عدد يناير 1985
مثل… وموال
علم بالنفس: من أقوال الناس
تقديم
بدءا من هذا العدد سنحاول أن نجعل هذا الباب ثابتا (مثل: مقتطف وموقف) لنرجو من خلاله أن نتعرف على أنفسنا من الوقوف أمام حكمة الناس المركزة فى مثل سائر، أو فى غنائهم التلقائى بموال متدوال، ولا يمكن أن ندعى أن ما نقدمه يلتزم بأى قواعد أكاديمية لدراسة الآثار الشعبية، أو أنه حكم دامغ يثبت هذا الجانب من طباع الناس دون ذاك، أو يصف سمات خاصة بشعبنا الذى أطلق هذا المثل أو ذاك الموال، وانما نتصور أنه مجرد مدخل إلى النفس فى عمقها الخاص حيث يصل تواجد الأنفس والتحامها إلى منطقة المعرفة المشتركة الشبيهة بما كنا نسمبه فى اللحسبا البسيط القاسم المشترك الأصغر، وحين تلتحم الأنفس هناك تنطلق الحكمة بلا مؤلف له اسم ولقب، ويصدح الموال دون حقوق محفوظة (تمنع التدوال الا باذن)، حين يحدث ذلك نكون جميعا تلاميذا فى مدرسة حدس الناس المباشر، ذلك الحدس الأقدر على أن يعرفنا بعض ما هو نحن بطريقة أكثر صدقا وأعمق غورا مما يفرض على وجداننا وحسنا وفكرنا باحصائيات جامدة باردة كقوالب الثلج الصغيرة، أو بلغة علمية ثقيلة الرائحة قد تجعلنا نتنفس الضباب لا الهواء، أو باحتكار علماء لشفرة المعرفة بوصاية صارمة معطلة،
ونرجو أن نحقق بهذا الباب الجديد أملنا فى أن نفرق بين ما هو “علم نفس”، وما هو علم بالنفس، بحيث لا نهمل عطاء أى منهما.
هذا، لن نلتزم فى هذا الباب أن تكون ثمة علاقة بين المثل والموال، اللهم إلا إذا جاءت عفوا (مثل حالنا فى هذا العدد صدفة) كما أننا ندعو القاريء أن يشارك فى هذا الباب: أما بالكتابة لنا مباشرة بالمثل أو الموال الذى استوقفه وخاصة إذا لم يكن مألوفا، أو كان مختلفا حوله، أو متناقضا فى ذاته، أو منافيا ومعارضا لغيره من مثل أو موال، أو متحديا لمعلومة (علمية) شائعة أو ثابتة، وله علينا حق الرد والتعليق، وأما أن يكتب هو ما شاء من رأى أو نقد معقبا على المثل أو الموال، وسوف نتفق معه أو نختلف، فننشر رأيه مع التعقيب أو الحوار المناسب حين يكون ثمة مجال لذلك.
المثل:
اللى مالوش كبير . . يشتريله كبير
علاقة الكبير بالصغير (وبالعكس) حكاية قدية، قدم الوجود البشري، أو قدم وجود الحياة ذاتها، وإلى يومنا هذا ومعالم بهذه العلاقة لم تتضح بالدرجة الكافية، ثم جاء ما يسمى بعلم النفس الحديث، فأسهم اسهامات لا بأس بها فى تقنين الصراع بين الأجيال وتوصيفه، كذلك ظهرت اشاعات التربية الحديثة فسمحت بحركة أوسع، وحرية أخدع لمن هو صغير فى مواجهة الكبير، وكعادتنا، وبسبب اضطرار أملته ظروف مرحلة تطورنا (تخلفنا) أخذنا نردد، ونقلد، ثم نتراجع، ثم: يبدور أنننا نقف على السلم الآن: نرقص أو نترنح (سواء) ولننا لا نصعد ولا نهبط ولا يرانا أحد .. ولكن يتربص بنا مصيرنا والتاريخ، المهم، تعاولا نبحث فى أوراققنا القديمة والحديثة ثم ننظر أين نحن من هذه الهيصة؟
1- يبدو أننا ما زلنا ندرك حاجتنا الشديدة إلى الكبير، بشكل ما، وأننا قبل وبعد الاغارة الغربية، كنا أقرب إلى كونفوشيوس منا إلى ابن نوح، وهذا المثل يعلن عدة أساسيات يمكن أن ننظر فيها على الوجه التالي
أولا: أننا كبشر – صغار مهما كبرنا، وتعبير “اللى مالوش لا يقتصر على الصغير، بل على كل من ليس له كبير (كبيرا هو فى ذاته أم صغيرا).
