واذا العبقرية وُئدت
أنت عبقرى ولكن
محمد فتحى عبد الفتاح
هذا المقال يتقدم بأسلوب جديد على قارئ هذه المجلة، يطمئنه على قدراته ويحفزه للفخر المتناهى بعقله البشرى المتميز، ويؤكد له حقائق كونه” عبقريا بالضرورة” وبهذا يفتح آفاق الأمل بلا حدود، فهل يملك أى منا نحو هذا العرض الأمين المطمئن الا الشكر الواجب .
……………..
لكن للتحرير كلمة:
فقد يطر القارئ الأمل الجائع لمثل هذه المعلومات الصادقة، ولكناـ كمااعتدنا هنا ، قد نتساءل اذا ماذا؟ أو كيف يمكن أن يكون هذا ” الحفز المباشر” وسيلة للتحريك الابداعى وليس مجرد تهدئة للحسرة الدونية أو حتى تبريرا ” لوضع اللوم خارجنا”؟ ـ ان أكثر ما أقنعنا بأحقية هذا المقال بالنشر هو أمانة المحتوى وحماس التفاؤل..، ونحن ننتظر صداه لنتعرف على جدوى هذا الأسلوب الجديد علينا وعلى القارئ .
أليس من المحتمل أن يكون ” هذا” هو ما ينقصنا؟
****
نعم أنت، وأنت بالذات، عبقرى.أو أن شئنا الدقة مشروع عبقرى. وليس فى الأمر أدنى مبالغة فى قدرك ، أو أدنى أجحاف بحق العبقرية. نعم المقصود هو أنت بالذات، والعباقرة الذين ننسبك اليهم ، لولا هذه ” اللكن”، أناس من طراز بيتهوفن ونيوتن وداروين وانيشتين …. أى هؤلاء الأفذاذ الذين يجود الزمن بواحد منهم فى كوكبنا كل 50 سنة مثلا !! .
ليس فى قولنا شطط أو تناقض أو حتى تساهل. ودعونا نتجاوز مؤقتا عن مماحكات من قبيل المفارقة فى قولنا أن الكل مشاريع عباقرة ومع ذلك لا يجود الزمن بعبقرى الا كل 50 سنة. واستاذنكم أن نمضى رأسا الى الأدلة، كما أستاذنكم أن ننزل بالحديث، بعض الوقت، الى عالم النوابغ الذين هم أدنى درجة العباقرة .
ماذا تقول عن انسان يقابلك للمرة الأولى دون أدنى شبهة فى معرفة سابقة، فيقول لك: ما هى متاعبك، وما هى الأمراض التى عانيت وتعانى منها، بل وقد يتطوع بعلاجها للتو واللحظة، دون دواء أو مشرط أو طريقة من الطرق الطبية “المتقدمة” المتعارف عليها، بل ” بالتدليك” الخفيف أو ” التدليك” عن بعد ….؟.
أتقول أمر مستحيل ؟.
لكن أمثال هؤلاء كثر معروفين بالاسم والصورة فى عالمنا[1].
أتقول نوابغ فى الاستبصار والعلاج مكشوف عنهم الحجاب ؟.
أو ماذا تقول عن رجل يركب الباخرة من هامبورج وهو لا يعرف كلمة اسبانية واحدة، فى طريقة الى كاراكاس، ويتحدث مع أهلها عند وصوله بعد الرحلة، التى لم تستغرق سوى أيام، بالاسبانية، ويفهمهم ويفهمونه !!؟؟
أتقول أمر مستحيل ؟
لكن هذا هو بالتحديد ما فعله الأثرى الألمانى الفذ هنريخ شليمان .
أتقول نابغة فلتة فى تعلم اللغات ؟
أو ماذا تقول عن لاعب يحطم خمسة أرقام قياسية عالمية فى ألوان ألعاب القوى المختلفة، ويكر رقما قياسيا عالميا سادسا، وكل ذلك خلال 45 دقيقة !!؟؟
أتقول أمر مستحيل ؟
لكن هذا هو بالتحديد ما فعله البرق الأسود جيسى أوينز فى استاد مدينة أربور “ولاية ميتشجان ” يوم25 مايو 1935، قبل فوزه بأربع ميداليات ذهبية فى أولمبياد برلين .
