عدد يناير 1985
المستطيل
عصمت داوستاشى
“لخطورة الموضوع .. اغفروا لى هذا الغموض”
من النشيد السادس ص7 – س4
أدار مفتاح جهاز رصد الرؤية التشريحية والكشف التحليلى للموجودات وتأمل بعض الوقت المستطيلات فى تحركاتها …. ثم شعر بالملل فأقفل الجهاز .
امسك بالقلم وكتب أربعة أسطر تحليلة عن المستطيل الثالث عشر الخارج من نطاق الحزام الفلكى….. ورغم أهمية الموضوع وتعلقه بمشكلته الخاصة جدا كما سنعرف فيما بعد ، الا أنه شعر أيضا بالملل ، فتوقف.
أخذ يتأمل الشارع من النافذة، الناس والسيارات والأشجار والكلاب الضالة، ثم رفع رأسه للسماء كعادته دائما….. عسى أن ينشق فجأة عن شئ ينتظره يأتى ويأخذه….
كانت السماء زرقاء باهتة …. فى الأفق رمادية متربة من أنفاس الناس ، وغبار الشوراع ، وعادم السيارات …. لم يكن بالسماء اى شئ آخر على الاطلاق ……. كم هذا محزن …… خلوها من الأمل …… وخلوها من الألوان .
كان عليه أذا أراد أن يصنع شيئا ….. أن يجهز فى خياله لوحة ألوان باهرة … غنية بالحيوية، ليرسم فى صفحة السماء عالمة المفقود …. الذى لا يدرى عنه شيئا…. ولكنه شعر بالملل، فأغمض عينيه، ثم شعر بالصداع …….
فقال: لقد أصابنى المرض …… ولكنه لم يكن يشعر بأى مرض … بالملل فقط وبالصداع لأنه بحلق فى قرص الشمس ليخلق ألوانا مفقودة ليضيفها الى السماء الباهتة …. ولكنه منذ ان قال قوله هذا عن اصابته بالمرض ….. تغير حاله ، وبدأنا نفقده حقا …. وكل انسان أدرى بما فى نفسه من الأخرين….. ولكنه كان قد ضاع ….
وبدأت نهايته ….. لم ينتظهر الليل حين زحف بملل الى فراشه وقرر أن يقرأ قليل…
لم يتمكن بطبيعة الحال وشعر بالنعاس يزحف عليه …. فنام …. فاشتعلت الأحلآم.
****
“عندما أنام ……. يستيقظ الآخر“
من النشيد التاسع ص4. س7
انفتحت طاقة النور …. واخذ يتسرب فيها ببطء شديد، كان فزعا…. يبحلق فى الضوء الباهر عسى أن يجد أى اشارة تنم عن أى شئ…. هذه الطاقة البيضاء تؤدى حتما الى حقيقة…..، من يكون؟………. والى أى عالم من العوالم ينتسب ؟ ولماذا هو هنا ؟ شكله ومعاناته مثل شكل ومعاناة الناس حوله ، ولكنه ينظر اليهم بفضول لأشياء غريبة عنه…. ويشعر بهم وهم يبحلقون فيه كشئ شاذ عنهم، بملابسه وشعر رأسه وذقنه وأظافر يديه وبريق عينيه الحائرة …، كلها أشياء منسقة منها الطويل والحاد وغير المتحضر، حتى فى تصنيفه للنا س الى اثنى عشر وحدة لايمكن لأى انسان أن يخرج من واحدة منها، وهى الاثنى عشر مستطيل التى تمثل الأبعاد الخارجية التى وصل اليها الجنس البشرى على مشارف القرن الحادى والعشرين….، لم يجد لنفسه تصصنيفا فيهم… انما هو مجرد مستطيل…، أى نعم مستطيل ولكنه مستطيل فارغ بلا محتوى….، وقد كاد يوما ما أن يحطم جهاز الرصد ويتهمه بالخداع والتلاعب عليه ….،
انه يريد دليلا ماديا واحدا يمكن به أن يعلن للجميع أنه ليس مثلهم…..، وليس منهم
…، وفى نفس القت يحافظ على ذاته وحريته وحرية حركته … مع شئ من التعقل واحترام من يتعامل معهم…..، والا اتهموه بالجنون وعزلوه … فتضيع بذلك فرصة انقاذه التى ينتظرها من لحظة لأخرى بجنون، نعم بجنون، صحيح أنه فقد القدرة على الحوار مع الآخرين…. ولكنه ـــ حقيقة ــ لم يعد قادرا على التحدث بلغة يشعر بثقلها على لسانه وغربتها على أذنه ، وأصبح ميالا للصمت والعزلة… والنوم، وعندما دخل الفلق من الصحوة الى سكينة الموت، بدا الضوء يتلاشى، والطاقة تغلق رويدا…. رويدا …. فتحرك، وقال: أحلامى صارت مثل يقظتى…..لا متعة فيها…ثم استيقظ .