ثانيا: أن حاجتنا إلى الكبير هى حاجة أصيلة، لايمكن الاستغناد عنها، أو حتى الاستسلام للعجز عن اشباعها لو افتقرنا – لمرحلة – إلى مصادر اشباعها .
ثالثا: أن الكبير – ان لم يوجد طبيعيا أو تلقائيا – فانه يمكن أن يصنع (أو يشترى شراء)، ليسد هذه الحاجة الأساسية.
رابعا: أن ثمة تناقضا بين أن يكون الكبير مشتري، وبين أنه يقوم فى نفسس الوقت بدور الكبير القادر على تحمل الاعتماد، وتوجيه المسار.
(يمكن مراجعة تاريخ المماليك وحركة تصعيدهم من شرائهم إلى تعيينهم حكاما).
والمثل بهذا التركيز، وهذا الدقة، يذكرنا بأن معركتنا فى سلسلة التطور ليست فى التخلص من الحلقة السابقة، وانما فى الاعتماد عليهاحتر تجاوزها دون الاستغناء عنها، أى باعادة تنظيم القوى بحيث تأخذ مكانها المناسب فى التركيب الجديد، فليس المطلوب هو أن يتحرر الابن من أبيه، وانما المطلوب فى النهاية هو أن يصير الابن – فى الوقت المناسب – هو قائد المسيرة بأبيه – وليس بالرغم منه، ولاتحت أمره، ولا بدونه – مكملا حلقات التطور المتداخلة إلى من يليه . . وهكذا .
فإذا رجعنا إلى المثل وجدناه يعلن الحاجة إلى الكبير دون تقديس له أو انسحاق تحته، بل بتفوق واع، فالمشترى (بفتح الراء) عادة هو تحت أمر واذن الشارى لغرض ما، إذا لا يعق – من حيث المبدأ – أن يكون ما أشتريه هو سيدى وقائدى حيث أى فعل الشراء نفسه يضعه فى حجمه المتواضع، ولأن اشترى لى كبيرا أتوكأ عليه، واستعمله فى حوارى ومسارى، لهو أمر يحمل معنى أنى (الشاري) هو القائد، وفى نفس الوقت أنى أحتاج إلى شراء هذا الكبير وأنا قادر على ذلك، لماذا؟ لاستمر به إلى ما هو بعدنا: هو، وأنا، اللهم إلا إذا اضطرب المسار واهتزت القوانين، وطغى المشترى بعد أن تمكن (وهذا وارد جدا جدا، تاريخا، فعلا).
- ثم يأتى موضوع شراء الكبير فى الصداقة والعلاج النفسى وفى رحاب مشايخ الطرق، والشراء فى المثل (وفى الحياة) لا يستلزم بالضرورة مقايضة مادية: مالا عيانيا محددا، وانما الشراء قد يكون كذلك، وقد يكون مقايضة دون مال محدد، وأبسط وأعظم أنواع المقايضة بالاعتمادية المتبادلة Interdependency يكون فى الصداقة، فصديقى هو كبيرى لأنه ناصحى ومستشارى وملجئى ورفيق طريقي، وأنا له كذلك: واحدة بواحدة، أو ثمة (صديق) ثالث له كذلك، وأنا لرابع كذلك، أى أن عقد شراء شراء الصداقة قد لا يكون بين اثنين فحسب، بل بين مجموعة من الناس تتبادل الشراء دون علم أفرادها طبيعة الصفقة وحسابات المكسب والخسارة.
ثم تغير الحال، وشك كل طرف فى شركة الصداقة أنه الخاسر، وأدعى المثاليون أن الصداقة تضحية بلا ثمن، وأحبط آخرون حين وجدوا أن الكبير المعين (بكسر العين) هو أحوج إلى أن يعان.
ويتفاقم الموقف حين تتصادم احتياجات الأخذ و الاعتمادية بعضها ببعض.
