عدد يناير 1985
حــوار
بين المتلقى .. والمبدع
د. سيد حفظى X عصمت داوستاشى
د. سيد حفظى: أحب هنا بعد انقضاء قرابة العامين على استمرار المحاولة، أن أقدم نوعا من الرأى أو النقد أو وجهة النظر الشخصية لهذا الجهد المتميز (رسوم غلاف المجلة) ولا أستطيع باديء ذى بدء، أن أدعى أننى أتقن نقد الرسوم أو الصور الفنية الأخري، ولكنى سأحاول أن أكـون جملا مفيدة مترابطة لأعبر عن نفسي.
عصمت: أولا: أشكرك لاتاحتك لى هذه الفرصة لاجراء حوار مشترك حول هذه الرسوم .. ولعلها المرة الأولى التى ينشر فيها حوار بين فنان يمارس الرسم، أحد الفنون الجميلة المهملة فى بلدنا .. ومتلقى استقبل هذه الرسوم بشكل إيجابى صحى “فعل نادر هذه الأيام” وكان له رأى فيها .. أعلنه .. وليس بالضرورة أن يكون ناقدا متخصصا.
ثانيا: أود أن أوضح لك أن عدد نقـاد الفنون الجميلة فى بلدنا أقل من أصابع اليد الواحدة .. وليس بينهم من تلقى أصول النقد الفنى بشكل أكاديمى وانما هو اجتهاد شخصى وبعض من درسوا أصول النقد الفنى لا يمارسونه عمليا، واكتفوا بوظائفهم الأكاديمية، فالنقد الفنى كالابداع تماما ينطلق بداية من الموهبة التى تصقلها الدراسة أو المعرفة ..ونقادنا التشكيليون على قلتهم يؤدون أخطر رسالة فى تقديم وتعريف الفنان وفنه فى بلد فيه الفنون الجميلة فى نهاية القائمة، ويمارس الفن التشكيلى فى غيبة تامة عن الشعب المصرى ..
الذى لا يعرف حتى كلمة تشكيلى . لذك أرحب بهذا الحوار .. واثقا من أن نقطة انطلاقك الأساسية إبداعية وليست نقدية .. أى إنك تريد أن تقول لى شيئا ما .،. يفـجر عندى مزيد من الطاقات الابداعية .. فماذا تقول؟
الرخاوى: يا دكتور سيد، إعذرنى لتدخلى فقد رأيت أن أقفز فوق وصفك للوحات واحدة وراء الأخرى لأنى وجدت أنه لابد من أن يراها القارئ ثانية، واكتفيت بهذا التصغير الصعب فى أول الحوار، وحسبت أن المهم هو ما ذكرته فى “ثانيا” حول تخوفاتك النافذة، فهاتها.
د. سيد: (نعم)، يملؤنى حزن من أن يلقى بنا فى غياهب السجن؟ سجن القيود والأفكار، سجن الكبرياء والفخار، وبينما أحاول صياغة كلماتي، أكاد أقول لنفسى فى كل خطوة أن المجلة هى مكان الحوار الحقيقى الشجاع، الرأى الجريء المقرى للأطراف جميعا. فما أراه هو انفصال هذه اللوحة على الغلاف عن روح الغلاف العامة . فلقد أصبحت لوحة منفصلة على الغلاف عليها اسم مبدعها وتاريخ ميلادها؟ إذ أن الغلاف بأكمله هو لوحة خاصة يجب أن تتكامل مكوناتها وتتداخل، ولا تنفصل.
عصمت: أختلف معك .. فانفصال الرسم عن روح الغلاف هو بالتالى إنفصال عن روح المجلة … وهذا هو ما لا أبتغيه أبدا، كان الهدف الأساسى لتغيير غلاف المجة هو نقل النبض العام لها … مختصرا على الغلاف وهذا النبض العام فى اعتقادى يتمثل فى النقاط التالية:
* أنها ليست مجلة محترفين وإنما تعتمد على مبدعين يمتازون بالطزاجة وسخونة اللحظة وحيوية الأبحاث وإثارتها للوعى وارتباطها بالمجتمع، بل بالظروف الراهنة، فجاءت رسوم الغلاف التى أرسمها خصيصا للمجلة معبرة عن شعورى الذاتى بالأوضاع الراهنة للإنسان المصري.