أتقول نابغة وفلتة فى الاستعداد البدنى وقوة التحمل ؟
أم تقول مالنا نحن وجونا وشليمان وأوينز…. أنهم نوابغ وفلتات فنسأل وهل خصهم الخالق بشئ أكثر من البشر العاديين ؟ هل هم فلتات على مستوى الخلق، أو على مستوى المولد والتربية و ” صناعة” النفس ؟.
الاكتشافات العلمية الحديثة تقول أنهم ليسوا بفلتات على مستوى الخلق بالمرة وأن استعدادات ما يتمتعون به من قدرات أقرب الى الناموس العام. فهناك حاليا معاهد تعلم طلابها التشخيص والعلاج على طريقة جونا ” التأثير بالحقول الحيوية وعليها “، أحدها فى الولايات المتحدة الأمريكية أكثر بلدان العالم تطورا، وفى الاتحاد السوفيتى على الطرف الآخر تبذل محاولات مستميتة لاستيعاب ذلك العلاج داخل فرع علمى جديد يدعونه البيوسيكوفيزياء، تجرى دراسته فى معهد علمى متخصص، بل والأدهى من ذلك يتلقى آلاف المرضى يوميا عونا طبيا بهذه الطريقة فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية ولا تقول آسيا .
وهناك طرق تربوية حديثة لتعليم اللغات تبين احداها [2] أن الانسان المتوسط الاستعداد قادر، فى ظروف معينة، على استيعاب مائة كلمة من أية لغة فى الساعة!! وعلى أساسها وضعت طريقة سريعة لتعليم الأفراد، على اختلاف قدراتهم، الكلام خلال 15 يوما ” يبدأون الحديث من اليوم الثالث “، وهذه فترة قياسية مذهلة من حيث قصرها، مقارنة بأماد الطرق القديمة. وأذا ضاهينا ذلك بتعلم شلبمان اللغة فى أسبوع , آخذين بعين الاعتبار ظروفه الخاصة وعدد اللغات [3] التى تعلمها، والمنهج الذاتى الذى وضعه لنفسه فى تعلم اللغات لأدركنا أن الأمر أقرب استيعابه للغات جديدة أيسر .
أما عن قدرات جيسى أوينز فيوجد فى عالمنا حاليا من يستطيعون ضرب أرقامه كلها فى 45 دقيقة أيضا بل والأدهى من ذلك أن هناك مناهج مدروسة وناجحة لاعداد مثل هؤلاء الأبطال .
لكن هل يقتصر الأمر على كون مثل هذه القدرات أقرب الى الناموس العام؟
بذور العبقرية:
لقد جاء اختيارنا لهذه الأمثلة بالذات من وسط بحر زاخر عمدا لأنها تضعنا بخطوة واحدة على باب اثبات أنك، ونكرر أنت بالذات مشروع مهدر للعبقرية .
فأنت أيها القارئ كنت تتمتع فى وقت من الأوقات بأجنة هذه القدرة او تلك من قدرات النبوغ المذكورة وبكل أجنة قدرات جونا وأوينز وشليمان.
