وجهة نظر إسلامية:
حول العلاقة بالآخر
د. أحمد صبحى منصور
مقدمة:
هناك رؤيتان للاسلام: رؤية للاسلام من خلال مصدره الإلهى، وهو القرآن الكريم، ومنهج هذه الرؤية هى أن تفهم القرآن من خلال مصطلحاته ولغته، فللقرآن لغته الخاصة التى تختلف عن اللغة العربية، فاللغة العربية – كأى لغة – هى كائن متحرك، تختلف مصطلحاته ومدلولات الكلمات حسب الزمان والمكان وحسب الطوائف والمذاهب الفكرية، وحسب المجتمعات.. وبالتالى فإن الذى يريد أن يتعرف على الإسلام من خلال مصدره الالهى – القرآن – عليه أن يلتزم باللغة القرآنية، ثم يبدأ بدون أدنى فكرة مسبقة فى تتبع الموضوع المراد بحثه من خلال كل آيات القرآن، سواء ما كان منها قاطع الدلالة شديد الواضح – وهى الآيات المحكمة، أو ما كان منها فى تفصيلات الموضوع وشروحه وتداخلاته، وهى الأيات المتشابهة. وهنا يصل إلى الرأى القاطع الذى تؤكده كل آيات القرآن. وهذه الرؤية القرآنية للإسلام.
والرؤية الثانية للاسلام هى الرؤية التراثية البشرية، وهى أن تنظر للإسلام من خلال مصادر متعددة، منها القرآن، والأحاديث المنسوبة للنبى، وروايات أسباب نزول الآيات، وأقاويل الفقهاء والمفسرين.. ومن الطبيعى أن تجد آراء متعارضة، وكل رأى يبحث فى آيات القرآن ما يؤيده بآن يخرج الآية عن سياقها، وأن يفهمها بمصطلحات التراث ومفاهيمه. ومن الطبيعى أن هذا الفهم للإسلام يتعارض مع حقيقة الإسلام، ومع الرؤية القرآنية له. ومن هذه الرؤية الثانية تخرج الفتاوى التى يكون بها الاسلام متهما بالإرهاب والعنف والتخلف والتطرف.
والواقع أن المسلمين فى العصور الوسطى، كانوا مثل غيرهم من البشر، يعيشون ثقافة العصور الوسطى بتعصبها وتطرفها وحروبها الدينية والمذهبية ومحاكم التفتيش. وقاموا بتأويل آيات القرآن وصناعة آحاديث وتفاسير تلك الثقافة، وجعلوها مقدسة بنسبتها للنبى (عند أهل السنة)، أو لأقارب النبى (عند الشيعة)، أو للأئمة المقدسين (عند الصوفية).
والذى يأخذ عن هذه الرؤية البشرية الذاتية للمسلمين ويفهم من خلالها الإسلام، لن يجد منها إلا العنف والإرهاب، أما إذا رجع للقرآن ومفاهيمه وتشريعاته، فسيفاجأ بأن الاسلام هو دين السلام والتسامح الذى لا مثيل له..
وقد اخترنا أن نفهم الإسلام من خلال القرآن، وهومصدر الاسلام الوحيد والموثق. وذلك بالمنهج العلمى الذى يلتزم بمصطلحات القرآن ومفاهيمه.. ومن خلال هذا المنهج سارت أبحاثنا ومؤلفاتنا عن الإسلام ومقارنته بتراث المسلمين وتاريخهم فى العصور الوسطى، وفيما تفعله الحركات الإسلامية فى عصرنا الراهنة، وهى تحاول الرجوع بالمسلمين إلى تراث العصور الوسطى وعقليتها.
والآن… ماذا عن علاقة الاسلام بالسلام؟ هذا هو موضوعنا الآن وسبق لنا التعرض له فى أبحاث مختلفة.
إن السلام هو الأصل فى مفهوم الإسلام، وفى علاقات المسلمين بغيرهم، وفى تشريعات الجهاد فى الإسلام. ونتعرض للتفصيل على النحو التالى:
الإسلام والسلام من حيث المفهوم:
نبدأ بمفهوم الإسلام والإيمان طبقا لمصطلحات القرآن ولغته الخاصة.
