الفصل الثانى
الناس والطريق
بعد ظهر يوم سبت حزين
الناس .. والطريق
يحيى الرخاوى
… وعلى المائدة الأخرى: يوجد شاب وفتاة لا يتكلمان، وكأنهما قد أحاطا “بكل شئ” فلم تعد ثمة حاجة لمزيد من كلام، أو كأنهما قد أدركا – لكثرة ما تكلما. أن الكلام لا يفيد، أو كأنهما قد أتفقا على يأس مشترك يصبح معه الكلام خيانة للاستسلام اليائس، لم هذا؟ لماذا؟
***
حين قرأت الجزء الأول من هذه الخواطر منشورا، خجلت حتى هممت بالعزوف عن استكمال تسجيل بقية الرحلة، أذ تصورت أنى أفرض على القارئ أمورا شخصية لا تهمه كثيرا (أوقليلا)، فضلا عن شبهة الابتعاد عن نبض وخبرة أغلب “ناسنا” هنا، ثم غمرنى شعور آخر بالرضا لأنى تلقى فى وجهى دائما أبدا، فهأنذا أكتب كلاما سهلا لما كان المقام سهلا، أما غير ذلك فله ما يليق بمقامه أيضا.
ثم قررت أن أواصل كتابة هذه الخواطر، حتى لو لم يكتب لها النشر فى هذه المجلة أو غيرها- الآن أو مستقبلا – فهى فرصة قد أتيحت لى، ولمن يهمه الأمر – أن أتحدث عن نفسى بحروف مكتوبة، فأعيد اكتشافها من خلال مثيرات الطريق، وهذا بعض ما أتصور أنه قد يهم لناس من حيث رغبتهم فى الاطلاع لى بعض داخل من هو مثلى (مثلى كطبيب نفس، وكحامل قلم، وكأنسان أمتحم برؤية أكبر من حساباته)، ثم هى فرصة سانحة أيضا أخفف فيها من الوصاية على قلمى: توجسا، وخجلا، وترددا.
وكنت قد أنهيت الجزء الأول بسؤالين: هل أكمل سيدى القارئ؟ وهل تسمح لى سيدى المحرر الزميل؟
أما زملاء التحرير فقد وافقوا – بعد تردد – لى مواصلة الكتابة، ولست متأكدا الى أى مدى كان ثمة ضغط أدبى وراء هذه الموافقة، أما القراء فلم يصلنى شئ حتى كتابة هذه السطور، وان كان ما بلغنى من الاتصال الشخصى أن بعض من قرأ الجزء الأول كان يصحبنا بشكل ما، فأحب حافلتنا، وعبر الحدود، وضرب “لخمة” فى محطة البنزين، وتوقى المطر فى موتيل الجبل، وقد اعتبرت ذلك كله مشجعا مبدئيا لأخترق ترددى.
24 أغسطس 1984، مساء
مازلنا فى “موتيل الجبل”، الأولاد سبقونا الى النوم، وزوجتى وأنا نأننس بأجواء “زوربا” اليونانى، رغم أننا لم نعد فى اليونان، بل نحن فى اليونان رغم أنف النظم السياسية والاقتصادية والأمم المتحدة، نفس الطيبة والحرارة والصوت العالى دون ازعاج، وتعبيرات الوجه “الحاضرة” دون أدب زائف، يطل على خيالى صورة أثنين لا أعرف لهما صورة أصلا د. نعيم عطية، وكازنتساكس، ولا أدرى كيف ولماذا؟ وحين سألت صاحب الموتيل أن كان بامكانى أن أدفع الحساب بالدولار وأجابنى بالأيجاب، وحسبها بعقله الصناعى الصغير ذى الأزرار، تعجبت لقرب السعر الحر (السوق السوداء) من السعر الرسمى فى بلد اشتراكى، وقلت لعله يخدعنى، ولكنى لم أسمح لنفسى بالمتادى فى الشك، فالوجه أكثر سماحة، والصوت أكثر وضوحا من ألعاب الخداع والشطارة، ومضيت اسأله عما يمكن أن تراه أثناء مرورنا العابر “جدا” ببلجراد(1)، وللعجب، فقد أخذ يفكر ببطء مسبى، وقد كنت أحسب أن الرد الجاهز (كما هو عندنا مثلا) ثم قال “قبر تيتو مثلا”، فابتسمت،فابتسم، فشجعتنى ابتسامة على أن أزيد من مساحة ابتسامتى حتى الضحك، فتشجع بدوره، وضحك بدوره، وكانت لغة الحوار (الابتسامة – فالضحك) تساعد لغتنا الانجليزية المتواضعة التى نتفاهم بها، وقلت له: “عندنا قبر عبد الناصر” وهنا قهقه مضيفى مضيفى قائلا “يكفى كل شعب من شعوبنا قبر واحد مهما”، وربت على كتفى – وهو أصغر منى عمر بكثير – فأحسست بيده حانية كأب طيب، وشعرت أن التلامس البدنى أثناء الحديث يقربنا من بعضنا البعض نحن شعوب البحر الأبيض، الأمر يختلف تماما كلما صعدنا شمالا حيث تزداد المسافات بين أجساد البشر، حتى يصبح جسد الآخر، بل نظرة عينيه اذا طالت، من المقدسات المحظورة الاقتراب منها، نعم.. هناك فى أقصى الشمال عليك أن تحافظ على المسافة، والانحناءة، وأن تغض البصر، وتتقن الهمس المهذب. حتى نتقلب كلمات المحادثة الى كرات ضغيرة من الجليد الهش.
أنتهى حديثى شبه السياسى مع صاحب الموتيل، وقلت فى نفسى أن يوجسلافيا ربما تمر – الآن – بحالة تمطى بعد موت تيتو، فوجود زعيم مثله، له كل هذا الثقل .. ثم اختفاؤه، لابد أحد يعلم ماذا بعد التمطى، هل هو نوم جديد، تحت ثقل جديد، بحكم العادة، أم أنه مشى، فوثب، فانطلاق، الى عالم الحركة الحرة والابداع؟ وتوقفت سلسلة الأفكار السياسية الخائبة، وعدت أواصل – فى صمت – مشاركة زوجتى وفرسان الليل، ثم صعدنا للنوم وهواء الجبل يغسل كل خلية من خلايا وجودنا.
وكان النوم عميقا وهادئا، رغم أن احلامى لم تتركنى أتعمق أكثر فيما أنا فيه، أذ مر بى طائف جعلنى أنى “أخطب” وأنا أشرح ” لأحدهم” كيف أن القطاع العرضى فى أجسادنا يشبه فصوص البرتقالة!! ثم كيف – لذلك – أننا نستطيع أن نلم اجزاءنا الى بعضها بعد تقطيعها الى فصوصها، نلمها فنصبح وحدة جديدة قادرة على الغناء (نعم: الغناء وليس البناء)، ولم يكن حلما مزعجا، ولكنه كان غريبا غير متوقع، بالذمة: هل هذا – هنا- وقت تقطيع ولحام ..؟ ولكنه على أى حال هو وقت غناء، أحلامى – عموما – تنبهنى الى كثير من خداع ما أتصوره فى يقظتى، فأحيانا ما أتصور أنى” وصلت”، وأنى قد تصالحت مع كل شئ، حين فهمت كل شئ، وعلمت كل شئ “حتى لا أسائل واحدا عن علم واحدة لكى أزدادها”، وقد أكون قد أتممت زرع كل شئ، ولم يبق على الا الحصاد، فأى طمأنينة وزأى استقرار!!! ثم أفاجأ أنى أحلم فى ذات الليلة بمعارك مع وحوش أسطورية لا يجمينى منها الا اختبائى وسط زواحف بلا معالم واضحة!!، وحين اصحو وأتذكر أخرج لسانى لهذا الوهم الأمانى الحصادى المضحك، وقد حملت أخيرا بعد عودتى من هذه الرحلة، وقد تصورت أن داخلى قد أستقر على “يقينم “.. حلمت أن أثنى قرد حامل قد دخلت معركة غير متكافئة مع وحش أسطورى، فبقر الوحش بطنها قبل أوان ولادتها بكثير، وأذا بمحتوى بطنها يخرج قردة صغيرة قادرة على الجرى والحياة مستقلة حتى من الرضاع من أمها القتيلة، والعجيب أن أعمار وأحجام الذرية (القردة الصغيرة) كانت متفاوتة رغم كل حسابات البيولوجى، أذ كيف ينمو أحد الأجنة اسرع من قرينه فى نفس البطن فى نفس الوقت؟ خلمت هذا الحلم فى الوقت الذى كنت أعلن فيه لنفسى أنى تصالحت مع بقيتى تصالحنا واكب دخول أصغر أولادى الجامعة، حتى تخلصت – على ما أتصور – من لعبة “مستقبل الأولاد”، ويستطيع القارئ أن يرى فى هذه الأحلام ما يرى، فهى بعض رحلات الداخل، ولكنى لا أقرر لها تفسيرا… بل ولا أريد أن أفعل، فأولى بالحلم – على الأقل – أن يمثل مثولا هكذا بنبضه دون ترجمة أو تأويل، وأكتفى بان أستنتج أن نتائج هذه الرحلة كما تراءت لى فى حدود وعيى الظاهرى، ليست هى حقيقة ما جرى فعلا، حيث لا سبيل الى معرفة ما ترتب وما تبعثر فى الداخل الا باختبار الزمن، وتغير نوع الانتاج، وبعض ما أكتب الآن هو من مثل هذا.
السبت: 25 أغسطس 1984
استيقظنا فى الصباح الباكر دون “منبه”، وتمتعنا بالماء الساخن بالاستحمام الاحتياطى، باعتبار أن حمام الآن، فى مكان مضمون هو نوع م بعد النظر خوفا من قادم المفاجأت فى الطريق أو المعسكرات، وتناولنا أفطارنا (وثمنه متضمن فى أجر الحجرة الشديد الرخص) وكانت مفاجأة للأولاد جعلت كل واحد منهم يضع يده على جيبه فرحا وكأن رأس ماله قد زاد ثمن الأفطار بضربة حظ طيب، فضلا عن أننا نجلس حول مائدة لها كراسى تضمنا جميعا، وأكواب الشاى والقهوة تدفئ أيدينا قبل معداتنا وأرواحنا، وكانت السماء مازالت تمطر رذاذا يشتد أحيانا وبخف حينا، وبدت الفرحة بالمطر ( التى جعلتنى اصيح أمس “هذا..” ) هو غير مناسبة، لأنها كانت مساء أمس فرحة ونحن فى ” حالة أقامة” أما السفر “فى المطر (بلا تلافيف جبلية) وأنا أقطع الطريق بين باريس وبروكسل، وتذكرت ساعتها كيف تعودت بسرعة على حركة المساحات ورخات عجلت السيارات التى تمرق أمامى وهى تتخطانى، وأملت ان أتغلب على مخاوفى بمجرد المضى فى السير فالتعود، لكن صاحبنا المتربص بداخلى كان يتلمظ ويفرك يديه، فأزداد رهبة، فأكتمها عن صحبة الرحلة وهم يذهبون ويجيئون ويحكمون رباط غطاء الحمولة فوق ظهر العربة، وقد ارتدى كل منهم المعطف الخفيف المانع للمياه ذا غطاء الرأس المحكم، وكأنهم يعيشون فى بلاد ممطرة طوال العام، وتعجبت لقدرة السن الأصغر على التكيف الأسرع، دون سجن الاعتياد أو وصاية الفكر بالحسابات الجبانة، ولم يكن ثمة بد من مواصلة الرحلة، وفورا، فأى انتظار لتوقف المطر هو جهل بطبيعة أوربا وطبيعة الجبل، فالأمطار قد تطول أياما أو قد تنتشع بعد دقائق بلا شروط ولا ارهاصات.