****
“أجرى وأمسك نفسى … قبل أن يمسكنى الناس”
من النشيد الحادى عشر ص7. س4
قال: نظرا لصعوبة الوقت الراهن .. والتآكل الداخلى المستمر، واستمرار عدم وضوح الرؤية…. ومجهولية الهوية والماهية….. والتطلع المستمر الى السماء نهارا والى طاقة النوم مناما …..، وقراءة الكتب والعبث فى الفلك حتى حزام زوديال…
ومشاهدة المستطيلات يوميا، وكتابة التقارير أسبوعيا…. دون خطوة ايجابية لاستخلاص تحليلات نهائية …. قررت بناء على رغبتى ….. وعلى نهب الزمن لامكانياتى الجسمانية وطاقتى الفكرية… ونتيجة للوهن الذى انا فيه نازل… وغيرى فى الضلال طالع…. أن أسعى بجدية نحو الخلاص من هذا الحصار …. وأن أحطم القيود وأفك الأغلال لأنطلق بعيدا عن وظيفتى وهموم مصروف البيت … بعيدا عن قعدة التليفزيون وسطور الجرائد التافهة….، بعيدا عن صراخ العيال ومشاجرات الزوجة، وزحام الشوارع بالسيارات وتكاتف الناس فى المضايقات … بعيدا عن متع بلا متعة …. وفرجة بلا فرجة..، وفرح بلا فرح…، وحزن بلا دموع وهم بلا نهاية، وغلب ولا غلب، من يكتب التاريخ….، ولاداعى للحديث عن مستقبل مفقود مثل عالمى المفقود والناس تحكم الناس كأنها آلة منزلة، وينسى القوى منهم أنه ابن أم، وأخوأخ، وابن أب، وأن النفس امارة بالسوء وسكة الجراح واسعة….. وسكة الحقيقة ضائعة … والتكايا أقفلت … والرئيس فى كل مكان … حتى فى جيبك المثقوب .
ثم قال: لأبدأ منذ بدأ كل شئ وانتهى بنفسى خارجا من كل شئ وأنظر للناس بعين من ليس منهم….. وأنظر لنفسى بعين الناس حين ينظرون لشخص منهم ….، وأن أدون كل هذه الأمور فى حينها بواسطة أجهزتى وأستعين بالرياضية الحديثة والأجهزة المتينة وارهاصات الأشكال الهندسية….، وسأصل حتما كما وصل غيرى… وهى على كل حال دوائر…. تكتمل وتتلاحق….، وأنا مازلت فى نطاق من يلهث امام مرآة مائية يرى فيها نفسه فيرفضها، لأنه يعلم أن له انعكاسا آخرا، هو انعكاس الحقيقة…. ويرفض أيضا جهاز الرصد لرفضه عكس الحقيقة… ويبقى المستطيل الثالث عشر مغلفا بالصمت فلا يقول ولايقول له شئ…. وهذا هو أقصى ما تأتى به طاقة تشغيل الجهاز…… وما تستوعبه طاقة تفكيرى ولن أنتظر الى الأبد من لا يأتى … وسيفرغ صبرى ….. وأموت .
