عدد يناير 1983
من حيرة الإبداع إلى سكون الطريقة
أحمد المدثر عيسى x يحيى الرخاوى
الرخاوى: أهلا بك “شخصيا” يا صديقنا بقلمك ونبضك بعد أن كنت مجرد بطل قصة ظهر فى صفحات سبقت، كان لها فضل أن تحرك فكرك يذكرك بأيام زمان، أيام كان يعرفك عبد الحميد الكاشف لدرجة أن يكتب عنك قصة تظل قابعة فى أوراقه أو وجدانه عشر سنوات لتظهر فى مجلتنا المتواضعة، فيخرج لنا – ربما لأول مرة – بطل قصة يوضح ويصحح ويضيف.
المدثر: أحببت أن أوضح حقيقة الأمر كله … لا سيما أن عبد الحميد أثار فى القصة موضوعا شديد الأهمية لى وهو موضوع دخولى فى طريق التصوف والصوفية مسلكا وسلوكا ومشربا.
الرخاوى: أولا أحب أن أشكرك للمبادرة، ثم أذكرك أن القصة قصة، وأننا حين نشرناها لم نكن نعلم بك صديقا حيا ترزق، وأنى حين اقترحت تغيير العنوان إلى الوجه الماسح (وكان قبل ذلك: أحمد المدثر عيسي) لم أكن أعرف أنها تتعلق بشخص ما، وكان ذلك لأسباب فنية، فأرجو ابتداء أن تفصل تماما بين وقائع القصة كما تصورها كاتبها – وهذا من حقه تماما – رغم أن تغيير الاسم كان سيعطيه حرية حركة أكبر – وبينك أنت وتجربتك ومسارها ومغزاها حتى تاريخه.
المدثر: خصنى عبد الحميد الكاشف ببعض الكلمات كتبها فى أوائل عام 1971 وفوجئت بأنه نشرها فى مجلة الانسان والتطور يوليو 1982، اثنى عشر عاما: فرق ايقاع التغريدة الحائرة فى جوانب النفس الملتهبة.
الرخاوى: عندك عندك، أسمع شعرا، فهل نتفق ابتداء على أنك ستحكى لنا سيرة ذاتية، ليس لها علاقة بالقصة المنشورة (تقريبا وليس تماما) وأنك – ضمنا – ستقبل أن تحاور حولها وان كلامنا مسئول – حتما وبداهة – عن نتائج الحوار؟ اذا كان الأمر كذلك فأكمل قصيدتك تصف بها فترة الحيرة الملتهبة قبل أن يكون ما كان.
المدثر: … النفس الملتهبة السابحة على الدوام فى معانى اللاشيء، تجر ملايين من الشهب المتوهجة، تصعد بها إلى دوامات الفكر المرهق … بالنظرة القاتلة لحقيقة معنى وجود القلب الثائر على بالونات وفقاعات مستنقع الصمت، فى تموجات صفاء الوحدة الموجعة، على متن طائر النقمة بالنقطة الدموية فى خلايا العقل المتوهج باحساس الواقف على قمم براكين الضباب الفاتح لأوهام اللحظة المقبلة الناظر لثنايا العظام والضلوع بتموجات النفس القاتمة، الصور والمعنى… بحيث يصبح الوهج سوادا، والسواد ضياء، وتنقلب الفكرة الألمعية فى داخل الأمعاء … أسمى درجات الانفعال.
الرخاوى: لم أفهم تماما – والحمد لله أنى لم أفهم – ان كنت تنشدنا هذا الشعر وأنت تحاول أن تلغى هذه الفترة الرائعة المحملة بكل هذا الألم الخلاق؟ أم أنك تذكرها سردا تاريخيا انطلاقا لما بعدها؟
المدثر: أنين عاشق يحلم بالخلاص.
الرخاوى: لا شك أن الذى يعطى للخلاص معنى هو صدق الأنين لا استجداء الأمان.
المدثر: ينام ويصحو على أمل اللقاء المرتقب العظيم، يغوص فى أعماق المعانى … مستلهما من الفؤاد معنى الابحار فى ليالى العدم، مكرسا وقته وجهده فى المعانى القديمة والجديدة منها .. كأنه الاعصار فى كبد السماء … أو الشراع لسفينة الملاح التائه.
الرخاوى: …. كلما زدت غناء زدت صدقا حتى أكاد أتحسر – بعد اذنك ومع انتقاء موقف المتفرج أن صدقتنى – على هذه الفترة وما جرى لها، لكن من حقك أن تسرع هربا أن طال الزمن وأنت وحيد وحيد، رغم ابداعات الأحلام وصعوبة (أو.. استحالة) التحقيق.