تحركت الحافلة الصغيرة فى الصباح الباكر، وبعد دقائق – بدات أعتاد على المطر، وحركة المساحات، ومروق العربات السريعة بجوارنا وموجاتها المتناثرة من تحت عجلاتها إلى زجاجنا الأمامى، وتعجبت – مرة أخرى – لهذا التأقلم السريع قهر كل حساباتى وترددى، وبدا الأولاد يغنون مشاركين هذا الجو الصباحى المنعش، وكنت قد نسيت فى الجزء الأول من هذه الخواطر أن أشير الى أغانى الرحلة ودورها الهام كأرضية مميزة لتجمعنا الصغير، يمكن أن أرجع عزوفى عن ذكرها الى خوفى من عجزى عن أن أنقل روحها ونغمها، وهما الأهم من كلماتها، وبصفة عامة فان أغانيهم الجماعية بصفة عامة كانت تعلن بداية يقظة، أو رغبة فى مشاركة، أو انطلاقة فرحة، وأحيانا استعداد لنوبة نوم تالية، وكان من ألطف اللغات الخاصة التى ابتدعتها الصحبة هو أن يقول أحدهم (عادة أصغر الأولاد) فور يقظته أو بعد صمت ثقيل “تم ترارارم” فيرد عليه أحدنا “تم..تم” وكنا نعتبر أن هذه التحية هى بمثابة أغنية كاملة فى د ذاتها حين نكررها بأنغام مختلفة، ثم: .. نضحك.
وقد لاحظت أنه فى أغلب الأحيان لا يوجد أى تناسب بين الأغنية التى تنطلق، وبين الموقف الذى نعيشه، أو المنظر الطبيعى الذى يحيطنا ونخترقه ونتجدد معه وبه، وفى بداية الأمر، كنت أرفض هذا التناقض، وأشعر بأن تلقائية داخلهم هى أصدق من حسابات فكرى، وسوف أحاول أن أتذكر، أو أتصور، بعض ما صدح من أغان مناسبة وغير مناسبة، مما تعلمت منه ما تعلمت.
مازلنا نغتسل بالماء الهابط مباشرة من رحمة رب الأكوان، فنكاد نهز أجسادنا ورؤوسنا بما حولها من ريش ووجدان يقظ كديوك نجحت فى عبور قناة ذات ماء جار، فالمساحات تروح وتجئ، وأرواحنا تتفتح لاحتضان ما ننهب من أرض وسماء وما بينهما، ولا تمضى سوى دقائق ونحن نستبشر الخير متصاعدا حتى تعلن زوجتى نسيان سترتها على مائدة الافطار، وللعجب: لا نضطرب ولا نضجر – رغم ضيق الطريق ولهفة مواصلة السير وندور حول أنفسنا بصعوبة بالغة، ولا يعترض على الرجوع للبحث عنها الا (الأتوبيس) الذى كان قد بدأ يروض نفسه على الايقاع الجديد للظروف الجديدة، فيتلكأ ونحن نلوى عنقه فى الاتجاه المضاد، ولكنه يرضخ أخيرا على مضض لنعود من جديد الى الموتيل دون لوم أو أسف، ولكن بخوف ونشوة غامضة، وتنطلق المجموعة
حط أيده على أيدى
أبويا راجل صعيدى
يضربك … تصعب على
أى
توتو … نى،… يا توتو.. نى
بالذمة ما المناسبة؟
ونعثر على السترة، بل ونكتشف أن زوجتى كانت قد نسيت حقبيتها أيضا، بما كان فيها من جواز سفر وأوراق هامة، نقد قليلة، نفدح لأمانة الناس وطبيتهم، ونعود وقد زاد أشراق الصباح دون أن يتوقف المطر أو تطهر الشمس، وتنطلق المجموعة:
المعزة عزيزة … يا حضصول
اللى ببريزة … يا حضصول
جت من ورانا … على غفلة
كلت الخزانة .. على غفلة
كلت السراير .. يا ولداه
والكل مسافر .. يا ولداه
وتحضر معنا نيللي، وصلاح جاهين داخل العربة، وتهب روائح رمضان، ونترحم على الفوازير التى هى (بحق وحقيق) ولعل القارئ قد شاركنى شعورى نحو هذه الأغانى وتوقيتها وعدم التناسب الظاهر بين كلمات الأغنية ومثيرات الخارج، ولكنى اؤكد احتمال أنه (عدم تناسب)(مناسب) فهو عدم تناسب ظاهرى فحسب، اذ يبدو أن ثمة علاقة أكثر وأدق حساسية بين الداخل النقى والخارج الفطرى، علاقة أكثر حساسية وأعمق ارتباطا من منطلق الألفاظ وتسلسل الأفكار، وأتذكر كم نفرض الوصاية أكثر على تلقائية الأولاد فنحجر على حدس خيالهم وشطحات عدم ترابط منطقهم، اذ نقدم لهم فنا مسطحا، وقصصا تافها، تحت عنوان النصح والارشاد، وزذكر حين كنت صغيرا، وكان يحضر لنا كل سنة رجل شيخ وديع اسمه (عن عطية) يعقب البرسيم(2)وكنت أنتظره بشوق من العام الى العام، حيث كانت حكاياته أعمق وأطول واهدأ وأكثر طرافة من حكايات عن (شعبان) الذى يأتى كل ليلتين يدير الطلمبة (الماصة كابسة) لملء خزان الماء فوق البيت والذى حفظت حكاياته كلها بعد تكرارها عدة مرات، وكان لعم عطية حجرة فى (البدروم) يقوم فيها بعمله طول النهار وبعض الليل، وكنت أسميها حجرة عم عطية رغم أنه كان لا يشغلها الا بضعة أيام كل عام، وكانت وحدته ورضاه وهدوءه وهو يهز (الغربال) بين يديه فر رتابة حكمية دون ملل جزء من روح حكاياته وكأنه هو شخصيا أحد أبطالها، وكنت حين أطلب منه أن يحكى لى حكاية يسألنى عايز (مثل) ولا (حدوتة)، وكنت فى البداية لا أعرف الفرق بين المثل والحدوتة، ثم تبينت أن المثل هو حكاية قصيرة مركزة تنتهى عادة بحكمة واضحة المعالم، أو تفسر قولا شائعا، ومازلت أذكر حكاية الذى ورث ثلاثة أكياس ذهب، وفى موجة حماس وتحد وحب استطلاع اشترى بها ثلاثة حكم، مجرد كلام (أمشى سنة ولا تخطى قنا) ثم( حبيك حب ولو كان دب) وأخيرا (من آمنك لم تخونه ولو كنت خاين) وتمضى الحكاية وصاحبنا نادم أشد الندم على تهوره، ولكن الأحداث تظهر له كيف أن كل مثل – حين طبقه فعلا عيانيا فى المناسب – قد أنقذ حياته فى مأزق بذاته، ومن وقتها وأنا أشعر أكثر فأكثر بأن(الكلمة) اذا حملت أمانتها، وكانت فعلا واقعا، هى أغلى ما فى الوجود، وكنت أذكر بالذات المثل الأول (أمشى سنة ولا تخطى قنا) وأنا أمضى بحافلتى الصغيرة فوق الجسور المعلقة، وداخل الأنفاق، وأعتذر فى سري، بأن (الدنيا تغيرن باعم عطية فسامحني)، ومع سرعة ايقاع المثل وتركيزه عن الحدوتة، فقد كنت أفضل دائما الحدوتة لأنها أطول وأقل مباشرة وأثرى خيالا، كلما تذكرت أستاذية عم عطية وتلقائيته الابداعية، قارنت بينها وبين برامج الأطفال وقصص النصح والارشاد التى نبالغ فيها بالوصاية على خيال أطفالنا، أسفت، ودعوت الله أن يهدى أولئك المسئولين عن برامج الأطفال ومطبوعاتهم حتى ينسوا بعض( واجبهم الفضائلى) لحساب حدس خيالهم التلقائي، فيقدمون لأطفالنا فنا بحق، حتى لو تصورنا أنه فن للأطفال، بل أنى أحنرم الفن الملئ بالمخوفات يقدم لأطفالنا هكذا (دون حذف), لأن اسقاط الداخل بمخاوفه ولا منطقه وحتى بشاعته فى خيال قصصي، أفضل من حبسه وراء حاجز من فضائل مصنوعة، المهم ألا نتدخل كثيرا بمنطقنا العاجز فر تلقائيتهم الحلوة، يا (حضصول)!!
وتنطلق العربة، وتمرق من أنفاق صغيرة غير مضاءة بدرجة كافية، وأسال مرشدتى الصغيرة التى عليها الدور أن تنظر فى الخريطة لترى متى ينتهى الطريق الجبلى، فتقول لى أنه لن ينتهى قريبا، فالخطوط الحمراء البنية مستمرة، وأن ثمة (أوتوستراد) ينتظرنا بين أغلب الطويق من (نيش) الى (بلجراد)، ولا أكاد أصدق ما تقول حتى يستقيم الطريق ينبسط، ضد فتواها المعتمدة على ألوان الطرق لا التضاريس، وأجد نفسى أسير وسط حقول من الأذرة على الجانبين، وتذكرنى حقول الأذرة بالذات ببلدنا قديما (قريتى شخصيا)(3) ويذكرنى أكثر بطريق شق حديثا بين قليوب ومنيا القمح، وأقول عكس ما قال أولادى عندما وصلوا إلى أثينا وأذكر قولهم (لا… ليسوا مثلنا)، فأقول أنا معاندا (ياه..!! كم هم مثلنا) أليس عندهم أذرة لها (كيزان)؟ وكان أول عجبى هذا فى العام الماضى وأنا أشاهد الأذرة فى الطريق (الوطني) الجميل بين جنيف ومونتريه، أستطيع أن أفسر جزءا من عجبى هذا بأنى تعودت أن أعتقد أن أكل خبز الأذرة، متصل عندى بالفقر، حيث كنا نحسد الغنى بأن خبرة (قمح صافي)، أما الأذرة بالحلبة فهى أكل عامة الناس، فلماذا يزرع هؤلاء الخواجات الأغنياء الأذرة مع أنهم قادرون على أن يأكلوها (قمح صافى)؟ المهم آنستنى حقول الأذرة، وتيقنت أنه لا جبال ولا يجزنون، فأنا لا أتصور أن الأذرة يمكن أن ازرع الا فى حقول منبسطة مثل يلدنا، مع الاعتذار لمرشدتى الحريصة.
و رحنا نتعجب من يوغسلافيا هذه – مثل سائر أوربا – حيث تبدو لراكب السيارة من أمثالنا بلدا زراعيا فى المقام الأول، ومع اختلاف النظم الاقتصادية والسياسية، فأوربا هى أوربا، والزراعة تملأ كل شر من أرضها، بل كل سنتيمتر، ولا أستطيع أن أتبين – فى خيالى طبعا – حدا فاصلا بين قطاع عام وقطاع خاص وقطاع تعاونى!! بين أرض الدولة وارض الناس، فالأرض لابد أن تزرع كلها تحت أى اسم وأى قطاع، حتى يأكل كل الناس، وليتشاجروا بعد ذلك على توزيع العائد، المهم أن تزرع الأرض، ويا رب يسمعمى أهل بلدى، بل يارب أجعل بلدى ممطرا حتى نزرع غصبا عنا، ولكن من يدرى، لعلنا نتركها للنجيل، ونسافر نحن نرفع قصعة الخرسانة فى بلاد الهجير؟ وتمضى السيارة أسرع فأسرع مع انبساط الطريق، وتمضى أفكارى أسرع فأسرع مع انطلاق الخيال، وأحاول أن أطرد المقارنات والحسرة، لألقى بنفسى فى بحر الخضرة التى أخذت تحتوى حواسى من كل جانب، ثم ما هذا الزحام المتزايد فى كل الطرق بلا استثناء؟ وأنواع المركبات الذاهبة والعائدة لا رابط بينها، فمن سيارة “سبور” تجر قاربا أو “كارافانا” أو حتى “يختا” الى كاميون كأنه مخزن عملاق متنقل، ثم أننا فى نهاية الصيف، ولابد أن الأجازات قد قاربت نهايتها، لكن الزحام كان حقيقيا ومتزايدا.