ونظرأ لأنها مجلة لا تنطلق من الاحتراف وإنما تعتمد على مبدعين يعكسون وجهات نظرهم الخاصة فان الأعمال المنشورة كلها موقعة ومؤرخة بما فى ذلك الرسوم سواء كانت بالغلاف أو بالداخل .. فكلها أعمال من يعطون لا من يأخذون.
* متى يصبح لوحة خاصة تتكامل مكوناتها وتتداخل ولا تنفصل؟ ذلك حين تتحول الانسان والتطور من مجلة طليعية رائدة منطلقة من مجهودات مجموعة أفراد قليلة متطوعة .. إلى مجلة إحترافية تروج فكر معين، فى هذه الحالة يخضع الغلاف فى كل عدد إلى ملاحظات هيئة التحرير، أو يخضع فى كل أعداده إلى أكلشيه واحد ثابت معتمد على قاريء معين يعرف مسبقا المحتوى الفكرى لمثل هذا النوع من المجلات.
* أما “الانسان والتطور” فهى مجلة لا تعرف ماذا سينشر فيها فى العدد القادم .. بل إننا المتطوعين فى تحريرها والقراء نضع أيدينا كل مرة على قلوبنا خوفا من أن تتوقف هذه المجلة التى يزداد دورها أهمية وخطورة .. ويزداد احتياج المثقف المصرى لها.
الرخاوى: بصراحة يا عصمت أنت تحرجنا بكل هذا الأمل وهذه الثقة، ورغم تتبعى الحوار بكل إمعان، إلا إنى لم أفهم جيدا حكاية انفصال لوحة الغلاف عن روح الغلاف، وقد تصورت أنها خطأ كتابة ليس إلا، وأن د. سيد كان يقصد روح العدد، فأنا إذا رفعت اللوحة لم يبق للغلاف روح أصلا، فهى الغلاف، فزدنا ايضاحا يا سيد، ربنا يخليك.
د. سيد: بدلا من أن تكون هذه الرسومات معبرة عن روح العدد العامة، أو عن أهم مقالة فى العدد، تحولت إلى جزء جانبى فى الغلاف خاص بنفسه، فخاف على هويته الضياع فى بحر الكلمات فأخذ يضع بطاقته على الرسم معلنا أن هذا متميزا ومختلف عن هذا.
عصمت: نعم يجب أن يكون فى إعتقادى الشخصى كل عمل بالمجلة كلمة أو رسم معبر عن هويته خائف عليها معلنا بطاقته على الدوام ومعلنا أن عمله متميز ومختلف ولو تحقق هذا كله بشكل جيد من مبدعين يمتلكون الأصالة حقا لحققت هذه المجلة لمصر فى ظل الظروف الثقافية الراهنة .. أكبر خدمة ممكنة وهى خلق أجيال جديدة حرة من الكتاب والشعراء والفنانين لا تنساق وراء الأجهزة الإعلامية والحكومية أو المؤسسات الثقافية الخاصة التجارية والاحترافية إن هوية المجلة فى جمع كل هذا التناقض بين الغلافين بعد مروره على هيئة تحرير لا يفوتها شيء ولا تضع للمجاملة فى النشر أى اعتبار.
الرخاوى: يا خبر!! ياخبر!! ما هذا كله يا عصمت؟ خلق أجيال جديدة حرة من الكتاب والشعراء والفنانين لا تنساق واحدة واحدة يا رجل وإلا سمعك الأديب الناقد علاء الديب الذى نسينا بعد العدد الأول، وخاف من مثل ذلك، إننا لو تصورنا يا عصمت أيا من ذلك لتعثرنا فى موقعنا حتى الشلل ولكن من فمك إلى باب السماء، وباب الابداع، وباب مغامرة التفكير الحر، وأحسب أن د . سيد يشركنا أملا ما فى إطلاق حرية ما، ولكنى أرى خوفه محددا حتى فى توقعاته المستقبلية التى لا أدرى من أين استقاها.
