عدد يناير 1983
المقتطف هو الموقف
عصمت داوستاشى
إعتدنا أن نقرأ معا بحروف مكتوبة تحت باب “مقتطف وموقف”، ألا أن هذا المقتطف لا يحتمل أن نتخذ منه موقفا لأنه هو ذاته موقف كاف لما “هو”، كاف للحفاظ على تماسك كل مبدع وحيد. وهذا هو غاية ما يمكن أن نتخذه أزاءه.
جابرييل جارثيا ماركيز
* نصحنى صاحب المكتبة الصغيرة المليئة بالمجلدات القديمة المعروف بالقشتالى.. والذى قرأت عنده كل الكتب التى نصحنى بها بثمن كتاب واحد.. نصحنى حين كانت لغتى سيئة.. مفرطة الزخرف.. غريبة عصية على الفهم. النصيحة الجوهرية التالية:
”حاول أن تكتب كما تتحدث. إذا فهمنا حديثك، فأجدر بك أن نفهم ما تكتب”.
جابرييل جارثيا ماركيز
ولد عام 1928 بمدينة الجبال والتلال “آراكاتاكا” الكولومبية بامريكا الجنوبية.. فاز هذا العالم بجائزة نوبل العالمية فرع الآداب وجاء فى تقرير لجنة الجائزة السويدية باستوكهولم “منحت الجائزة لرواياته التى يمتزج فيها الخيال بالواقع فى ظل تركيبج ثرية لعالم شعري”.
وقد إكتسب ماركيز عالميته بعد أن ترجمت رواياته إلى ست عشرة لغة.. إنتهى من كتابة روايته – مائة عام من العزلة – عام 1967 وكان قد بدأ فى كتابتها عام 1947 وقد حققت له هذ الرواية شهرة عالمية وبيع منها حوالى عشرة ملايين نسخة موزعة على 32 لغة.
من أهم أعماله – ليس لدى الكولونيل من يكاتبه – إنتشرت عام 1957- وخريف البطريرك – عام 1975 .
قال- لا أشعر أننى عجوز بالقدر الذى أستحق معه نوبل. فالوحيد الأصغر منى سنا الذى نال هذه الجائزة هو البير كامى.
- سيدى، أدعى جابرييل جارثيا ماركيز. آسف، أنا كذلك يعجبنى هذا الاسم، لأنه يرمز إلى سلسلة أمكنة عامة، لم أستطع أن أتحد بها يوما. ولدت فى آركاتاكا فى كولومبيا منذ أربعين عاما، ولم أندم بعد على ولادتى.
برجى الحوت، وزوجتى مرسيدس، وهما أبرز حدثين فى حياتى فبفضلهما – وإلى اليوم على الأقل – نجحت فى مقاومة الصعوبات التى إعترضت حياتى الأدبية.
أنا كاتب بداعى الخجل، موهبتى أن أكون ساحرا. لكنى أرتعش إذا حاولت أن أغش فى اللعبة. لذلك كان على أن ألجأ إلى عزلة الأدب.
- كان على أن أخضع لنظام شنيع حتى أنهى كتابة نصف صفحة فى ثمانى ساعات. كنت أصارع كل كلمة، وتنتصر على الكلمة. غير أنى عنيد إلى حد أستطعت معه نشر أربعة كتب خلال عشرين عاما.
- يتقدم عملى فى الكتاب الذى أؤلفه ببطء، على خلاف الأمر فى الكتب السابقة. ذلك أن ساعات راحتى قليلة، بالقياس إلى الأوقات التى يتنازعهاالدائنون. وينهشها الألم العصبى.
- لا أتحدث عن الأدب لأنى أجهل ماهيته. غير أنى مقتنع أن العالم دونه سيكون متشابها. كما أنى أؤمن أن الأمر سيختلف لو لم توجد الشرطة. وأنه كان أجدى للإنسانية لو كنت إرهابيا لا كاتبا”.
- هل عرفتنى؟ لا يعرف الناس هنا من أنا، لأنى لا أظهر فى الجرائد لحسن الحظ.
الحق أن الإستعراضات الدعائية تزعجنى. تبدو لى الفجور عينه. لم أحاضر أبدا، ولم أوقع على نسخ فى المكتبات. أرفض أن أعرض نفسى فى مكان عام وأن أظهر على شاشة التليفزيون. وأن أتحدث من الإذاعة. عمل الكاتب أن يكتب. لا أكثر من ذلك.