ولا ندخل “نيش”، وننحرف شمالا غريبا الى بلجراد، ويبدأ الأوتوستراد، ويبدو طريقا جديدا حيث أن أجزاء فيه لم تكمتل بعد، وها هى يوغسلافيا تحاول أن تطلق سراح المرور البرى بها، فتربط بين ما يسمى الشرق وما يسمى الغرب بموقعها المتوسط وطبيعتها الفريدة، وأن كنت – بينى وبينك – لم أشعر بفرق حقيقى جوهرى بين أى خواجة، وأى خواجة، فسبحان مغير العقائد، ومقسم البلاد بفضل الحروب والحكام والأيديولوجى!!، وأفرح بالسير السريع (نسبيا) فى الطريق السريع (يعنى!) بعيدا عن الجبال والأنفاق والجسور والمفاجأت، الا أنى بعد قليل أمل مللا متزايدا، فكثرة العربات المارقة من جوارى، وتزايد السرعات على الجانبين ورتابة المناظر حولى، جعلت السفر اشبه بالحدث المكرر حتى الجمود، وهذا الشعور لا يأتى الا فى الطرق السريعة (الأتوستراد) أما الطرق الوطنية(4)التى تعبر القرى، وتكثر من الالتواء والصعود والهبوط، فأنها الى الحوار والمؤانسة أبدا، ويتوقف الطريق دون إشارة الى ما يدعو لذلك، وتطول الوقفة، وينزل أصحاب السيارات يتمطون ويتساءلون، ويستيقظ أولادى الذين كانوا قد بدأوا فى النعاس، ربما نتيجة للملل من الطريق السريع، أو بحكم العادة، وأنزل بدورى أتساءل، ويجيبنى بعض قادة السيارات المجاورة من أصحاب الخبرة بأنه أما تصليح فى الطريق، وأما حادث تصادم، وتطول الوقفة فأتطلع الى أرقام متشابهة، فأتطلع الى الوجوه لعلى أنجح فى أن أخمن نوع الجنسيات – حتى مع التقريب لأقرب بلد صحيح !!- وتلوح لى خلفنا بعدة عربات حافلة صغيرة قديمة نوعا ما، يركب فيها ركاب يجذبون نظرى فى الحال، فنساؤهم يغطين الرأس وبعض الوجه “بالايشارب”، فأتصور أننى عثرت على بعض مسلمى يوغسلافيا ممن أسمع عن كثرتهم وتمسكهم بديننا بشكل أو بآخر، فأتقدم نحوهم للتعرف والتحية، ومعى بعض الأولاد، ويقفز حاجز اللغة حائلا دون أى تفاهم، تبدا الاشارات، اشير إلى أرقام عربتى وحروفها باللغة العربية، فيبتسمون، فأحمد الله على بداية أى شئ، وأواصل، فأقول بالعربية “مسلم” فتنفرج الابتسامة عن ضحكة مرحبة فرحة، ويقولون “مسلم”، فأمسك خيط اللغة الجديدة وأقول ” لا اله إلا الله” فيردون ” محمد رسول الله”، واطمئن الى هذه الخطوة المباركة، لم يبق الا لاتعرف على الجنسية والوجهة، فأتبين بعد جهد جهيد أنهم ليسوا يوغسلاف، وأنما من تركيا، وأرجح أنهم فى مهمة عمل: لا سياحة ولا استطلاع، فقد كانت حمولتهم تشير الى ذلك، كما كانوا فى حالة أقرب الى الاستسلام المشوب بحزن متواضع يمنعنى أن أتصور أن ثمة سياحة، أو عسكرة، أو أجازة، وترفض زوجتى أن يكونوا أتراكا هؤلاء “الغلابة”، فقد تعودنا على التركى الحاكم المتغطرس (الغبى)، والتركيات الــ “جلفدان هانم” أو السيدة “شمردل” (آسف: مدموازيل يا بغلة!!)، أما هؤلاء الناس، البسطاء الحزانى المستسلمون للوعد والمكتوب، الساعون الى ارزاقهم فى بلاد الفرنجة عمالا أو ما شابه، فهم ليسوا أتراكا حتما، حتى لو قالوا أنهم كذلك، وهكذا أعاود التفكير فى معانى الألفاظ التى تتغير بتغير التاريخ والجغرافيا، وأقول للمرة المليون: يا لألعاب الألفاظ واصنام الكلام وخداع الأحكام.
تحرك الركب بطيئا ثم تزايدت السرعة تدريجيا، وحين وصلنا الى السبب الذى عطلنا، تبين لنا أن ست عربات (تقريبا) قد أصبن بالقلب والتحطيم والانحراف والخراب والتلف…، لكل حسب قدره نعم حسب قدره، وليس حسب خطئه، فالمسألة فى حوادث الطرق السريعة لا تتوقف على المخطئ فحسب، وأنما على حساباتك القدر اساسا اذ تصيب الحادثة كل من تصادف أن جاور السبب أو المتسبب، كل من حاذاه أو تبعه أو أقتراب منه، أو حتى حاول تفاديه، ولم تتح فرصة طويلة للتأمل فى الوجوه والتفاعلات تجاه هذا الحادث المتعدد الضحايا، والا فنحن عرضه لحادث أشنع نتيجة للالتفات بعيدا عن الطريق، وإن كنت لمحت (أو تصورت) أن الوجوه المحيطة بالحطام والضحايا بدت لى أقل تفاعلا من توقعاتى، تعبيرات لا تتناسب مع حجم الخراب ومنظر الاصابات، وبديهى أنى مخطئ فى حمكى، اذا كم مضى من الوقت منذ الحادث، وبالتالى كم تغيرت تعبيرات الوجوه، وكم كانت لفتتى غير كافية لتبين حقيقة المشاعر، ثم أن هذا التلبد المتناسب طرديا مع حجم الكراثة (حسب توقعاتى) هو رحمة بنا، وليس نقصا فينا، وأراجع نفسى أتساءل: لم أذن بادرت بالاتهاتم بالتلبد غير المناسب؟ وأجد فى داخلى اتهاما قابعا يتربص بأهل الغرب جميعا يريد أن يصفم باللامبالاة بأى شكل، ( وقد أرجع لهذه القضية فيما بعد)، وبما أنى لمست من “الطبيعة” هذه المرة محاولة أن تصالحنى عليهم بشكل أو بآخر، فقد فتحت بأبى ورجحت خطأ أحكامى ةتصنت لوجهة النظر الأخرى تتسحب من داخلى ايضا، ألست أنا (وأنا الشرقى المقول عنه بالمبادرات الانفعالية) هو من ضبط نفسه متلبسا أكثر من مرة كنت أشعر فى بعض الأحيان – وأنا امر بحطام سيارة فى طريق مصر الاسكندرية ( الزراعى اساس، والصحراوى بدرجة اقل) .. كنت اشعر بشعورين معا، أحدهما، وهو الأقل فى هذا المقام هو شعور الشخص العادى من شفقة وأسى وتعجب مما يثر الدعوات بالرحمة للمصاب، والستر لما، أما الشعور الآخر الذى لم احدث به أحدا الا قليلا، فهو شعور تحفز قاس لا يخلو من استهتار، ويختفى وراء هذا كله ما لم أتبينه تحديدا وأن كنت لا استبعد ظل شماتة ونبرة فرحة، وبديهى أنى لم اقبل هذا الشعور أبدا، فما بالك بالآخرين لو عرفوا عنى بعض ذلك؟ وقد كنت أكاد اشعر بهذا الشعور الآخر وهو يخرج لسانه ” بشكل ما” “لشئ ما”، بما هو يخرج لسانه لطمعنا وغرورنا و نسياننا أننا جميعا على “كف عفريت”، أو أنه يخرج لسانه لاعتمادنا على قوة السيارة – أى سيارة – ومتانتها وحذق قيادتنا ومبلغ مهارتنا، أو أنه يخرج لسانه لغرورنا الذى يحدد لنا دقة ميعاد ” الوصول”،( أى وصل؟) الوصول الى نهاية الرحلة أو نهاية النجاح، ثم نجد ما هو أدق توقيتا وهو نهاية الحياة، المهم أنه يخرج لسانه والسلام – وحين تجرأت ذات مرة، وتحدثت مع زميل لى فى نفس تخصصى، وكان يصاحبنى فى الطريق بسيارتى ونحن نمر بمثل هذا الحطام المثير لهذه المشاعر، تحدثت معه آملا أن يفهمنى ولا يسارع باتهامى بما نتهم بع غيرنا بالأحكام الأخلاقية أو الأحكام الطبية، فإذا به يستبعد شعورى ذلك أصلا ويعتبرنى أمزح، ولا يتصور أنى أنا الذى أكاد أذوب رقة على طفل تعرت ساقه بجوار أمه النائمة عنه فى يوم بارد، أحمل بين جوانبى أى “شئ” غير هذا، وحين رحت أؤكد له أنى لا أمزح نحى وجهه بعيدا وفتح حديثا آخر!!، فابتسمت وعذرته وسكت، والحقيقة أنى منذ انكشف عنى غطائى، وأنا اصاحب كل المشاعر ” الأخرى” مصاحبة لصيقة، وأعرف أننى بها اكتمل، وأن الفرق بين الخير (بتشديد الياء) والشرير، ليس فى أن الخير دائم الفضل رقيق هو فى قدرة الخير على أن يعى ويروض شره بالمجاهدة والتقبل والمسئولية، ماضيا فى اتجاه وأحديثه المبدعة من ناحية، صابا طاقته لخير الناس، بتلقائية حتمية، وأنى اسف للدخول الى هذه المنطقة الصعبة، ولكنه أمل أن يفهمنى القارئ أكثر من زميلى المتخصص، فالمسألة أنى أحاول أن أنقل لصديق بعيد كيف أنى تخطيت منكقة تصنيف الناس الى أبيض واسود، وبهذا استطعت أن أتقدم الى التعرف على الجانب الآخر من وجودى أملا فى التصالح فالتصعيد، وأعود الى الوجوه الهادئة حول الحادث الكارثة، وأتسءل من ديد: اليس من المحتمل أن يكون فتور تفاعلاتهم – اذا قيس بفرقعات مشاعرنا التى نسميها عواطف – هو نوع من هذا التجاوز نحو التكامل، وأراج نفسى حين أتذكر طول رحلتى وصعوبة مخاطراتى مع ذاتى، واستبعد أن يكونوا جميعا، أو أغلبهم، قد مضى كل هذا المشوار، وأجد أن الأقرب أن أغلبهم قد بالغ فى تركيزه على ذاته المستقلة، فذهب يمارس بشجاعة نذلة مبدا أن ” الحى ابقى من الميت”، فإذا أضيف الى ذلك ما فعلته شركات التأمين من تخدير مشاعر لناس بالتعويض المنتظر الجاهز (وسأرجع الى ذلك) لأمكن أن نفهم فتور التفاعل هذا بحجمه الواقعى، لا أكثر ولا أقل.
مضت بنا الحافلة الصغيرة فى الطريق الشديد الاتساع البالغ الازدحام، وتابته تزداد، والنوم يحل هنيئا مريئا على كل الأأفراد الا المرشدة الصغيرة، وندخل بلجراد بعد العصر مباشرة وقد قررنا أن نبيت فيها هذه الليلة، فنتبع سهم “مركز المدينة” لنجد أنفسنا فى وسط بلجراد بسهولة غير متوقعة، ولا نصدق أننا هناك، فأين المدينة الذى هذا هو وسطها، اين من القاهرة الجدية أو باريس أو حتى الاسكندرية، الشوارع تكاد تكون خالية، والترام يتهادى فى خجل متواضع، والناس حزانى متباعدين عن بعضهم البعض فى الأغلب، وأدركت أن الفرق بين أن تسمع عن عاصمة بإيقاع ثقلا السياسى أو السياحى، وأن تراها رؤى العين هو الباعث على هذه الدهشة الأولية، نفس المفاجأة أصابتنى عند وصولى الى بروكسل (1961) قادما من باريس بالسيارة، وكنت أتصور أن ضخامة العاصمة تدل على حجم مدينة القطر كله، ولكنى عرفت من ملاحظاتى المتتالية أن العكس يكاد يكون هو الصحيح، فكلما كانت العاصمة أقل عملقة، كانت الدولة أكبر رقيا ولا مركزية، ومازلت أذكر قرية صغيرة جدا فى جنوب فرنسا تعدادها لم يتعد الثلاثمائة رجل وامراة وطفل، أمضيت فيها يوما وليلة فى أجازة الربيع (الباك) فى أبريل 1969، ومع هذا العدد الصغير من الناس، ومع وجود الفندق المضيف فوق حظيرة “ثيران” موفورة الصحة!!، كان فى مواجهة محل اقامتى ناد، وبار، ومقهى، وموتيل، وحين دخلته محاولا ان استنشق ريحه، واستوعب روحه، لم أجد فارقا كبيرا بينه وبين مقاهى باريس بجوها الخاص الحى المثير، وأستنتج أن حضارة البلد فى العصر الحديث لابد وأن تقاس بتناقض فروق ” الخدمات” و”الفرص” بين القادر وغير القادر، بين المدينة وغير المدينة، بين الحاكم والمحكوم، ولكنا أبدا لا تقاس بالتطاول فى البنيان وحجم ديون البنوك، وبهذا المقياس يمكن أن نتعرف على موقعنا الحضارى المعاصر بالمقارنة العابرة بين ليل القاهرة الثقافى، وليل المنصورة أو كفر الزيات (مثلا)، ولا أقول كفر عليم أو ام جمص، فثمة شخص يبيت (بتشديد الياء) على أهالى الأقاليم من المغرب ليحبسهم فى أسرتهم أو حول أجهزة التليفزيون فى نوم ميت، أو أستسلام سلبى.