أ- إن كلمة الإيمان فى معناها فى اللغة العربية وفى مصطلحات القرآن لها استعمالان: “آمن بـ”، “آمن لـ” ونشرحهما بايجاز:
1- “آمن بـ” أى اعتقد، مثل قوله تعالى “آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله: البقرة “285”
و”آمن بـ” بمعنى اعتقد تعنى الإيمان القلبى الباطنى، أو التعامل مع الله تعالى، وفى ذلك يختلف البشر حتى خلال الدين الواحد والمذهب الواحد، والقرآن يؤكد على تأجيل الحكم على الناس فى اختلافاتهما العقيدية إلى يوم القيامة، إلى الله تعالى وحده (البقرة 113، آل عمران 55، يونس 93، النحل 124، المائدة 48، الزمر46,7,3)
2- الاستعمال الآخر هو “آمن لـ” أى وثق واطمأن وأصبح مأمون الجانب يطمئن له الناس ويثقون فيه.
وتكرر هذا المعنى فى القرآن خصوصا فى القصص القرآنى، ففى قصة نوح قال له المستكبرون “أنؤمن لك واتبعك الأرذلون”(الشعراء 111) أى كيف نثق فيك ونطمئن لك وقد اتبعك الرعاع. وتكرر ذلك المعنى عن “آمن لـ” فى قصة ابراهيم (العنكبوت 26) وقصة يوسف (يوسف 17) وقصة موسى (الدخان 21، المؤمنون 47) وفى حديث القرآن عن أحوال النبى محمد فى المدينة (آل عمران 73، البقرة 75) ومواضع آخرى كثيرة.
والإيمان بمعنى الأمن والأمان والثقة والاطمئنان هو بالطبع حسب التعامل الظاهرى، فكل من تأمنه وتثق فيه ويكون مأمون الجانب هو إنسان مؤمن فى مصطلحات القرآن، أما عقيدته، إن كانت بوذية أو إسلامية أو مسيحية أو يهودية – فهذا شأنه الخاص بعلاقته مع ربه. والله تعالى هو الذى سيحكم عليك وعليه وعلى الجميع يوم القيامة.
3- وقد جاء الاستعمالان معا لكلمة الإيمان فى قوله تعالى عن النبى محمد “يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين” (التوبة 61) أى “يؤمن بالله” أى يعتقد فيه وحده إلاها. و “يؤمن للمؤمنين” أى يثق فيهم ويطمئن لهم.
والخلاصة أن الإيمان معناه فى القرآن هو الأمن فى التعامل مع الناس، وكل إنسان يأمنه الناس ويثقون فيه يكون مؤمنا. ومعناه فى التعامل مع الله تعالى هو الاعتقاد فيه وحده إلآها لا شريك له. والحكم على هذا الاعتقاد – الذى يختلف فيه الناس – مرجعه لله تعالى وحده يوم القيامة. وبالتالى فإن المهم فى تعامل الناس فيما بينهم أن تسود بينهم الثقة والأمن والأمان. . أو السلام. . أى أن الإيمان فى الإسلام هو قرين السلام فى التعامل بين الناس.
ب – ومفهوم الإسلام مثل مفهوم الإيمان فى القرآن. له معنى ظاهرى فى التعامل مع الناس، ومعنى باطنى، قلبى، إعتقادى فى التعامل مع الله.
1- الإسلام فى معناه القلبى الاعتقادى هو التسليم والانقياد لله تعالى وحده. والإسلام بهذا المعنى نزل فى كل الرسالات السماوية على جميع الأنبياء وبكل اللغات القديمة، إلى أن نزل أخيرا باللغة العربية، وصار ينطق بكلمة “الإسلام”التى تعنى الاعتقاد والتسليم والانقياد والطاعة المطلقة لله وحده (الأنعام 161:163)
وهذا هو معنى الإسلام فى الاعتقاد، والذى سيحكم الله تعالى عليه يوم القيامة، لأن الله تعالى لن يقبل يوم القيامة دينا آخر غير الخضوع أو الاستسلام له وحده، وذلك معنى قوله تعالي” إن الدين عند الله الإسلام”، ” ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يـقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين” (آل عمران 19، 85) فالإسلام هو الخضوع لله تعالى بكل اللغات وفى كل زمان ومكان وفى كل الرسالات السماوية. إلا أنه عندنا مع الأسف قد تحول الى مجرد وصف باللغة العربية لقوم معينين فى عصور معينة.