المدثر: …. وما كان فى اصبعه خاتم سليمان …. ولكنها آهات ولهان تجرى دماؤه أنهار المعاناة … ونبضاته الآه والآه …. مدوية فى قلبه … سواطع الأنوار المصنوعة من خياله المحدود والغائر فى جرح الروح المسافرة عبر أدوية الحلم الجميل والبغيض.
الرخاوى: إلى متى ستظل تشدو بالأنين، وإلى أين تأخذنا بالله عليك.
المدثر: …. فى لحظة الصحو تتألق الفكرة اللامعة بالتائه من القلب الشريد، يرتفع ذلك كله فوق طبقات عقول أصدقائه ومعاصريه، ويتعدل شمول رؤيته للألوان الساطعة فى ضميره المضنى والمعنى شواطيء المستحيل واللاممكن على الاطلاق حدوثه.
الرخاوى: “وصلت” يا أحمد يا مدثر؟
المدثر: ان جهاز الغرور لم يكن ولن يكون مركبا فى جوفه الممتليء بآلام اللحظة المرعبة … والفكرة الدموية .. حيث الفؤاد أعاصير الرعب النووى أو الاشعاع الذرى ان صح التعبير.
الرخاوى: ففيم تلوم عبد الحميد على قصته وقد عايشك كل هذا، وأين الفرق الذى بدأت به أنينك شعرا يقطر ألما، تحاول أن تذكره “بالفرق” بين كل ذلك وبين ماذا؟.
المدثر: فرق اطمئنان القلب لذكر الله … تصديقا لقول الله سبحانه وتعالى: “ألا بذكر الله تطمئن القلوب” صدق الله العظيم.
الرخاوى: أى نعم …صدق الحق، ولكن هل تعنى أن عبد الحميد كان ينبغى أن يخطر بما كان “لاتخاذ اللازم” حتى ينهى قصته بالطمأنينة التى جئت تعلننا وصولك إليها؟.
المدثر: اثنى عشر عاما كاملة يا عبد الحميد … لم ترجع إليها … أو إلى… قبل أن تواصل النشر لكلماتك هذه، عايشتنا وعايشناك .. ولم تغص فى عمق أعماقى، ومن أين لك هذا يا عبد الحميد … فكان حديثك عن ظاهر أحمد المدثر لا عن عمق أحمد المدثر … ولست ألومك فى هذا، فتلك وجهة نظرك فى الموضوع على كل حال.
الرخاوى: لا لوم فى الفن يا سيدى، ومع ذلك فانى لم ألتقط بعد الغرض وراء توضيح الفرق الشاسع بين الألم المبدع والطمأنينة الساكنة، لابد أن ثمة فرقا، وأن كنت تستعمل كلمة “فرق” بمعنى “الحد” على ما أظن.
المدثر: ما قبل الفرق الأول فى بداية حديثنا عناء … وما بين الفرقين بهاء … وما بعدهما صفاء:
والعناء حزن ……. والبهاء حب …… والصفاء ود
والعناء تصفية ….. والبهاء عشق ….. والصفاء نقاء
والعناء عصر ….. والبهاء توهج ….. والصفاء تغرد
الرخاوى: تتحدث عن رحلتك الصوفية، ولا أريد أن أتعجلك، ولكنى أخشى أن نطيل فنغرب، والمطلوب هو أن نكون شهودك فى تجربتك التى انتهت إلى كل هذا الصفاء الذى …
المدثر: الأول عين الفؤاد الملتاع … والثانى نبض الحس والادراك، والحس تبيان والحقيقة فى عمق أعماق الفوآد، والادراك شهود المعنى من ضياء الحقيقة فى ضمير المحبوب الأسمى … تلطف الروح … وتهذب النفس وتمنح الفؤاد الأمن الأمان … بيد الله لا بيد الكاشف، بيد المحبوب لا بيد المدثر.
الرخاوى: ليكن ذلك كله يا سيدى، وحمدا لله على السلامة، الا أن المشكلة الكبرى انما تكمن فى حكاية الأمن الأمان اللذان يهبطان من أعلى سواء كان هذا الأعلى تفاؤل السادات رحمة الله، أو رضا الرحمن جل جلاله، ففى التصوف الحياة، تنفجر أنهار الوعى من الداخل الذى “هو” “هو” من بعد معين، ولا تنتهى المسيرة بالصفاء الذى ليس سوى مرحلة إلى عناء جديد، لتفجر جديد، ولكنى أعرف أن لكل تجربته، فماذا عندك؟
المدثر: إليكم الأمر كله.