وأرجع الى تواضع بلجراد وترامها، ولا استطيع أن أستبعد منظر بروكسل وترامها ايضا، وأتذكر قصة نصب “شريف” حدثت لى ذلك اليوم عند وصولى الى بروكسل، فقد استهترت لى بحجمها وغرنى هدوءها، فرحت اشترى بعض حاجاتى بغير خارطة للمدينة، وحين هممت بالودة، لم أهتد للطريق وكنت حافظا لعنوان بيت الضيافة الذى وضعنا فيه أمتعتنا، وتركت فيه زوجتى وصحبى يرتبون أشياءهم حتى أعود، وقبل أن أم بالتوقف للسؤال لمحت رجلا فى منتصف العمر وكأنه يشير الى بيده اشارة ما، فقلت فرصة، أساأله عن العنوان، فاذا به يسألنى هو:” الى اين ذاهب”، وقال اصحبك اليه فهو “فى طريقى”، وحين وافقت، بدأت لأول مرة أتبين أنه يتحسس باب السيارة ليعثر على “أكرتها”، وهنا فقط عرفت أنه ” أعمى”، وأنه كان يحدثنى مهتديا بصوتى لا اكثر، وأنه – بالتالى – لم يكن يشير الى أنا بوجه خاص حين تصورت ذلك، وقد زادنى هذا الاكتشاف احتراما له، كما زادنى شعورى بشهامتى (رغم ظهورها بالصدفة) “انشكاحا” وفخرا، فأى خدمة ساسديها لهذا الخواجة أبن الخوجاية، وأى جميل سوف يحفظه لى ولبلدى؟ ركب صاحبنا بجوارى واشار بيده أن امضى فى استقامة دائما Toujours tous drois، وتعجبت أنه “هكذا جاهز”، وسألته هل ألتقط العنوان الذى أريده بهذه السرعة، فأكد لى أن “نعم”، وقلت لنفسى ياله من كفيف ابصر من عساكر مرونا على الأقل، وأمضى فى خط مستقيم كما ارشدنى، ويطول الوقت وأنا متأكد أنى لم أبتعد عن محل أقامتى الا قليلا،و كلما سألته، أجابنى “دائما فى خط مستقيم”، واتذكر الأغنية التى كنا نغنيها فى الرحلات الجمعية بالفرنسية ذات التورية الذكية والتى تقول “أنه اذا كان الرب يريد أن نسير دائما فى خط مستقيم (هسى هو)، فسنصل الى سان فرانسسكو(5)،!!” وابتسم والوقت يمضى، مطمئنا الى أننا لم نعبر – بعد – الأطلنطى، ويبدأ الفأر يلعب فى عبى لكنى استبعد أن يكون ضيفى ومرشدى قد استغفلنى، وكلما تلكأت عند اشارة مرور حمراء، واصررت على سؤاله، طلب منى أن أقرأ أسم الشارع على الناصية، فأفعل، فيهز راسه مطمئنا ويواصل “دائما فى خط مستقيم”، و “أخيرا وصلنا”، هكذا قال بعد سؤال أو أثنين عن بعض الأسماء واللافتات، وقال لى ان اركن يمينا قليلا مشيرا بيده وكنه يرى، ففعلت، واذا به يفتح الباب ثم يمضى فى عجالة متمتما وكأنه يشكر، وأخذتنى المفاجأة ولكنى لم أتصور ما حدث، كنت ما أزال استبعد الاستغفال غرورا بذكائى وتمسكا بشهامتى المدعاة، ونزلت بسرعة ورحت أدور حول السيارة لألحق به وأنا اظن أنه ينتظرنى ليدلنى بشكل أو بآخر ولكنه كان”فص ملح وذاب”، هنا – فقط – أدركت أنه “فعلها”، وابتسمت، وغصة فى حقلى تعلن أنى بدورى “شربتها”، ومن من؟، من كفيفى ظريف الحيلة، وماكدت أطمئن نفسى أعجابا بذكائه لاتجرع المقلب بروح رياضية واقفل عائدا الى العربة حتى وجدت المفاجأة الأكبر تتنظرنى، فقد نسيت – فى لهفة اللحاق به – مفتاح العربة فى داخلها والأبواب الأربعة محكمة الأغلاق، وانقلب ضحكى غيظا مضاعفا، ويرثى قائد تاكسى لحالى فيدلنى على امكان احضار مفتاح بديل بمجرد معرفة رقم الشاسية من وكيل الشركة المنتجة للسيارة، ويصطحبنى الى هناك ويرجعنى مصلحا بذلك – بعض الشئ – خطا مواطنه، ولا اجرؤ أن أحكى له أو لزملاء الرحلة عن تفاصيل ما حدث الا بعد أفاقتى من المقلب، وخاصة أنى حين رجعت – أيضا فى خط مستقيم!!- وجدتنى قد التقطت ذلك الخواجة الظريف الكفيف من مكان يبعد ما لا يزيد عن مائة خطوة عن مكان أقامتى، وصرت كلما تذكرت هذا الحادث فيما بعد ابتسم أعجابا بهذا الذكاء الخواجاتى الطيب، وحين أقارن هذا الاحتيال بما وقع لى – لنا – من ضروب النصب الخوجاتى فى هذه الرحلة الحالية (أنظر بعد)، أترحم على نصب زمان الظريف الطريف، فى مقابل ألعاب الثلاث ورقات، والخطف موديل 1984.
وأعود الى بلجراد ذات الوجه الحزين، واسال رفاق رحلتى أن كانوا قد لاحظوا ما لاحظت على الوجوه الشابة وغير الشابة على حد سواء، فينبهونى الى أننا بعد ظهر السبت، وقد بدأت عطلة نهاية الأسبوع،و أغلب المحال مغلقة، ولابد أن الناس أما رحلوا الى خارج المدينة.. أو أنهم قابعون فى البارات والمقاهى والبيوت (رغم جمال الجو فى هذا الوقت من العام) واصدقهم وأقبل تفسيراتهم المتفتحة، وأندم لهذا التوقيت (السبت/ الأحد) الذى حرمنى من أن “ألتقط” ما هى بلجراد بطريقتى الخاصة حين أحشر وعيى وسط ناسها لأنهل أكبر جرعة من الوجوه والعلاقات والأصوات والتصادمات المفيقة والأدب (أو قلة الأدب) المتميز – ونركن السيارة بسهولة ونسأل عن فندق نقضى فيه الليلة، فالوقت المقدر ليوجسلافيا كلها لا يحتمل “عسكرة” ةنحن نريد أن ” نعيش العاصمة” (وليس فى العاصمة) يوما وبعض يوم، لا أن نزوها، ولكننا لا نجد الا فندقا ذا أربع نجوم الحجرة فيه بالشئ الفلانى فى الليلة والعياذ بالله، ويضع كل من أولادى يده على جيبه، واكاد ألمح ارقام الآلات الحاسبة وهى تدور خلف الجباه، وافرح بالنتيجة التى عرفتها مسبقا حيث كنت قد فضلت مواصلة الرحلة ما دام لا ينتظرنا هنا الا “يوم أحد” خال من الناس والحياة، وقد صح توقعى واكتفينا بثلاث ساعات فى جولة حرة، على أن نلتقى لنواصل السير على أمل أن نبيت فى أول موتيل يحل الليل علينا بقربه، ورحنا ننسخ اسم حروف الشارعين على الناصية التى سنفترق منها، وكذا اسماء أكبر المحلات المحيطة، وبدانا الجولة الحرة الاستطلاعية على أن نلتقى فى الميعاد المحدد.
ومضيت وحدى – كالعادة – فاتجهت الى وسط الحديقة العامة التى ركنا بجوارها، فى حين انطلقوا فى الشارع العريض يغنون:
كيلو متر على الأقدام
يلين
يلين
يلين الحذاء(6)
كيلو متران على الأقدام …. الخ
دخلت الحديقة الخالية، حتى الحديقة خالية، مع أنى كنت أتصور انه فى يوم العطلة، وفى هذا الجو، ينطلق الناس الى الحدائق: على الأقل، ولم أفهم معنى لخلوها الا من رجل وامرأة فى منتصف العمر يجلسان غير ملتصقين وبجوار الرجل زجاجة – نصف ملآنة ونصف فارغة – وبينهما شئ – يؤكل- موضوع على ورقة الأريكة، وركبنى تطفلى فاقتربت اكثر وقلت اسال عن اسم المكان الذى نحن فيه، واقرب المعلم، حتى لا أغادر المدينة كما دخلتها، وحين اقتربت أكثر حتى لم يعد شك أنى أقصدهما، هش لى الرجل وبش (باليوغسلافى الصامت طبعا)، لكن السيدة – التى كانت تكبره بعدة سنين – أكفهرت، وما بين جذب الهشاشة والبشاشة، ودفع الاكفهرار، تقدمت وأنا أكاد أدور على عقبى دون تراجع!!، وقلت له: انجليزى؟English ، فضحك وبرطم ورفع حاجبيه بلا أى معنى، فقلت أطرق بابا آخر: فرنساوى Francais ، فنزل حاجباه ونظر الى صاحبته وزادت بشاشته، فزاد اكفهرارها، وقلت لنفسى لا فائدة، ولابد من” سلاح الاشارة”، فأخذت اشير بسبابتى الى الأرض ثم بذارعى الاثنين الى ما حولى، والى الميدان على مرمى البصر والكنيسة من ورائه، وأردد كلمتى “اسم” name و”مكان”Place، مرة بالانجليزية، ومرة بالعربية، ومرة بلغة ثالثة لا أعرفها، ويبدو أن الرجل قد أعجب باصرارى غاية الاعجاب لدرجة دفعته للانصراف عن صاحبته المتجمهة (بعد الاكفهرار) متأملا حركاتى وحماسى كأنى كائن قادم من كوكب آخر، ثم يبدو أننى ايضا استحليت اللعبة، فزدت اصرار، وزاد وجه الرجل احمرارا،( ثلاثة أسباب للاحمرار: الخواجاتية، والزجاجة المترنحة بجواره، وابتهاجه بهذا الكائن الغريب الذى هو أنا)، وبين الحين والحين ينظر الى صاحبته ويتكلم كلاما كثيرا وهو يشير الى شخصى، وتصورت – بشكل ما – أنه يترجم لها ما أقول، مما لم يفهم (!!) ياحلاوة !!!