والله تعالى لا يهتم بما يطلقه البشر على أنفسهم من ألقاب وتقسيمات، مثل الذين آمنوا والذين هادوا (اليهود) والنصارى، والصابئين (أى الخارجين على دين اقوامهم) لذلك فإن القرآن يؤكد فى آيتين أن الذين يؤمنون إيمانا باطنيا وظاهريا (بالأمن والأمان مع البشر وبالاعتقاد فى الله وحده) ويعملون الصالحات ويؤمنون باليوم الآخر ويعملون له، فهم من أولياء الله تعالى، سواء كانوا من المؤمنين أتباع القرآن، أو من اليهود أو من النصارى أو من الصابئين (البقرة 62، المائدة 69). أى أن من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا فهو عند الله قد ارتضى الاسلام أو الانقياد لله، سواء كان من المسلمين أو اليهود أو النصارى أو الصابيين، فى كل زمان وفى كل مكان وفى كل لسان. وذلك ما سنعرفه يوم القيامة. وليس لأحد من البشر أن يحكم على إنسان بشأن عقيدته، وإلا كان مدعيا للألوهية.
هذا هو معنى الإسلام الباطنى القلبى الاعتقادى، هو عند الله تعالى استسلام وخضوع له بلغة القلوب، وهى لغة عالمية يتفق فيها البشر جميعا مهما اختلف الزمان والمكان واللسان وعلى أساسها سيكون حسابهم جميعا امام الله تعالى يوم القيامة.
2- أما الإسلام فى التعامل الظاهرى فهو السلم والسلام بين البشر مهما اختلفت عقائدهم يقول تعالى:”يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة: البقرة 208″ أى يأمرهم الله تعالى بإيثار السلم.
ونتذكر هنا أن تحية الإسلام هى السلام. وأن السلام من أسماء الله تعالي. وكل ذلك مما يعبر عن تأكيد الإسلام على وجهه السلمى، ويؤكد المعنى السابق للإيمان بمعنى الأمن والأمان.
هذا ....
3- والإنسان الذى يحقق الإيمان فى تعامله مع الناس فيكون مأمون الجانب لا يعتدى على أحد، ويحقق الإيمان فى تعامله مع الله فلا يؤمن فى قلبه إلا بالله تعالى وحده إلاها. هذا الانسان يكون مستحقا للأمن عند الله يوم القيامة.
والإنسان الذى يحقق الإسلام فى تعامله مع الناس فيكون مسالما لا يعتدى على أحد، ويحقق الإسلام فى تعامله مع الله فيسلم قلبه وجوارحه لله تعالى وحده، هذا الإنسان يكون مستحقا للسلام عند الله يوم القيامة. وفى ذلك يقول تعالى: “الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون” (الأنعام 82) أى أن الذين آمنوا بالله فى عقيدتهم وآمن الناس لهم واطمأنوا إليهم لانهم لم يظلموا أحدا، لهم الأمن فى الآخرة. لأن الجزاء من نفس العمل.
لذلك فان الله تعالى يصفهم بالجنة وفى الآخرة بأنهم يتمتعون بالأمن والسلام، يقال لهم عند دخول الجنة “أدخلوها بسلام آمنين: الحجر 46” ويقول عن الجنة “لهم دار السلام عند ربهم: الأنعام 127″
أى أن السلام والأمان فى التعامل مع البشر + الاستسلام والايمان بالله وحده وطاعته وحده = السلام والأمان فى الجنة.
