نقطة تقاطع
إعتدال عثمان
(1)
نستطيع أن نقول إن الكتابة الإبداعية نوع من المعرفة ذات طبيعة مزدوجة. فالمبدع يعيش ظروف واقعه ويشارك مثل غيره فى الحياة بجوانبها العملية والاجتماعية، لكنه حين يكتب لابد أن يمتلك وعيا بالشرط التاريخى والإنسانى المعاش فى سياق ثقافى له خصوصيته، أى أن الكتابة تعنى فهم الحياة من داخلها والحلم بتغيير الظروف التى تسلب الإنسان إنسانيته. أما الوجه الآخر للمعرفة فيتطلب استناد المبدع إلى خبرة جمالية يكتسبها وينميها على نحو مستمر. والخبرة الجمالية تتضمن كيفية التفاعل بين الشرط التاريخى والإنسانى والتجربة الذاتية. إن سؤال الإبداع يطرح دائما: كيف يحول المبدع أفكاره ومشاعره من جانب، وما يستقبله عقله ووجدانه من معطيات الواقع الخارجى من جانب ثان، إلى نص لغوى من رموز وصور وعلاقات نصية وعلامات ثقافية وحضارية، يتلقاها القارئ بوصفه مشاركا فى عملية الإبداع ذاتها،مشاركة لا تكتمل دائرة الإبداع بدونها؟
والمعرفة هنا – بوجهيها – تقترن بطاقات الخيال وامتلاك المبدع موهبة تجميع شظايا الحياة المتناثرة وإعادة تركيبها فى شكل فنى دال، بما يؤدى إلى اكتشاف حقيقة من حقائق الذات الإنسانية فى وجودها العابر، وبما يضفى على ذلك الوجود نفسه قيمة باقية، تزاوج المعرفة بالمتعة فى أرقى صورها، فتزداد الحياة ثراء , ويزداد شعورنا بها عمقا.
أما الناقد فينطلق من واقع خبرة حياتية ومعرفية مماثلة للمبدع، بينما يتمثل دوره فى اكتشاف كيفية تحويل معطيات الحياة إلى قيم أدبية وجمالية داخل النص، فيضيء هذه القيم، ويفسر دلالتها بالنسبة إلى السياق الاجتماعى والثقافى العام، ويربطها بغيرها فى نصوص أخري. وإذا كان النقاد يحتاجون – بطبيعة الحال – إلى أطر معرفية يستمدونها من مجال تخصصهم، وهو النظرية الأدبية، فإنهم يتراوحون من حيث عمق تمثلهم لهذه الأطر، فينجرفون أحيانا إلى الانبهار الكلى بالمنهج وأصوله الفلسفية، بمعزل عن طبيعة النصوص، التى تصبح فى هذه الحالة مقتلعة من سياقها التاريخى والثقافى الخاص . وأتصور أن الإفادة الصحية فى هذا المجال تظهر فى قدرة الناقد على تمثل ما يثقفه عقله، وما يختاره وعيه، بحيث تصبح المعرفة جزءا من نسيجه الفكرى، ومن ثم يستطيع الإسهام فى تخصيب الواقع الثقافى الذى ينتمى إليه. وللناقد أن يلجأ إلى تضافر المناهج أو تعدد المناهج من أجل أن يقدم إضاءة أكثر نضجا واكتمالا للنص المنقود، فيكشف فى قراءته الجوانب الخفية فى العمل الأدبى، التى كثيرا ما تغيب عن القارئ العادى، فضلا عن الكاتب نفسه، لكن الناقد يستطيع إبرازها فى قراءته للنص، بوصفه متلقيا من نوع خاص، يبلغ طموحه أحيانا درجة الإعداد لثورة جمالية، تؤسس لقيم أدبية جديدة.
وبدهى ألا تكون القراءة التى يقدمها الناقد جامعة مانعة وإنما تسمح بقراءات أخرى، تتعدد بتعدد النقاد، وبحسب موقف كل ناقد، ومعتقداته الفكرية والاجتماعية والجمالية الخاصة. وهذه القراءات المتعددة تتراوح أيضا من حيث حساسية الناقد تجاه النص المنقود، وموهبته التى تجعل النص النقدى يعد – أحيانا – إبداعا آخر موازيا للإبداع الأول . فالنقد من هذا المنظور يتناول العمل الأدبى وفقا لقوانينه الداخلية، لكنه يتناوله بوصفه نقطة بداية لإبداع جديد فى آن.
هكذا تتقاطع محاور الإبداع والنقد فى منطقة غنية بالرؤى وتوليد الدلالات بغير نهاية.