ثم قال: لأبدا من لا مستطيل.. ولتكن هذه محاولتى الأخيرة الهادئة وبعدها يفتر الحماس فأستسلم لأدور فى فلك الدائرين فيه نياما فى المحدود. وأدار الجهاز للمرة الأخيرة .
****
“طول لسانك …. من قصر آلسنة الآخرين”
من النشيد الواحد والثلاثين ص4. س7
تتمحور الحياة، والناس، حول الجنس…، بدونه لماتت البداية قبل مولدها ….، وفيه يشرق الميلاد، وسيكون فيه غروب وفناء الأشياء كانت الشهوة الجنسية شأنها شأن اى شئ … كمتعة الطعام …. وراحة النوم …. والمرض وكان الناس عرايا … لم يكن الخجل قد اخترع بعد … كذلك لم تكن هناك مستطيلات يمكن رصدها فى اجهزة …
لم يكن أى شئ قد اخترع بعد … كان الانسان منتشيا ممتدا هنا وهناك ، مستريحا فى الفزع…… سعيدا بالجهل الذى هو فيه… لم تخترع الأرقام بعد …. ولا أمتار…..
ولا الهندسة التى كانت كامنة فى الطبيعة التى تتحين الفرصة المناسبة للوثوب واستعمار البشر. كان الانسان شكلا جميلا فاضحا…. غير هندسى… من هناك كانت بداية…” ويقال أنهم أحضروه من خارج حزام زودياك لأداء رسالته التى انتهت منذ بعيد…، ولم يحضر أحد لأخذه …. فهل نسوه فى هذه العتمة” …،وقد أصبح للناس.. هندسة، ووزير ثقافة، ووزير اعلام،ووزير مالية، ورئيس يفرض نفسه دائما عليهم حتى الموت..، ويجد دائما من يصفق ويهلل له…، وقد ارتدوا ملابس وان بقيت وجوههم عارية تطل منها العيون لترى، والأفواه لتآكل وتصرخ، وألآذان لتسمع والأنوف لتشم …، نعم الناس بملابس حتى لا تظهر طبيعتهم الحقيقيةوتحت ملابسهم شهواتهم الطبيعية… بعد أن أصبحت متعة بلا هدف … يمكن أن تمارس فى النهار بالعيون والألسنة والأنوف والآذان وأصابع الأيدى العارية… لزوم الأخذ والعطاء والمسك والاطلاق والذبح بها، وخنق الأحلام، والأكل بها…. وكتابة الأشعار … وكل كتابات الناس شعر … والشعر ألحان جنسية بعيدة عن الحقيقة … والشعر تخلف … والنجار عايز مسمار … والمسمار عند الحداد … والحداد عايز بيضة .. والبيضة.س
” .. ولما كان المقال طويلا…، والغرض منه أصيل: هو التعريف بأن الناس مع الزمن أصبحوا محصورين داخل اثنى عشر مستطيل فقط لا غير، وأن لجهاز الرصد التحليلى القدرة على احلال الحقيقة محل الأمعاء والأحشاء والعظام…، فقد تم رصد كل الناس… ومعرفة حقيقتهم دون أن يعرفوها هم… ووضعت هذه الحقائق4 فى تقارير أضيف اليها تقرير فارغ بلا كلام بعنوان المستطيل الثالث عشر، وهو ما يعتقد صاحبنا أنه ينتمى اليه، وان جهاز الرصد عجز عن كشف حقيقته كما عجز على أن يجعله منتم الى الاثنى عشر الحقيقة الفلكية المعروفة. سنكتفى بهذا القدر من المقال لسوء صياغته وضعف مستواه …… ودوله فى العبث بلا مبرر ……”
****
” كل شئ مباح للناس …. أما أنا فمباح لى الجنون “
من النشيد الأخير ص7 .س4
قلت له: أنت واهم … كل ما تقوله وما تفعله غير حقيقى ….