والاعتداء والظلم لله تعالى وللناس = الجحيم.
وهذه هى علاقة السلام باسم الاسلام وحقيقته. فما هى علاقته بتشريعات الإسلام وعلاقات المسلمين بغيرهم؟
المسلمون والسلام من حيث التاريخ:
1- تدون التاريخ الإسلامى بدأ واستقر فى عصر الإمبراطوريات التى شيدها المسلمون على نمط الإمبراطوريات الفارسية والرومانية. ولذلك تلون التاريخ فى كتابته بمفاهيم القوة والتسلط والتعصب، أو بمعنى آخر بمفاهيم الامبراطوريات فى العصور الوسطى، وبذلك اتسعت الفجوة بين القرآن والتراث فى مجالات التاريخ والتشريع، بل والعقائد أيضا.
وفيما يخص موضوعنا نجد الفجوة واضحة بين حديث القرآن عن المسلمين الأوائل فى عهد النبى وغزواته، وبين السيرة النبوية التى تمت كتابتهابعد النبى بقرنين من الزمان، فى عصور الامبرراطويةالعباسية، فالسيرة النبوية لا بن هشام وابن اسحق الطبرى وغيرهم تركز على شدة بأس المسلمين فى حروبهم فى عهد النبى وتؤكد بين سطورها أن الإسلام انتشر بالسيف وذلك كى يبرروا ما حدث بعد موت النبى من فتوحات وغزوات.
ولكن نرى فى القرآن شيئا آخر مختلفا.
2- والبداية هنا أيضا تعود إلى مصطلح القرآن عن الذين آمنوا. وكيف أنه يعنى أساسا الذين اختاروا الأمن والأمان فى تعاملهم مع الناس، حتى لو كان هؤلاء الناس يعتدون عليهم ويضطهدونهم بسبب الدين.
وحتى نفهم المعنى المراد بالذين آمنوا فى خطاب القرآن لاتباع النبى وأصحابه نقرأ قوله تعالى لهم “يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل، ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا: النساء 136” فالله تعالى يدعو هنا الذين آمنوا إلى الإيمان بالله ورسله وكتبه السماوية. أى يدعوا الذين اختاروا الإيمان بمعنى الأمن والأمان أن يضيفوا إلى ذلك الإيمان القلبى بالله ورسله وكتبه. وعلى هذا النسق فالخطاب للذين آمنوا كان مقصودا به الذين اختاروا السلم والأمن طريقا، ويأتى الخطاب يدعوهم للإيمان القلبى والطاعة وإقامة الفرائض.. . أى يدعوهم إلى الايمان القلبى ولوازمه من الطاعات، ليتحقق الإيمان القلبى مع الإيمان الظاهرى أو ليتحقق الأمن و السلام مع الإيمان بالله وكتبه ورسله، وليتحقق أخيرا فى الآخرة نعيم الجنة حيث السلام والأمان.
3- وهؤلاء المؤمنون المسالمون الذين اجتمعوا حول النبى فى مكة ثم فى المدينة آثروا السلم وتحمل الاضطهاد، ولم يحاول أحدهم الدفاع عن نفسه، تحملوا التعذيب فى مكة وهاجروا منها إلى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إلى المدينة، وعاشوا فى مطاردة وقتال من المشركين الذين يريدون إرغامهم على العودة لدين الآباء.
وكان ممكنا أن يستأصلهم المشركون بالاضطهاد والقتال لولا أن نزل تشريع القرآن يبيح لهم الدفاع عن النفس. وعلماء التراث فى العصور الوسطى لا يعطون آية الإذن بالقتال حقها من التدبر، لأن التدبر فى معناها يعطى حقائق مسكوتا عنها، فالآية تقول “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وأن الله على نصرهم لقدير” (الحج 39)، فهى إذن وتصريح لكل من يتعرض للظلم والقتل بأن يدافع عن نفسه، بغض النظر عن عقيدته ودينه. يكفى أن يكون مظلوما وأن يتعرض لاحتمال الإبادة بالقتل. حينئذ يأتيه نصر الله إذا قاتل دفاعا عن حقه فى الحياة. وقد غفل علماء التراث عن عمومية الآية فى تشريعها الإلهى لكل مظلوم يفرض الآخرون عليه الحرب. وغفلوا عن معنى آخر أهم، وهو أن الإيذاء الذى أوقعه المشركون بالمؤمنين وصل إلى درجة القتل، بل القتال، وحين يقاتل المشركون قوما مسالمين لا يردون عن أنفسهم القتل فإن الإبادة لأولئك المستضعفين حتمية.