وفى الصداقة ليس ثمة كبير أو صغير الا بتبادل الأدوار، وحتى الاعتمادية الخفية أو المعلنة، تضع – فى عمق العلاقة – هذا المعنى الكريم الذى نحاول الآن أن نقدمه، لنتجاوز من خلاله المعارك الوهمية التى فرضت علينا وأعاقت نمونا، نريد أن نجعل لفظ الكبير لفظا لا يعنى الا الموقف المحدد بالقدرة على الدعم (ولو المؤقت) وصدق النصح وبذل الخبرة، وحين ندخل إلى باب الصداقة من هذا المدخل نتصور أننا نتخطى أوهام صراعات الأجيال إذا ما استعملنا لفظ كبير لصياغة: تبادل الاعتماد وبالتالى تبادل أدوار من هو كبير حسب الأحوج والأقدر.
ولندخل إلى الموال:
الموال:
وهذا الموال الذى فرض نفسه اليوم بالصدفة هو أرق، وأدق فى اعلان الاحتياج، وصعوبة التعري، وهو يصور ما وراء الصداقة، ويعرى احتياج البشر لبعضهم، وعجزهم – بصدق – عن ادعاء التضحية قصيرة العمر، خفية الشروط:
يقول الموال:
صاحبت صاحب وقلت ف ييوم يشيل حملى
جاب حمله التقيل وحطه على حملي
لفيت جميع البلاد على صاحب يشيل حملى
وتعبت وشقيت، لكن بدون فايدة
واللى أشتكيله يقولى: وأنا مين يشيل حملى
ولأول وهلة يبدو هذا الموال وكأنه يعرى حياتنا هنا، ولكن من بعد أوقع يبدو أكثر وصفا للموقف الانفرادى (الشيزويدي) فى عالم الغرب (مثلا) حيث استغنى الناس عن الصداقة، لأنهم رفضوا فروسية مشبوهة، وشكوا فى تضحية مشروطة، وتبينوا هموما ذاتية تكفيهم عن ادعاء معونة الغير وهم أحوج ما يكون الى من يعينهم، نعم: نحن نشيع ذلك عن الغرب، ولكن هذا الموال (وغيره) يشير إلى أن الأصدق منا، قد يكتشف أننا كذلك، أو ربما دون ذلك وأن المطلوب ليس هو أن ندمغ الغرب بافتقاره إلى هذا النوع من التعاون الصداقاتى ونفخر نحن بتصور التضحية وبتوهم الفداء، لأن المطلوب:لنا ولهم، وأن نتجاوز يأسنا من الصداقة، بأن نعلن طبيعة الصفقة التى تسمح لنا بأن نشيل أحمال بعضنا البعض بعض الوقت، ذلك أنه بالرغم من صدق هذا الموال الا أنه نسى (أوقصد أن يذكرنا بالتحدي) انه بالرغم من أن كلا منه فيه ما يكفيه وان كلا من هو ملهى على حاله، الا أنه لابد من أمل فى حسن توقيت تبادل الاعتماد بالتناوب فهذه الأحمال التى هى أمانة الحياة، والتى تبدو عند التركيز على الذات أنها قاصمة الظهر أو على الأقل مغلقة التواصل. هذه الأحمال والهموم تختلف شدتها من وقت الى آخر، ويستحيل أن نتصور أنها ستلحق بنا جميعا بنفس القدر، فى نفس الوقت، وبالتالى فثمة فرصة للخروج من هذا المأزق بما يمكن أن نسميه: التعاون بالتناوب.
ولذلك فالموال يحتاج الى أكثر من قراءة:
فهو لم يقرر ابتداء أن الصداقة منذ البداية ترمى الى أن يحمل الصديق عنى ما أنوء به، ولكن الصداقة تنشأ ومعها هذا الاحتمال الكريم منذ البداية، فالشطر اللأول لم يقل: صاحبت صاحب – ياناس – (1) علشان يشيل حملى وأنما وضع صغية الاحتمال والتوقع….. وقلت فى يوم يشيل حملى – وهنا يصبح فعل الصداقة غير مرتبط بشرط الاعتماد منذ البداية، الا من أن يقبل الآخر الصداقة بما تحمل من احتمالات الأخذ والعطاء حسب وقت الاحتياج، سارع بالقاء حمله على الطرف الأول – فورا – فناء ظهره بحمليها معا، فما كان من الصاحب الأول الطبى المتألم إلى أن كشف عن حاجته هو الآخر ودار بها على جميع البلاد مطالبا بحقه المباشر فى الاعتماد الفورى من خلال الصداقة، ولكن المفاجأة كانت صريحة وبسيطة، وهى مواجهة اليأس من الصداقة لو انقلبت الى مجرد احتياج لاعتماد دون وعى بصفقة ”الأخذ والعطاء” و “التساند الدورى” أن صح التعبير، بمعنى أنى أحمل حمل صديقى حين يكون حملى الشخصى أخف، وأنه يحمل عنى حملينا بدوره حين تشتد حاجتى ويكون قد أفاق – ولو قليلا – بما سبق أن حملت عنه بعض الوقت أما أن تصبح المسألة شكوى واحتياج ملح متواصل، ثم ننعى الحظ ونندب الأيام، فلابد أن يتحوصل كل منا على ذاته وكل يبادر بالتخلي، وهات ياجري.