وبدأت أحس أن المسألة طالت، وأنى قد زودتها حبتين، فبدأت فى الاعتذار والتراجع تدريجيا (بالاشارة و” البرطمة” طبعا) لكن الرجل قام متحمسا فجأة، والمرأة تحاول أن تثنيه بلا جدوى، فأمسكنى من يدى وأتجه بى الى الشارع مترنحا، فتصورت أنه سيرينى لافتة دالة أو معلما خاصا، أى شئ مكتوب يمكن لمن مثلى أن يقرأه، ولكن : أبدا، فقلت له للمرة الكذا Place فردد ورائى لفظا كالذى قلته مع اختلاف غير واضح. شيئا مثل :Placa أو Placar لست أدرى، ومضى بى اكثر والتفت يلوح لصاحبته فخورا بشهامته، رغم ياسها البادى من كلينا، وتصورت أنى فعلت فيه جميلا بالابتعاد عن هذه المرأة ذات الريح الشائك والحضور الجائم، ثم يبدو أننا تبادلنا الأدوار فأخذ هو يتكلم بلغة ما( فى الأغلب هى لغة أوربية – لأننا فى أوربا رغم كل شئ) ويشير بيديه الى الأمام، ثم إلى اليمين، ثم يعد على أصابعه عددا ما، ويئست من استحالة أيقافه، اذ لن ينفع بحال أن أحلف له بالمصحف الشريف أنى لا اريد عنوانا – أى عنوان -، وأنى لا أبحث عن أحد – أى أحد -، وذلك أن “الجلالة” فالشهامة أخذتاه، وهات يا شرح، منتهزا الفرصة للابتعاد عن صاحبته أكثر فأكثر، وابتسمت اذ تصورت أنه يستعملنى (مثل رجل بروكسل الكفيف) حتى اذا وصلنا الى ناصية ما، أطلق ساقيه للريح هربا من هذه الورطة “المكفهرة” الجلسة على الأريكة فى انتظار متربص، ولمحتها تلاحقنا بفحيح السخط حتى كدت أضع كفى على ظهرى أتقاء لسيادة الاحتجاج، وبديهى أن الرجل كان من السكر فى حال، وحين اقترب منى فاحت رائحة الكحول تمام التمام، وأخذت أهز رأسى بالايجاب مع كل اشارة منه أو تأكيد، وأطبطب على صدرى بالامتنان، ثم فتح الله على بكلمة كنت التقطتها من محطة بنزين تعنى – فى الأغلب – شكرا (باليوجسلافى!!) وهى “فلا” وما ذكرنى بها أن بعض أولادى قالوا أنها كلمة قريبة من العربية حين نقول استسحانا “نعم .. هكذا .. والا: فلا”، وما أن نطقتها حتى تهلل وجهه منتصرا، فأخذت ارددها وكأنها ” كلمة السر”،وأحييه وأحنى رأسى وارفع يدى شاكرا وهو يترنح عائدا الى قضائه القابعة فى عرينها مثل النمرة المهجورة.
ورغم أن المنظر كله ليس فيه جديد بعينه، إلا أنه ترك فى شيئا طيبا، فلقد أحببت الرجل، ولم أكره المرأة (رغم عدوانها البادى)، ولو كان حسن النية ذا رائحة لشممت رائحته تفوح من هذا الرجل طول الوقت، وهو فى أشد حالات الحماس لمساعدتى بلا أدنى داع، حتى ولو كان الداعى الخفى هو الهرب – بعض الوقت – من قدره المتربص على الأريكة، ولم نكن قد أمضينا فى هذا التمثيل الصامت اكثر من بضع دقائق عدت بعدها الى الشارع الكبير فإذا بى ألتقى بأولادى وزوجتى يدورن حول الناصية المقابلة، فهتفنا للقاء وكأننا قد افترقنا زمنا، وكأن أحدنا قد عاد بعد سفرة طويلة والآخر ينتظره فى الميناء!!، وضحكنا لهذا الشوق المتفجر وسط المشاحنات المستمرة، ويبدو أن ما جذبنى وايام الى تلك الناصية الأبعد كان “حاسة الشم” وليس فرط الشوق ولا التخاطر عن بعد (التليباثى)، فقد اكتشفنا أنفسنا بجوار كشك لبيع سندوتشات الهامبورجر بالصلصة والشطة، ودفع كل منا لنفسه ما طلب على ما قسم وأشتهى، ثم افترقنا بسرعة قبل أن تتصادم الارادات، وصعدت الى مبنى زجاجى عملاق لا أعرف محتواه اصلا، واذ بى فى محل من محلات “كل شئ”، و” أى شئ”، وكلها اشياء غالية الأسعار باية الرفاهية، وقلت: ياخبر!!، “كأنك يا تيتو ما اشتراكيتو”، أليس هذا هو لافاييت وسامارتان باريس، أو هو C&A لندن أو جنبلذ نيويورك، أو أى محل عملاق فى أى مكان، فأين الشيوعية؟ ومن المشترى؟ ومن أين؟ ولماذا؟، وبديهى أن هذه دهشة طفيلة مسطحة، لأن ثمة سياح، وثمة حاجة لعملة صعبة، وثمة انظمة لا أعرفها، المهم: صعدته دورا دورا، وفى ذهمى أن أفى بما وعدت به أولادى من أن أحضر “مشمعا” لتغطية أغراضنا فوق العربة، متحديا خيبتهم البليغة فى أثينا حيث عجزوا عن شراء مثله، وعند صعودى جذبنى – كالعادة – ركن الكراريس والأقلام، وأخذت أجمع من الكراريس ذات الرسوم المتحركة على أغلفتها ما راقنى، وهذه المشتروات لى أنا شخصيا وليست لأولادى اصلا، فأنا أعرف نقطة ضعفى هذه أمام الأقلام الرخيصة والكراريس الطفلية، بل أن أولادى حين يحضرون لى هدية تسعدنى لا يحضرون – عادة – الا كراسا أو مقلمة أو قلما رصاصا ذا سن رفيع، أو ممحاة لا تترك أثرا على الورق، ولا بد أن أعترف أن وراء هذه السمة الشرائية درجة من عدم الأمان تصور لى أنى فى يوم ما سوف أعجز عن الكتابة لاختفاء الورق أو القلم، وحين احتدت أزمة الكراريس فى مصر حوالى سنة 1975 رحت أخزنها برعب شديد وأنا اشعر أنى لا اظلم أحدا بهذا الاحتكار، فأنا اولى الناس بها، وتحايلت على ناظرة مدرسة والدة زميلة صديقة لأحصل على فائض الكراريس عندها بأى ثمن، ومازال عندى حتى الآن بقية من هذه الثروة، فقد أنتهت الأزمة سريعا ولم تعد ثانية، بل أنى حين اسمع عن وسائل التعذيب فى السجن السياسى، وأتصور نفسى داخله – رغم أنى لا أملك شرف ما يضيفنى هناك – أقول لنفسى أنى مستعد للبقاء لأى مدة، بعدد رزم الورق وأقلام الكتابة التى سيسمحون لى بها، وأحسب أن أكبر “تعذيب” لى هو أن يحرمنى من الورقة والقلم، فتظل الأفكار تدور فى عقلى بلا تحديد ولا تسجيل ولا ” آخر” (ولاحول ولا قوة الا بالله) – ثم واصلت التنقل من دور الى دور بحثا عن بغيتى الأصلية: مشمعا للتغطية، وحين وصلت الى ركن السيارات أحالونى (بالاشارة وبعض الترجمة) الى ركن المعسكرات ولما لمحت بغيتى عن بعد، وذهبت اطلبها نظر الرجل المختص الى ساعته (باليوغسلافى طبعا!!) ومط شفتيه، وتركنى وانصرف وهو يشير اشارات عاقلة تفيد “المستقبل” على أرجح وجه، ويرتفع حاجباى فى بلاهة، ويبدو أنهما لم ينزلا ثانية حتى التقطنى آخر وأنا فى دهشة ممتدة، ويبدو أنى “صعبت عليه” فقال لى بانجليزية ما” يوم الأثنين” ثم اشار الى ساعته، وكانت الخامسة والنصف، ففهمت، فتذكرت، وانصرفت وأنا أتامل صور “الكارتون” على غلاف الكراريس، وأحاول أن أعد الاجابة على أولادى حين يشاهدون شروتى – المعتادة – التى حالت دون وفائى بوعدى وانتصارى عليهم فى التخدى، وجاءتنى فكرة تعويضية جعلتنى أندفع عدوا الى السيارة قبل أن يحضروا، حيث اخرجت كيس نوم الخيمة الكبيرة من جرابها، وفردتها فوق ظهر العربة وحدى وأنا متعجل أتصيب عرقا خشية أن يأتوا قبل اتمام المفاجأة، وأخذت اشد قسرا من هنا ومن هناك حتى تحقق المراد، وحين عادوا وراوا ما فعلت تصوروا أنى تبين وجاة اشمئناطها حين عسكرنا فيما بعد، فاذا الكيس وقد تمزق من أكثر م موضع حتى لم يعد يصلح للنوم فى أمان من التراب والزواحف، ولم ينته شعورى بالذنب حتى أصلحته بعد حين، ولكن لماذا استبق الحوادث؟، أعود الى موقعى فوق العربة وقد انتهيت من تنفيذ فكرتى مداراة لخجلى قبل ميعاد التقائنا بنصف ساعة وأجدنى أتعجب وأنا اتصور أن يسألنى أحدهم عن بلجراد.. عند عودتى فأقول له أنها كراريس عادية، وفكرة فاشلة، وكل ذلك هو “أنا” وليس “بلجراد” طبعا، وقلت أمضى ماتبقى من وقت معريا أكبر قدر من ادراكى حتى ألتقط ما يمكن، وكانت المحال قد أغلقت جميعا، فزادت الشوراع خلوا، وزادت الوجوه حزنا، ومنعت نفسى من أن أسارع – كالعبيط – بالربط بين الشيوعية والحزن، ثم أنى شخصيا أحب الحزن الذى يعلن يقظة الوعى وأدراك الواقع بحجمه وتناقضاته، ولكن الحزن الذى لاحظته هنا فى بلجراد هو حزن فيه انكسار ما، هل هو يوم السبت وخلو الشوارع وقفل المحلات؟ أم أنه مزاجى الشخصى ونلوين ما ألتقطه بأرضية طبعى؟
دخلت الى قهوة / بار (ولا فرق هناك) على أمل أن أجد ناسا آخرين، ليسوا حزانى منكسرين، فاذا بى فى بركة صمت آسنة، مائدتان هما المشغولتان، لا أكثر، ووراء البار وقفت ثلاث سيدات فى منتصف العمر أو أكثر قليلا، وكان حول أحدى الموائد أربعة رجال عجائز. يشربون شيئا أبيض فى أكواب صغيرة، لا هى ممتلئة، ولا هى تفرغ، وأخذت أراهن نفسى وأنا منفرد فى ركنى: متى سيرفع أحدهم كوبه الصغير، فلا يتحقق ذلك ابدا وكأن السائل ينتقل من الكوب الى طاسة المخ مارا بالمعدة بماصة غير مرئية، ذلك أن احدى السيدات الثلاث تأتى بين الحين والحين لتملأ ما لم يفرغ(!!) فلا يمتلئ، وعلى المائدة الأخرى يوجد شاب وفتاة لا يتكلمان، وكأنهما قد أحاطا “بكل شئ” فلم تعد ثمة حاجة لمزيد من كلام، أو كأنهما قد أدركا – لكثرة ما تلكا – أن الكلام لا يفيد، أو كأنهما قد اتفقا على ياس مشترك يصبح معه الكلام خيانة للاستسلام البائس، لم هذا؟ لماذا؟، ويدخل رجل عجوز جدا، وحده جدا، ينظر الى أحدى النسوة فى أبوة حانية، فلا تحضر ولكنها تبتسم، وتظل تميل خلف البار، وتقوم، وتضع على صينية غير ظاهرة أشياء واشياء حتى خيل إلى أنها تعد وليمة خاصة، ثم ترفع ما أعدت وتذهب الى العجوز الوحيد، ولا ألمح على الصينية الا شطيرة الأحمر (على ما يبدو)، وملاحة،(اين الوليمة يا ربى؟)، ويبدأ الرجل فى سكون فى تقطيع البيضة بالسكين، ثم رش الملح فى أتقان صبور..، ثم يذهب يأكل فى هدوء فظيع، تصورت معه أنه توفى من زمن، وأن الموجود أمامى هو جسد باهت، وقد ضل سبيل القبر الى صاحبه الذى سبقه الى هناك، لا … ليست هذه يوغسلافيا، ولا بلجراد، ولاسبت، ولا أحد، حرام أن أحكم على بلد وعلى شعب وعلى نظام من خبرة ساعتين بعد ظهر يوم سبت حزين، فخرجت مندفعا أبحث عن أى شئ ىخر، وجدته فى محل “جيلاتى” كانت البائعة فيه تتفجر شبابا وقوة،( وقد تعملت من “راكبات الموتوسيكلات” أن عضلات الفتيات هى من الدعائم الجديدة للأنوثة العصرية!!) وقد وقف بجوارها (خلف”فاترينة” “الجيلاتى” النتعددة الألوان) فتى فى نفس فتوتها وبهجتها، وهو يضحك، يا سبحان الله، يضحك!! وكان ” الأيس كريم” كريما بحق، فقد زحزحت برودته من على قلبى برودة أقسى واشد، وخرجت عدوا قبل أن يقلبها خيالى غما، ورجعت آفلا الى العربة فوجدت أولادى سبقونى إليها وهم يتطلعون الى كيس النوم فوق الحمولة على سطح الحافلة وبعضهم قد أمتطى ظهرها يعيد تنظيم بعض الأشياء وهم يتصورون أنى نجحت فى شراء المسمع المطلوب، ونتفق على أن نغادر هذا الجو الكئيب والمنتظر أن يكون أكثر كآبة يوم الأحد الأكثر أجازة (!!)، واسال أولادى مرة ثانية عن الحزن الذى وصلنى، فينكرون درجته ومبالغتى، وأن كانوا يقرنون بعضه بالطيبة والسماحة، فيحكون عن رجل منحهم “فكة” للحديث فى التليفون دون مقابل، وحين اصروا على اعطائه المقابل ورفض، أعطوه عملة مصرية متواضعة للذكرى ففرح بها كما لم يتوقعوا، وحمدت الله على حسن استقبالهم، وفرحت لاختلاف الرؤى حتى تخف الأحكام الشخصية الدامغة.