د. سيد: يغلب على الظن أن تكون الخطوة القادمة هى وضع عنوان للرسم وذلك فى محاولة لتوضيح أكثر .. وبهذا قد نقارب السقوط فى قيود الحواجز على الأفكار وتحديد خيال وفكر القاريء
عصمت: مستحيل أن نصل إلى وضع عنوان الرسم فالعنوان الأساسى الذى أعمل من خلاله هو “الانسان والتطور” وغالبا ما أرسم دون أن أعرف ماذا أرسم .. وأعمالى كلها بلا عناوين، وإنما أضع عنوانا شاملا لكل معرض من معارضى وإن تفسيراتك لرسومات الغلاف وشرحك لها أدهشتنى وأتبعتنى .. لقد قرأتها أنت فى حين مطلوب من المشاهد أن يشعر بها فقط … فلو أمكن قراءة اللوحات أو كتابتها بالكلمات لتوقف الفنانون عن رسمها .. فاللوحات تشاهد وتحس … ونقدها يأتى أولا من خلال وسائل إنجازها وليس من خلال ما تعبر عنه فاللوحات عبارة عن خطوط وألوان ومساحات مطلوب فى علاقتها معا خلق إحساس محدد أو غير محدد لدى المتلقى … كما فى الموسيقى. وقد ناضل عدد غير قليل من الفنانين المعروفين عالميا الآن منذ نهاية القرن الماضى من أل تحرير اللوحة الفنية من قيود التفسيرات الأدبية والانطلاق بها فى إتجاهين معا:
* يتم تنفيذها بالامكانيات التشكيلية الحقيقة دون خداع المشاهد مثلا بالنقل الحرفى من الطبيعة أو البعد الثالث.
* تعبير الأعمال عن نفسية الفنان تعبيرا مباشرا وواضحا بلغة التشكيل كالخط واللون والتصميم والحركة داخل اللوحة وبواسطة التكنيك والرموز والأشكال المجردة حتى لو كان الرسم مجرد وجه انسان .. فالفنان المعاصر لها يعمل أبدا فى إتجاه تحديد خيال وفكر الشاهد “وليس القاريء”
الرخاوى: اسمح لى يا سيد، إنى لو تصورت أن أى لوحة، وهذه اللوحات بالذات تحتها عنوان ما، لما استطعت قراءتها، نعم اللوحات تقرأ لكن بلغتها، وليس بأى لغة بديلة، قد توحى بشيء مواز، ولكن لغتها تظل مستقلة قائمة بذاتها، قد تفجر لوحة ما طوفانا من الشعر، أو سيمفونية كاملة، تفجر، لكنها لا تفسر بـ …..، ولا تسجن فى …. أى لغة أخري، أصر على تعبير “توازي”قنوات المعرفة والابداع، حتى أنى استعملت هذا التعبير فى نقد تلك العلاقة السطحية بين الدين (وهو أقرب إلى الفن) والعلم (وهو أقرب إلى المنطق اللغوي) ، وتصورت أنهما طريقان متوازيان للمعرفة لا يصح ترجمة أحدهما بلغة الآخر، وإن كانا – معا – يخدمان التكامل البشرى بشكل ما، وأحسب أن هذا يصدق تماما فى رفض وصاية الرمز اللغوى على المساحة واللون والأعماق، ولكن قل لى بربك يا أبو السيد، ماذا جعلك تتنبأ بما لم يخطر على بال عصمت ولا بالي؟
د. سيد: فى رسمى عددى 17و 18 كتب أسفل الرسم “داوستاشى 12 – 1983) – بالأجنبية – وفى رسم عدد 19 كتب “داوستاشى 12 – 83) وفوقها: ‘6-84’ – بالأجنبية.