مثلا كيف كنت تتعامل مع أمك وأنت بعد فى المهد لا تستطيع حديثا أو بيانا؟ أسأل اى أم ” أو اسألى نفسك ان كنت أما” وستجدها تؤكد لك: “ليقل الناس ما يقولون فأنا على استعداد لسماع أى شئ الا أنى فى التعامل مع وليدى مقطوعة الصلة به ” … سمها لغة الاحساس أو الحدس أو أى شئ من هذا القبيل لكنها كما يؤكد العلماء والنوابغ البذور الأولى لما نسميه النبوغ فى الاستبصار والحدس والجلاء البصرى ………
وأنت نفسك أيها القارئ تعلمت لغتك وأجدتها بدرجة مذهلة فى زمن قياسى بالنسبة للزمن الذى تستغرقه فى تعلم لغة جديدة حاليا، وهناك أطفال شاءت ظروفهم أن يحتكوا بلغات عدة فاجادوها جميعا على نفس الدرجة وتكلموا بها بطلاقة وهم فى الخامسة من أعمارهم، وفى بعض الأحيان تعد هذه اللغات بالعشرات لا بالآحاد، كما فى مدرسة الأمم المتحدة بنيويورك. ويمكن أن نذكر هنا مثالا على ذلك طفلة ولدت لأب عربى وأم من أوزبكستان، وعاشوا جميعا فى كندا. فنجد الطفلة تتكلم الروسية والعربية والأوزبكية والانجليزية والفرنسية بطلاقة وأفضل من أمها وأبيها كل فى اللغات الأجنبية بالنسبة له .
وهنا أيضا تكمن البذور الأولى لما نسميه النبوغ فى تعلم اللغات عند أمثال شليمان! .
وأنت نفسك أيها القارئ كنت مشروعا لذلك البطل الرياضى الفذ جيسى أوينز فقد كنت تبذل فى طفولتك جهدا بدنيا جبارا، يعجز أى بطل عن مجاراتك فيه. وقد أجريت بالفعل تجارب فى هذا الصدد ثبت خلالها أن مثل هذا البطل الفذ يفقد وعيه خلال ساعات اذا حاول أن يقلد ما يأتى به اى طفل من جهد حركى ……..
وهنا ثالثا تكمن البذور الأولى لما سميناه النبوغ البدنى عند جيسى أوينز !.
****
كل ذلك يعنى أن بذور القدرات الفذة التى استشهدنا بها، كغيرها من القدرات الفذة الكثيرة الأخرى، ليست حكرا على فلتات بل هى ناموس عام يسرى على كل البشر، وأنك أنت بالذات لست استثناء فأنت تملك أو كنت تملك بذورها فى وقت من الأوقات … فماذا حدث أذن وجعل الناموس العام مجرد فلتات ؟.
….. كيف خبت بذور القدرات وتوارت فى معظم الحالات بدلا من أن تزدهر وتترعرع كما حدث فى حالات جونا وشليمان وأوينز ..؟
لقد ثبت مثلا أن الطفل الرضيع ـ كل طفل ـ قادر على تعلم السباحة والغطس والبراعة فيهما وعمره شهور قليلة, كما ثبت أن هذه القدرة تذوى تدريجيا مع الزمن.. أى أن الطفل يتعلم السباحة أصعب كلما تقدم به العمر. ومعنى ذلك أن الاستعداد لتعلم السباحة موجود عند الأطفال لكنه يذوى ما لم يؤخذ بالرعاية والتنمية !!.
أيمكن أن يكون ذلك هو شأن بذور الاستبصار والحدس والجلاء البصرى بل والعلاج الأسطورى المذكور ؟.
أيمكن أن يكون ذلك هو شأن بذور النبوغ فى تعلم اللغات أو تنمية ملكة التذكر بوجه عام ؟
أيمكن أن يكون ذلك هو شأن بذور النبوغ البدنى وما نعتقد أنه قدرات بدنية خارقة يتمتع بها البعض؟.
أو أيمكن الأمر ناموسا عاما يحكم قدرات الانسان على الاجمال ؟.
أن ذلك ينقلنا مباشرة الى سؤال هام حول المفارقة التى تجاوزناها فى بداية المقال بصدد ما قررناه من أن الكل يملكون بذور العبقرية لكن البشرية لا تعرف واحدا من العباقرة الا كل 50 سنة هو: ما السر فى قلة العباقرة ؟ وسؤال اهم نخطو به خطوة أخرى الى الأمام هو: كيف تثمر بذور العبقرية؟.