- أعتقد أن خير ما يفعله من يعنيه أن يعرف كيف أفكر، أن يقرأ كتبى. ثم أن آرائى الأدبية تتغير بإستمرار، وما يمكن أن أقوله لكما اليوم، قد يبدو غباء – على الأرجح – بعد وقت قصير.
- بعثت إلى الجريدة بطاقة العودة.. فإسترجعت ثمنها لتغطية نفقات الأكل والسكن فى باريس حيث عكفت على كتابى الثانى “ليس لدى الكولونيل من يراسله” وصرفت كل ما أدخرت- ولم أكن أستطيع عملا دون بطاقة عمل. ولم أكن أعرف من يمكنه أن يشغلنى، ولم أكن أعرف الفرنسية، فصرت أجمع الزجاجات الفارغة، وأبيعها، أو أقوم بتوضيب الصحف. كنت أدافع عن حياتى وقد ظللت ثلاث سنوات طوال، أعيش من المعجزة اليومية. بينما تنمو فى الأعماق المرارة الهائلة.
- كنا مجموعة من اللاتينيين الأميريكيين نحيا تلك الحياة المريرة. وقد إكتشفنا أن الجزار، إذا أشترينا منه قطعة لحم، منحنا عظما نصنع منه حساء. وكنا نتداول إستعارة العظم لصنع حسائنا.. كنت أقطن فى فندق “فلاندر” فى شارع كوجاسى وكان المشرفان عليه: السيدة والسيد لا كروا. قلت لهما حين خوت جيوبي: لن أستطيع دفع الأجرة بعد اليوم. فسمحا لى بالنوم فى غرفة على السطح. ظننت أن وضعى لن يستمر أكثر من شهر أو شهرين. ولكنه أستمر سنة، ولم أكسب ما أسد به ديونى. كان على أن أدفع لهما مائة وعشرين ألف فرنك سنويا. وكان مبلغا ضخما بالنسبة لى. وأول ما فعلت. حين عدت إلى باريس بعد زمن، أنى سألت آل لاكروا فى فندق فلاندر. لم يكن أحد يعلم مكانهما – وصل “ماريو فارغاس ليوسا” فى فندق “فيتير” فى باريس، بعد وصولى بأسبوع. ذهبت لزيارته وما دخلت الفندق، حتى وجدت أن المشرفين عليه هما السيدة والسيد لاكروا. والطريف أن وضع ماريو كان يشبه وضعى عام .1960 وقد سمحا له أن ينام فى غرفة على السطح، وأن ظل طويلا غير قادر على الدفع…
- أعترف أنى بفضل تفهمهما ظروفنا أستطعت كتابة “ليس لدى الكولونيل من يراسله” وإستطاع ماريو أن يكتب “المدينة والكلاب”.
- ما يريده أحدنا أن يكون كاتبا، لذلك ينكد عيشه أن يقوم بعمل ثانوى، أرفض ما كان يقال سابقا من أن على الكاتب أن يعانى الضيق المادى والبؤس، حتى يغدو كاتبا ناضجا. وأعتقد أن الأديب أقدر على الكتابة والإبداع إذا كانت مشاكله البيئية والإقتصادية محلولة. وأولاده وزوجته بصحة وعافية، ووازن متطلبات العيش دخله المتواضع: لا، ليس صحيحا أن سوء وضعه الإقتصادى مساعد على الإبداع: لأنه لا يريد أن يقوم بعمل غير الكتابة وأفضل ما يساعده على الكتابة أن تكون مشاكله محلولة.
- أذكر أمرا آخر، كان ممكنا أن أحل مشاكلى لو قبلت المنح والمساعدات المادية، أو إحدى تلك الصيغ التى أخترعت لمساعدة الأديب. رفضت كل ذلك رفضا قاطعا، وأعرف أن كل الكتاب الأمريكين – اللاتينيين يؤيدون موقفى. فنحن نؤمن أن كرامة الأديب تمنعه أن يقبل الإعانات ليكتب، فكل إعانة مادية، مهما كانت وسيلتها، تسئ إلى سمعته.
- أكتب فى غرفة هادئة مدفأة جيدا، فالأصوات والبرد هى الأمر الوحيد الذى يزعجنى. أدخن أربعين سيجارة سوداء خلال ساعات العمل. وأقضى بقية النهار محاولا شفاء نفسى من التسمم. يعتقد الأطباء أننى أنتحر، وأؤمن أن كل عمل يشغفنا، إنتحار بطريقة ما.
