نقـد
تجربتى القصصية
خواطر حول مقالة رئيس التحرير عن
مجموعة “خريف الأزهار الحجرية”
ماهر شفيق فريد
موضوع هذه الخواطر مجموعتى القصصية” خريف الأزهار الحجرية ” التى صدرت فى سلسلة ” كتاب المواهب” عن المركز القومى للفنون والآداب بالقاهرة
فى سبتمبر 1984. وأود قبل تقديم رؤيتى الخاصة لها، وتعليقى على القراءة الثاقبة التى تفضل الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوى بتقديمها فى عدد يناير 1985 من مجلة
“الانسان والتطور”، أن أقدم شكرى لكل من كتب عن هذه المجموعة أو نوه بها(1)
“خريف الأزهار الحجرية” مجموعتى القصصية الأولى، والأرجح أنها ستكون الأخيرة… فقد مضت على كتابة آخر قصة منها – وهى قصة “اللابيرنت المظلم”- خمسة عشر سنة لم أكتب خلالها عملا أبداعيا واحدأ لآنى – ببساطة – من المؤمنين بقول الشاعر الألمانى رلكه لشاعر شاب: لاتكتب الا اذا شعرت انك ستموت ان لم تفعل. وأنا لم أعد أشعر بهذه الرغبة العارمة اللاعجة المرمضة فى الكتابة منذ انطوت صفحة شبابى الباكر، وأوغلت فى مرحلة منتصف العمر، وهى مرحلة غلب عليها ممارسة النشاط النقدى والاتجاه الى الترجمة.
القصة الأولى فى المجموعة – وكل قصص المجموعة مرتبة تاريخيا حسب تاريخ الكتابة – هى أقدمها زمنيا كتبت حوالى عام1965 ونشرت فى مجلة68(عدد يوليو 1968) وعنوانها ” مباراة شطرنج”.
القصة الثانية ” الوحدة” كتبت فى 2/8/1968 ونشرت فى مجلة ” الآداب” اليروتية ( عدد نوفمبر1968).
القصة الثالثة” الموت فى الروح” كتبت فى 8-9 فبراير1969 ونشرت فى مجلة “الزهور”، الملحق الأدبى لمجلة” الهلال” (عدد ديسمبر1973 ).
القصة الرابعة ” ساحرة الأفاعى” كتبت فى 15-16 مارس 1969 ونشرت فى مجلة ” المجلة” ( عدد أغسطس 1969 ).
القصة الخامسة “متوازى المستطيلات ” كتبت فى يونيو1969 ونشرت فى مجلة “نادى القصة ” ( عدد يونيو 1970).
القصة السادسة ” الراقص والشجرة” كتبت فى 1970 ونشرت فى مجلة “التحرير” ” الثقافية الأسبوعية” ( عدد 21 يونية 1974).
القصة السابعة والأخيرة ” اللابيرنت المظلم” كتبت حوالى عام 1970، ونشرت فى مجلة” التحرير” (عدد أبريل1974)، وأذيعت من البرنامج الثانى باذاعة القاهرة، وهى آخر قصة كتبتها – والبقية صمت كما يقول هملت.
وعرضا أذكر أنى قد ذيلت قصص المجموعة بهذه التواريخ – لا اعتذار عن فجاجة وانما على سبيل التوثيق – ولكن محررى السلسة حذفوا هذه البيانات الببليوجرافية، لا أدرى لماذا.