الرخاوى: ولكنى ابتداء من هذه النقطة – حسب مقتضى الحال سوف اختصر حديثك على مسئوليتى خشية التكرار، وأنت تعلم شرطنا الظالم فى هذا الحوار، وأن القصد (والله من وراء القصد) هو توضيح أفكار وليس التحيز لجانب دون الآخر بهدف الانتصار لرأى دون الآخر.
المدثر: …عصر الممات هنا هو الممات القلبى لفؤادى الملتاع ..، انتشرت أحزانه فملأت الكون ..، وبدا طائر الحب ملتهبة أحشاؤه، يسطر من آلامه، فتبدو قمة فى الابدع وروعة فى التلقى…، وعليه، فلم يكن انشادى وأهازيج فؤادى تجرى على موجة خرساء … ولا سبورة مكتوبا عليها بالقلم الرصاص .. وما كنت أبدا صدى لصوت حقيقى أو وهمى … فبدا طائر الحب رغم أحزانه ثابت الخطى وان كان مفتت الكبد، يرى من الألوان ابداع الاله، وينكر الفضل وينكر وجود الاله.
الرخاوى: بداية مناسبة.
المدثر: لم يجعل من الحبة قبة، ولم يرسل اشعاعه على موجة خرساء، فكانت لغة العصر المدحور … فى المعنى غوصا فى اللغة المدوية فى أعماقه الشاردة – سطور ما يسميه الكاشف حقا أو صدقا أو وهما “بالجنون العبقري”
الرخاوى: صدقتما ولكن …
المدثر: لغة العصر المدحور أول مسرحية لى .. تأكيدا لما لا تأكيد له … وغوصا فى الأوعية الدموية الملتفة حول جذوع الأشجار الساكنة على شاطيء الفكرة البغيضة، لغة العصر المدحور سفر دائم عبر أودية القلب مخترقا شرايين الجسم محطما العظام …. وغائرا فى الضلوع باسواء القول واللاقول.
الرخاوى: رغم فرط الألم فما أصعب وأروع التجربة، فلماذا تكاد ترفضها؟
المدثر: ممتهنا كرامة النقطة الأزلية فى ثنايا شعور أحمد المدثر عيسى.
الرخاوى: ليس هذا امتهانا بل ابداعا.
المدثر: (رافضا المقاطعة) … ضاحكا ضحكة الموت فوق منحدرات سهول الوديان النارية، فى براكين اللا معنى، فى الجوف الصديء المتآكل من دود ينخر العظام ويلتهم الصخر الصوان …، ويدك قمم أهرامات الفراعنة العظام.
الرخاوى: ثانية ما أقسى الوحدة ولكنى أخالك – رغم توبتك، أعنى نهايتك، آسف أعنى طمأنينتك، تكاد تفخر بهذه التحفة الغالية النابعة من عمق الوجود الفج.
المدثر: “لغة العصر المدحور” احساس قاتل بألمعية الكلمات وتوهجها القاسى، … تعطيك معنى أحقية القلب عليك أن يستريح من عناد الابحار فى الزمن الأغبر.
الرخاوى: ليس من حق القلب – يا سيدى – أن يستريح الا بالموت، القلب الذى يستريح لا ينبض، فالى أين تدفعه، ولماذا؟
المدثر:…. مفتون العقل والقم بالاثم …. مبهور بالذنب …. غير عابيء بالقيم … بعيد عن الحق … مجبول على الخيبة … أسير لمفاتن الرذيلة ومباهج الخطيئة وتصورات البلية والأرزقية …، وفين يوجعك يا صاحبى
الرخاوى: أعذرنى ان كنت لا أفهم تماما ماذا أنت، ولماذا ترفض أن تدفع ثمن الابداع المرعب، فتعقد له محكمة القيم لتلصق به كل هذه لتهم المنفرة.
المدثر: … فكان مسرح المرايا، وايكاروس، ذلك الفتى الاغريقى الأسطورة القديمة والذى أراد أن يطير كما العصافير … فصنع له جناحين وطار بهما … وطار .. وطار .. وطار منتشيا وسعيدا ومبهورا بما بما حوله … وبما تحته … فاذا هو قد اقترب من الشمس فذاب الشمع اللاصق بالأجنحة فهوى إلى الأرض … ففتت الكبد والعظام والضلوع .. فذاك هو أنا: أحمد المدثر عيسى.