- كان الأندلسيون الذين رحلوا إلى أمريكا، بعد الغزاة الأولى شبقيين، يعنيهم فحسب أن يعيشوا على هواهم، ويضاجعوا كل هندية تكون فى متناولهم.. كانوا متميزين بوضوح عن الغزاة الرواد الأوائل، الأبطال الأشداء. لم يكن الأندلسيون متعطشين إلى الذهب. كانوا يسعون إلى العيش بجنون، وكان تأثيرهم علينا نحن الأسبانيين – الأمريكيين، عظيما دون ريب.
- ليس قول الناس أننا نتهرب من الواقع معقولا. فمن يطالع إنتاجنا فى روية، يعرف أننا مسيسون ومتورطون، أكثر من أسلافنا أعتقد أنهم ينطلقون من واقع فاسد، وأنهم يفضحون بواقعيتهم ما يدور حولهم. ولكنهم كانوا يعكسون وجها واحدا من وجوه المشكلة أو الجزء الأكبر منها فحسب. وهو ما ندعى التعبير عنه بروايتنا المتكاملة التى ترسم المشاكل الإجتماعية والسياسية.. الخ. أما طلاب الجامعة فأؤكد لك أن الأمر يعنيهم كثيرا، وأنهم يعرفون مدى تسيس خوليو كورتازار، وماريو فارغاس. وأنا رغم أننا نكتب ونحن بعيدون عن أرض الوطن. ونؤلف روايات يخيل لبعضهم أنها “هروبية” أو هامشية الإلتزام.
- حين أجلس للكتابة، يشغلنى أمر واحد، هو أن أدون قصة جيدة تثير الإعجاب. لى أيديولوجيتى، فإذا كانت عقائده ونظرياته راسخة، وإذا كان صادقا لحظة الكتابة حتى لو روى قصة البقعة الحمراء، أو قصة محاربين – لتفرض الضدين – أكرر: إذا كان للكاتب موقف أيديولوجى حازم، ظهر موقفه واضحا فى قصته، وطعم به قصته، ومن هنا تكتسب القصة قوة التغيير التى أتحدث عنها، ليس هذا التأثير الفاعل هدف الكتابة. ولكن الكاتب غير قادر على تجنبه بأية حال.
- لنبدأ من النهاية حتى لا يكون ثمة التباس. أعتقد أن العالم سيصبح إشتراكيا. إن عاجلا وإن آجلا، بل أتمنى أن يصبح إشتراكيا، وخير له أن يحدث ذلك فى أقرب وقت. على أنى أؤمن كذلك أن إنتشار الأدب الرخيص. من شأنه أن يعوق هذه المسيرة أما تحفظاتى على ما يعرف بالرواية الإجتماعية – وهى أسمى أنواع الرواية الملتزمة. فمردها طابعها التجزيئى الذى يفرض على القارئ رؤية جزئية للعالم والحياة. لقد أدرك القارئ اللاتينى – الأميركى، مدى خطأ هذا الطابع، من فشل الرواية الإجتماعية. وإن لم يستطع التعبير بوضوح عن ذلك. والكتاب الذين ينشرون روايات توهم القارئ “أنها واقعية” وإن أرادوا، عن حسن نية – التعبير عن المأساة الإجتماعية السياسية الرهيبة التى تحياها معظم شعوب العالم الثالث – هؤلاء غدوا كتاب أقلية ضئيلة من القراء فى العالم.. فقراؤنا فى غير حاجة إلى أن نظل نروى لهم مأساة الإضطهاد والظلم، فهم يعرفون تفاصيلها غيبا. ما ينتظرونه من الرواية، أن تكشف لهم جديدا!.
- تذكر أن معظم حقائق العالم – بدءا بالملاعق وإنتهاء بعمليات زرع القلوب – كانت فى مخيلة البشر، قبل أن تصبح واقعا. وأعتقد أن سبر أغوار الواقع. دون أحكام مسبقة عقلية يبسط أمام روايتنا بانوراما رائعة. ومهما أعتقد بعضهم أن منهجا هروبى، فإن الواقع سيثبت – أن عاجلا أو آجلا – أن المخيلة على حق.
السيد خيليرمو. جريدة إسبكتادور. بوغوتا.
عزيزى خيليرمو.