3- وعلى كل حال، فانه لما انفضح الحال هكذا نشأت نجارة الصداقة، وحين يتقدم العلاج النفسى بصورته المعاصرة خطوة شجاعة – بدوره – لبكشف عن حقيقة طبيعته، نقرأ كتابا يقدم هذا النوع من العلاج بعنوان صداقة للبيع فأنت تذهب للطبييب النفسى ( أو المعالج النفسى ) تشترى تشترى وقته وعواطفه واهتمامه ورأيه، تدفع له فى مقابل أن “يشيل حملك“ وهو يفعل ذلك حتما حتى لو أنكره علانية، أو لو نظر (بتشديد الظاء) ما يفعل بتفسيرات تحليلية أو تأويلات نموية تطورية، فالأهم – كما دلت أغلب الأبحاث الحديثة والأمينة – هو حضوره واخلاصه، وحمله ( ولو بعض الوقت) هموم الناس اللاجئين إلى رحابه، فانها تبدو حلا مناسبا – للأسف – ولو لمرحلة صعبة من التحوصل على الذات ما دام الكل قد اتخذ موقف “وأنا مين يشيل حملى” على أن هذا ليس هو دور الطبيب النفسى وحده، بل انه ينبغبى أن يكون دور كل طبيب، وخاصة طبيب العائلة (تلك الوظيفة التى يقوم بها حاليا طبيب الأطفال أو الممارس العام بوجه خاص) والموال المعاصر ينبه إلى هذه الحقيقة حين يقول:
“يا من يجيب لى طبيب، يحل لى أشكال
مش بسس يكتب دوا، ويقولهم ايش كال (2)
يا ما قلبى شايل ومش قادر أقول ايش كان”
وهنا تتجسد وظيفة الطبيب كــ حلال المشاكل أيضا وليس كاتب روشتة فقط، وقديما قالت الأرجوزة واحد اثنين سرجى مرجي، انت حكيم ولاتمرجي؟ وقد ميزت بين الحكيم والتومرجى بأن الحكيم (وليس الطبيب أو الدكتور)(3)هو راعى الصحة بكل أبعادها من الجسمية . . حتى الاقتصادية (مارا بالنفسية والاجتماعية): اذ يأتى الرد:
“أنا حكيم بتاع الصحة
العيان أديله حقنة
والمسكين أديله لقمة”
وهنا يشار أييضا مرة ثانية إلى فرط الاعتمادية على الطبيب، اعتمادية تذكرنا باحتياجنا المفرط إلى الكبير لدرجة أننا ننتظر أن يكون له دور حتى فى علاج الفقر و الجوع بالمعنى المادى المباشر، ولا نستطيع أن نرفض أمل شعب يعانى كل هذه المعاناة ولا يثق فيه أحد ممن هم فوق، أن نرفض أمله الملح فى أن يأتى الحل دائما من فوق، بل انه يتمادى فى تلك الاعتمادية حتى يصبح الكبير طبيبا كان ام حاكما هو مصدر كل شيء، وعلييه أن يقوم بكل العمل.