كل الأبطال فى هذه المجموعة بكل واحد. وكل النساء أمرأة واحدة. وكل العلاقات علاقة واحدة. والخيط الأساسى فيها هو الجدل أو التوتر بين التحقق والاحباط، بين مجموعة من التعارضات الثنائية: بين القدرة والعجز، بين التحقق والاحباط، بين الاقبال على الحياة ممثلة فى المرأة والادبار عنها ممثلا فى المرأة أيضا. ولاعجب، فالمرأة – كما كتب العقاد فى مقالة له باكرة – أنفس مجالى هذه الدنيا المعروضة، من تعلق منها بسبب فقد تعلق من الدنيا بأسباب، ومن اجتواها فقد اجتوى الحياة.أو كما يقول شيخ المعرة العظيم:
واذا الفتى كره الغوانى واتقى
مرضا يعود ولم يرقه المطعم
فقد انطوت عنه الحياة وكاذب
من قال عنه يبيت وهو منعم
أضعف قصص المجموعة – فى ظنى – قصة ” الموت فى الروح” لأنها تشتمل – كما نبهنى الصديقان ادوار الخراط وشفيق مقار حين قرأتها عليهما منذ سنوات – على زيف أساسى فى المفهوم أو التصور: فليس هذا المجتمع اللاهى الذى يجد البطل ذاته غريبا فى قلبه هو المجتمع الحقيقى، ولكن هذا الزيف أشد تغلغلا فى ثنايا القصة وحناياها من أن يمكن علاجه باضافة فقرة هنا أو حذف فقرة هناك، ومن ناحية أخرى، فقد لاحت لى القصة مشتملة على عدد من العناصر الجيدة تجعلها جديرة بالقراءة. أما خير قصص المجموعة – فى رأيى – فهى القصة الأخيرة ” اللابيرنت المظلم” اذ تمثل قوى الكاتب وقد نضجت واستمدت واستوت على سوقها، ولئن بقى من هذه المجموعة شئ على الزمن (وهو أمر مشكوك فيه) فأنا احب أن أرشح هذه القصة للبقاء، أو على الأقل أحب أن أمثل بها فى يوم الدينونة الأخير أمام محكمة الأدب.
من الواضح أيضا أن المجموعة مثقلة بالاشارات الى عدد كبير من الأعمال الأدبية واللوحات والأعمال الموسيقية والأفلام، حتى لتكاد أن تكون فسيفساء أو موزايكو من المقتطفات موضوعة جنبا الى جنب، ولكنها أيضا ـ – فيما آمل – حوار فى حوار، وتفاعل متبادل.
ولأقدم أمثلة من هذا المنهج الذى اصطنعته عن وعى قبل أن يبادر أحد الى اتهامى بالسرقة. ان عنوان المجموعة ذاته ” خريف الأزهار الحجرية” مأخوذ من قصة لعبد العزيز علون منشورة فى مجلة “أدب” البيروتية فى ربيع 1963. وعنوان قصة”مباراة شطرنج ” مأخوذ من الحركة الثانية من قصيدة اليوت” الأرض الخراب”. وعنوان قصة ” الوحدة ” – أو ” العزلة” كما يقترح الدكتور نعيم عطيه مصيبا ان تسمى – مأخوذ من لوحة للفنان الايطالى جيودى كيريكو. وعنوان قصة” الموت فى الروح” مأخوذ من عنوان الترجمة الانجليزية لاحدى حلقات ثلاثية سارتر الروائية” دروب الحرية”. وعنوان قصة ” ساحرة الأفاعى” مأخوذ من لوحة للفنان الفرنسى هنرى روسو. وعنوان قصة ” متوازى المستطيلات” مأخوذ من عنوان قصة لخليل الخورى فى مجلة ” أدب” البيروتية (عدد خريف1962). وعنوان قصة ” الرقص والشجرة” مستمد من الشاعر الايرلندى وليم بتلر بيتسن. وعنوان قصة ” اللابيرنت المظلم ” ماخوذ من رواية للروائى الايرلندى لورنس دربل.
وليس الأمر مقصورا على العناوين، فان نسيج القصص ذاته لا يكاد يخلو فى أى صفحة من عدد متداخل من الاشارات. وسأسوق مثالا واحدا: فى قصة” مباراة شطرنج” أقول: ” ألقى الغروب عليهما ظلالا، ودنوت من أعشاب الحلفاء العالية فرأيت من خلالها النيل أخضر اللون الى حد لا يصدق. وأقعيت أنظر فى رهبة الى هذا الأفق المائى الفسيح الذى انفتح أمامى فجأة وبلا نهاية. ومرتاد النظر كوبرى على النيل يمر من فوقه قطار مندفع وهو يصفر ويطلق الدخان فى السماء وخلفية المشهد صفوف متراصة من النخيل طوح فى العلالى”. أن هذه الفقرة مركبه من ثلاثة عناصر: أولا، حلم رأيته منذ سنوات طويلة، وما زال واضحا فى ذهنى.
ثانيا، صورة لأحد الكبارى على النيل فى الوجه البحرى، وأظنه كوبرى كفر الزيات أو كوبرى بنها وكنت أخافه فى طفولتى خوفا شديدا اذ يقترن بالقطارات واندفاعها وصفيرها ودخانها، فضلا عن رهبة الماء الذى تتخايل خضرته أو صفرته او رماديته عبر فتحات مربعاته، وانا – اذ لا أحسن السباحة – أعانى حتى اليوم من رهاب الماء، ورهاب الأماكن المرتفعة معا.