وننطلق وقد اقترب الليل، ويصادفنا على الناصية شاب اشقر، هو خواجة مائة فى المائة، الا أن نظراته الى أرقام العربة دون دهشة الخوجات، وابتسامة المرحبة نقترب منه اكثر، وقبل أن نساله عن الطريق اذا به يحيينا “مرحب مرحب يا شباب، أهلين” وجاءت الكلمات ذات الرنين المالوف بردا وسلاما، ونفرح فرحتنا برفاق الطريق السوريين، ونرد التحية بأحسن منها، ونسأل ويجيب، من سوريا ايضا، ونودعه اذ اضيئ النور الأخضر، وننطلق بسرعة، فكل دقيقة فى ضوء النهار هى مكسب بلا جدال.
ويتأكد لى أن المسألة غير ما تصورت، فالطريق بعد كيلو مترات قليلة لم يعد طريقا سريعا “أتوستراد”، والعربات القادمة تكاد تتلاصق مثل عربات قطار البضاعة بلا نهاية مع اختلاف السرعة، وأتعجب اكثر فأكثر: الى اين يذهب كل هؤلاء الناس ليلة الأحد، ومن أين يأتون؟ نحن نتوجه الى زغرب، ومنها الى تريستا بايطاليا وهذه السيارات القادمة كلها: ألى أين؟ سؤال ليس له جواب بالمعنى الذى ابحث عنه، فقد تصورت – بلا داع – أن أى مكان فى هذه الأوربا مثل أى مكان، حيث أن الله لم يبخل بالجمال على أرض هؤلاء الناس طولا وعرضا، فوزعه بالعدل والقسطاس، ولذلك فأنا لا أفهم لم ينتقل الناس من جمال الى جمال فى نهاية الأسبوع مع أن كله جمال!! أليس عند كل منهم قدر من الجمال يغنيه عن الترحال؟ وبسرعة: اضحك من سذاجتى، لأتذكر أن الانتقال فى ذاته فى التغيير المطلوب لذاته، ونهاية الأسبوع عند هؤلاء القوم تكاد تكون مقدسة، ومازلت أذكر أنى قضيت حوالى أربعين نهاية أسبوع خارج باريس (علما بأن اقامتى بباريس كانت حوالى الخمسين أسبوعا فقط)، وكان دافعى فى بداية أقامتى للخروج “معهم” هو الأمل فى أكلة “محترمة” بفرنكات زهيدة، فقد كان النشاط الثقافى للمركز الذى اتبعه C.I.S. يهيئ لنا رحلة (رحلات متنوعة نختار منها) اسبوعيا، وكانت حسابات الفاقة تقول أن ثمن خمس وجبات فى باريس (من العيش “الباجيت” الحاف أو بالجبن الكامومبير والبطاطس المسلوقة والتفاح الأرخص من الطماطم) هى أغلى من ثمن الاشتراك فى الرحلة ذات الخمس وجبات،(زبدا ومربة ولحمة ومكرونة وغازوزة، أو ما يعادلها … الخ الخ)، لكنى أذكر أن الأمور تطورت مع تطور المبعوثين الحضارى بمرور الأيام وتكرار الرحلات،(!!) حتى فهمت معنى الخروج كل نهاية أسبوع، حتى لو أخذ السفر ذاته نصف الوقت بالتمام، وخاة اذا ما تعطلت عودتنا عدة ساعات بعد ظهر الأحد بسبب اختناقات الدخول الى باريس.
واصلنا السير شرقا نحو زغرب، ونحن متفقون على عدم القيادة ليلا، وأننا سنتمتع بأول’ موتيل’ يقابلنا، آملين فى قول ابنتى المرشدة الأصغر بأننا مقدمون على طريق جبلى – عكس شعورنا الأول من الطرق الجلبية – (ولم نكن قد تأكدنا نهائيا من خطأ فهم الألوان فى الخريطة) لكن الطريق سار بين مروج كثيفة الخضرة دون أى أشارة لارتفاع أو انخفاض، ولأول مرة يرن جرس (بتسكين الراء) كلمة ‘مروج’ فى وعيي، فآحس بذبذباتها تهزنى بشكل آخر، (وأكتشف أن هذه الكلمة لا ينبعى أن تستعمل الا بصيغة الجمع، فما زسخف كلمة ‘مرج’ وحدها وأضحل فاعليتها!!)، وأعجب لغة كيف تتشكل رسائلها ووظيفتها حتى دون تغيير اللفظ، ولكن بمجرد تغيير الصيغة، وتتكاثف طبقات الخضرة فى بعضها بتنسيق رائع فتكاد تملؤنى ريا وانتعاشا، خضرة تتجاوز بساط برسيم بلدى وأعواد أذرته، خضرة لاتطاول هامات التخيل عندنا لكنها فيضان رائع من حمال متعدد الطبقات، وتتخللنى الطبيعة حتى لا أعود آميز الحد الفاصل بيم الداخل والخارج، وكأنى أصبحت أخضر ذا آوراق، وكأن لى براعم فى جوانب وعيى توشك أن تتفتح، ولا أصرح بهذه المشاعر الأعمق لمن حولى فقد يئست من المشاركة، بل أنى تعملت أنه لا مشاركة فى مثل هذا المستوى من الاحساس، وأن أى محاولة ناطقة مع البشر خليقة بأن تشوه الحوار مع الطبيعة ناهيك عن الالتحام بها، لكن مستوى آخر من المشاركة يؤنسنى حين تنطلق المجموعة تغنى:
على طريق الأجازات
يغنى يرقص الهواء الجميل
على طريق الأجازات
نمضى نتنزه
يغنى يرقص الهواء.(7)
و لاأفهم الكلمات – طبعا – لأول وهلة، ولكنى اطمئن لبعض المشاركة من اللحن ذى النغمة الحزنية نوعا، ثم أتعرف على بعض الكلمات، لا أطمع فى المزيد، وأنتبه – عكس ملاحظتى السابقة – الى أن بعض الأغانى التى تنطلق بها المجموعة تلقائيا ليست دائمة منفصلة عن الموقف والطبيعة، أذ يبدو أن جرعة خاصة من الطبيعة تستخرج أغنيتها المناسبة متى شاءت، وكان حديث قد دار بيننا من قبل حول هذا التناسب بين الطبيعة والأغنية حين أدرنا شريط كاسيت – عربى – ذا إيقاع شرقى رتيب، فاذا بى اشعر بتململ سرعان ما تصاعد حتى أعلنته، فوافقتنى الأغلبية – ربما مجاملة – فقد بدا أن عدم رتابة الطيبعة من حولنا بل تكثيفها المتداخل الرائع، لا يحتمل هذا الايقاع الراتب، وتصورت أن بعض تصعيدات الألحان الغربية، أو سرعة إيقاعها على الناحية الأخرى، هو أقرب الى ما نحن فيه، وقبل أن أتمادى فى هذا التصور، لعبت بأزرار”المذياع” فاذا بزن وطنين وأصوات غريبة ولحن مزعج ترتفع فى نعاب أعرفه، فقد ذكرنى كل ذلك بأغان تفرض نفسها على أحيانا فى الرابعة صباحا حين أكون منهمكا فى عمل عقلى يحتاج الى ارضية خافتة من ألحان ما، والبرنامج الموسيقى لم يبدأ ارساله بعد، فأضطر للعبث بأزرار المذياع فيأتينى مثل هذا “الزن” الذى وصفت الآن، فاصاب بهذا القذى فى أذنى الذى لا استطيع أن أنسبه الى أى لغة قريبة، ولست أدرى لم كنت أرجح – حينذاك- أنه أما باليونانية وأما بالتركية، ولكنه كان يفيدنى على أى حال فى أن يذه أى أثر للنعاس من وخز تلاحق الشظايا السمعية، أذن فلا معنى لاستنتاجى السالف الذكر لحتمية التناسب بين الطبيعة واللحن، وهأنذا أعترف بما ظلمت به الايقاع الشرقى، اذا يبدو أن مثل هذا الأحكام المتعجلة لا تصدر الا من جاهل بالموسيقى مثلى، فقد كنت وما زلت أحس أن مساحة هائلة من وجودى منسية تماما، طالما ظللت لا أفهم – هكذا – فى الموسيقى، فأنا لا أميز بين السيمفونية والكونشرتو، ويؤكد لى صديق نادر هو أ.د. طارق على حسن (وهو موسيقار مبدع وفنان تشكيلى فضلا عن استاذيته فى الطب) أنى أفهم، أو نتعبير أدق – أنى لابد قادر على التذوق، وان ما ينقصنى هو الوقت ومفتاح التهيؤ، وليس مبدا الاستعداد واستجابة النبض، فأتعجب وآمل، وأدارى خجلى أكثر ولا أستطيع أن اواقفه أبدا، وأتذكر أمل داروين صاحب نظرية التطور بحياته الجافة وعقله المنظم، وكم كان يتمنى لو أتيحت له فرصة أن يحيا حياته من جديد باختيار ذاتى اذن لنمى – كما قال آملا – هذا الجانب الموسيقى م وجوده لأنه – هكذا – لم ينم ابدا، وأتصور أن اللغات المعلنة المتاحة للانسان المعاصر هى الرمز اللغوى،و اللحن الموسيقى، والتشكيل المساحاتى واللونى، وأتألم لطغيان لغة واحدة على تربيتنا كل هذا الطغيان، وارجع لملاحظة صديقى الموسيقار والفنان التشكيلى أ.د. طارق، وأقول بل قد يصدق أمله فى مثلى، ولم لا؟، ألست أقرض الشعر موزونا دون المام بالأوزان، بل أننى نادرا ما يفوت على أذنى بيت مكسور دون أن ألتقط عيبه، وربما أعدله، حتى لو تداخلت البحور واختلفت (أو اختفت) القافية، أليس الشعر هو تشكيل للزمان والمكان برمز وصورة يتخطيان قوالب اللغة القديمة؟ وقبل أن أطمئن الى أن هذا الجانب الموسيقى من وجودى ما زال حيا ويمكن اطلاقه الى مداه، أتذكر بعض التعليقات على شعرى المتواضع، حيث أنه لا يخرج عن بحر أو أثنين، ويكرر – مثل أغلب الشعر الحديث للأسف – البحر الراكض على ما أذكر، فأتراجع عن رضاى عن نموى الموسيقى، وأرضى بأقل الأمل.