كنت أعتقد أن رفض المرء الوظيفة الحكومية أمر شخصى. بذلك أجبت على أسئلة وكالات الأنباء العالمية، حين إستغربت رفضى الشرف العظيم فى قبول منصب قنصل كولومبيا فى برشلونة. أرجح أن الصحافيين سخروا منى.. كانت وكالات الأنباء قد أطلعت على حقيقة الأمر، وتحول عرض المنصب ورفضى أياه إلى خبر شائع
لم أكن لأنشر النبأ قبل أن أستشير من أثاروا الضجة حول التعيين. وكان من حقى أن آمل ألا ينشروه قبل أن يرجعوا إلى، لذلك بدا لى التصرف النقيض غير لائق. أسمح لنفسى أن أرى من الطريقة والسرعة اللتين نشر بهما الخبر، أنه يعنى الحكومة الكولومبية أكثر مما تعنيها خدماتى، كما أن صدفة نشر الخبر، يوم نشر خبر تعيين مثقفين وفنانين آخرين فى مناصب دبلوماسية، تسمح لى بالظن – لست أحسن ذلك بالتأكيد – أن الهدف توريطى فى عملية دعائية، ليس أقل غباء من عرض منصب القنصل على.
رغم ذلك وعلى جرى عادتى بألا أدلى بأى تصريح يسئ إلى كولومبيا خارج الوطن، أقتصر ردى على وكالات الأنباء، بأنى رفضت منصب القنصلية، لأنه يتعارض مع عملى ككاتب.
ثمة أسباب كثيرة تجعلنى اليوم أندم على تصرفى الحكيم، فقد نشرت الصحافة الأسبانية من هنا حتى بوينوس أيرس – الخبر فى ضجيج لا يمكن فهمه هذا إذا لم يكن الهدف التضليل.
لم يألنى الأصدقاء فى رسائلهم: علام أستندت الحكومة الكولومبية، حتى أملت فى إستخدامى. بفكر آخرون – وذاك منطقى – أنى سأقبل المنصب بعد أن أنهى روايتى الجديدة.
حملتنى هذه الشكوك، على توضيح الحقيقة – الآن وإلى الأبد – بما يتفق مع ضميرى. وأود أن يتضح الأمر فى الوطن. لذلك أبعث برسالتى إلى صديق كولومبى قديم عزيز، حتى تنشر فى كولومبيا وفيها وحدها.
أعلنت مرات – ونشر ذلك – أنى أرفض المناصب العامة والإعانات المالية، من أى نوع كانت. ولم أستلم سنتيما واحدا لم أربحه، وأنا أطبع على الآلة الكاتبة. وأعتقد أن كل معونة مادية، لا تتصل بمهنة الكتابة تعرض إستقلالية الكاتب للخطر، وإستقلالية الأديب – فى رأيى – أساسية لدرجة تعدل معها القدرة على الكتابة.
أكثر من هذا، إذا كنت لم أحضر إستلام الجوائز التى منحتها فى عدة بلدان، ولم أشارك فى أى نشاط لترويج كتبى، فليس ذلك بدافع الرصانة، ولكن لأنى أعتقد أن هذه إجراءات دعائية تروج بيع الكتب. والعمل الشريف الوحيد الذى يجب أن يقوم به الكاتب حتى تذيع كتبه، هو أن يكتبها جيدا.
كذلك كنت أفكر يوم كنت كاتب مغمور، ويوم لم يكن أحد يعرض على منصب قنصل. والآن أصبحت أعيش بفضل قرائى، فلا يحق لى، ولا دافع لى، لأن أغير رأيى، وحتى لو لم تكن هذه الموانع الخلقية حقيقية، لما قبلت منصب قنصلية برشلونة، فى كل الأحوال(1)
وهذه هى “النقطة” التى أردت بلوغها، لأشرح دواعى الرفض – والكولومبيون وحدهم جديرون بفعل ذلك – لا أستطيع أن أكون فى خدمة حكومة بلدى، لأنى لا أؤمن بمبادئها المتشامخة الجوفاء ولا بفحولتها الإنتقامية، التى تأمر الطلاب أن يرفعوا أيديهم ثم تقتلهم، ولا بإنفجار غضبها الذى يعلو صداه فى الخارج على أخبار أعمالها الحسنة! أختلف مع النظام برمته، أخالفه مخالفة كلية، بكل جوانب تركيبه البالى الذى مر عليه الزمن.
لن أكون كاتب ربطة عنق آخر (معتمدا على الوساطة) بل لن أستعمل الربطة، حتى فى الحياة العادية، أستطيع خدمة وطنى دون أن أخدم حكومتى، ودون أن أستغله، أستطيع خدمته بترفعى، وبأن أتابع الكتابة مترفا.
[1] – أقوال جابرييل جارثيا ماركيز من حوار بينه وبين الكاتب ميخيل فرنانديز – براسو وشنر تحت عنوان عزلة جابرييل جارثيا ماركيز ترجمته للعربية ناديا ظافر شعبان ونشر عن دار الكلمة للنشر – بيروت – 1981 .