وثالثا فان عبارة ” صفوف متراصة من النخيل تلوح فى العلالى” ماخوذة من سوناتة بالعامية المصرية للدكتور لويس عوض فى ديوانه ” بلوتولاند“.
وسأورد هنا قصيدته كاملة حتى يشاركنى القارئ تذوق جمالها:
نبنى على البرانس قاعدة تغزل بينى وبينها عسكر الألمان.
وماما عند شط النيل بتغسل بينى وبينها فيلق الطليان.
وأنا هنا شتيت أناجى الكلام وطول الوقت غمغم فى خيالى.
خرير النيل ولغوة الأنغام وأشوف النخل طوح فى العلالى.
الشوق جمح بى بعد نص الليل.
ما عرفت أكلم ماما ولا نينى.
لمحت نجم النحس هز الديل.
سحبت سيف اليأس من جنونى.
جانى ملاك أزرق وباس جبينى.
ياللسعادة ! انطبقت جفونى.
اقتباسات المجموعة اذن واعية، وجزء أساسى من نسيجها لا حلية مضافة، لايمانى بأن التراث الأدبى كل لا يتجزأ، وقوة فاعلة فى الوعى. ولست أشك أن هناك مؤثرات كثيرة دخلت فى تكوين مجموعتى وقد ند عنى ادركها، وربما نبهنى اليها النقاد، أو ربما فطنت اليها – يوما ما – فى ومضة هوس مفاجئ فقد علمتنى التجربة أن النقاد – وأنا محسوب فى زمرتهم – قوم لا يعول عليهم كثيرا فى مثل هذه الأمور الدقيقة، وما حك جلدك مثل ظفرك.
أقدم الآن ثلاث ملحوظات على القضايا التى طرحها الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوى فى مقالته:
1 – لا أخال أن النقد العنيف الذى وجهته لنفسى فى مقدمة المجموعة آية تواضع مفرط كما يبدو لأول وهلة: انه ليس مكتوبا بنبرة الضعف او الاستجداء، وانما هو تواضع ساخر تنتظيم سخريته الكاتب والنقاد والقراء جميعا. وهو أية ادلال بالقدرة، ومبادرة الى تجريد النقاد من اسلحتهم باستباق ما هم خليقون أن يقولوة. انه ليس مجرد آلية دفاعية ترمى الى حماية النفس من سهام الآخرين، وانما هو آية كبرياء دفين يأبى الا أن تكون للكاتب – وهو ناقد فى الوقت ذاته – الكلمة الأولى والأخيرة عن مجموعته.
2- الدكتور الرخاوى مصيب تماما فى ملاحظاته الناقدة عن جناية الموسوعية على المجموعة، واعاقة النقد الذاتى، وضرورة نسيان كل الحصاد الثقافى قبل ان يكتب المرء نصه الخاص. انى اتقبل نقداته هاهنا بكل اقتناع، كما اتقبل نصيحة خلف الأحمر لأبى نواس بكل الاحترام الذى تستحقه.
3 – ربما كان من اللازم ان اوضح ان بعض العبارات أو الفقرة التى أثنى عليها الدكتور الرخاوى أو عابها ليست من بنات افكارى وانما تدخل فى باب اقتباساتى الواعية: ففهرس محتويات كتاب الأدب اللاتينى فى قصة لا متوازى المستطيلات! مأخوذ من فهرس فعلى للكتاب بالانجليزية عن ” الأدب الرومانى” لمايكل جرانت فى سلسلة” بليكان” والسطر الذى أعجب به الرخاوى محقا: ” أحلم – فى صمت – بنقطة السكون تحت اوسع أشجار الظهيرة” انما هو اقتباس من قصيدة لاليوت، وددت لو كنت مستحقا لمدحه أو ذمه، ولكن لا فضل لى فى هذين الموضعين بالذات غير فضل الاختيار. وهنا ينبغى أن يكون السؤال: أهو اختيار موفق – له مايبرره فى السياق – أم هو قد جانبه التوفيق ؟
وعرضا فان ولع المؤلف بايراد قوائم الأسماء الطويلة منهج لقنه عن هوميروس الذى يقدم قوائم طويلة بأسماء الأبطال والسفن فى ” الالياذة و” الأوديسة” أثناء حصار طروادة، وعن التوراة التى تورد سلاسل الأسباط الطويلة: فلان ولد فلان، وهذا بدوره ولد علانا…، وعن شعر ولت وتمان الذى يطمح الى تقديم سورة بانورامية شاملة، قائمة على التعداد، للمشهد الأمريكى الفسيح.
