة أقل، بل لعله لم يتملكها بل أصبح هو هى – وليس المطلوب أن نسرد الكتاب بعيدا عن المقتطف، وإنما هذه المقدمة ضرورية لنقف من هذا المقتطف عدة مواقف:
أولا: إن علاقة سارتر بالكملة لم تقتصر على الكلمة اللغة، الرمز اللفظي، وإنما تخطتها إلى الكلمة بكل لغة، حتى خيل إلى أن الكلمة، (بكل لغة) قد أصبحت بالنسبة إليه كيانا فى ذاتها لا رمزا لمعنى وراءها، وحبه لبكم أبطاله هو حبه للغة “الصمت”، وهو لغة قائمة بذاتها تتجاوز حتما – وخاصة فى عصرنا هذا بعد ما كان ما كان بشأن: الكلمات “الأصوات” التى حلت محل الكلمات “اللوجوس”- تتجاوز الكلمات الرمز، فإذا جمعنا إلى لغة الحركة والإيماءة لغة الموسيقى “صوت حياتهم الداخلي”، ارتقى التواصل والفهم إلى أعلى عليين، وسارتر يعلمنا إبتداء هذه القيمة الجوهرية لما هو “كلمة”، وإنها ليست بالضرورة هذا الكلام المذاع بلا محتوي، أو المضلل بقصد أخبث.
ثانيا: حومن خلال لغة الصمت(1) هذه يلمس الإنسان ما بعد الحدود – كل الحدود – “ولمست المطلق” ، ولا يكفى أن نقول هنا أنه مجد “خيال”-رغم تقديس سارتر له، فالخيال تعبير أقل من حقيقة الموقف، ذلك لأن اطلاق سراح العدل إلى “مابعد” هذه الصورة المحددة، حتى نلمس المطلق حقيقة وفعلا، لا خيالا، يفسر احتجاج سارتر على من يجذبه عنوة إلى “أرض الحدود” (إضاءة المصابيح)، لا أرض الواقع، مما لا يبرر لنا أن نستسهل ترجمة هذه الخبرة إلى ما هو خيال، فقد خرج أبطاله معه – وانتصارهم فى عظامه- إلى الشارع (حتى بعد إضاءة الأنوار) – ولكنهم سرعان ما تميزوا عن ذاته، فهو لم يتقمهم، وهو لم يحتووه، وحين تيقن من الحد الفاصل بين ما “هو”، وما “هم” شعر بالوحدة، بل بالترك، ولم يستطع الناس فى الشارع، الناس اللحم الدم، أن يكسروا هذه الوحدة أصلا، بل لعلهم لم يحاولوا، ربما لأنه لم يستدعهم، ولم يسمح لهم، ولم يأمل فيهم، ولم يقترب منهم أصلا، وهنا نقف عند تعبيره “كنت أجد نفسى زائدا عن العدد”، ونتعجب لهذا الذى إنطلق إلى بعد الحدود، ثم عاد – وأعيد – قسرا إلى واقع بارد، ثم تيقن حتما أن أبطاله ليسوا هو، ثم أقفل بابه عليه، هل من حق هذا الإنسان أن يتألم للنتيجة التى سعى إليها بنفسه لدرجة أن يشعر بهذا الشعور القاسى “زائد عن العدد”.
والرد يكمن فى أن مثل هذا المخلوق البشرى الفائق الوجود، العنيد المشاعر، يرجو دائما – رغم كل ذلك – أن يكون “مع”، بل أن يكون محورا لمن هو معهم، أى أن يكون مجال الجذب، وهدف الملتقي، وما بين رفضه وحساسيته المفرطة، فى مقابل شوقه وإحتياجه الطاغى “للآخر”. يحس بأنه “لا فائدة”، فالبطل الذى إنتصر ليس هو، مهما تجسد، والآخرون العاديون لا يشعرون به، وينزاح وجوده – بإرادته الخفية، بل المعلنة – إلى الهامش ثم بعيدا عن صفحة الكلمات أصلا، ثم – وياللعجب- يشكو من أنه “زائد عن العدد”.
وفى خبرة العلاج النفسى نسمع عن هذه الفتاة الصغيرة التى تركوها فى السيارة لشراء بعض الحاجيات، وتأخروا قليلا – قليلا – أكثر عن حساباتهم لعودتهم، فتشعر أنهم نسوها ولن يرجعوا أبدا، لأنها “زائدة عن العدد” لا تشغل أى حيز من فكرهم ووجودهم، وتبنى كل كيانها على هذا التهديد الخفى المتصل (زيادة، سقط المتاع، ان حضر لم يستشر وان غاب لم يسأل عنه، وجوده يشبه غيابه. .. الخ).
ونسمع عن الطفل الذى لم تبلغ طول قامته “ركبة” الكبار، وقد دحلوا إلى المنزل ولم “يأخذوا بالهم” أنه لم يدخل بعد، فأغلقوا الباب دونه، وتتضخم اللحظة التى ما بين طرقه للباب باكيا وبين فتحهم له، حتى ليحسب أنهم لن يفتحوا أبدا، أنها الدهر، ذلك لأنهم إكتملوا فى الداخل بدونه، فلا لزوم له، لأنه “زائد عن العدد”، وتبدأ الحكاية: وهكذا هكذا .
هذا الشعور الجوهرى والأساسى فى الوجود البشرى وفى الطفولة خاصة، بصوره سارتر بإيجابية دقيقة مع إختلاف وعيه بها، وإرادته فيها، ورضائه – الخفى – بها، وهو يعلن أن هذه الحاجة الأساسية لا يغنى فى أروائها تجاوز، أو لمس مطلق، أو إستقلال خيال، إذ لابد من الناس “اللحم الدم” فى حوار حقيقى – وإذا كان المريض يبدأ من هذه النقطة عادة بتاريخه المرضى العاجز المولول، فإن سارتر (ومن مثله) إنما يبدأ منها تاريخ التجاوز والتفوق والإبداع .
وأخيرا (ثالثا): فإن قرار سارتر: نتيجة لذلك وتعميقا له، أن يفقد القدرة على الكلام، ليعيش فى (لاحظ لم يقل: ليتكلم بـ …) الموسيقي، هو تذكرة بضرورة إرادة الصمت: حين يتلزج الكلام، أو حين يطغى الكلام، أو حين يخدع الكلام ….الخ، (ثم “أنى نذرت للرحمن صوما … ” قد تسير فى نفس الإتجاه)، ولكن هذا ليس حلا نهائيا أبدا، والموسيقى (الداخلية ثم الخارجية) لا تستطيع أن تحل محل الكلام الألفاظ، ولكن يبدو أنها فترات ضرورية، ربما دورية، تعلن أهمية تبادل دورات: الكلام والصمت، مثل دورات النوم واليقظة، فتأخذ كل لغة نصيبها فى عملية التكامل لتأكيد ما هو “بشري” شديد التعقيد و …. والبساطة .
[1] – يمكن الرجوع إلى عمل عصمت داوستاشى “الصمت” الذى نشر تباعا على صفحات هذه المجلة، ثم فى عمل مستقل. وقد سمعنا بتجربة شجاعة تحاول أن تقدم لنا سينما صامته 1984 – صامته حتما اختياريا اراديا، وليس صمت قلة الامكانيات، وشارلى شابلن (القديم) يقرئنا السلام.