فى رحاب مولانا النفرى
من موقف: (قد جـاء وقتى)
يحيى الرخاوى
* أوقفنى وقال لى إن لم ترنى لم تكن بى.
نراك فنكون، أو نكون لنراك، ثم نكون بك لا نكون فقط، علمونا على كبر أن ” نكون أو لا نكون” قالها شيخهم على لسان مجنونهم، ورغم أننا لم نصدق جدا، إلا أننا أخذنا نلوك هذه المقولة وكأننا يمكن أن نكون أو لا نكون من غير حرف جر، من غيرك، يا سبحانك، حروف الجر تهدينى إليك، تدلنى على، حرف: فى (تحابا فى الله)، ثم حرف على (اجتمعا عليه وافترقا عليه) ثم هاهى الباء تأتى لتقول كيف نكون بك.
وكنت، وكنا نحسب أن الرؤية هى غاية المسار، أما أن تجعلها شرط الكينونة فهذا مما يصعب علينا الأمور، الصعب يلين بالسعى، والسعى هو هو الوصل، والوصل يعد بالأمن، والأمن ينذر بالسكون، فليكن الصعب أمانا من السكون حتى لو تأخر الوصول الواجب تأخره بيقين الغيب.
ثم من ذا الذى يستطيع أن يراك/الوصول دون أن يعشى فلا يكون، أليس الأولى أن نتذكر أن أى لمحة من الشيء هى كل الشيء، وأن أى نور هو رؤية كل نور، والحركة تكفى للإحاطة، والإحاطة تــوجه غير ملموم، ولا معلوم، مادام السهم مجذوبا إلى حيث ينجذب.
*وقال لى إن رأيت غيرى لم ترني.
وكيف أرى غيرك وأنا بك ومنك، ثم إن غيرك لا يرى أصلا إلا إن كان بك، فكيف أراه دونك، اللهم إلا إن لم يكن بك أصلا، وهذا وارد إذا ما امتلأ العدم بالـظلام، والعياذ بك منه.
*وقال لى: إشاراتى فى الشيء تمحو معنى المعنى فيه وتثبته منه لا به.
تمحو وتثبت، منه وبه، تمحو المعنى (فيه) لتثبت المعنى (منه)، تمحو معنى المعنى المحشور بلا حاجة إليه، إذ يبدو أن معنى المعنى كما نتعلم فى رحابك هو نسخ للمعنى وليس إضافة له، فالمعنى ليس له معنى، ومحو معناه حين يحشر تعسفا فيه، هو إثبات للمعنى الذى يقوم بذاته دون حاجة إلى أن يعنى غيره، وكلما انمحى معنى المعنى فيه عاد إلى أصله، بما لا يحتاج إلا أن يكون هو، ليثبت بما هو لا بمعناه، وثباته بما هو لا بمعناه هو ثبات “منه /فيه وليس ثباتا به، ولا ثباتا فيه فقط، حيث ما يحتاج أن يثبت به هو الذى يستدعى للمعنى معنى فيه غيره، فيضيع الأصل.
وكل هذا -مولانا- لا يكون إلا بالإشارات، لا يكون بالتفسير ولا بالتأويل ولا بالتعريف ولا بالتوصيف، هى إشارة إليه، بل إشارة فيه، فيعود الأصل إلى أصله، هو.
* وقال لى: فيك ما لا ينصرف ولا يصرف الحمد لك أنه ليس أنا الذى لا أنصرف ولا أصرف.
لو كنت كذلك لما كان لى أن أحاول أو أتحرك، وهذا الذى فى أهو منك بك؟ ولهذا فلا أول ولا آخر، ولا قبل ولا بعد، ولا صرف ولا تصريف، أم أن هذا الذى بى لا ينصرف ولا يصرف، هو ما يسمح لى أن أدور حوله فأفيض به، فأكون منه له إليه؟ إذا كان هذا هو؟ فهذا هو هو. لكننى خائف من كل سكون لا يصرف ولا ينصرف،اللهم إلا أن يكون سكونا بعيدا جاذبا لحركة ممتدة، وعشمى إن كنت قد استلمت الرسالة أن يكون عدم التصريف والانصراف تأكيدا لحضور، وليس تجميدا لوجود.
* وقال لى: أصمت لى الصامت منك ينطق الناطق ضرورة
لا يعرف الناس ثرثرة الصمت الخبيثة، ونتصور – بالعمى والمبارزة- أن الكلام نقيض الصمت مع أن كلام الصمت هو الخدعة الكبرى، يـسمعنا أصواتا كأنها معان، وينطق رموزا كأنها كلام، وهو لا يطلق هذا أوذاك إلا ليخفى صمتا لو انكشف انزاح، وصمت الصمت كلام، لكن نطق الناطق ليس بالضرورة كلاما من الذى له معني.
وصمت الصمت لا يحرك النطق إلا إن كان لك، أما صمت الصمت الذى يكون لغيرك، أو يكون بدونك، فهو تهديد بفوران الألفاظ غير الصالحة للاستعمال الآدمى، صمت الصمت لغيرك يـصدر رطانة زنخة، لكن صمت الصمت الذى ينطق الناطق هو لك، وإلا ……
مولانا أخشى ما أخشاه أن ينطق الناطق فأزداد صمتا، وذلك حين أعجز عن أن أميز بين نطق الناطق، ونطق الصامت، وأظن أننى لا أطمئن إلا إن كان نطق الناطق بغير كلام، وهذا هو نطق الناطق ضرورة، وليس نطق الناطق تفضلا أو تنازلا أو صمتا.