الرخاوى: بداية رائعة ونهاية مريعة، ولكن ألا توافقنى من بعد معين أنك لم تحتمل (ومعك كل الحق) تجربتك التى كانت خليقة أن تنمى لك جناحين من صلبك لو لم تتعجل اللصق بالشمع، أرى أمامى مبدعا يكاد يتبرأ من ذاته – ولا مؤاخذة – ومع ذلك ففخرك بها لا ينقطع ولم يمت أبدا – هذا ما أقرأه بين سطورك.
المدثر: قد تكون السنوات قد أنست عبد الحميد ما أعنيه بالمسرحية السمفونية، أو مسرح الألوان كما فى تعبيره …. المسرحية السيمفونية شرطها الأول أنها بلا موسيقى مصاحبة للعرض على الاطلاق … مكوناتها الكلمة … الضوء … الشكل التشكيلى … الحركة الراقصة.
الرخاوى: تذكرنى بالعمل الرائع الذى نشرناه هنا للفنان عصمت داوستاشى والذى أشار متفضلا إلى دورنا فى ذلك حين أصدره مستقلا فى كتيب “الصمت”.
المدثر: نريد أن نقدم مسرحية شعرية بهذا المعنى … نقسم الأمر فلا داعى لأن تكون الكلمة بيتا من الشعر كاملا … بل كلمتين .. ونكمل باقى البيت الشعرى بالاضاءة التى تعبر عن معنى بقية الكلمات، ثم نتبعها بالشكل التشكيلى الموضح لبقية المعنى .. فتكون الحركة الرابعة، وهى الحركة الراقصة المتكلمة بلا كلام.
الرخاوى: “الصمت” الناطق!!
المدثر: فتكون الحركات الأربع معانى البيت الشعرى صحيحة فى الاعراب، وصحيحة فى الوزن.
الرخاوى: أبو تمام يحييك ومن بعده أدونيس، ولكن لماذا تستعمل أفعال المضارع “نريد”، وكان الأولى – وأنت تتبرأ من ذاتك – أن تستعمل “أردنا .. أكملنا .. الخ”
المدثر: فما تراه فى مسرحية هكذا ابداعها …
الرخاوى: أرى أنك ما زلت تعيش ابداعك الكافر الشجاع … أصل الايمان والخلق الأكبر.
المدثر: (قاطعتنى وما كنت أسأل وانما كنت أقرر أنه) فما تراه فى مسرحية هكذا ابداعها يسقط على عينيك وينحدر إلى أذنيك، فتسمع موسيقى دون أن تكون هناك موسيقى مصاحبة للعرض على الاطلاق …، وتلك هى المسرحية السيمفونية.
الرخاوى: خطر خطر، ولكن يهون الخطر اذا تحمل مسئوليته صاحبه/ أصحابه.
المدثر: وصممنا لذلك مسرحا الكترونيا كاملا بآلاته ومبناه، وغرفه ومطابعه ومجلاته واتصالاته وامكانياته اللانهائية .. وبجواره مسرح مستقل للأطفال بكافة تصميماته الالكترونية والمعمارية.
الرخاوى: وسألتم عن الثمن؟
المدثر: قالوا بملايين الجنيهات.
الرخاوى: الخيال (وحتى الجنون) أرخص وأسهل.
المدثر: قلنا إلى أن يفتح الباب … وتتتفتح الأذهان، اليكم مسرح الديوان.
الرخاوى: عذرا للسخف القادم: الديوان الملكى، أم ديوان الشعر، أم ديوان القطار.
المدثر: (نعم) هو يقدم فى القطار، والأشكال التشكيلية بالأراجوز والحركة الراقصة والكلمة على الواقف تقدم للمسافرين بالقطار فى دواوينه، وللسياح والمصريين فى قطارات القاهرة أسوان،
الرخاوى: حلم آخر رغم بساطته ورخصه، والجنون أرحم فهو لا يحتاج إلى موافقتهم.
المدثر: قالوا مستحيل.
الرخاوى: جاء لك كلامي؟
المدثر: قلنا نبسط لكم الأمر، نقدم مسرحية فى قاعة الموسيقى بأى قصر ثقافة فى الديار المصرية ..
الرخاوى: بعيد عن قرون استشعارك.
المدثر: المسرح خال، زجاجة “كازوزة” فارغة مكتوب خلفها يافطة “هذه مكتب”، طوبة أو زلطة مكتوب عليها “كراسي”، طبق ميلامين مكتوب عليه “مطبخ”، لمبة معلقة فى السقف مكتوب بجانبها “كان المفروض أن يكون الديكور كذا وكذا وكذا ولكن لقلة الامكانيات لدينا قدمنا العرض هكذا” …
الرخاوى: شجاعة هى الخطر بعينه.