قلة العباقرة:
يمكن القول على وجه العموم أننا ما زلنا فى عصر الذرة والفضاء والعقول الألكترونية نعرف الانسان بصورة تقريبية ومبسطة جدا. وأن أردنا أن نخطو خطوة على طريق التخصيص لأمكن الحديث عن أمور كثيرة لا يملك العلم اجابة عنها حتى الآن بدءا من الكيفية التى يتأثر بها جهاز الطفل العصبى من جراء الاجهاد الجديد المفاجئ الذى يتعرض له خلال عملية الولادة، وبالتالى الظروف الأمثل لاتمام هذه العلمية* …. وحتى … لكن لماذا الاستطراد وقد اخترنا الحديث بصيغة مما يفرض ان نقصر القول على أمور أكثر تحديدا ؟.
التعليم الهش:
أن الانسان رغم هذه التجربة الحضارية المديدة فوق نظام تربية وتعليم ** هش جدا مفصل على مقاس المجموع ..” أوول سايز “ـ على أحسن تقدير حتى مراحله الأخيرة ـ ذلك بينما شاء القدر أن يكون كل ابن لآدم شخصية على درجة غريبة من التفرد ” من البصمة، الى التفرد الخلوى المناعى وما يستتبعه من رفض نسيجى، الى تفرد الدماغ والجهاز العصبى….. الخ ” الأمر الذى يحتاج حتى تتجلى امكانيات هذا التفرد بصورة كاملة الى نظام “عمولة ” على مقاسه هو بالذات
وذلك يحتاج الى قلب الآية فى التربية والتعليم بحيث يقف عند قاعدة الهرم تربيون اشباه عباقرة قادرون على اكتشاف أبرز استعدادات هذا الانسان أو ذلك وتعهدها بالنماء، وعدواه روحيا بتقصيها وكل ذلك فى الوقت المناسب تماما، ليس قبله وليس بعده، لأن الدراسات الحديثة تكشف عن وجود فترات حساسة فى حياة الطفل، تذوى بعدها القدرة على اكتساب هذه الملكة أو تلك مثلما ذكرنا بالنسبة للسباحة، بل ويذهب البعض الى أن تحصيل المعارف وتكوين القدرات الذهنية يجب أن يواكب ناموس تكون الدماغ ” 50% فى الشهر التاسع، 100%فى 12سنة ” ويتم معه قبل بلوغ الثانية عشرة .
لقد ألمحنا من قبل الى الطريقة السريعة فى تعلم اللغات، التى بينت أن إضافة بعض العناصر النفسية * على العملية التعليمية، تصل بدرجة استيعاب الانسان العادى الى أكثر من100 كلمة جديدة من أية لغة فى الساعة الواحدة فما بالك وهذه ليست الا مجرد بدايات نرى أن عائدها ما زال متواضعا جدا قياسا بالممكن ودليلنا على ذلك اقرار العلماء بأن الانسان يذهب الى القبر اليوم دون أن يستخدم 60% من قدراته الذهنية !!.
وحتى نبين اعتقادنا بصورة مبسطة نقول أن قدرات الانسان أشبه بناطحة سحاب جبارة هائلة فيها مداخل ومصاعد ودروب “سحرية” لم يكتشف الانسان سوى قدر هين جدا منها مما يجعل هذه الناطحة بنيانا اسطوريا مهجورا بكرا فى معظمه، أذ يكتفى الانسان ببعض قاعاته الأمامية اليسيرة المثال التى لا تتعدى فى أحسن الحالات ـ النوابغ والعلماء ـ 10% من امكانيات هذه الناطحة. وما جونا وشليمان وأوينز وموتسارت وممارس اليوجا …. ألا أناس وقع كل منهم مصادفة، ثم تنقيبا، على درب من الآف الدروب المجهولة فقاده الى بعض الغرف التى لا يدخلها الانسان عادة .
ومن الأمور الهامة هنا أن تقصى الدرب الذى واجه كل منهم بدرجة معقولة يتيح مع البذور الموجودة لدى كل أبن لآدم ، أن تصبح قدرات الواحد منهم فى متناول الآخرين …..