كذلك فان هذا الولع قد يكون له ما يفسره فى حديث فرويد العظيم عن المرحلة الشرجية التى لا يتجاوزها بعض الأشخاص مهما تقدمت بهم السن. والدكتور الرخاوى أدرى منى بهذه الأمور، ولعله قد ترفق بى فلم يشر الى هذا الاحتمال، ولكنى اؤكد له أنى لن أستاء مطلقا من أى تفسيرات – أو حتى اهانات!- فرويدية تنصب على عملى. فان من الف قد استهدف كما يقول القدماء، وكل حرف يخطه بنان الكاتب شرك يقع فيه باختياره، وعليه تحمل عاقبته
وأخيرا فان بالمجموعة – وأنا أتحدث هنا بأقصى حياد نقدى أقدر عليه – عيوبا فنية خطيرة أشرت الى بعضها فى تصديرى لها. ولكن لها ايضا – فى ظنى – مزايا فنية اخطر شأنا. ولولا اقتناعى بأن المزايا تربو على العيوب وتزيد لما دفعت بها الى عجلة المطبعة ـ بعد تردد دام اكثر من عشر سنوات – أو شغلت وقت القارئ ووقتى. انها نبضة شباب، عصارة مرحلة من العمر تمتزج فيها النشوات الحادة بالقنوط العميق، وأنا الآن – وقد جاوزت الأربعين – انظر اليها بشئ من الدهشة كأن الذى كتبها شخص غيرى. ولكنى مازلت أستطيع أن أتعرف على ذاتى القديمة التى كتبتها. انها ايماءة وداع، انحناءة أخيرة – ربما قبل الأوان – أمام ربة الفن قبل أن تطفأ الأنوار، ويسدل على خشبة المسرح ستار الختام.
حاشية لا شأن لها بما سبق:
يلوح من العدل وقد نقدنى الدكتور يحيى الرخاوى مبدعا ( وان كنت أنا الذى سعيت الى نقده سعيا) أن أنقده من هذه الزاوية ذاتها. والحق انى قد انتهيت لتوى من قراءة أحد عشر سفرا من مجلداته – تفضل باهدائها الى – منها النحيل ومنها الجسيم ومنها ما هو بين بين. وقد خلفتنى هذه الجرعة الرخاوية المركزة فى حالة دوار، وكان انطباعى الأول قريبا من مواقفى السابقة منه ومن مجلته: خليط من الانجذاب والنفور، حيرة فى شأن هذه الصفحات التى يختلط فيها الجيد بالردئ بالمتوسط. لكنى ألخص انطباعاتى – التى لا ترقى، بوضعها الراهن الى مرتبة النقد – فيما يلى:
1- فيما يخص اعماله العلمية فى علم النفس فلست مؤهلا للحكم عليها، وقد وفاها من التقدير من هم أقدر منى على ذلك. لست فى علم النفس – وغيره – سوى هاو تعوزه خبرة المتخصص، ولكن عملا واحدا من أعماله هو ” دراسة فى علم السايكوباثولوجى” قد لاح لى انجاز خطير الشأن. لقد شعرت وأنا أطوى آخر صفحة من هذا السفر الجسيم بامحة من ذلك الرضاء العميق الذى شعرت به – منذ أعوام – حين طويت آخر صفحة من سفر آخر يماثله جسامة، ويفوقه عظمة: كتاب ” الوجود والعدم ” لسارتر، فى ترجمة الدكتور عبد الحمن بدوى، ونشر دار “الآداب” البيروتية. ليس هناك كبير مجال للمقارنة بين عملين مختلفين كل هذا الاختلاف – وسارتر أعظم الرجلين بما لايقاس – ولكن الربط بينهما فى ذهن قارئ واحد – وقد يكون هناك غيره – يومئ الى أصالة هذا الاسهام المصرى
2 – فيما يخص مجاميعه الشعرية” سر اللعبة” و” أغوار النفس” و” البيت الزجاجى والثعبان” فلست فى حيرة على الاطلاق:
أنها نظم ركيك. والرخاوى يغدو فى أسوأ أحواله حين يرتدى مسوح الشاعر، وهو مسوح لا يلائمه قط: فهو اما أن يبدو ضيقا عليه – كقميص الكتاف – تكاد أطرافه تتمزق، أو هو يلوح فضفاضا عليه، تتهدل أطرافه لدى الكتفين والصدر والأكمام. ومن عجب – رغم ذلك – أن تملك بعض قصائده قدرة غريبة على مطاردة خيال القارئ فى أكثر اللحظات بعدا عن التوقع: وهو يدق مسمارا فى الحائط، أو ينغمس فى تهويمات جنسية لن تعرف التحقق قط، أو يعبر شارعا مزدحما حتى لتكاد تدهمه عربة فى غمرة شروده مع الأبيات. من هذا القبيل قصيدته التى ما فتأت ايقاعاتها تطاردنى – فى الحاح مقلق – مذ قرأتها لأول مرة:
تكسب……… تخسر
هات العشرة ……… هاك البصرة
خطى العتبة……… تمضى اللعبة
دور آخــر
ومن الأول
…………………
…………………
لف الدورة……… أخفى العورة
دارى السرقة……… خدع الفرقة
ضرب فأوجع……… هز المضجع
خسر الموقـع
…………………
…………………
كسب اللعبة……… خسر الصحبة
طلب التــوبة
لمـا تقبـل
(من قصيدة” حسبة برما”، سر اللعبة).