المدثر: ويبدأ العرض: اثراء للعقل وتنويرا للعين وترقية للأذن، فالمسرح صورة بديعة تثرى العقل .. وليس سينما تثير الغرائز، أو مشهدا ماجنا يولد الاشمئزاز أو أغنية هابطة تؤذى الأذن وتصيبها بالعطب، وتوالت الابتكارات بلا حدود، وعليه، ورغم كل ذلك: كان طائر الحب بعيدا كل البعد عن الحقيقة..، ورغم الابتكارات والتصميمات … ورغم أنف كل ما كتب وما رسم كان بحثا عن تلك الحقيقة الغائبة عنه … والمشتاق إليها … فلم تكن أبدا كما ظن الكاشف .. لا ..، ولم تكن وهما وجنونا كما ظن البعض، لا .. ولكنها النور .. والحب والاسعاد.
الرخاوى: رغم التزامى بعدم الربط بين “القصة” وبطلها الحى، فانى لابد فى هذه النقطة أن أذكرك أن الكاشف لم يعتبر “هربك” (إلى الحق!!) وهما أو جنونا فى ذاته وحده، بل أنه رأى ثلاث صور للجنون، أو قل ثلاثة ميادين للجنون: ميدان الذات (فى الصمت الغامض والفجائية والانسحاب والغرابة مع عجز الفعل)، وميدان الابداع: فى المسرحية المكتوبة والقصة القصيرة والنهم المعرفى واعادة التوليف فى كل الآن ثم ميدان الدروشة وهو الميدان الوحيد الذى وجدت فيه من يعترف بالجنون، ولعلك تتذكر كلماته : “راح يتجنن فى ميدان آخر” ورغم تحفظى (مرة أخري) ضد الخلط بين القصة وبطلها فأنت تكاد تؤكد ما ذهب إليه الكاشف رغم اختلاف التسميات، بل أنت – بعد سردك الرائع لنبض “الجنون العبقري” – تحاول عامدا تشويهه لتطمئن لما أنت فيه.
المدثر: كنت كأن لم أكن = وهما أو خيالا .. أو حقيقة! عدما .. أو فناء أو غباء.
الرخاوى: ألا ما أقساك على ما هو أنت رغم أنه = حتى لو صدق رأيك فى الختام السعيد = فانه لم يحدث الا من هذا الذى تصب عليه جام غضبك، وها أنت تمضى لاهبا بسوطك تاريخك.
المدثر: (كنت كأن لم أكن=) شمول للرؤية القاصرة .. أو ايضاح للفكرة المنزوية فى أعماقى .. أو .. أو ..أو .. أو أى شيء.
الرخاوى: أى شيء؟؟ “أى شيء” هو أصل “الكل شيء” يا سيدي
المدثر: أى كلام
الرخاوى: سامحك الله
الرخاوى: وأصبحت بما كنت وبما لم أكن بوجودى الآن عام 1982 أعى الدرس والتجربة جيدا.
الرخاوى: اسمح لى أن أفترض غير ذلك، فقد خفت ضوؤك سيدى والعهدة عليك وعلى الراوى.
المدثر: وصل بى الأمر أنى كنت أقرأ ثلاثة كتب متنوعة فى اليوم، وفى الليل أكتب أكثر من ثلاث قصص كما يقول الكاشف … والفؤاد أسير الفكر والمسرح بدرجة لا يتصورها انسان .. بل لا نظير لها على الاطلاق .. عشق يصل إلى حد الفناء والاستغراق، فأصبح المسرح دنيا فؤادى وآخرة روحى .. آكل مسرحا .. أنام مسرحا .. أصحو مسرحا .. أسير مسرحا .. أقعد مسرحا .. وبحيث أصبح المسرح البداية والنهاية لطائر الحب المحلق فى هذا الوقت فى أودية الدمار النفسى.
الرخاوى: يا أخى … يا أخى … ما أن أذكرك أو يذكرك الكاشف حتى تنطلق ترسم لنا الصور بصدق الأنبياء، ولا تدعنا نقف أمامها لحظة حتى تقذفها بسواد أحبار الضجر والتراجع.
المدثر: … فى أودية الدمار النفسى والانحطاط الأخلاقى لانكار وجود الله عز وجل …. أفرأيتم أقسى من ذلك وأشد وطأة على الاسنان من هذا الهوان وهذا العذاب.