أى أن القرآن يشير إلى حقيقة تاريخية أغفلتها عنجهية الرواة فى العصر العباسى الإمبراطوري. وهى أن المشركين قاموا بغارات على المدينه وحدث قتل وقتال للمسلمين، وسكت المسلمون لأن الإذن بالقتال لم يكن قد نزل. فلما نزل التشريع أصبح من حقهم الدفاع عن النفس.
وغفل علماء التراث أيضا عن التدبر فى الآية التالية لتشريع الإذن بالقتال.
فالآية تقول”الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا….” (الحج 4)
فالآية هنا تعطى سببا آخر فى حيثيات الإذن بالقتال لرد العدوان. السبب الأول أن أولئك المظلومين تعرضوا للقتل والقتال، والسبب الثانى أنهم تعرضوا للطرد من بيوتهم ووطنهم لمجرد أنهم يقولون ربنا الله، وهذا ما أشار إليه علماء التراث ولكنهم غفلوا بسبب التعصب الدينى فى عصر الامبراطورية العباسية فى القرون الوسطي. عن التدبر فى الفقرة الثانية من الآية والتى تؤكد أنه لولا حق المظلوم فى الدفاع عن نفسه لتهدمت بيوت العبادة للنصارى واليهود والمسلمين وغيرهم حيث يذكر العابدون فيها اسم الله كثيرا.
الأهمية القصوى هنا فى تأكيد القرآن على حصانة بيوت العبادة لليهود والنصارى والمسلمين حيث ذكر الصوامع والبيع والصلوت، أى كل ما يعتكف فيه الناس للعبادة من أديرة وكنائس وغيرها ثم جاء بالمساجد فى النهاية. وقال عن الجميع أنهم يذكرون فيها اسم الله كثيرا. ولم يقل طبقا لعقيدة الاسلام فى الألوهية “يذكر فيها اسم الله وحده” حتى يجعل لكل بيوت العبادة لكل الملل والنحل حصانة من الاعتداء.
والأهمية القصوى هنا أيضا أن تشريع الإذن بالقتال ليس فقط لرد الاعتداء ولكن أيضا لتقرير حرية العبادة لكل إنسان فى بيت العبادة. مهما كانت العقيدة والعبادة، فكل إنسان يتعبد لله، وله فكرته عن الله، وعقيدته فى الله، وهو يقيم بيوتا لعبادته لله، ولابد أن تكون هذه البيوت واحة آمنه تتمتع هى ومن فيها بالأمن والسلام ، وتلك هى حقيقة الإسلام التى غفل عنها علماء التراث.
4 – وكان منتظرا من المؤمنين المسالمين حول النبى أن يبتهجوا بتشريع الإذن لهم برد الاعتداء والدفاع عن النفس، ولكن حدث العكس إذ أنهم تعودوا الصبر السلبى وتحمل الأذى، لذلك كرهوا التشريع الجهادى برد الاعتداء، وغفلوا أنه ضرورى لحمايتهم من خطر الابادة. لأنه إذا عرف العدو أنهم لن يسكتوا فسيتوقف عن الاعتداء عليهم، وبذلك يتم حقن الدماء. وفى ذلك يقول تعالى للمؤمنين: “كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرلكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون” (البقرة 216)، لقد كرهوا القتال دفاعا عن النفس وهو خير لهم، وأحبوا الاستكانة والخضوع لمن يحاربهم وهو شر لهم. والسبب أنهم تعودوا السلام والصبر إلى درجة أصبحت خطرا على وجودهم ودينهم.