لست أدرى ما اذا كان هذا شعرا جيدا أم أنه نظم ردئ. الأرجح أنه ثانى الاحتمالين، ولكن من مفارقات الحياة، أن يكون لردئ النظم من التأثير أحيانا مثل ما لجيد الشعر، وقد يربو عليه، وربما كان علماء الأعصاب أقدر على تفسير هذه الظاهرة من نقاد الأدب.
3 – فيما يخص روايته” المشى على الصراط” بجزئيها” الواقعة” و “مدرسة العراة” فانه لا يخالجنى شك فى عظمة هذا العمل وأصالته، وفى استحقاقه كل ماناله من تقدير. أنه( خاصة فى جزئه الأول) آية فنية يرفدها ضغط داخلى عميق، ووعى نقدى ثاقب. وهو يفلح – كما لم تفلح رواية نجيب محفوظ الباكرة” السراب ” – فى أن ينجو من مأزق ” تاريخ الحالة” لكى يقدم ابداعا فنيا قائما برأسه، وتصويرا لأزمة وجودية جارحة حتى النخاع لكن الرواية لا تخلو – رغم ذلك – من شروخ فنية ليس هنا مجال تفصيلها.
موعدى اذن مع قارئ هذه المجلة فى يوم من الأيام – قد لا يكون قبل عام أو عامين – أتحدث فيه عن رواية ” المشى على الصراط ” وأفصل القول فى هذا الذى أجملته هنا، أنها – تحدثنى نفسى – بيضة الديك اليتيمة، الانتصار الكبير الذى لن يتكرر قط مهما حاول مؤلفه. بل هى عله وجوده كاتبا، فهو – كما قلت من قبل – ليس فنانا، والأرجح (دون جزم) انه لن يكون. لقد خرجت فى غيبة منه، كتبت نفسها اذا جاز القول. ولو لم يكتب غيرها( وأتمنى، عرضا، لو أقلل من اسرافه فى الكتابة) لظل بها مكانه محفوظا فى تاريخ الرواية العربية. هذا كاتب غريب، وغرابته جزء من جاذبيته.
د. ماهر شفيق فريد
تعليق:
تتميز هذه المجلة بما يسمى” الحوار”، مما قد يبدو أحيانا أقرب الى ” الوصاية”،
ومع ذلك فلا سبيل الا تحمل نتاج كلا الاحتمالين وقد أثار مقال الأديب الناقد الذى يقطر صدقا شائكا ومرارة تغمره قبل أن تصل الينا: عدة قضايا وجدنا أنه من المناسب ان نشير اليها.
أولا: لنا نتساءل عن هذه الظاهرة التى كادت تتكرر فى (هذا) الجيل بالذات والتى يمكن وصفها: بالتراجع عن مغامرة مواصلة الابداع بعد الانضواء تحت لواء الدراسات الأكاديمية أو التسليم لوصاية الترجمة، أو حتى بدون هذا وذاك.
وأمام النقاد فرصة رائعة لرسم خط بيانى لبعض المجهضين من هذا الجيل تحت مختلف الأعذار، وكثير ما هم، أى نظام ثقافى واجتماعى يلوى ذراع الابداع هكذا حتى يشل؟ رغم ما يعد به منذ بدايات انطلاقه ؟
وخاصة أننا أحوج الى ابداع منتصف العمر الثرى الطويل النفس أكثر من حاجتنا الى قفزات الشباب الباهرة الواعدة السريعة الانطفاء.