الرخاوى: نعم رأينا … رأيناك وأنت تبصق على خلقة ربك التى هى أنت … رأيناك وأنت تتنكر لاخلاص فكر خلقه بفضله وهو يجاهد كدحا نحوه حتى بالبعد عنه، رأيناك وأنت تقسم نفسك إلى كافر ملعون ومؤمن مخدر، والله تعالى ما خلقك مقسوما على نفسك بل متواصلا إليه حتى فى رحلة البعد عنه ان صدقت الوعى وعمقت المحاولة ودفعت الثمن، أراك – سيدى – تمتهن الايمان وأنت تبصق على فكرك، فالكفر الحقيقى هو أن تخون ما وضعه الله فيك من قدرة على الابداع بما فى ذلك اعادة النظر فى كل شيء .. فى كل شيء دون استثناء .. ومم تخاف؟ مم يخاف؟ كل ما علينا أن نحافظ على مطلب الأمانة مع طول الوقت، ولا خوف على الحقيقة من الضلال.
المدثر: كانت أيامى أحلاما … وساعاتى أشلاء … وأوقاتى دمارا، فالأحلام رغم تألقها كنت أعترف أنها صناعية المعنى .. وليدة العقل البشرى، وان تعددت ألوانها الجذابة التى لم أرها فى الطبيعة وقتها، والأشلاء كما فى قصتى “المنظور” .. فتى يطير فى الأجواء والفضاء .. فجأة يجد نفسه مفتت الكبد والضلوع .. متناثر الأشلاء والأعضاء .. قطعا صغيرة فى الفضاء .. كل قطعة من أشلائه .. وكل جزء من ضلوعه وعظامه له آلامه وأحزانه فهو كتلة من الآلام …. وهو جبل من الأحزان والارهاق القاتل جسديا ونفسيا ومعنويا وروحيا قلبيا وحياتيا، والدمار .. أين؟ متي؟ ماذا؟ كيف؟ أو كما يقول كامل الشناوى رحمه الله: أو تدرى بما جرى .. أو تدرى دمى جرى.
فمن أين لى يا دكتور يحيى بمن يفهمنى، بمن أصارحه بهذا الأمر؟
الرخاوى: اذا كان معك كل الحق فى هذه الصرخة الأمينة، فليس معك أى حق فى تبرير ما انتهت إليه، فلا أنا – وربما ولا غيرى – قادر على استيعاب هذا التناثر المرعب الذى يقع أساسا فى الداخل ولا نرى فى الخارج الا رذاذه، ومع ذلك فأغلبنا يرعب من رذاذه، ولكن دورك أنت فى هذا التنافر لا ينبغى أن ينسى ولعل هذا ما أشار إليه الكاشف فى قوله “فالمدثر .. لا يختصر الطريق فقط ولكنه يسده” وهذه اللعبة يا سيدى هى أروع مغامرات المبدع، ولكن نهايتها – ولا حول ولا قوة الا بالله – ليست دائا ابداعا، المبدع يخاف من الاقتراب بقدر ما يرجوه، هو يرجوه مستغيثا حتى يمكنه أن يتجمع بعد تفككه = طريقا أوحد للصياغة الجديدة، وهو يخشاه خوفا من خوفهم منه، أو خوفهم عليه لدرجة محاولة هدايته باللغة السائدة، والطب النفسى كان يزغم أنه يحسن الاستماع إلى هذه الصرخات، وانه يحسن الحفاظ على المسافة المناسبة، وأنه يستجيب لهذه المعادلة الصعبة (الرجاء / الرفض: معا) – ولكن المسألة انتهت إلى غير ذلك يا مدثر، ما عاد الطب النفسى يدثر المتناثر ليلمه وانما هو يطفئه ليردم عليه (فى أغلب الأحيان)، لم تستجر يا مدثر بمجير، فدعنى فى حالى أتوهم محاولة الصدق.
المدثر: لا أريد اقتناعا كلاما .. ولكن اقتناعا قلبيا وروحيا ونفسيا بحيث أرى المحبوب وأستنشق طيب جماله الخلاب … لست أخرس … كنت .. ولكن أمر انكارى لوجود الله عز وجل كن قاسيا بلا حدود.
الرخاوى: أنت (وغيرك) لم تنكر وجود الله ولا تستطيع، ولكنك أنكرت المفروض على وجودك الالهى من غير ذى صفة، والألم انما ينتج حين يرفض الكيان الخلق الالهى ذاته الأولى نتيجة أوهام ملصوقة من الخارج، وهذه هى قمة المأساة يا سيدى، وألمك هذا هر شرف الوجود البشرى، ولكن يبدو أنك لم تحتمل قسوة الوحدة، والحق معك فهل أسعفك الابداع ولملمتك الكلمات؟
المدثر: لم أكن أقوى على الكلام رغم اجادتى له، فتلك كما تعلم يا دكتور يحيى لعبة الأدباء والأدباتية .. الكلام!! ومن الكلام ما يقتل صاحبه ومتلقيه .. ومن الكلام ما يسعد صاحبه ومتلقيه، وكأنى من نسيج غير نسيج البشر … من طينة غير طينة البشر … أبحث عن المفقود منى بلا هواده .. اذا كنت موجودا قل لى … ألست عبدك؟ ألم تخلقني؟
الرخاوى: بلى … وها أنت هاربا منه إليه، فلم لم تصبر وتتواضع فى جرعات ابداعك التى هى قبس منه حتى نسمعك فلا يمسح وجه العملة.