إلا أن هذا التوضيح القرآنى للمؤممنين المسالمين لمم يكن كافيا لبعضهم لكى يخرجهم من حالة الخضوع إلى حالة الاستعداد لرد العدوان، ولذلك فإن فريقا منهم احتج على تشريع القتال ورفع صوته لله بالدعاء طالبا تأجيل هذا التشريع، وفى ذلك يقول تعالى: ” ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ، وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب؟ قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلا: النساء 77″.
كانوا فى مكة مأمورين بكف اليد عن الدفاع عن النفس اكتفاء بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلما فرض عليهم القتال الدفاعى احتج فريق منهم وطلبوا التأجيل… وهذا يدل على عمق شعورهم بالمسالمة وكراهية الدماء.
4 – وكانت الغزوات فى عهد النبى أكبر دليل على انحياز المسلمين الثابت للسلام وكراهيتهم للحرب الدفاعية التى اضطروا إليها. ونستشهد من خلال القرآن على موقف المسلمين من ثلاث غزوات: بدر، الأحزاب، ذات العسرة.
كانت غزوة بدر هى الأولى والأشهر، وكى نفهم أسبابها الحقيقية، علينا أن نعرف معنى الإيلاف فى قريش الذى أشارت إليه سورة قريش” لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”.
لقد تعودت قريش على رحلتى الشتاء والصيف بين الشام واليمن، تنقل التجارة بين القطرين، وكان الإيلاف يعنى خارج مكة تأمين طريق القوافل القرشية بين مكة واليمن وبين مكة والشام، وكان يعنى داخل مكة أن يشترك القرشيون جميعا فى تمويل قافلتى الشتاء والصيف، وذلك بتقسيم رأس المال على أسهم، وفى نهاية كل عام تحسب أرباح الأسهم ويأخذ كل إنسان حصته على قدر أسهمه.
وبإيذاء المسلمين وطردهم من مكة إلى المدينة استولى المشركون على بيوتهم فى مكة ورؤوس أموالهم فى قافلتى الشتاء والصيف، ولم يكن المسلمون ليجرؤوا على استرداد أموالهم طالما كانوا يتحملون ضربات عدوهم. فلما نزل تشريع الإذن بالقتال كان طبيعيا أن يحصلوا على حقهم من الإيلاف القرشى ، بالإغارة على القافلة التى تتاجر بأموالهم الضائعة ليحصلوا منها على بعض ما ضاع من حقوقهم، وجاءتهم البشارة إما بالنصر أو بالحصول على القافلة، ومع عدالة القضية ووضوحها إلا أنه عندما نجت القافلة وجاء على إثرها جيش المشركين ليقاتل الفرقة المسلمة قليلة العدد، مع ذلك فإن بعض المسلمين حين عرفوا بأنه تحتم عليهم ملاقاة الجيش بدلا من القافلة. انزعجوا وخافوا. هذا مع أن البشرى لهم بالنصر قائمة، طالما فرت القافلة، ولا نجد أروع من وصف القرآن لهذا الفريق الخائف من أهل بدر، يقول تعالي” كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقا من المؤمنين لكارهون، يجادلونك فى الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون”:(الأنفال 5-6) أى أنهم كانوا كارهين للحرب، وأعلنوا عن موقفهم بالجدال فى الحق الذى أصبح واضحا.
وعندما تحتم عليهم القتال الفعلى كانوا كأنما يواجهون الموت وينظرون إليه…
وبالمناسبة نذكر أن حديث القرآن عن غزوة بدر يناقض روايات السيرة التى تؤكد خلافا للحقيقة أن جميع المسلمين فى بدر تحمسوا للقتال ولمم يرتفع صوت واحد بالتردد، ولولا ما ذكره القرآن ما عرفنا حقيقة الموضوع، وإن كانت الثقافة الإسلامية المعاصرة لم تنتبه حتى الآن إلى هذه الآيات وغيرها، إذ أن معظم الحقائق الإسلامية غائبة ولا تزال.