ويؤكد هذا الموال الأحدث على مفهوم آخر للطبيب غير حل المشاكل، وهو مفهوم الاستماع لما يحمل القلب من هموم لا يجد لها متنفثا ومستمعا متعاطفا، حتى ولو لم يحل – فعلا – شيئا، هذا المفهوم الذى شاع حول الطب النفسى خاصة حتى أصبح معنى العلاج النفسى عند أغلب الناس هو الفضفضة و الحكي، وهذا خطأ شديد إذا لم يكن ثمة دور غيره، ذلك لأن الحكى والشكوى والتداعى ليست هى الحل الأوحد أول، وانما هى بداية لها بعدها، والتوقف عند البدايات – كما يحدث عادة، وكما يصر كثير من الأهل والمرضى – لا يحل شيئا، ولا يفيد شيئا، بل لعل التمادى فى البحث عن السبب، مع تزايد الاعتماد على حلال العقد يأتى بعكس النتيجة اذ يثبت الضعف وقد يبرر المرض، وحذق الطبيب النفسى يأتى من مهارته فى ضبط الجرعة بين الشكوى والفضفضة وبين البناء والاستقلال باستمرار باستمرار.
ولو قبل الطبيب أو غيره هذا الدور الالهى القادر على كل شيء، فقد دخلنا فى مرحلة مخاطر الانحراف لدرجة السيطرة المطلقة أو الفرعنة والوقاية تستلزم أن يتذكر أى كبير أنه يحتاج بدوره إلى كبير، وكبير الكبير قد يكون فى اتفاق معلن أو خفى يسمح بأن يأتيه الدعم الذاتى من مجموع المعتمدين عليه (يوجد هنا هامش) وبغير هذا الحوار بين القائد والجموع، فلا مفر من الانحراف ان آجلا أو عاجلا، والحوار الصحى هو الذى يرد الكبير عن انحرافه واغترابه وغروره فى الوقت المناسب، والرد الذى ورد فى المثل:
قالوا لفرعون ايش فرعنك
قال مالقتيش حد يردنى
لا أظن أنه رد بمعنى رد القاضى ورفضه، وانما أظن أنه لابد أن يشمل يردني، أى: يمنعنى عن التمادى.
والتبادل فى الرعاية بين الكبير الطبيب، أو الكبير الحاكم وبين مرضى الأول ورعية الثاني، هو تبادل قائم حتما حتى لو أنكره كل من الطبيب والحاكم، وفى الطب النفسى خاصة، حين تتعمق الممارسة بدرجة ايجابية لابد أن يكتشف الطبيب اعتماده على مرضاه كمصدر لثروة معرفته واثبات ذاته وتأكيد وجوده، كما أن الحاكم فى المجتمع الديمقراطى الحقيقي، لابد أن يستشعر أن رعيته المعتمدة عليه هى هى كبيرة الرادع له (فى صورة الصحف الحقيقية أو الهيئة التشريعية المحاسبة أو القضاء . . . الخ).
وهكذا يتمد معنى المثل الأصلى الذى بدأنا به إلى أنه حتى الكبير (الحاكم) انما يعين له (يشترى له) كبيرا (مجموعة المحكومين أو من يمثلهم نيابيا أو غيره) حتى يرحموه من تماديه فيما لايدرى من انحرافات محتملة.
لكن ثمة اعتمادية أخرى فى مجتمعنا لها دلالتها الخاصة، ونكتشفها أيضا فى كثير من حكمتنا السائرة، وهى الاعتمادية على شيخ هو سيدنا بالضرورة، سواء كان الشيخ جثمان فى ضريح، أو هو شيخ طريقة يمشى على الأرض ويتولى دور الموصل الجيد إلى شيخ الضريح، الذى هو بدوره خطوة نحو اعتمادية أكبر وأعمق على الله سبحانه، ولن نتطرق هنا – الآن – إلى هذه الاعتمادية على المطلق الكونى اللامتناهي، ولا حتى على الذى رحل وأصبح رمزا أو مقاما، لأن حديثنا قاصر على حاجة البشر الأحياء إلى البشر الأكبر، وشيخ الطريقة والرويش هما صورتان لهذا الكبير الذى قد يوصى المثل بشرائهما، هذه المرة دون فيزيته ولكن مقابل عهد والتزام ويقول لنا هذا الموال الطويل نسبيا بعض ملامح هذا الكبير المتميز.
يا عينى أبكى وهات اللى عندك ولا تخبيش
دمعك صحيح غالى(4) . . ولا بيجيش
والدنيا هي كده . . الحلو(5) ما بتديش
أنا رحت لطبيب القلوب، لا رقت، ولا فادنيش
وإلى هنا والموال يؤكد على حاجة الانسان دائما أبدا إلى التنفيث، والبكاء وغلو عين الدمع وصعوبة ادراره أصدق فى الحزن، وأكثر احتواء للألم، وهذا أيضا عكس الشائع فى العلاج النفسى وعند العامة من أن البكاء قد يكون مفيدا دائما أبدا فى التفريج والترويح، لأنه إذا تكرر وتمادى أصبح مجهضا لألم أعمق قد يكون صاحبه أحوج ما يكون إلى معايشته.