عصمت: اننى أكتب فى معظم كتاباتى وأعمالى الأرقام بالحروف “الأجنبية، التى هى فى الأصل الأرقام العربية .. وقد أخذنا نحن الأرقام اللاتينية وأخذ الغربيون حروفنا، ولهذا كله قصة لا أتذكرها تماما الآن .. ولكن بعض البلاد العربية مثل العراق ولبنان وفى شمال أفريقيا تونس والجزائر والمغرب يكتبون بالأرقام “الأجنبية”التى هى فى الأصل الأرقام العربية
الرخاوى: لا أجد مبررا يا عصمت لدفاعك هذا عن إشارة محددة لتاريخ بذاته بأى رمز كان، إذ أحسب أن د. سيد كان يشير إلى مصدر تخوفه من أن يتمادى التحديد إلى وضع عنوان، وهذا ما لم يرد أصلا، وهو غير مطروح حتما، وأحسب أن د. سيد يريد أن يحافظ على الجرعة القديرة من الأصالة التلقائية دون تحديد
د. سيد: من الانصاف القول بأن إصرار الفنان على أصالته ومصريته ووضوح عناصر مصر القديمة الفرعونية، لهو شيء له أن يفخر به، فهو متأصل فى رسومه وليس مكررا قط، فتواتره فى الأشكال المختلفة ليس بنفس الصورة وإنما متغير كما أن هذا لهو من أجمل ما على المجلة أن تحتفظ به فهو بدء أصل الهوية، وهو يعيد إلينا إحساسا أو روحا قل ما نشعر بها فى حياتنا اليومية، وإن كان ليس هو نهاية المطاف الذى نعتمد عليه فى تبرير استكاناتنا واستسلامنا لما نحن، بدون أدنى محاولة للتغيير (أنظر الرسم الأخير)*.
عصمت: لك حق .. لقد أضفت إلى الرسم الأخير القيود فيما بعد. أى رسمته فى البداية بدون قيود وعندما علمت أن قانون الطواريء قد مد العمل به لسنه ونصف أخرى أضفت القيود إلى الرسم فى حالة إنفعالية ما كنت أستطيع تجنبها … وإنى حقا سعيد أن أعرف شعورك هذا تجاه رسومى .. فكل ما أتمناه أن نؤكد على شخصيتنا، وعلى مصريتنا وعلى أصالتنا ونحن نخطو للأمام وأن يكون هذا بارزا فى فنوننا كلها وعلى مستوى الشعب المصرى الذى كان يعيش يوما ما وسط فنون لا حصر لها .. وأنا عدو للفن الدعائى المباشر الذى تقع فيه بعض الأنظمة السياسية عن جهل وليس عن فطنة.
الرخاوى: أتصور أن هذا التجاوب مع الأحداث الجارية، ليس علامة تاريخية، ولا محلية، وإنما هو لغة معينة، ذات دلالات لابد أن تتجاوز تضميناتها الأولية، وأنا معكما فى مدح الأصالة المصرية والفخر بها، ولكنى أخشى بعد ثورة المواصلات والتواصل أن نتصور أنها هى هى مصريتنا القديمة أو التقليدية، إنى أتصور أن الانتماء الأحدث للأرض، هو إعلان نقطة الانطلاق وليس إتجاه ولا نهاية المسار، فوظيفة الفن هو أن يتجاوز اللغات السجن، ذلك أن اللغة اللفظية الرمزية تختلف من قطر إلى قطر، بل فى القطر الواحد، أما لغة اللون والمساحة، فقل لى بربك من يحدها عن تجاوز الحدود السياسية واللغوية والتعصبية الغبية؟ الفن تجاوز رغم بدايته المحلية، وهو تجاوز للنقل إبتداء ثم للمعتقد، ثم للغة الرمزية المحدودة، وأحسب أن د. سيد، يوافقنى على ذلك، ناهيك عن عصمت الواعى بكل ذلك حتما مسبقا.
د. سيد: إن كان الفن معبرا عن المعاناة، واضطراب الرؤية وليس مطلوبا منه أن يحدث تغييرا لكننى أعتقد أن الفن مطلوب منه أن يكون محفزا أو دافعا فى أى إتجاه. ولا يكفى أن يكون تعبيرآ عن الموجود فقط، فالطبيعة بها خير التعبيرات عن الحياة وموجوداتها وطبائعها، وبها لوحات جميلة وقائمة على السواء، لهذا ليس فن نقل الصور الطبيعية سوى مهارة فردية فى النقل المبدع من مهارات عديدة قد يمتلكها الفنان، فتجسيد الواقع قد يكون طريقا أو محاولة فنية، وهى مقدرة إبداعية بلا شك؟ ولكن كما أننا نبحث عن الكلمة المخترقة، فهيا بنا نبحث عن الرسم المخترق .. ولتعلن دعوة على الكافة.
