ليبرالية خارج التاريخ
محمد البدرى
كانت نقاط الانطلاق التى ارتكز عليها الليبراليون عندنا، فى سياق نموهم التاريخي، مختلفة تمام الاختلاف عن مثيلتها فى الغرب ولا أعتقد أن أحدا من أهل الرأسمالية المعاصرة لدينا على علم بذلك الأمر، فهم جميعا متواجدون فى الساحة أى السوق بقواهم المالية وليس الرأسمالية ، بالضرورة وليس بالإبداع، وهى نقطة هامة سأقف عندها قليلا فيما بعد.
فالقاعدة الأساسية التى يختلف فيها الاثنان هى منطلقات القانون الأول الذى ارتكزت عليه الرأسمالية الغربية فى إنشاء ليبراليتها وهو قانون دعه يعمل دعه يمر. فالنصف الأول من القاعدة يقوم آليا بتكريس وعمل التراكم فى جميع المجالات مدركين أن العمل هو المصدر الوحيد للثروة، والنصف الثانى من الشعار معناه قيام كل من يساهم فى العملية الانتاجية بالمرور أى الحق فى القول والفعل والممارسة لأى نشاط مدنى اجتماعى ثقافى سياسى…. الخ أى الديموقراطية التى يحاول الجميع اكتسابها الآن.
بالقطع لم يكن هذا متاحا من اللحظة الأولى لإبداعات الرأسمالية ولكنه أخذ أيضا الكثير من الجهد والدم لترسيخه وسار متوازيا مع تراكم الثروة وحجم الإبداع العلمى والمعرفى والتكنولوجى … الخ.
كان ولابد للعقل أن يعيد صياغة ذاته كشرط أولى لتلك العملية التحررية والابداعية ، لذا كان الاصطلاح الـReform ثم التنوير هما أولى الخطوات العملية التى قامت بها قوى الرأسمالية فى الغرب بغرض إعادة برمجة العقل الإنسانى فى كشفه للعمل الرأسمالى الصناعى كأساس للتقدم إلى المستقبل، ولنقف هنا لبيان ما سبق الإشاره إليه.
فبنظرة إلى تاريخ تطور قوى الإنتاج بالتوازى مع رؤية البشر للكون نجد أن ما يكتسبه أحدهما يكون دوما على حساب الآخر أى أن مجموع كم الطاقة هنا ثابت، ففى عالم الرعى تكون الرؤية الميتافيزيقيه للكون فى أوجها بسبب أن قوى العمل فى غاية الضعف وأن الناتج الذى غالبا ما تجود به الطبيعة غير معروف المصدر وأن الكشف المعرفى يكون معتمدا بالأساس على تصور باطنى تأملى بسبب وفرة الوقت وضعف حجم العمل المطلوب، فالمطر والكلأ وتناسل قطعان الماشية لا دخل فيها للعمل الإنسانى المبدع. وأن العشوائية هى التى تحدد الأمر لذا فان الإحالة إلى القدر وما وراء الطبيعة عامة يكون فى أوجه أيضا ومع الانتقال إلى علاقات العمل الزراعية نجد أن حجم العمل يزداد ويواكبها تساهل وارتخاء فى التشدد القادم ممن وراء الطبيعة لذا نجد روح من التسامح والتعددية كما فى مصر القديمة والقبول بين تلك القوى لان انعكاساتها فى الواقع أيضا متعددة وتبدو فى تنوع المحاصيل والحرف القائمة عليها …. الخ ويكتشف العقل فى اللاوعى أن جهده وإبداعه الأرضى لا يمكن الاستغناء عنه فى إنتاج المطلوب، وهنا بالضرورة تضعف تصورات الإنسان لقدرات العلم الغيبى بنفس مقدار بذل الجهد والتراكم المعرفى المتحصل لديه، ومع النقلة النوعية إلى عالم الصناعة وبالتالى الرأسمالية الليبرالية فإن رؤية العالم داخل العقل البشرى تصبح مختلفة تماما ذلك بسبب الكشوف العلمية التى هى الشرط الضرورى والأولى للصناعة فى تحويل نوعى لنفس المادة التى تعامل معها الراعى برؤية بدائية وخام إلى نظرة الزراع حيث العمل والجهد هو نصف الحقيقة ثم إلى كينونة هى الإعجاز بعينه فى المجتمع الصناعى المتطور، والمثال هنا هو من الرمل (السيليكون) إلى الترانزيستور بل ووصل إلى حد خلق مواد جديدة يخلو منها الكون ولكن جدول مندليف الدورى للعناصر يحتم إمكانية إبداعها. ولن نستطرد طويلا بل سنتوقف عند النعجة دوللى التى ألجمت الراعى والزارع معا لتأكيد روع الإبداع لدى المجتمعات العلمية، وخلاصة الأمر فإن الرأسمالية المسلحة بالعمل قد حلت بقدرتها الإنتاجية العالية محل الخيال القديم لضعاف الإنتاج السابقين تاريخيا ، وأدركت الليبرالية الغربية أن المجتمع هو نفسه صناعة بشرية متجددة لا تقف عند هزة أولى للكون أو رؤية جامدة، لذا كان الجديد يلقى دائما قبولا، وخلقت الضوابط للمحافظة على الاتزان فى شكل القانون الذى يتساوى أمامه الجميع. ومن ثم الدستور الذى أصبح قدس أقداسهم. أما فى مجال الفن فحدث ولا حرج.