ثم يؤكد الموال – بعد عتابه على الدنيا – أن طبيب القلوب لم ينفع، وهذا حكم جيد من العامة، يقلل كثيرا من تأليه دورالطبيب النفسي، وفشل الطبييب كثيرا ما يكون لصالح صاحب الحاجة فى أن يرتد إلى الاعتماد على نفسه، أو أن يلجأ إلى طريق أكثر صحة وصدقا.
ثم يكمل الموال:
قالولى أهل الغرام بالوعد أرضى وعيش
وقبل أن يذكر لنا الموال شيئا عن البديل الآخر الذى طرق بابه، يعلن حقيقة بسييطة مطروحة دائما وهى ضرورة الرضا وتتأكد هذه الضرورة إذا كان الحاكم المنفذ هو القدر ذاته، والوعد هنا هو ما يعنيه الوعد المكتوب ومع أن الآيحاء قد يذهب بالمتعجل إلى تصور الرضا على انه تسليم دائما أبدا، إلا أن الرضا قد يكون أول خطوات تجاوز الواقع، لأن الوعد الذى تحقق لابد أن تغييره يتعلق بالخطوة التالةى لابمحاربة ما تم، فهو مكتوب كشف عن وجهه. فالرضا هنا ليس تخديرا بقدر ما هو بداية مما هو الآن ثم يستطرد الموال:
نزلت ساحة الرضا وقابلت فيها درويش
حاز الأب وماشى لابس ثياب مع خيش
نظر لى بعين الرضا ساعتها ولاسأبنيش
ويلاحظ هنا أن تعبير ساحة الرضا يحمل أنها المعلب الذى تدور فيه الحركة وليس السجن الذى يفرض السكون بالتسليم العاجز.
وتطل علينا أيضا عين الرضا لتدل مرة أخريعلى أنه القبول والفهم بما يشمل المعية الأمر الذى يؤكد تعبير ولا سابنيش. هى نظرة “نعم . . . أنا معك”، ويجدر تبنا أن نتذكر خطأ آخرا كان قد وقع فيه العلاج النفسى (والتحليل النفسى خاصة) حين ألغى فعل النظر فى تأكيد التفاهم والمعية، وجعل الطبيب يتجنب عمدا النظر فى عين مريضه حتى يقال بيرليز عن فرويد أنه كان مصابا بعرض تجنب النظرات Gaze avoidance، مما جعل هذا النوع من التحليل يسمى أحيانا: العلاج بالكلام حيث يغفل وسائل التواصل الأخري، عبر قنوات متعددة ليست لفظية بالضرورة .
ثم يكمل الموال:
رحنا على المقصورة شفنا الأحبة جيش
والانتماء هنا ليس فقط الى الكبير (الدرويش) الذى نظر وقبل وصاحب (وماسابنيش) ولك الى الجموع الذى توجهوا ننس الاتجاه، ثم يقول:
وخدت منه العهد وبقيت أنا معاه درويش
وهكذا – نرى هنا أن ثمن شراء الكبير هو عهد والتزام، ثم يأتى التقمص بالكبير ليصبح مثله أو هو هو، كحطوة أولى وهذا طيب، أو كحطوة قصوى وأخيرة، وهذا خطر،
والجرح الأليم طاب(6) وسؤالى لقيت له جواب
ومن أجمل مانلاحظ هنا، فنتعلم – أنه لم يكن ثمة سؤال من البداية ولم يرد فى مقاطع الموال السابقة أنه ذهب إلى طبيب القلوب أو الى الدرويش ليحصل على اجابه لسؤال محدد، وانما بدى الأمر وكأنه مشكلة عاطفية، وحرمان أو احباط يحتاج إلى دواء قلب، إلا أنه يبدو أن نظرة الدراويش القابلة، وجموع الأحبة ذات رحابة العلاقة الجماعية يتجاوز هذه الحاجة الفردية إلى ما بعدها من رحابة العلاقة الجماعية الأغنى، فضلا عن المعبر إلى الكبير الأكبر، ويأتى عثوره على جواب السؤال هنا بمعنى أنه اهتدى لحل لحيرته الأصيلة بشأن “من أين يحصل على احتياجه الى كبير”