وأعود للمجموعة والهواء مازال يرقص ويغنى، ونحن جزء منه وسط المروج، وأتذكر أن تجاوب الطبيعة مع الأغنية لا يرتبط بالضرورة بالطبيعة الوديعة أو المنعشة، بل قد يواكب الطبيعة القاسية والثقيلة، فكم انظلقت أغان طروب فى جو ملتهب قاس، كان ذلك ونحن نجنى القطن فى أغسطس وسبتمبر، وجنى القطن كان مهرجانا شعبيا متصلا كل عام قبل أن تتشوه قرانا بالتسجيل والفيديو، وكانت البنات الجانيات الطروبات ينطلقن فى تحد قوى لحر الظهيرة بالأغنية:
الحر طلع على ونا أعمل ايه فى الحر
لما الهدوم تنعصر، لما الخدود تحمر
وحين سمعت هذه الأغنية لأول مرة، وكنت حول الثانية عشر، أخذت أنظر فى الوجوه وهى تحمر، ويشدنى وجه” مديحة” ذات العيون الواسعة والمشية المتثنية القوية والدلال المستبد، وارى وجهها “مزمهراً” فى صحة متدفقة، وحين احترت مؤخرا بعد تخصصى فى تعريف ما هى الصحة، وكتبت فى ذلك بحثا مستفيضا(8)، وكيف أن الصحة ليست مجرد اختفاء المرض أو عدم وجود أعراض، كان يطل على وجه مديحة فى هذا اليوم الحار، وأقول لنفسى سرا، لو أن عندى من اللغة العلمية ما أبلغ به زملائى وتلاميذى أن الصحة اسمها “مديحة”، وهى هى نقيض هذا الانطفاء الغبى الذى ندفن تحته كل مشاعر مرضانا (أو أنفسنا) تحت زعم التكيف الاجتماعى وحسن السير والسلوك، وبلع الأقراص اياها.
وأنزع نفسى من حقول القطن ووجه مديحة واللوز المفتح ينتشر حوله فى حنان رائق، وأعود الى الليل وهو بتسحب علينا فى طريقنا الى زغرب، يحد من سطوع الخضرة وتحديد معالم الطبيعة، وأنظر فى الساعة فأجدها الثامنة مساء، والشمس مازالت طالعة، وأن كانت تتوارى وتظهر بيم سحب متناثرة رب خط الأفق (الغربى – أيطاليا)، وأتذكر شاعرا مجهولا لى الآن يصف مثل هذا المنظر فى جمال كاد يفوق جمال الطبيعة نفسها حين يشبه الشمس “بين تبلج وتفرج”: طكتنفس الحسناء فى المرآة اذ كملت محسنها ولم تتزوج” وكان والدى رحمة الله يعجب بهذين البيتين، وهو يدندن بهما بين الحين والحين، ويعود يشرح لى تنهيدة هذه الحسناء المنسية وبخار أنفاسها يتكثف على زجاج المرآة فى أجزاء دون غيرها، ووجها – الشمس – يطل ولا يطل ويفرح والدى بجمال اللغة فرحته بجمال الفتاة وجمال الطبيعة جميعا، ويظل هذا التشبيه كامنا فى قاع وعيى(9) حتى أعيد اكتشافه هنا من جديد.
ويزداد زحف الليل بأسرع مما توقعنا، وتتراءى لنا محطة “بنزين” فنعلم – أو نأمل – أننا على وشك الاقتراب م موتيل ما، فالموتيلات عادة تبق أو تلحق محطات البنزين بدرجة ما، ويبدو أن تجربتنا فى مونيل الجبل كانت رائعة لدرجة جعلتنا نتصور أن” كله كذا”، لكنى أشك فى توقعاتنا هذه، فالروح العامة اختلفت، والإيقاع تغير، وزحمة السيارات – بلا حوار – اشتدت، وغاب عليها – فيها- وجوه تبدو مشغولة جدا بالتجارة أو بالرفاهية، دون الطبيعة أو الناس أبناء السبيل، وأرفض هذا التمادى فى الأحكام لمجرد تغير الجو العام، فالمسافرون هم هم مسافرو الجبل الخوجات اصحاب العربات النقل وكرفانات الفسح وسيارات السباق الجامحة، فلماذا رأيتهم هناك “اجدع الناس” وأراهم هنا “أى كلام”؟ يا لقدرة الانسان على التشوية والتجميل حسب الأرضية والمزاج، ومع ذلك فقد تحقق بعض ظنى حين وجدنا حجرات الموتيل المشار إليه قبل قليل تقع فوق بناء محطة البنزين شخصيا بكل الروائح البشرية والبترولية والدخانية المختلطة بعضها ببعض لدرجة االختناق، اين هذا من صفاء الجبل والرذاذ يغسل رباه برقة حانية؟ وترفض المجموعة المبيت “هنا” حتى لو…، وأرفض بدرجة أقل مواصلة السير فى الظلام، وخاصة وقد اكتشف أحد الله أنه المصباح الأيمن، والا..، ويغلب رفضهم رفضى فنمضى آملين فى فرج “موتيلى” قريب، وتطول المسافة، والخبثاء من خلفى يتهامسون أن ” كله مكسب”، باعتبار أن أى مسافة نقطعها فى الليل ستمنحنا وقتا مماثلا بالنهار لا نضعيه فى السفر، ويثور غيظى لاختلافنا الذى يزداد، حيث أعتبر (وأريدهم أن يعتبروا) أن السفر غاية فى ذاته، وأن النهار له عينان تسمح لنا بأن نكون فى حالة وعى مباشر فى مواجهة الطبيعة، وقبل أن اعلن خواطرى هذه أتذكر أن النوم العظيم هة الأرضية الثابتة عندهم متى تحركت العربة ليلا أو نهاراً، فنوم بنوم: الليل أولى بلاسفر، فأسكت وأدعو بالستر، وبعد قليل (والقليل هنا اصبح حوالى مائة كيلو بعد أن تعودنا على التحدث بالمئات) نجد موتيلا آخر قريبا من محطة بنزين (لكنه ليس فوقها مباشرة)، وأكاد اسمع تململا من أنصاف النيام، ولكن رأسى وألف سيف ألا اتحرك، وأدعو أن نعززنى السيارتحرن دون مساس بالقدرات الأساسية، وتستجيب لى بالاحتماء بعربتين عملاتين يسدان طريق قد اتفقنا على بقية أنصاف النيام الآملين فى أجمل الأجواء بأرخص الأسعار، الموتيل “مودرن” والعياذ بالله، حجراته قبيحة مفروشة بموكيت يبدو أنه وضع خصيصا لاصيطاد أى ذرة تراب والحفاظ عليها لحقن رئتينا بها ضد الحساسية(!!) وتصر البنت المسئولة (بلا ترجيب) على استلام كل جوازات السفر، حتى بعد أن دفعنا الأجرة مقما، ويتضاعف غيظى وأعذر الأولاد، وأنا أقارن هذا التصرف بذلك الترحاب الذى استضافنا به موتيل الجبل، حيث اقمنا “بكلمة شرف”، ودفعنا فى الصباح دون الحاح أو شكوك، أليست هذه يوغسلافيا، وتلك يوغسلافيا؟ فكيف لى أن احكم على بلد حكما عاما من نوع استقبال بذاته فى مكان بذاته، وأقارن الأمر بما يحتمل عندنا، اذ: هل انطباع زائر “رشيد” مثل زائر طنطا؟ أو الترحيب بضيف فى أسيوط (ولامؤاخذة) مثله مثل لقائه فى المنيا أو سوهاج، ولا أتحدث عن الفروق وأيها افضل، فلكل خبرته، وربنا أمر بالستر،و لكن ألا يمكن أن أعزو السماح والثقة الكرم للطبيعة الجبلية والتى تحد من الحركة والخداع معا بالمقابلة بزحام السهل حيث يختلط الحابل بالنابل؟ ولكن ثمة عامل آخر قفز الى ذهنى وهو أن وفرة الزبائن هنا، وبالتالى ارتفاع الكسب قد زاد من جشع أصحاب المكان وبالتالى من فقد عواطفهم، وأن تواضع الحركة هناك والرضا بالقليل قد حافظ على انسانية المتعاملين، ولكن يا ترى من الذى يأخذ المكسب هنا وهناك، ألسنا فى بلد شيوعى؟.
ويصعد الأولاد قلنا يكملون نومم!، وأنزل أنا وزوجتى نتصفح الوجوه، ونختبر الضيافة، ونشارك الناس فى المطعم والكافتريا الملحقين بالموتيل، ونفتقد “زوربا” أصلا، ونكاد نحس أننا فى استراحة بطنطا على طريق مصر الاسكندرية الزراعى، ولكن بشكلها المشوه الأحدث، ويقدم لنا النادل المشروب فى تجهم روتينى، وكأننا لن ندفع مقابلا له، ونساع بالصعود الى حجرتنا قبل أن يطردنا، “نسارع” مع أننا نعلم ذاهبان لاستنشاق التراب والعطن.
الأحد 26 أغسطس 1984
كان الصباح غائما فأتاح لنا فرصة التلكؤ، والافطار بهدوء، وأن كان طعم الأكل – رغم جودته فى ذاته – كان مختلفا عن الافطار الأقل جودة – ولكن الأكثر سماحا – فى موتيل الجبل، وكأن روح المكان يسرى حتى فى مذاق طعامه، رغم أن كل المسألة لا تعد فنجان القهوة أو الشاى، باللبن أو بدونه، وقطعة الزبد وبعض المربى، هكذا دائما، لكننا تمتعنا مرة ثانية بمجرد الجلوس” معا حول مائدة” بعد أن بدانا نخاصم البسكويت بأنواعه،و الأكل فى العربة فى الوضع “جالسا”، وأمامك قفا غير مشارك”.
وأخذ كل منا يخمن كم أمضينا حتى لآن، وابتدأت معالم الزمن تضيع، وأجمعنا جميعا أننا نحس بالزمن أطول بكثير مما هو، وكأننا بدأنا الرحلة منذ بضعة اسابيع، ونتحدى بعضنا بعضا أن نذكر الأحداث بتواريخها، فبدلا من أن نقول “لما كنا فى اليونان” نضيف “أول أمس: لما كنا فى اليونان”، ولم يخفف تكرار هذه التذكرة من وقع المفاجأة فى كل مرة نذكر فيها أننا أول امس – فقط – كنا فى اليونان، أو اننا عصر هذا اليوم، أو مغربه – وربنا يستر – سوف نكون فى ايطاليا والذى شغلنى حتى العجب (والخوف) هو ملاحظتى لتلك السرعة العجيبة التى يسير بها قادة السيارات فى الضباب، اذ يبدو أن السيارات تسير بنفس السرعة ليلا أو نهارا، ضبابا أو انقشاعا، وأنا اخشى فى الضباب من المشى البطئ (مشيى أنا) لا السريع، والحادث الوحيد الذى هدد حياتى فعرفنى الخط الدقيق الفاصل بين الموت والحياة، كان خطبة ” من الخلف عند قها) بسبب ابطائى المفاجئ فى الضباب(10)وهاجت على وساوسى ومخاوفى، وقبل أن أواجه الشجعان الصغار بحساباتى الخائبة انقشع الضباب، فجأة، سبحان الله.