(2)
يكشف المشهد الأدبى الراهن عن اتجاه عدد من الشعراء لكتابة الرواية أو رواية السيرة الذاتية، الأمر الذى يكاد يكون ظاهرة لافتة، ولابد أن يكون لهذه الظاهرة دلالة. وهى دلالة ليست بسيطة أو مباشرة، أعنى أن عناصر عدة تدخل فى تكوينها، أهمها فى نظرى طبيعة اللحظة التاريخية التى نحياها. فالشعراء – وغيرهم ممن يحملون مسئولية الكلمة – يعيشون ظرفا تاريخيا بالغ التركيب، فالعالم يمر بمنعطف قرن، ويستهل قرنا جديدا بإنجازات علمية وتقنية مذهلة، بينما تسود قوة واحدة على مقدرات الشعوب، الأمر الذى بات مهددا بتذويب الخصوصيات الثقافية والحضارية، خصوصا فى منطقة الجنوب. والشاعر – مثل غيره من الكتاب والمثقفين – يستشعر هذا الخطر، فيبادر إلى تقديم رؤيته للعالم، من منظور واقعه وتكوينه الأدبى والفكرى الخاص، الذى لا ينفصل بطبيعة الحال عن هموم وطنه وأناس هذا الوطن. ونحن فى منطقتنا العربية، المتوترة بالقضايا المصيرية، لا نمتلك ترف التخلى عن الهم العام. والشاعر حين يلجأ إلى كتابة عمل روائى إنما يقوم بتحويل طاقاته الشعرية نفسها إلى نسيج من علاقات إنسانية واجتماعية، تحيل إلى لحظة تاريخية بعينها، كما تحيل فى الوقت نفسه إلى نصه الشعرى ومجمل النصوص التى يتفاعل معها عمله الجديد. وهذه الإحالات تتسم – فى معظم الأحيان – بكثافة اللغة المميزة للشعر، والاختزال الدال على اقتناص جوهر الأشياء، واكتشاف الصلة بين مفردات الحياة التى تبدو متناثرة وموزعة فى تفاصيل، لا رابط بينها، إذا ما مرت عليها عين عابرة، أو قد يلجأ إلى تجسيد هذا التناثر والتوزع ذاته، بما يكشف عن معنى يريد تسليط الضوء عليه.
والشاعر يقوم فى هذه الحالة باستثمار طبيعة الرواية بوصفها نوعا أدبيا يتسم بمرونة كبيرة، تجعله قابلا للتفاعل مع الأنواع الأدبية الأخرى والإفادة من خصائصها، مما يتيح له أفقا رحبا للتعبير، يقدم من خلاله شهادته على عصره، محاولا أن يستعيد جانبا من الحقيقة التاريخية والاجتماعية التى عاشها إلى الواقع الراهن، فيربط بين الخاص والعام، ويفتح نصه الروائى على تعدد الرؤى وتناقضها من خلال صوته المقترن بأصوات روائية، تمثل لهجات اجتماعية متباينة، تتآلف أو تتخالف، تحلم أحلامها البسيطة أو تجرفها رغبات الطموح المدمر، تنكسر أرواحها أو تصطدم بعوائق الواقع وتقلباته وتغير منظومات القيم فيه، تنكص أو تتشبث بالمقاومة. هكذا نجد فى الأعمال الروائية الناجحة لعدد ملحوظ من الشعراء نصوصا أدبية، تتوازى جماليات تركيبها وكثافة رؤاها وعمقها مع تعقد الظواهر الاجتماعية والانسانية فى الواقع المعاش. الشاعر هنا لا يتنكر للشعر بل إنه يطوع موهبته كى تتواءم مع ما يمليه عليه صدقه مع نفسه وإخلاصه لمسئولية الكلمة والقيم الى اختارها بوعيه وانتمائه. ذلك الاختيار نفسه يقتضى من الشاعر إبداع الطرق الفنية التى يراها ملائمة لتحقيق هدفه، والكتابة الروائية إحدى هذه الطرق التى تتيح، ليس الإمساك باللحظة التاريخية الهاربة من الذاكرة فحسب، وإنما تتيح كذلك الغوص فى الذات والتعرف الوثيق على تحولاته، بما يخصب العالم الشعرى نفسه ويثريه.
يرجع أيضا اتجاه ذلك العدد الكبير نسبيا من الشعراء إلى الكتابة الروائية المحملة بالشعر إلى حقيقة أدبية أخرى، فقد تهاوت الحدود الصارمة، الفاصلة بين الأنواع الأدبية، فاشتملت قصائد الشعراء على عناصر سردية وقصصية عدة، فضلا عن مسرحية الشعر، أعنى توظيف إمكانات الصراع الدرامى والحوار فى قصائد، لا تندرج فى إطار المسرح الشعرى وذلك بالإضافة إلى أوجه التفاعل بين الشعر والإيقاع الموسيقى، توظيف الخيال البصرى فى ابتكار الصور الشعرية، على نحو يفيد من عناصر سيمائية متباينة.
لم يعد المشهد الأدبى، من جانب آخر، يخصص مجالا للأداء الشعرى بمعزل عن فنون القول المكتوب الأخرى، فضلا عن الفنون غير اللغوية. فلدينا روايات شعرية باهرة، كما أننا نبحث عن شعرية الأداء الحركى فى النص المسرحى، المكتوب نثرا، ويدهشنا أحيانا التشكيل الشعرى لفضاء لوحة مروسومة، أو الرؤية الشعرية فى عمل سينمائى، فنتحدث عن اختزال الأشكال لتدل على جوهر الأشياء والتكثيف اللونى، أو أسلوب التقطيع وأنواع اللقطات والإيقاع الشعرى للفيلم.
هكذا نرى أن أرض الشعر لا ينحسر عنها المد بل ينسرب إلى أعماق أكثر غورا، فيخصبها ويتخصب بها إلى ما لا نهاية. فإذا ما اتجه الشعراء إلى كتابة الرواية والسيرة الذاتية فإنهم يثرون خبرتهم الجمالية ويسهمون فى اتساع آفاق الكتابة، بما يثرى بدوره واقعنا الأدبى، وبم يضيف إلى القارئ معرفة ومتعة فى آن.