وستؤلمك النهاية …..وخسارة أن نفقدك .. خاصة أولادك فهم فى أشد الحاجة اليك .
قال: هل تعتقد أن ما تقوله حقيقى؟
قلت: نعم …. بل الكل يقول قولى هذا … والكل يشفق عليك … ويريدك .
قال: وهل يخجل جهاز الرصد عن ابلاغى بما تقول … وهو جهاز لا يعرف الخجل أو الاشفاق … جهاز بلا ضمير كما تعلم .
قلت: ولكن الجهاز ليس صديقك … وما تعانى منه ليس معادلة رياضية يمكن رصدها … انما هى حالة نتيجة ظروف الحياة المرهقة .. وصدقنى … ان اجازة مهما طالت هى أنفع لك من كل هذه الهموم .
خرج ودخل الساعى بمظروف به آخر تحليل طلبه وقرأ فيه ما يلى:
الاسم: آدم محمد عيسى عبد النور فصليةالدم: 5 – 5
السن: 41 السن الداخلى: 7057 سنة
الحالة: انتظار من لا يأتى الوضع: معزول ذاتى
النتيجة: فقدان انتشار القدرة الجنسية وحصرها فى طاقة مستطيل صغير ذى أبعاد محدودة مما أوجد فراغا رهيبا فى باقى أجزاء الجهاز خاصة الدماغ وأوجد اضطرابا لايمكن أصلاحه فى الدورة الدموية والكلام وخلق رغبة مستمرة للبحلقة فى لمبة النور وممارسة الابداع الأدبى فى انتظار وصول زحف المجاعة الأفريقى اليه والى غيره .
رن جرس التليفون وكان المتحدث رئيسه الذى خرج: يا زفت هل تسمعنى ؟.
رد وقال: نعم … صرخ الرئيس: يا زفت عرفت السبب …
رد وقال: نعم
صرخ الرئيس: سلم العهدة اللى عندك فورا وأنا مجهز لك أجازة بدون مرتب لحد ما تفوق من اللى أنت فيه … فاهم…. رد وقال: لا لا .
وضع السماعة …. وجلس وكتب استقالته وجمع تقاريره الاثنى عشر … أما التقرير الفارغ المعنون بالمستطيل الثالث عشر فمزقة وهو يقول: بعد الأربعين يطول الانتظار ويهجم الملل وترتعش الأيدى وتكثر الأمراض التى هى ليست بأمراض…
والنوم الذى هو ليس بنوم.. والشهوة التى هى ألم ومهانة والطعام الذى هو واجب ..
والحب الذى ضاع …. ويكثر الجياع الى كل شئ خاصة المعرفة…. وندور كلنا حول الطوارئ…. ممسكين بالعصا لنؤدب تمرد الذى فينا…. فلا عشت مع الذين لايعيشون
…..ولا أتعذب مع من يتمتعون بالعذاب … ولأرحل عن من يتمسكون بالبقاء.
ثم فتح درج المكتب وأخرج كيس بلاستك أسود كان يحتفظ به وهو على يقين من أنه سيحتاجه فى يوم ما، احتياجا عظيما .
وضع فيه التقارير الاثنى عشر وكذلك جهاز الرصد التحليلى والتسجيلات والمنظار الفلكى ونفسه …. وربطه ووضعه بجوار الباب.
فى الصباح الباكر حضر الزبال وحمل الكيس الأسود فوق ظهره ونزل .
الاسكندرية فى نوفمبر 1984
ملحوظة: تم العثور فى وقت لاحق على عدد اثنى عشر تقريرا تحت عنوان المستطيلات ستنشر تباعا لمن يهمه الأمر .