عصمت: أؤيد دعوتك إلى الفن والابداع المخترق .. ولعل هذا بعض ما قلته فيما سبق .. ولكنها دعوة ذات حدين، وأنا أفضل أن ننطلق من مبدأ حرية الفنان .. وحرية الفنان تأتى من شعوره بالحرية والأمان فى مجتمعه أولا .. ولعلى قد أكثرت من السهام فى كثير من لوحاتي، فهل هذا ما تعنيه بالرسم “المخترق”. سأضرب لك مثالا غير واقعى لنفرض أن الدولة عملت على إطلاق يد الفنانين التشكيليين لتجميل مدينة كالقاهرة برسوماتهم وألوانهم وتماثيلهم ويسرت لهم كل الامكانيات المطلوبة ..
ولنفترض أن الفنانين المصريين لن يتشاجروا بعضهم مع بعض من أجل الاستيلاء على أكبر قدر من الخامات المتاحة والمكافآت المرتقبة والدعاية الاعلامية المرافقة .. ولنفترض أن أحدا منهم لن يكون أنانيا، ولن ينعزل عن التجربة أو بالأصح عن دعوة الحكومة له .. فماذا يا ترى سيكون شكل القاهرة بعد أن يمر عليها فنانوها التشكيليون برسوماتهم وألوانهم وتماثيلهم؟ الإجابة هو أن تتأمل أى عاصمة أوربية متحضرة .. تجد للفنانين التشكيلين وجود وحضور دائمان، ليس فقط فى المتاحف وإنما فى كل أبعاد الحياة اليومية، وقد تم ذلك بتشجيع الدولة للفنون الجميلة، ووعى الشعب بها .. هذا هو “الاختراق”كما فهمته وكما أتمناه ..
الرخاوى: لا أتصور يا عصمت أن د. سيد يقصد أن يشير إلى أسهمك حين طلب “الاختراق”ولكنى أتصور أنه ينشد بدعوته تلك إقتحام طبقات الوعى بجرعات الفن الكاشفة عن المستور، عن اللغة الأخري، عن الكامن المختبيء المتردد، وليس الكشف وحده هو الاختراق، وإنما الكشف المتبوع بالبعث فالتجديد، هنا يهتز القديم حتى يتداعى بفضل اختراق المبدع للتنويم المفروض على المتلقى نتيجة لرتابة ما يصله من نمطية مملة وتخويف منتظم، وأحسب أن دعوتك (أو أملك المتصور، لدور الفنانين التشكيلين هذه فى تزيين العاصمة هى نوع من الخيال المستحيل، طاف بك فى عنادك مع اليأس، فكم رأيتك فى فترات زمنية بذاتها تصارع كل شيء لتؤكد استمرارك رغم كل شيء، وأظن أن د. سيد قد لاحظ هذه الفترات والنقلات بشكل ما.
د.سيد : لو تابعنا الرسوم لغلب علينا الظن أن كل رسمين متتابعين قد رسما فى فترة زمنية واحدة، وفى جو نفسى واحد. ففى عددى 13و14: يغلب على الرسمين السمات الوطنية والمصرية، والأصالة والعراقة، والأمل والارادة، وفى عددى 15و16: هو نفس الانسان الذى يحاول التقدم رغم المعاناة الداخلية والضغوط، ولكنه ها هو يتراجع ويتأرجح ويكاد يفقد توازنه …وكأنه يفخر بهذا التأوه والأنين … وكأن هذا فقط هو المجد بعينه. وفى عددى 17و18: هو الانسان الذى تقلص فى حجم وجوده نتيجة الأسباب الخارجية القهرية الخارجة عن إرادته، ولكنه سرعان ما تدارك نسه بأنه مهما حدث له، فان المسيرة مستمرة … إنتبه أن هذا ليس هو نهاية المطاف.
عصمت: لك كل الحق: لقد كنت أرسم كل رسمين فى فترة زمنية واحدة لأننا يجب أن نجهز عددين فى وقت واحد بقدر الإمكان ولأننى أقيم بالأسكندرية، والمجلة تقيم بالقاهرة، فيجب أن أسبقها برسومى موفرا عليها مجهود البحث عني، رسوم الغلاف مجتمعة لا تربطها وحدة واحدة، وإنما كل رسم أو رسمين متتاليين معبرين عن فترة زمنية محددة .. والزمن التحديدى هنا عندما يترجم إلى عمل فنى أو ابداعى يتحول إلى زمن مطلق .. فأنا لا أستطيع أن أعدم هذه الرسوم بعد أن قامت بدورها على غلاف المجلة … بل ربما أستعين بها فيما بعد فى أعمال فنية أخري، وذلك بالاضافة إليها والحذف منها .. أى بإعادة تخليقها لتتمشى مع حالتى الابداعية لحظتها .. ورسومى عادة ما أتركها للمشاهد يتأملها كما يحلو له .. وحقيقة أتهرب منها بعد إنجازى لها، وكلى أمل فى إنتاج أعمال أخرى تتفوق على سابقتها، وهذا لا يحدث عادة .. فمثلا أنا أعيش الآن فى مجال الرسم حالة فقر إبداعى وأن هذه الحالة تحطم روحى .. ولكن الحوار معك هذا أنعشنى حقا ..