أما عن طبقتنا الرأسمالية الآن – فى مصر – والمختلفة إلى حد كبير عن تلك التى تواجدت قبل يوليو 52 فان انتعاشها وتراكمها المالى كان بالأساس فى الظلام نتيجة لقيود ثقيلة كبلت نشاط مؤسسات المجتمع المدنى ومنعت الشفافية من العمل وبطلت الرقابة ومن ثم المحاسبة بين طرفى العملية الانتاجية أى بين الحاكم والمحكوم وتزاوج هذا الفساد وتمت تغطيته بديماجوجية حاكمية طوال عصور التحرر الوطنى وما بعدها. أصبح الولاء وليس العمل هو مقياس المرور، والصعود الاجتماعى ومن ثم الطبقي، أى أن العمل لم يعد صك المرور لذا ضعفت التنظيمات المدنية ( نقابات ، اتحادات) فى فهم دورها وكما نشأت فى الغرب معقل الإبداع الاجتماعى.
بل وتحولت للدعاية لسياسات النظام لإمكانية الصعود لممثليها، وكان مناخ الستينات وما بعده يؤسس لقوانين أقرب لقوانين مجتمع الرعي، ذلك عندما تم تحديد السعر لكل شيء بما فيها أجر ساعة العمل، وتم تأميم جميع هياكل وقوى الانتاج لصالح القوى الفوقية فى المجتمع أى الاستغناء عن قوانين الجدل والصراع العملية وكذا قوانين العلم من مقدمة ونتيجة وفعل ورد فعل …. الخ وبذا أصبح العقل الجمعى يرى أن كل شيئ غير معروف المصدر والتى تكرست بنتيجة حرب 67 التى لم تكن تخطر نتائجها على بال الحالمين بمصداقية خطاب السلطة الأحادى.
وكرست هذه السلطة النموذج الغيبي، ومن ثم أعادت زراعة الفكرة القديمة عن الكون وساهم نظام الإعلام فى حجب الحقيقة القادمة من الخارج عن المواطن واتاحتها للحاكم أو الصفوة تماما كما تفعل مؤسسات العمل فى حجب العلاقة بين طرفى العملية الاجتماعية، وكانت النتيجة المنطقية لهذا الأمر أن تلك الطبقة والتى لا يمكن أن ننسبها إلى الليبرالية ليس لها خطاب فلسفى ومعرفى واخلاقى وتنويرى وعلمى وتركت هذه المهمة لرجال الدين المنتشرين بطول البلاد وهو أمر طبيعى فى رؤيتها الغير علميه للمجتمع. لهذا نجد انكباب الجماهير الجائعة معرفيا لسماع ما يعتقدون بامتلاكهم حقائق المعرفة من المشايخ غير مدركين أن المعرفة نسبية عبر الزمان وان مواجهة الآخر لا بد وان تكون على نفس الأرضية الحضارية. أنه نفس درس يونيو 67 ثانية ودرس التاريخ عامة الذى لم يـسـتوعب لغياب أدوات الممارسة الديموقراطية آنذاك والتى تعيد إنتاج نفسها مرارا وان قوانين الثراء المدنى الفاسد والخافية علينا عندهم لا توجد لها معارضة ومن ثم كان على العقل الجمعى لباقى أفراد المجتمع أن يستلهموا قوى معارضه أخرى أصولية وخفية لا يمكن معارضتها يشدون بها أزر أنفسهم، لأن الحديد لا يفله إلا الحديد، لذا فالقول بأن الفساد كمقدمة هو مصدر الإرهاب كنتيجة صحيح ويبقى القاسم المشترك بينهما فى كونهما أعداء تقليديين لأى مجتمع. ونفضت تلك الطبقة يدها من المسؤلية الاجتماعية والتنمية البشرية الكيفية وبدأت بالتباهى الكمى بأموالها وأبنائها عملا بالآية ‘ المال والبنون زينة الحياة الدنيا’ غير قادرين على فهم دور الرأسمال والبشر فى تطوير الحياة المدنية.
لا يبقى سوى ذكر الملاحظة التى أبداها الفرنسيون لأحد مثقفينا فى أن معدل الثراء فى مصر مؤخرا قد فاق معدلات الثراء فى الغرب إبان عهود الاستعمار.