ويؤكد الجواب الذى نستنتجه ضمنا هنا أن المصدر الأكثر امانا هو الأحبة جيش وليس الحبيب الواحد المهدد بالهجر والضعف والاذلال، وما الدرويش الا الرمز الى يجمع حوله الأحبة الجيش، لا لشخصه وانما لما يمثله من اتجاه، ثم يأتى آخر شطر ليعلن عمثا أعظم وأخطر حين يقول:
ما فى شيء كبير ولاعم الا أن كان فى البداية درويش
ويشير هذا الشطر الأخير إلى عدة حقائق لايمكن التغافل عنها:
فأولا: أن المسألة كشفت عن نفسها وأن الحاةو إلى الكبير (الاعتمادية) هى أصل الدفع إلى الآخر حبيبا كان أم صاحبا أم شيخا أم طبيبا أم حاكما أم والدا، وأن هذا الكبير (العم) يبدأ سلم النمو درويشا بمعنى تنازله عن ذاته الخاصة ثم ترقيه فى مراتب العطاء، وتأكيد الموال على أن الدروشة ليست غاية فى ذاتها وانما هى بداية نحو ما هو كبير، يطمئن الخائفين من الدروشة على انها اعتماد مطلق وتسليم خرافى، يطمئنهم انها بداية لها – حتما ما بعدها . وليست مجرد اعتمادية سطحية.
يجدر بنا أن نجمع فى نهاية التعليق هذا الموال على بعضه حتى يقرؤه القاريء متواصلا دون وصاية شرحنا السابق.
يا عينى ابكر وهاتى اللى عندك ولاتخبيش
دمعك صحيح غالى – يا عين – ولابيجيش
والدنيا هيه كده للحلو ما بتديش
أنا رحت لطبيب القلوب لا رقت ولا فادنيش
قالولى أهل الغرام بالوعد أرضى وعيش
نزلت ساحة الرضا وقابلت فيها درويش
حاز الأدب وماشى لابس ثباب مع خيش
نظرة (نظرلي) بعين الرضا ساعتها ولا سابنيش
ورحنا على المقصورة شفنا الأحبة جيش
وخدت منه العهد وبقيت أنا معاه درويش
والجرح الأليم طاب (بابا / يا حسين) وسؤالى لقيت له جواب ما فى شيء كبير ولا عم الا ان كان فى البداية درويش
وبعد . .
فهذه محاولة متواضعة لمواكبة ضرورية لحدس الناس لعلها تكون بداية لحوار أوسع يؤكد عدم تقديسنا لكل ما يقال: تحت اسم العلم، أؤ غلبة الشائع، وفى نفس الوقت عدم نسياننا له.
[1]- أضفنا هذه الكلمة الاعتراضية للحفاظ على الوزن.
[2] – المقصود: ماذا أكل، وهو السؤال الذى يسأله الطبيب ليتعرف على مصدر العدوى أو التلبك أو التسمم.
[3]- سبق تناول هذه الأرجوزة بالشرح والتحليل فى حياتنا والطب النفسى: يحيى الرخاوى (ص90-102) – دار الغد للثقافة والنشر – القاهرة 1972.
[4]- فى الاعادة يضيف الشاعر أحيانا لفظ – يا عين – بعد غالى أى دمعك صحيح غالى – يا عين – ولا بيجيش.
[5] – وتسمع أحيانا “للحلو” ما بتديش واستعمال اللفظ الأول تنبيه على صعوبة الحياة وتجهم وجهها الدائم، أما المعنى الثانى فهو أضعف لأن المتألم من شح الدنيا لا يسمى نفسه حلوا أصلا.
[6]- فى الاعادة يضيف الشاعر الشعبى بعد هذا اللفظ مرة “يا با” ومرة “يا حسين”، ومرة ثالثة “يابا”، ويا “حسين”، وكل ذلك يؤكد أن الدرويش هنا – وهو الكبير المشترى بالعهد – هو فى عمق وجوده ليس إلا معبر إلى الوالد وإلى الحسين (الرمز) اللذان هما بدورهما معبر إلى ما فوقهما من كبير فأكبر كما أشرنا.