أليس ذلك هو ما يحدث مثلا فى معاهد تعليم طرق التشخيص والعلاج بالحقول الحيوية وفى معاهد اليوجا؟ وهو ما يحدث فى طريقة تعليم اللغات بسرعة ، وفى برامج خلق الأبطال الرياضيين ؟.
وحتى لا نتوه فى الاستطراد ونبلغ ما رمينا اليه ألانأخذ حديثنا السابق كمجرد تفنيد لنظام التربية والتعليم القائم، بل ننظر اليه كاشارة من جانبه الآخر الى اتاحة فرصة الازدهار والاثمار لبذور العبقرية . وهنا لا بأس من تخطيط سريع للاجابة عن سؤال آخر .
كيف نثمر بذور العبقرية ؟
حتى تثمر بذور العبقرية نحن فى حاجة الى ارساء برنامج تربية وتعليم صحيح يضع فى اعتباره فهم نواميس الانسان، التى يجب علينا أيضا تقصيها ومعرفتها بصورة صحيحة، حتى لا تضيع الفترات الحساسة فى تنمية القدرات وما هو من قبيلها*، كما أننا فى حاجة الى أتاحة الفرصة لكل فرد حتى يجد عالمه الخاص. ويحدد ضربته الرئيسية فى الحياة أنطلاقا من أبرز استعداداته. والى كل انسان فى أبكر وقت ممكن بمنهاج تعليم نفسه وتربيتها ذاتيا لأن ذلك يتيح أقصى فرص تفتق الفردية وتجنب مضار المناهج العامة، ناهيك عن أننا فى حاجة الى تربية الصفات الانسانية العامة” مثل الشجاعة والمثابرة …” ** وفى مرحلة تالية الصفات الخاصة بكل نشاط نوعى، وفى حاجة أخيرا الى أن يتم ذلك كله عن طريق معارف منهاجية موثوقة لا عن طريق التجربة والخطأ .
وحتى ندرك البون بين بعض المطلوب وبين الموجود نقتصر على مشهد طفل فى الخامسة من عمره مثلا بأسئلته التى لا تنتهى؟ والتى تغرق الشمس فى البحر كل يوم؟ ومن أين جاء اخى الصغير… وماما… وبابا.. وجدى؟ ومن أين جاء الانسان الأول اذن ؟ والى أين يذهب من مات؟……
وطبيعته الردود التى يتلقاها الطفل عن هذه الأسئلة، ناهيك عن اسكت، أخرس، بل ربما حتى مرة واحدة ” معنتش تقول كده لحسن ربنا يسخطك وتدخل النار “. وتصيبنا الدهشة بعد ذلك من خمود بذور تقصى المعرفة وبذور العبقرية، ومن تحول الطفل الى الأسئلة العادية أو الى الصمت ، ومن موقف اللامبالاة الذى يتخذه من كل ما حوله.أو حتى لا تصيبنا الدهشة ونقول ” الحمد لله ربنا هداه”، ونرضى بعد ذلك بالتلميذ ” المجد ” الذى يؤدى واجباته حرفيا. أو نعبر عن شكوانا من التلميذ الخائب الذى لم يوهب فى الرياضيات أو اللغات أو الآداب أو نشكو البرنامج الدراسى المجنون الذى يطلبون من الأطفال استيعابه فى أيامنا، وحين يلوح حديث عن النبوغ نشكو فى نهاية المطاف من قلة من يهبهم القدر بذور العبقرية !!.
بعد هذا الاستطراد الطويل نعود فنقرر أن نظام التربية والتعليم المتاح حاليا ليس سوى مجزرة عفوية شمولية منصوبة على طريق العبقرية وما يشهده عالمنا من عباقرة هم الحالات التى أفلت مصادفة أو بصورة تكاد تكون عشوائية من كل الكمائن التى نصبت فى طريقها، ومما يشهد على ذلك أن أنشتين وتشخيوف وداروين وسارتر ومندليف …. الخ كانوا تلاميذ متوسطين أو حتى متخلفين وفق البرنامج التربوى التعليمى القائم فى حينه كل فى مادة نبوغه، وأن العقاد وسلامة موسى مثلا جاءا عن غير طريق المدرسة والجامعة ……..