المدثر: تضخم الأمر فى ذهنى فكان ما يسميه الكاشف بالانعكاف، وهو محق فيه تماما، ولكنا نراه فى السطور التالية يحدثنا عن أخى حسن والأستاذ الفاضل زوج والدتى، والذى أكن له ولحسن كل حب وتقدير واحترام واعجاب، ولكن هذا الكاتب – أى كاتب – ما أن يأخذه الحماس حتى يأخذ الأبرياء دون ما ذنب اقترفوه …، فظن من وجهة نظره أن ذلك من تكوين شخصيتى، وذلك عن الحق والله بعيد.
الرخاوى: أتحت لنا يا مدثر فرصة فريدة تليق بألاعيب هذه المجلة، بطل قصة يحاور مبدعها، وأنا معك وخاصة فى هذه الأيام البائسة التى لا يقبل فيها قاص الا حين يسب القهر وامرأة الأب وعادم السيارات والأخ الشرير وتاجر الجملة، والمسألة فيها كل ذلك، ولكنها موجوده قبل وبعد كل ذلك – ومع هذا يا أخى فهو حر، هو قاص وليس مؤرخا، كدت تنسينى فأقع فى خطئك.
المدثر: لم يذكر الكاشف أنى فى أشد أوقات المعاناة راودتنى فكرة الذهاب لأحد أديرة وادى النطرون للعيش فيه، لعل وعسى.
الرخاوى: ومن سمعك، ولكن ليس للعيش فيه، ولكن لاستيعاب كل مسالك الوصول.
المدثر: لم أستطع بعد الفكاك من انكار لوجود الله .. كل المساجد دخلتها … وكم سمعت فيها الأحاديث التى يلقيها الدعاة …وكنت أخرج كأنى لم أدخل .. أبحث فى الكتب .. فى الديانات القديمة .. فى القانون .. فى الفلسفات .. الطب .. الفن .. أفتش فى الأعماق .. أطير فوق السحاب .. وأصل إلى منحدرات القمر … أغوص فى جوف الشمس .. أتجول فى أحشائها .. تأكل أمعائى .. أتوه فى ثنايا الماضى وأبحر فى عيون الشجر .. أناجى الهواء .. وحبات المطر وكراته الثلجية … أقذف من أعماقى حمما تنفث سمومها فى وجدانى .. تعود إلى قواعدها فيما بين الضلوع والأحشاء … والمعنى واللامعنى … تقتلنى … تسحقنى .. حتى صرت انسانا محطم النفس تماما … لا ينفعه طب ولا ينفع مع تموجات خلايا نفسه القاتلة كلم طيب … أو كلم خبيث.
الرخاوى: أصدق معاناتك ولا أصدق يأسك، أو قل: أصاحبك فى معاناتك وتبعدنى حين تنوء بها حتى … حتى …
المدثر: فبدا من الضباب ضياء … ضياء حقير يملأ الوجدان لحظات الانتشاء القاتل.
الرخاوى: ألا تخجل من هذه البصقة المتعجلة على الضياء الوليد حين تصف الضياء بالحقارة؟
المدثر: … فيما يبدو للعيان فتى ألمعى يشق الصخر فى عالم المسرح … وهم لا يدرون أن فتى المسرح … أو طائر الحب .. فى عوالم أخرى، يعيش معهم بالجسد لا بالعقل .. بالمكان لا بالزمان … فالتهمت الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.
الرخاوى: أحسنت ، ويا حبذا لو ثبت أنه هو هو.
المدثر: وبدا أمرى يأخذنى ونفسى إلى الهاوية السحيقة لعالم الغباء المطلق .. والعقل الصدىء .. وسقط فيها فعلا .. وهو عالم الجهل .. فليس الجهل اذا عدم معرفة القراءة والكتابة .. ولكن الجهل أن تغيب عن الحق وهو معك لا يتركك أبدا ..
