قصة قصيرة
الجـيـل
محمد عبد اللطيف
استوقفنى موظف الاستعلامات عند مدخل الباب، فقلت له بسرعة أريد صلاح ولم أزد، حرك ذراعه حركة ملولة غير مبالية، فأخذت اقفز فوق السلالم وأمد جذعى داخل الأروقة بحثا عنه، سألت الموظفين عن صلاح، رفعوا الى وجودها صماء وتبادلوا النظر بعيون زجاجية وهزوا أكتافهم وغرقوا فى الصمت .
جلست على مقعد فى أحد الممرات لألتقط أنفاسى ، تفحصت المكان الذى يتجول فيه صلاح كل يوم، اندفعت الى رأسى صورته ونحن فى الفترة الخضراء من أعمارنا وقلت لنفسى. صلاح أقدر واحد فينا على عرض قضيتنا، وهو الذى يملك ملف قضيتنا منذ الصفحات الأولى، منذ الجرى فى الطرقات والتسرب الى الشوارع المجهولة، والدقات الخشنة على أبوابنا فى هزيع الليلن والعصى الغليظة المنهالة على أيدينا، وتصلب الأصابع حول القضبان الحديدية الباردة والشعارات المجروحة المصبوغة بلون الدم والارادة المستميته التى تجعلنا نرفض أن نحنى الرأس ، والابتسامات الودودة التى تلعق الجراح، وقلت فى جلستى بصوت مسموع:
أين أنت يا صلاح ……. يا أصدق صوت لجيلنا؟؟ .
فى بدايات الصباح، ذهبت اليه فى البيت، فتحت لى الباب زوجته ولما سألتها عنه كانت هى أول من تفحصنى بعينين زجاجيتين وتواجهنى بوجه أصم ولم ترد على انما أغلقت الباب فى وجهى وأطلقت على سيلا من الشتائم أغرقتنى عبر الباب الموصد .
وقبل ذلك بمدة وفى اللحظات الأولى التى اجتمعت فيها بأفراد المجموعة المبعثرة قلت لهم أن الأمور صارت فى صالحنا…… وان الأمل قائم فى أن يفسح المجال لنا، وأن نحتل مقاعدا مؤثرة بعد لحظات انتظار طويلة اكتوينا فيها بلهيب اليأس والعدم، لكن لابد من وجود صلاح معنا، انه أنقى صوت يحمل قضيتنا….. وسعدت ساعتها لما رأيت الرؤوس نهتز بالموافقة والحماس يدب فى أوصال الكثيرين منا وتتلون الوجوه بلون زاعق بالحياة والخصوبة واتفقنا أن ينطلق كل منا يمسح المدنية بحثا عن صلاح، وبعد عدة أيام رأيت الاحساس بالخيبة يغلف كل الوجوه التى عرفتها منذ آلاف الأيام وهمس معظهم بيأس وغموض:
– علينا ان نختار أحدا غيره
شعرت ساعتها ان يدا غليظة تحاول أن تقتلعنى من جذورى فصرحت فى وجوههم:
انصلاح يحمل نفس السنوات التى نحملها على اكتافنا لكن صوته يحمل ملامح مأساتنا وأفراحنا القليلة، هل ننسى صوته الهادئ وهو يقول فى أحلك اللحظات وأبداننا تعوى من صفع الهراوات: سيأتى يوم ونعرف فيه طعم الابتسامة….
سيأتى يوم ويصير زمام الأمور فى أصابعنا .
خرجت من المبنى الذى يعمل به صلاح، لم أمسك ببداية الخيط بعد شعرت بالصداع يفلق رأسى الى نصفين، ملت الى مقهى قريب وأخرجت القرص الذى ينظم حركة الدم فى عروقى وابتلعته وطلبت مشروبا مثلجا وأنا أقاوم شعورا خبيثا باليأس بدأ يتسلل الى، لكنى نفضت كتفى بحركة مباغتة وهمست لنفسى: ابتسامة صلاح الواثقة ستقتل هذا الشعور الخبيث .
تركت المقهى دون أن أحدد وجهتى، سرت بخطى بطيئة وسط جموع من البشر تهرع فى الشوارع جانبى غير معروف ويقضم شطيرة بغير شهية. وتجاوزته لكنى استدرت اليه وصرخت رغما عنى صرخة طفولية :
– صلاح……صلاح .
توهجت نفسى بالفرحةن جريت اليه مصافحا ومعانقا، لكنه طالعنى بعينين خابيتين خلف نظارة سميكة وأنكرنى، صرخت أذكره بنفسى، فاتسعت عيناه وزاد انكاره لى …… دق قلبى دقات عنيفة وأخذت أحملق فى وجهه الشاحب وعظامه البارزة وقد اندثرت تماما وسامته الشهيرة، دفعته رغما عنى الى عمق الشارع الهادئ وقلت له :
– صلاح …. الأمور تغيرت ….. ان بعض الأبواب قد فتحت فعلينا أن ندخل ونعرض قضيتنا .
اهتزت رأسه بحركة متشنجة ولم أسمع صوته، فعاودت الصراخ المكتوم :
– ان مكانك شاغر فى مجموعتنا ……. وكلنا ننتظرك .
مد أصابع مرتعشة الى النظارة يدفعها الى الخلف كانها وشيكة على السقوط وانثنى رأسه يتأمل ما تحت قدميه.
ملت عليه ارجوه بكل معاناة السنوات التى فرت منا :
– سيصير زمام الأمور فى أصابعنا ….. هل نسيت أملك القديم
كور قبضته الضعيفة على الورقة التى غلقت شطيرته وألقاها بقوة قسقطت قريبا منه:
– صلاح …… أريد أن أسمع صوتك . انه صوتنا كلنا
وجدت عينيه تهميان وراء أشياء مجهولة، وفجاة صرنا فى قبضة صمت قاس ومتوحش، تأملت رأسه فوجدته مكسوا بفروة نحيلة من الشعر الأبيض فصرخت حتى أن بعض المارة حدجنى بفضول:
– صلاح …….أريد أن أسمع صوتك .
رفع الى رأسه بعصبية ودفعنى من أمامه بقبضته الضعيفة وسار متأرجحا وأخذت أتفحصه بعينين متعبتين وقد أنضم الى جموع السائرين وان بدا مميزا بينهم بالانحناءة وتاج الشعر الأبيض واكتشفت على نحو مفاجئ أنى وكل افراد جيلى نحمل نفس التاج الأبيض ونفس الانحناءة .