وفى غزوة الأحزاب حاصر المشركون المدينة فبلغ الخوف من المؤمنين غايته القصوى ويكفى أن نتدبر قوله تعالى يصف المؤمنين وقتها”. .. وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا” (الأحزاب 10 -11)
وأدى الخوف ببعضهم إلى الهرب وتعويق المقاتلين ونشر الإشاعات (الأحزاب 18 – 19- 60) وفى المقابل ظهر العون الأصيل لبعض المؤمنين، فازدادوا إيمانا وتسليما (الاحزاب 22- 23).
وفى غزوة ذات العسرة، آخر الغزوات، ظل المسلمون حتى ذلك العهد غير متحمسين للقتال ورد الاعتداء، مما جعل آيات القرآن أكثر تأنيبا لهم (التوبة 13 – 16) ومنها قوله تعالى لهم: “يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض” (التوبة 38)، أى كانوا يتثاقلون إذا جاءهم الأمر بالقتال. … أى أن التثاقل ظل معهم من البداية إلى نهاية عهد النبى، هذا بخلاف المنافقين، فنحن نتحدث عن الذين آمنوا لنعرف كيف أنهم آمنوا بمعنى أحبوا الأمن والأمان وكرهوا الحرب والقتال، حتى لو كان الحرب والقتال دفاعا ضد عدوان باغى لا ينتهى، ويكفى أن الله تعالى وصف حرب المشركين لهم بأنها حرب مستمرة تهدف لإرجاعهم إلى دين الآباء ، يقول تعالى ” ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا” (البقرة 217).
هذا ما كان عليه المسلمون الأوائل ضد مشركى قريش ولكن ما لبث مشركو قريش أن دخلوا فى الإسلام بعد الفتح لمكة. وسرعان ما تصدروا جيوش المسلمين فى حرب الردة بعد موت النبى، ثم تصدروا الجيوش فى فتوحات الشام ومصر. ثم حكموا البلاد المفتوحة ثم وثبوا على السلطة وأقاموا الامبراطورية الأموية بالحديد والنار، وتوارث السلطة. وبعدها تغير المسلمون واتسعت الفجوة بينهم وبين الاسلام.
تشريعات الجهاد أو القتال فى الاسلام:
1- فى الإطار السابق نفهم تشريعات الجهاد أو القتال فى الإسلام.
والجهاد فى مصطلح القرآن يعنى النضال ابتغاء مرضاة الله بالنفس والمال، وقد يكون ذلك بالدعوة السلمية بمجرد قراءة القرآن، كقوله تعالى عن القرآن “فلا تطع الكافرين، وجاهدهم به جهادا كبيرا” (الفرقان 52)، وقد يكون الجهاد قتالا للدفاع عن النفس، وهنا تتولى تشريعات القرآن وضع أحكامه وقواعده وأهدافه أو مقاصده.
2- وعموما فالأحكام فى التشريعات القرآنية هى أوامر تدور فى إطار قواعد تشريعية ، وهذه القواعد التشريعية لها مقاصدا أو أهداف أو غايات عامة. فالأمر بالقتال له قاعدة تشريعية، وهو أن يكون القتال للدفاع عن النفس ورد الاعتداء بمثله، أو بتعبير القرآن ” فى سبيل الله” ثم يكون الهدف النهائى للقتال هو تقرير الحرية الدينية ومنع الاضطهاد فى الدين، كى يختار كل إنسان ما يشاء من عقيدة وهو يعيش فى سلام وأمان، حتى يكون مسئولا عن اختياره أمام الله تعالى يوم القيامة.