وانظلقنا فى اتجاه زغرب، وعادت الخضرة والمروج تغمر وعيى، ومن فرط موجات الجمال تلو الجمال قالت بنت من بناتى أننا قد شبعنا جمال،( وخضرة) حتى لم يعد مزيد من الجمال يلفت النظر، وقد صدقتها لها، فهذا أمر بديهى، ولكن مكالى – أنا – لا اجاريهم، فلا اشبع أبدا، واحس بجمال جديد فى كل شئ مهما تكرر، فثمة اختلاف لمن يريد، ويبدو أنى أعيش فى حالة دهشة مستمرة، وهذا هو الشق الاستقبالى من وجودى، أما الشق الفاعل فهو ما وصفنى به أستاذنا الدكتور مصطفى زيور فى أحدى الندوات العلمية، من أنى فى حالة “مخاض دائم” وحين أتمثل حالى هذه فاجدنى” مستقبلا” مندهشا أبدا و”فاعلا” فى مخاض دائم، أشفق على نفسى واحسد الزلط الأملس والعقول المستقرة داخل المناهج الثابتة، والوجدان الرائق المتمتع بالسواء والسلامة “أولا” (وأخيرا)، أقول أنى فهمت رأى بنتى لكنى لو أوفق عليه، فظل الجمال يفاجئنى فلا يتكرر، وأتذكر أنى امتشفت فى طريق الصعيد (بين الجيزة والمنوات، ثم بين بنى سويف وملوى ثم .. فى كل مكان) طبقات من الخضرة وتنويعات من المناظر لم أكن اتصور أنها فى مصر بهذه الروعة والتنسيق، وخاصة حين يقوم النخل شامخا بهاماته يحددد الأفق ويثبت البساط الأخضر من نحنه، وظللت أقارن وابهر حتى أسوان ثم عائدا بمحاذاة البحر الأحمر مخترقا الجبل من قنا الى البحر الأحمر، نعم بلدنا مليئة بالجمال، فى كل مكان، وخاصة قل نشاز بيوت الطوب الأحمر المتناثرة المرشوقة كبصقات مصدور يائس، على بساط اخضر، ولالا ضيق الطريق، وضحالة ذوق العائدين من بلاد البترول، وكثرة المفاجآت، ولولا قلة الخدمات وقلة النظافة وقلة الرحالة …، لولا..، وأوقف نفسى، اذا ماذا تبقى بعد كل هذه “اللولات” واثق فى مستقبل بلدى رغم كل شئ، ويختلط حقدى على الخواجات بدهشتى، باعجابى، بطربى، واربت لى عنق (عجلة قيادة) الحافلة المطيعة واسوى شعر عرفها المتناثر، ونمضى… بلا مفاجأت جبلية او طقسية.
وصلنا الى محيط زغرب، ولم ندخلها، وقد بدت لنا ونحن نلف حولها (اكثر من عشرين كيلو متر هى المسافة بين سهمى” زغرب شرق” و “زغرب غرب” مثل مجموعة قلاع شرقية متعددة الأبراج أو شئ من هذا القبيل، وينتهى الطريق السريع (الذى لم يكن سريعا جدا او متسعا جدا) لندخل الى طريق وطنى، ونحدد اسم أكبر بلد قادم فلا نستطيع قراءاته، وحروفه تكتب هكذا LJUBLJANA ، لتكن،لجبلجانا، وحين نقترب منها ونكتشف الجبال المحيطة بها، مع استمرار الطريق السهل، أضحك على نسى حتى لا أنسى اسمها واضع الفا قبل اسمها واقسمها لتصبح” الجبل جانا” (اى جاءنا الجبل)، ولا أقول لأحد شطحاتى، وكانت هذه المنطقة – مرة أخرى – لها طابعها الخاص فى التفوق الجمالى، كان الجمال الذى يقال عنه أنه جمال اخذا، ثم أوقف عند فعل ” أخذ” هذا لأحدد كيف أنه فعل متميز إذا كان الحديث عن الطبيعة والجمال، وقبيح اذا كان موضوعه الطمع والاستحواذ والاعتماد، واذا كنت قد وصفت حالى حين زال الحاجز بين الداخل والخارج فأحسست انى صرت أخضرا ولم يبق على الا أن أوراق وتتفتح براعمى، فأن الجمال هنا “أخذنى” حتى اصبحت جزءا من كل، لا يمكن فصله، فلم أعد أنا هو” أنا” الا بقدر الجزء الذى أمثله من هذا الكل، أخذنى الجمال كما أنا، لكنى لم أعد انا، هنا يصبح فعل “اخذ” فعل مناسب جدا لهذا المقام – وابتسم بمناسبة هذا التفسير المتعدد لفعل “اخذ” اذ أتذكر صديقا جاء شكو لى فى سخرية ودعابة أن مشروع خطيبته قد فشل بعد عدة لقاءات مع المرشحة (وكنت أعرفها وأكاد أوصى بها) ولما سألته لماذا، قال أنها هى التى اعتذرت، ولما سألته عن السبب قال أنها قالت له أن شخصيتك لم تاخذمى، وأخذ يسألنى فى فرحة الذى نجا بجلده: ماذا كان عليه أن يصنع حتى “يأخذها”، ثم أن ربنا موجود “يأخذها” بمعرفته حين يريد، وجعلنا نضحك وأنا اطيب خاطره واتساءل بدورى عما كانت تقصده صاحبته (وكانت ذات حس فنى راق) بكلمة يأخذها، وكيف، حتى وجدتها الآن فى هذا الجمال الجديد يحتوينا، ووجدتها فى التسليم المتناغم للطبيعة دون أن نضيع ودون أن ننفصل.
وفجاة أفيق من هذا الوجد على “مشاكل الطاقة” اذ اشاهد مؤشر الوقود وقد مال ذات اليسار حتى كاد يلامس الخط الأفقى الا قليلا، واعاتب ابنتى التى شجعتنى أن اثق باستهلاك الحافلة أكثر من المسارعة بملأ التنك كلما تراخى المؤشر، وكانت كوبونات بنزيننا قد نفدت، وفشلت كل المحاولات للحصل ولو على خمس لترات بدون كوبون، كما فشلت محاولات اصلاح أو شراء مصباحا ايمنا بدلا من المعطل، والساعة جاوزت الرابعة، وقيل لنا أننا لن نجد من يبيعنا كوبونات، وبالعملة الصعبة حتما، الا فى لجبلجانا، ولم يكن بد من الاستمرار فى السير بثقة مزعومة، حتى اذا توقفنا – لا قدر الله – فسوف نوغم الانقاذ فى الحكومة اليوغسلافية أن تتولى أمرنا بما يحافظ على استمرار العلاقات الودية بين دول عدم الانحياز، ولكن الله سلم ووصلنا الى لجبلجانا، ونظرت الى الخريطة وقدرت أنه لم يبق على الحدود الايطالية سوى أقل من مائة كيلو متر فقلت اشترى كوبونات بما يكفى هذه المائة كيلو فقط، ولكنى عجبت أن معظم العربات التى أمامى وخلفى تملأ خزانات وقودها حتى النهاية (فل تانك)، وقلت أنى انصح منهم، لأنى أملك دولارات فكة، وسأشترى كوبونات على قدر المسافة، وقد تبينت فيما بعد أنه يوجد فرق فى سعر البنزين بين يوغسلافيا وايطاليا يفسر خيبتى ونصاحتهم حيث أن كله بثمنه، فحرية التعامل (دون كوبونات) يصاحبها حتما ارتفاع السعر قليلا أو كثيرا (وكان كثيرا)، وفرط الانضباط لابد وان يقلل جموح الأسعار؟ ولكن الى متى؟ وعلى حساب ماذا؟ (بالذمة أهذا وقته؟… قف..!!).
وعزمت على ابنتى بالقيادة بدلا لأرتاح، وكنت أعلم أنى لن أرتاح، ولكنى وافقت محاولا أن أنتصر على وساوسى الخاصة، وسرعان ما فوجئنا بالتواء الطريق وضيقه ودخولنا الى منطقة جبلية ذكرتنا بالمغامرات بعد الحدود اليونانية اليوغسلافية أول أمس (ياه … أما زلنا ” بعد غد أول أمس”؟ فقط؟)، وبكل سخف طلبت منها التوقف محاولا ألا أهز ثقتها، فالعيب فى، واعتذرت لها بأنى خائف بقدر أكبر من قدرتى على السماح، رغم أنى أعلم أنها تقود اكثر ثقة، وربما أكثر مهارة منى، وربما اكثر جسارة ايضا وهذا هو مزلق الفرس (لامربطه)، وبعد قليل انتهت المنطقة الجبلية، ولكننا ظللنا “ننزل” بلا انقطاع حتى شغلنى كيف سأصعد كل هذا الصعود عند العودة.
وينام الجميع.
ولا يستيقظون الا حين يهدأ سير العربة ونكتشف أننا وصلنا الى الحدود الايطالية، ولكن بلا زحام ابدا بالمقارنة بالحدود اليونانية اليوغسلافية، ورغم كل التسهيلات عند الدخول والاقامة فى بلد شيوعى بحيث بدا لنا انه لم يدر بنا أحد داخلين، كما لم يسألنا أحد خارجين، عن أى شئ، ورغم كل ذلك فقد قفز الى عقلى أن طدخول الحمام ليس مثل الخروج منه” حتما.
والى الحلقة القادمة – بعد السماح.
*****
[1] – لا يوجد حرف ل،L فى اسم بلجراد كما هو مكتوب فى كل اللافتات، فهجاؤها Beograd ولم أستطع أن أتأكد أن كان أحد الحروف ينطق “لاما” عندهم، أم أنها الترجمة العربية هى التى أضافت هذا الحرف.
[2] – تعقيب البرسيم هو العملية التى يتم بها فرز أنواع بذور البرسيم بهزات ” الغربال”، وفصل القشرة منه بطريقة فنية لا يعرفها الا قلائل مختصون، بحيث ينبغى أن يحضر أحدهم من قرية مجاورة، لأنه لا يوجد فى كل قرية – مثل قريتنا مثلا – من يعرف هذا العمل الموسمى التخصصى الدقيق.
[3] – حين كنت طفلا، كانوا يحفظونى اسم بلدتنا، وأنى ” من هورين مركز السنطة مديرية طنطا (حيث لم يكن ثمة شئ اسمه “محافظة”- أو “غريبة”)، وكنت أكرر هذا المقطع المسجوع فخورا، وربما هم حفظوه لى حتى لا أتوه فى مولد السيد البدوى، ولكن بقدرة قادر (المسمى بالحكم المحلى) وجدت نفسى وأنا أناهز الثلاثين، منوفيا، هكذا(!!)، والحمد لله على كل حال، وحين يسألنى أحدهم الآن مازحا عن أصلى، أقول ” منوفى.. على كبر”، وأتذكر تهجير النوبة وطرد الفلسطينيين، وأكاد أبكى، لأنى “ألوف” والله العظيم دون لحم كتوف أو أوراك دجاج. ( ولا ينطبق على أبدا أن المنوفى لا ” يلوف” ولو أكلته لحم الكتوف).
[4] – تطلق كلمة طريق وطنىNational فى أغلب البلدان على الطريق العادى، غير السريع، الكثير التقاطعات، المخترق للقرى والمدن داخلها أو بجوراها مباشرة، وسوف استعمل هذا التعبير كثيرا ( الطريق الوطنى) ولن أعود الى التنويه الى معناه ثانية.
[5] – Si Dieux veux toujour droit devant (Isseo), nous iron jusqu a Sant Fraacisco.
[6] -Un Kilometre a pied
ca use
ca use
ca use les souliers
….. …. ….
Deux- Kilometres a pied ……. Esc.
[7] – لظروف مدارس المجموعة من الأبناء أفراد الرحلة، ونظرا لنشاطهم السابق فى الكشافة بمعناها الأصلى القديم الذى لم يتدهور بعد فى بعض مدارس اللغات، كانت تنتقل الأغانى من أقصى الفرنسية الى أقصى العامية، وقد تكلمت عن عجزى عن نقل اللحن، وهو الأهم، ولحن هذه الأغنية كان هادئا، به – بعض الحزن رغم الكلمات التى أصلها الفرنسي:
Sur les chemins des vacances
Sur les chemuns des vacances
Nous allions nous promenons
Chante danse le vent.
[8] – الصحة النفسية على طريق التطور الفردى، ملحق حيرة طبيب نفسى. دار الغد للثقافة والنشر 1972 القاهرة.
[9] – يبدو أنه لم يكن كامنا تماما، فقد استعرته – دون أن أدرى – مع اختلاف المقام والحالة المزاجية حين كنت أكتب أغوار النفس، شعرا بالعامية، فى صورة عن نفسى ومحاولاتى أن أراها من داخل:
واجى أقرب للمراية التقى برد الجماد، وشى يبطط والنفس بيغطى تقاسيمه
كما جبل السحاب قدام قمر مظلم حزين ( أغوار النفس: م صورة “المعلم” ص 181).
[10] – هذا الحادث كان دافعا لى أن أبدا فى تسجيل أفكارى العلمية حيث ذكرت فى مقدمة أول كتاب فى سلسلة كتبى العلمية (مقدمة العلاج الجمعى) “.. وقد بلغت مخاوفى انى أحسست – فى أقل من ثانية – أثناء حادث سيارة وقع لى فى الشتاء الماضى أنى أن “ذهبت” ومعى ما أحمل من فكر، فأنى سوف أكون مثل من سرق ما ليس له”.