مسألة دينامية معقدة:
وبالرغم من أن ما ذكرناه أجابة عن سؤال كيف تثمر بذور العبقرية ليس سوى تخطيط مبسط فياليت تحقيقه سهل يسير. وحتى ندرك طبيعة الصعوبات التى تحيط بذلك لا باس من الإتكاء على موضوع نظام التربية والتعليم. فعلى سبيل المثال توصى بعض معاهد الفيزياء الحديثة طلابها حاليا بأن ينسوا الفيزياء التى درسوها فى المدرسة بل وهناك معاهد تفضل أن تريح نفسها منذ البداية وترفض قبول الطلاب الحاصلين على الدرجات النهائية فى الفيزياء التقليدية وحجتها فى ذلك أنه من العسير على هؤلاء استيعاب عالم الفيزياء الحديث استيعابا ابداعيا. وهذا ليس تهويما أو أدعاء فقد وقف بونكاريه على باب النظرية النسبية دون أن يجرؤ على الولوج منه، لأنه لا يتفق مع المسلمات الفيزيائية التى كانت شائعة فى عصره والتى كان قد استوعبها جيدا. بينما كان عدم تمكن هذه المسلمات الفيزيائية من أنشتين بين أسباب اكتشافه العبقرى. ولم تكن هذه مشكلة بونكاريه وحده فقد رفضت جهات علمية محترمة جدا النسبية فى حينه، ولم يكن ذلك قدر النسبية وحدها اذ أنه يتكرر مع كل اكتشاف عظيم: الوراثة، الطيران ، السيبيرنتيكا ..الخ.
واذا تعدينا هذه المعضلة التى تفرض الوصول الى وسط ذهبى عزيز المنال بين التسليم العلمى والشك المنهجى، وبين الجد فى الاستيعاب والجد فى الابداع، لوجدنا أنفسنا أمام ما يدفع بهذه المسألة الى مستوى جديد، وهو أن المعارف تتضاعف ـ بل وقد ينسخ بعضها بعضا ـ فى عصرنا بسرعة رهيبة، ومرات كثيرة فى عصر الجيل الواحد، بل وأمام جدل آخر يحكم قدرات من صنعوا نظام التربية ومن نود أن يصنعهم هذا النظام من مبدعين. ويزداد تعقيد المسألة عامة فى عالم يخطو نحو الاستغناء عن الانسان غير المبدع بعد أن ساعد العقل البشرى فى صنع ما يبرز الانسان نفسه فى كل نشاط *غير الابداع، عالم يرى أن الروبوتات هى الأنسب فى كل الأعمال التكرارية. اذ أنها ” تأكل وتشرب وتمرض ” أقل كثيرا من الانسان، ناهيك عن أنها لا تطالب بوقت عمل ووقت راحة ووقت نوم وظروف أمن صناعى ……….. الخ .
مازال ثمة فرصة:
ولعل القارئ يتعجب ويتساءل ” لولم يكن بلعننى” ماالذى أود قوله بهذا المقال الطويل: “خلق الله الانسان بامكانيات العباقرة لكن المجتمع حكم عليه بنظام التربية الهش وفوات الفترات الحساسة وجعله ضحية للمجزرة المنصوبة على طريق العبقرية، وأن تدارك الأمر والخروج من هذه الحلقة الشيطانية مسألة غاية فى التعقيد، وأن ” الروبوتات” تقف للانسان بالمرصاد، ولا يبقى أمام القارئ بعد هذه الرحلة الطويلة الا القناعة بالاياب “.