ثانيا: ما أحوجنا الى ما يسمى النقد الذاتى، من بعض من ملك ناصية النقد والانشاء معا، ومع ذلك فما أحوجنا أيضا الى الوقوف من مثل هذه المحاولة موقف الحذر حتى الرفض أحيانا، فقد نقبل أن يعترف الكاتب من أين اقتبس عناوين قصصه، ولكنا أبدا لا نتصور أنه التى أوردها ” القى الغروب…. الى: العلالى ” الى أصولها الثلاثة تلك، حتى ليورد كل هذا النص الطويل لكاتب ناقد( مثله) ( لويس عوض) حتى يبرر اقتباسه لتعبير طوح فى العلالى (الكلمة الشائعة أصلا فى الأغنية الشهيرة ” يا نخلتين فى العلالى”….. لماذا؟ وكيف؟ فالوصاية التى حذرناه منها، فقبل التحذير بصدق، كانت الوصاية السابقة للابداع، وها نحن هنا نرى وصاية لاحقة من خلال النقد، فلماذا كل هذا القص واللصق، حتى بأثر رجعى؟ مع امتلاكه – رغم أنفه – اندفاعات الابداع التى عجزت فى معظم الأحيان عن الانتظام فى وحدة عضوية مولدة.
ثالثا: القول بان كل الأبطال فى هذه المجموعة بطل واحد وكل النساء امرأة واحدة قول خطير صادق، غير كاف فى آن، وقد يصدق اكثر فأكثر حين يصبح هذا الرجل وتلك المرأة أيضا هما – فى عمق بذاته – واحدا، لكن هذا الواحد ذاته هو الكثرة الكاثرة التى تتفكك الى وحدتها فى جدل الابداع مثارا بواقع فى مواجهة واقع الذات، ثم تعود تنتظم بحسب قدرة الأداة ولعب العلاقات والتكثيفات وايقاع الزمن، ومع اعتراف الناقد الكاتب هذا فنحن مدعوون لمراجعة احتمالية أن الكاتب – أى كاتب – لايكتب الا نفسه، حين لا يكون هو نفس نفسه، وبهذا تنمحى الحدود بين الذات والواقع بشكل قد تسقط معه قضايا سخيفة قديمة متعلقة بهذا الشأن.
رابعا: اضطررنا لنشر الحاشية، رغم أنه لا شأن لها بما سبق كما أكد الكاتب، خشية الظن بأنها حذفت لما ورد بها من قدح فى شعر رئيس التحرير، ولعل السيد الناقد قد لاحظ أن هذه المجلة منذ صدورها قد تجنبت عمدا نشر أى عمل ابداعى انشائى لرئيس التحرير، أو عن رئيس التحرير، تجنبا لمزيد من الشخصنة والاحتكار، ورغم أن كل ما أورده الناقد، مدحا أو قدحا له ردود قد تثير حوارا هاما، الا أننا نعتذر أيضا لنفس الأسباب، كما ننبه أننا نفضل أن تجد الدراسة التى وعد بها عن قصته الطويلة – اذا تمت ولو بعد حين – ان تجد هذه الدراسة طريقها الى غير هذه المجلة لنفس الأسباب…….
أما بالنسبة للنصيحة بالاقلال من الكتابة فله كل الشكر عليها، ولكن ثمة احتمال يفسر لى قهر الكتابة، لعله أقرب ما يكون الى ما اورده سيادته من مقتطف الشاعر الألمانى ركله فى مستهل مقاله. بمعنى:
” أما أن تكتب…. أو تموت “، وهو المعنى الذى أورده صلاح جاهين برقته المصرية ” يا عندليب ما تخافشى من غنوتك، كتم الغنا هوه اللى حايموتك”
لكن ما زالت النصحية غالية، قبل وبعد ذلك، مما يحفز الى وقفة لاعادة النظر، ثم: من يدرى ؟.
****
[1] – عدد الكاتب بعد ذلك أكثر من عشرين اسما لناقد وكاتب ومقدم برامج من أول نجيب محفوظ إلى توفيق حنا – نعتذر عن تقديمها جميعا فى “النص” حيث لم نستوعب دلالة نشرها هكذا تفصيلا فى المقمدمة. اللهم الا للتدليل على أهمية العمل.. فلعله كذلك.