الرخاوى: الحمد لله ، مزيد من الحفز يا د. سيد.
د. سيد: بالرغم من تكرار بعض الخطوط، فان هذه الرسوم لا تسير على نمط واحد، أو بوتيرة واحدة، فهى متغيرة من إنطلاق واستبشار إلى تأرجح وانتظار وفقد التوازن، ومن الموت إلى الخلود.
عصمت: تجعلنى أتذكر ما أسميته “بالأسلبة”فهناك كثير من فنانينا الكبار والصغار لهم أسلوب واحد يعرفون به فاذا شاهدت لوحة أو رسما ما صرخت وقلت أنه للفنان فلان أن هذا هو أشد ما أخاف منه وقد وقعت فعلا فى الأسلبة، ولكن دون تخطيط مسبق أو بفعل متعمد كما يفعل غيرى لهذا قلت لك فيما سبق أننى أهرب من الرسم أو اللوحة بعد إنجازها . إن توفر الحيوية فى كل عمل على حدة دون الوقوع فى تكرار عناصره الأساسية هو نجاح للعمل وليس ضده.
الرخاوى: أرجو أن يكون الفرق واضحا بين الأسلبة وبين البصمات الشخصية للفنان، وقد تعرف عليك يا عصمت صديق فنان عائد من بلاد الله خلق الله بعد عشرين سنة، عرفك بتعدد أذرع لوحاتك الممتدة على صفحات مجلتنا، وكتب لنا يحييك ويسأل عنك، واسمه محمد اسماعيل، ولا أعرف كيف نلتقي، نعم بصمة الفنان لا تتغير، لكن حركة الأصابع التى تحمل نفس البصمة هى التى تتغير دائما وأبدا، وهذا ما لاحظه دكتور سيد فى نفس الوقت.
د. سيد: لكن ما استرعى انتباهى – أكثر – ليس فى رسم لوحتين فى نفس الفترة الزمنية، ولكنه فى كثرة الاشارة للقيود والضغوط والحواجز، وبتوضيح شديد، وبالنسبة للأمال التى هى بعيدة عن داخل هذا الانسان المرسوم، فانها تأخذ دائما صورة الأمل – الفكر – الخيال – البعد النظرى (أقصد التنظيري) .. لا الواقعي.
عصمت: أعدك بأنى لن أرسم القيود والضغوط والحواجز يوم أذهب لأنتخب رئيس جمهورية من مجموعة مرشحين يمثلون كل تيارات الفكر فى البلد، أو أنتخب عضو مجلس شعب فى إنتخابات بلا تزييف وخداع .. ويوم أن يكفينى مرتبى لأن أعيش به أنا وأولادى فى كرامة .. ولا أضطر أن أقيد نفسى بأعمال أخرى بقية اليوم على حساب فنى ورعايتى لأولادى من أجل أن نعيش فى أدنى مستوي، أنا انسان قبل أن أكون فنانا … وابداعى يمارسه الانسان داخلى وستبقى نقط الدم فى كل لوحاتى حتى يكف النزف عن الشعب المصرى … وهذا للأسف لن يحدث فى جيلي، وعسى أن يرى أولادنا حرية حقيقية وديمقراطية حقيقية … وأنا يا سيدى واقعى للغاية .. ولست تنظيريا مطلقا.