* وقال لى: أثر نظرى فى كل شيء فإن خاطبته على لسانك قلبته.
ألم أقل لك – مولانا – إنى خائف من نطق الناطق كلاما، وما المخاطبة إلا كلام، فإن أنا خاطبت أى شيء ما خاطبت، ولم أكتف بأثر نظرك فيه; فالقلب جائز حتى العكس أو المسخ أو التشويه، فليكن الصمت أشرف من محو الحقيقة تحت صفع رموز خطاب تجاوز أثر نظرك عمى.
* وقال لى: اجعل ذكرى وراء ظهرك وإلا رجعت إلى سواى لا حائل بينك وبينه.
الرحمة تجوز على الساعى والقاعد، والحذر من المواجهة واجب، والاستعجال لا يوصل إلا إلى المحطة السابقة، والمحطة السابقة وراءها ما يسبقها والقرار بلا قرار، فحل بينى وبينه بدعمك لى، وليكن ذكرك الذى هو وراء ظهرى، هو دفعى نحو القرب الواعى بخطى رصينة ترحمنى من بهر نورك، هذا أسلم حتى ولو حرمنى مؤقتا من التملى فى رؤية وجهك.
* وقال لى قد جاء وقتى وآن لى أن أكشف عن وجهى وأظهر سبحاتى ويتصل نورى بالأفنية وما وراءها.
هذا لا، وهل يحق لى أن أقول لا ؟ نعم يحق لى فى رحابك كل ما يقربنى إليك، فإذا كان وقتك قد جاء فوقت من … كانت الأوقات قبل مجيء وقتك؟ وكيف يجيء وأنت الأول والآخر؟ وإذا كان وقتى أنا هو الذى جاء لتكشف لى عن وجهك فهذا هو الفضل العظيم، ولكن تظل ”للا” قوية ولو اهتزت، كذلك نورك الذى يوقد من شجرة درية لا شرقية ولا غربية، هل لم يعم من قبل تلك الأفنية وماوراءها، أم أنه أيضا كان هناك وأنا لا أراه ؟
== وتطـلع على العيون والقلوب، وترى عدوى يحبنى وترى أوليائى يحكمون، فأرفع لهم العروش==
ما زالت “لا” رغم اهتزازها تجد ما يبرر حضورها، فهذه النصرة الشاملة والتى تجعل العدو محبا، والولى حاكما، هى صورة لا تملؤنى، ثم إنى لا أعرف عرشا إلا كرسيك الوسع السماوات والأرض.
== ويرسلون النار فلا ترجع==
يرسلون النار ؟؟!!! ترجع ؟ لا ترجع !!!
== وأعمر بيوتى الخراب وتتزين بالزينة الحق وترى فسطى كيف ينفى ما سواه==
هذا هو، اختفت “لا” بعد عـى الفهم، العمار؟ زينة الزينة،؟ نفى الغير بقلامة الشعاع، طربت بحلول وعيى بوقتك الذى ظهرولم يجئ.
== وأجمع الناس على اليسر فلا يفترقون ولا يذلون.==
أنعــم به وقتا
==فأستخرج كنزى وتحقق ما أحققتك به من خبرى وعدتى وقرب طلوعى.==
يبدو أن غمامة قد أحاطت بوعيى فلم تعد الكلمات تصلنى بما تحمل، أو بما تنبغى أن تحمل، فهل يا ترى أخطأت إذ وضعت معنى فى المعنى؟ أم ياترى غلبتنى غلبة الصمت فتناثرت الكلمات؟
ومع ذلك فقرب طلوعك يتحقق أكثر من طلوعك.
وكنزك يهدينى نوره أكثرمن أن يثرينى الحصول عليه،
ياربنا اكشف عنى الضر لو كان الضباب ضرا، أما إذا كان حقى فى الحركة فاتركنى أتخبط نحوك كادحا أكثر.
– ألا أفهم، وماذا يفيد الفهم ما دامت الحركة تملؤني؟
== فإننى سوف أطلع وتجتمع حولى النجوم وأجمع بين الشمس والقمر، وأدخل فى كل بيت ويسلـمون على وأسلم عليهم،
آه من سوف وسـ، وسـ، وسـ، وعليكم السلام ما دامت هذه مشيئتك، مالى أنا، ويا فرحتى بغبائي.
== ذلك بأن لى المشيئة وبإذنى تقوم الساعة، وأنا العزيز الرحيم.==
طبعا ولكن، وهل فى هذا لكن؟
نعم فى هذا لكن، وهى تقول: لماذا ترد البديهيات عن مشيئتك وإذنك الذى لا يرد، فى سياق أنه قد جاء وقتك،؟ فهل الساعة التى أنت سيدها ومؤذنها ومقيمها، وأنت العزير الحكيم، هى هذا الوقت الذى “جاء وقتك” أم أنها بعده أم أنها قبله؟ أم أنها مثلك- ليس لها قبل أو بعد أصلا؟
لا راد لمشيئتك ولا جدال حولها، لكنك العزيز الحكيم، والأول والآخر، وصاحب الوقت واللاوقت، فلم أفهم هذا التحصيل الحاصل، مرة أخرى يا فرحتى بعجزى، ويا فرحتى بسعيى متخبطا فى كل “لكن”، وفى وعـى فهمى.