أبدا لم أود أن يكون مقالى تسليما ويأسا، أو جنازا للعبقرية. بوضوح أود أن اقول أن امكانياتك أنت، وأنت بالذات، هائلة جدا، وان مجمل قدرات جوفا وشليمان وأوينز بل وبيتهوفن وانشتين وتشخيوف …. الخ ليست الا ايماءات تشير الى أجنة بعض قدراتك أنت بالذات …
وأن تسليح كل انسان فى أبكر وقت ممكن بمنهاج تعليم نفسه وتربيتها ذاتيا كما جاء فى فقرة ” كيف تثمر بذور العبقرية ” هو مربط الفرس فى كل ما قصدناه لأن ذلك يتيح أقصى فرصة لتفتق الفردية وتجنب مضار المناهج العامة، ولأن عملية التربية والتعليم فى عالمنا الدينامى هذا ليست قصر على مرحلة معينة من حياة الفرد كما هو شائع ……..
وقد تكون معارف الانسانية مازالت قاصرة لكن حركتك أنت بالذات اعتمادا على هذه المعارف هى الأقدر على صنع أفضل برنامج ” عمولة ” خاص بك، وتدارك الخلل الذى اصاب جهاز العبقرية الذى وهبك الله اياه، والخروج منه بأفضل نتيجة ممكنة فى حالته الراهنة ، ومانستطيع أن نؤكده لك أنها نتيجة أفضل عشرات المرات * من حالك الآن .
وحتى نهون من قدر أى تأخر وكل خلل فى جهاز العبقرية نقول أن كثيرا من النوابغ تفتقت قدراتهم على كبر، كما نكتفى بالاشارة فى عجالة الى أن عبقريا مثل باستير قد حقق أهم اكتشافاته بنصف مخ بعد أن وضع أفضل أعماله اطلاقا بعد أن أصيب بالصمم الكامل، والى أن المعرى وهوميروس كانا ضريرين …..
[1] – نقتصر هنا على ذكر جونا دافيتاشفيلى السوفيتية، لأن وجودها فى هذا الجانب من العالم بليغ الدلالة والقطع. وليس من العلم فى شئ أنكار هذا المجال من الأساس بحجة شيوع الدجل فيه.
[2] – اقترحها العلماء البلغار وتتم فى جو أقرب الى جو اللعب، بين معلم يتميع بهيبة كبيرة، و” طلاب ” فى حالة استرخاء، وبحيث تراعى اقصى درجات التجميل .
[3] – 14 لغة ومن الجدير بالذكر أنه كلما عرف المرء لغات أكثر كان استيعابه للغات جديدة أيسر .
** المقصود بصورة عامة التربية ” كلشنكان ” ” كل شئ كان ! ” فى المنزل أو الحضانة حتى عمر المدرسة لتقوم هذه بتلقين التلميذ بالمعارف العامة المنظمة وفى أغلب الأحيان بعيدا عن الاهتمام بالتربية وتسلم التلميذ بعدها الى المعاهد والجامعات التى تقدم له معارف متخصصة .
* والطريف أن أغلب العوامل السابقة الذكر معروفة منذ زمن بعيد وتستخدم فى مجالات أخرى لكنها تدخل مجال التربية على استحياء الآن فقط .
* توسيع مدى عقبات هذه الفترات الحساسة مثلا .
** بدون الشجاعة مثلا لا يمكن أن يصير صاحب أفضل الاستعدادات البدنية لاعب جمباز جيد وبدون المثابرة لا يمكن أن يحقق صاحب أقوى القدرات العقلية اكتشافا .
* من نشاط الانسان كقوة رفع وجر الى كثير من الأعمال التكرارية على خطوط التجميع …..
* لا حاجة الى الابعاد كثيرا لاثبات أنك تعيش دون امكانياتك فأنت تستطيع بجهد يسير أن تتذكر مواقف اعتقدت ابائها أنه لا طاقة لك بها وأنها الشعرة التى ستقصم ظهر البعير لكنك اكتشفت مع مرور الوقت أنه فى مقدورك التغلب عليها وأنك تتمتع بقدرات لم تكن تحلم أنك تتمتع بها .