الرخاوى: لم أفهما جيدا يا عصمت ولم أر مبررا لهذا الدفاع عن القيود والنزيف، ولم أتصور أنه بمزيد من الديمقراطية والتأمين الأساسى سوف تنطلق – تلقائيا – بعيدا عن القيود بل أن تحديا أكبر قد ينشأ مع زوال قيود الخارج إذ نواجه قيودنا الداخلية حتما، وقد أصبحت غائرة فينا يا عصمت بشكل جعل الثوار سجناء حتى داخل ثورتهم، إنى تصورت أن د. سيد لا يرفض القيود، وإنما يرفض أن يكون تأكيدها والاعلان عنها – نظريا – هو الحل الفنى التنفيثي، بدلا من الالتزام بتغيير الواقع، أليس كذلك يا د. سيد؟
د. سيد: كأن هذا التطور ليس له مجال فى حياتنا اليومية الفعلية المعاشة إلا من خلال آمال وأحلام ليس فيها مخاطرة فعلية أو إستعداد حقيقى للتغيير ، وأن الواقع المعاش هو فقط تلك المعاناة والاستسلام لها، وأنه ليس فى هذا الواقع بادرة أمل لتغيير ما، إلا من خلال أحلام وطنية أو تنظيرية تفخر بنفسها أنها لم تقع فى حبال الأحلام الأخروية.
عصمت: الحقيقة عكس ما تقول وليس مجال تفصيل أبعادها هنا على كل حال .. والفعل الابداعى عندى إيجابى من أجل التغيير والاطاحة بالمحبطات والمعوقات .. ولعل أهم معارضى كان تحت عنوان “خروج المستنير دادا”فياترى من أجل أى شيء جعلت المستنير دادا يخرج فى مصر … ومن أواخر معارضى كان معرض تحت عنوان “الخطوة الأولى .. الناس والطبيعة”وهما عنصران أساسيان فى الحياة .. وآخر معارضى كان بعنوان “دروة”وهو دعوة لأن يعود كل إنسان إلى نفسه بعض الوقت ليعرف موضع قدمه … فكلنا منساقين الآن وراء طموحات حكومات دول بعيدة عنا تحكمنا بوسائل استعمارية حديثة كالتليفزيون والاعلانات والمناورات المشتركة .. إننى أكره الأحلام الوطنية والتنظيرية وأرى أن إيجابياتى كلها محصورة فى إبداعى .. وهو إبداع لا يدعو للاحباط أبدا وإنما لاثارة الوعى والتمرد.
الرخاوى: دفاع آخر لم أفهم مبرره، والواقع أنى لم أفهم اعتراض د. سيد أصلا .. فهمت تخوفه، وخشيت أن يكون ممن يزعمون أن الفن لابد أن يكون ملتزما بواقع ذاته أو عقيدة بذاتها، ولكن دفاعه عن الحرية الفنية فى البداية، ودعوته للاختراق جعلانى أتراجع عن هذا الظن، إن الفن الصادق عندى هو الفن المغير (بتشديد الياء)، المغير للوعى القائم لصالح الحركة فى إتجاه، وهذا موجود وراسخ فى أعمالك يا عصمت – حسب رأيى المتواضع – وأظن أن د. سيد يدعو إلى المزيد أكثر منه يتحفظ على وقفه ليس لها ما يبررها إلى أمانته ومخاوفه معا، فلنفرح بنقطة إلتقاء بسيطة وهى ضرورة التحريك، الاختراق، الحفز، التوجه دون أدنى إلتزام مسبق، أو إلزام محدد.
د. سيد: أرى أن الجديد إنما يكون فى البحث عن المحاولات الكامنة الذاتية والفردية والداخلية الناجحة والفاشلة، من أجل التغيير بهدف التغيير.
عصمت: اتفق معك .. ما زلنا نبحث عن مزيد من المحاولات الأكثر جدية فى مجال الابداع الفنى .. وما زالت معظم طموحاتى للتغير مكبوته فأحلامى فى خلق سينما جديدة فى مصر مثلا لن تتحقق مطلقا فى ظل الأوضاع الاقتصادية التى تسيطر على صناعة فن السينما الآن … إلى آخر هذه المعوقات … ومعك من أجل التغير .. للأفضل وأشكرك.
الرخاوى: لابد أن أعلن إعتذارى فى النهاية على تدخلى الملاحق، ولكنهما إستجابة لدعوة مباشرة منك يا عصمت، لأقوم بدور العامل المساعد فى تفاعلكما، ولعلى فعلت، ولو نسبيا، وإلى لقاء أكثر حدة وسخونة ومغامرة رؤية واقتراب.