3- ونضرب بعض الامثلة:
يقول تعالى:”وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين” (البقرة 195) فالأمرهنا “قاتلوا” والقاعدة التشريعية هى “فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين” وتتكرر القاعدة التشريعية فى قوله تعالي”فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم” (البقرة 194) أما المقصد أو الغاية التشريعية فهى فى قوله تعالى “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله” (البقرة 193) أى أ ن منع الفتنة هى الهدف الأساسى من تشريع القتال. والفتنة فى مصطلح القرآن هى الإكراه فى الدين والاضطهاد الدينى، وهذا ما كان يفعله المشركون فى مكة ضد المسلمين، يقول تعالى:” والفتنة أكبر من القتل، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا” (البقرة 217)
وبتقرير الحرية الدينية ومنع الفتنة أوالاضطهاد الدينى يكون الدين كله لله تعالى، يحكم فيه وحده يوم القيامة دون أن يغتصب أحدهم سلطة الله فى محاكم التفتيش واضطهاد المخالفين فى الرأي. وذلك معنى قوله تعالي”وقاتلوهم حتى لا تكون فتنه، ويكون الدين كله لله” (اللأنفال 39)
2- والواضح أن هذه التشريعات عن القتال فى الإسلام تتفق مع مفهوم الإسلام والإيمان والمسلم والمؤمن، أو بمعنى آخر هى تشريعات تؤكد على السلام وتحميه من دعاة العدوان، وتؤكد على حرية العقيدة وتفويض الأمر فيها لله تعالى يوم القيامة، وتحميها من دعاة التعصب والتطرف وإكراه الآخرين فى عقائدهم واختياراتهم.
ومع وضوح الصلة بين مفهوم الإسلام والإيمان وتشريعات القتال، إلا أن تشريعات القرآن جاءت بتأكيدات أخرى حتى تقطع الطريق على كل من يتلاعب بتشريعات القرآن ومفاهيمه. ونعطى لذلك مثالا ساطعا فى سورة النساء وهى تتحدث عن حرمة قتل إنسان مسالم مؤمن مأمون الجانب. تقول الآية 92 من سورة النساء ; “وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ””، أى لا يمكن أن يقتل مؤمن مسالم مؤمنا مسالما إلا على سبيل الخطأ، أو بمعنى آخر لا يمكن أن يتعمد المؤمن المسالم قتل مؤمن مسالم آخر. ثم تتحدث الآية عن الدية المفروضة وأحكامها.
وتتحدث الآية 93 عن عقوبة قتل المؤمن المسالم فتقول ” ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما” فالذى يقتل مؤمنا مسالما جزاؤه الخلود فى جهنم مع العذاب العظيم ولعنة الله وغضبه، وهى عقوبات فريدة قلما تجتمع فوق رأس أحد من الناس يوم القيامة.
وتتحدث الآية 94 عن ذلك المؤمن المسالم الذى تحرص تشريعات القرآن على حقه فى الحياة. يقول تعالى ” يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتهم فى سبيل الله فتبينوا، ولا تقولو لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا.” أى فى ساعة المعركة على المؤمنين أن يتبينوا ويتأكدوا من العدو حتى لا يقعوا فى جريمة قتل إنسان مسالم شاء سوء حظه أن يوجد فى الميدان، ويعطى القرآن مسوغا للنجاة لكل إنسان فى الجهة المعادية ، بمجرد أن يقول “السلام عليكم” فإذا قالها حقن دمه، وأصبح مؤمنا مسالما حتى فى ذلك الوقت العصيب. أى أن المسلم المسالم المؤمن هو من يقول ” السلام” حتى فى ساعة الحرب.. وإذا تعرض للقتل فإن قاتله يستحق الخلود فى النار والعذاب العظيم ولعنة الله وغضبه.
أما إذا كان محاربا يقتل المسلمين فى الحرب، ثم بدا له أن يراجع نفسه فما عليه إلا أن يعلن الاستجارة، وحينئذ تؤمن حياته أو يعطى الأمان ويسمعونه القرآن حتى يكون سماعه للقرآن حجة عليه يوم القيامة، ثم على المسلمين إيصاله إلى بيته فى أمن وسلام. وذلك معنى قوله تعالى ” وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعملون: التوبة 6″
والحقيقة أن أغلبية المسلمين أيضا قوم لايعلمون. . بدليل أن الإسلام دين السلام فى حقيقته وفى شريعته، ومع ذلك فقد أصبح بأعمال المسلمين متهما بالتعصب والتطرف والإرهاب.