الرخاوى: أحيانا يا مدثر أتصور أننا نريد أن نمحو أمية البشر لنحشر فى أمخاخهم ما نريد، وكأننا نأبى على الأمى أن يحتفظ بحريته بعيدا عن اغارة الكلمات المطبوعة، ولكنى أتراجع حين اتلفت فتلاحقنى مكبرات صوت الاذاعة والتليفزيون من كل أنحاء العالم فأقول لا … ما زالت القراءة اختيارى وغير ذلك قهرا لا أدرى مصدره، معك يا مدثر حق = ان الجهل جهل ولو ملأت الرؤوس أطنان الكلمات البراقة.
المدثر: الجهل أن تغيب عن الحق وهو معك لا يتركك أبدا.
الرخاوى: والجهل أن تهرب إلى الحق بالطريق السهل حتى تحرم نفسك من الحق الأكبر.
المدثر: ومن الجهل أيضا ألا تعمل بما تعلم.
الرخاوى: والعمل بالعلم هو تحمل مسئولية الكلمة وليس صراع طواحين الهواء.
المدثر: لذلك حدث آخر ليس مجاله هنا الآن.
الرخاوى: هو كذلك فماذا كان من أمرك.
المدثر: جلست أفكر فيما وصلت إليه .. وكان التفكير مضنى وعنيفا، وحسمت الأمر، ووضعت النقط فوق الحروف، وقلت أقرأ قرآن المسلمين … هكذا والله قلت .. ان خرجت بشيء ..أن عرفت الحقيقة أهلا ويا مرحبا، وان لم أخرج بشيء فالانتحار .. أجل الانتحار .. فالقلب أصبح لايطيق هذا الحمل الهائل من التفكير المميت والاستدراج اللانهائى والذى وقعت فيه ..
الرخاوى: أى استدراج يا سيدى، انها رحلة الشرف الأكبر بلا وصاية ولا تضليل.
المدثر: كان المحظور مرادفا لحياتى … والحق بعيدا عن حياتى فما أقسانى وما أشد هوانى.
الرخاوى: من الذى حظر المحظور سيدى؟ المحظور أن تري؟ المحظور أن تراجع؟ المحظور أن تعيد ترتيب أوراقك بفضل فائق وعيك؟ ما أشد ما أهنت به وعيك سيدى، ثم هذا الانتحار .. المهرب النذل الرائع … لماذا؟
المدثر: الانتحار من أجل الحقيقة .. لا من أجل سندريللا العصر والأوان .. وكليوباترا.
الرخاوى: الانتحار – رغم شرف دوافعه – لا يكون من أجل الحقيقة، بل لعله الخوف من الحقيقة وفى نفس الوقت العجز عن اخفائها.
المدثر: لقد كنت لا أرحم عقلى ولا أرحم قلبى ولا أراعى شعور نفسى … فامتهنت ارادتى وخيبت ظن عينى.
الرخاوى: حصل، وأكاد أراك نويت أمرا.
المدثر: أفما آن لى الخلاص من كل ذلك .. يا ويلتى .. حصلت على أجازة من عملى وكانت آخر أيام أجازتى ذلك العام .. وللآن أذكر التواريخ جيدا . وأرجو أن تذكروها أنتم أيضا لأنها ذات أهمية قصوى فيما بين الفرقين، والأجازة يا محمد جاد الرب كانت فى يوم 7 / 6 / 1971 ولمدة ستة أيام، قفلت باب حجرتى على، ولم أنزو فى أعماقى وأسرح فى مسالك فؤادى وأغوص فى أودية أحشائى وأبحر فى أنهار عيونى ..، آه من نفس كواها البعاد وفتنها الابحار فى ثنايا الذات … ترضى بالهوان والنعيم محيط بجوانبها دون أن تدرى أو تحس به … أو أن تلمسه أو تشمه .. فيا للعار … تصور يا د. يحيى .. لم أقرأ القرآن ..، بل لم أستطع مد يدى إليه .. ماذا .. ما هذا الأمر الذى دهاني؟ تذكرت فجأة أنى قد اشتريت كتابين لم أفتحهما للآن رغم مرور أكثر من شهرين عليهما عندى.
الرخاوى: من هنا يا سيدى سأستئذنك – صوريا – أن أتجنب تفاصيل الأسماء الا تمثيلا أو رمزا، وأسبابى التى لا تقنعك هى ما تبينته من خطابك إلى الصديق جاد الرب تدعوه إلى طريقتك ـكما جاء فى القصة) ثم من خطابك إلى بعد قراءتك “لأغوار النفس” تدعونى أيضا إلى نفس الطريقة، وأنا شخصيا ليس عندى ما يمنعنى أن أسلك أى سبيل وكل سبيل، ولكن الخوف على القاريء أن يتصور أن ثمة طريقة واحدة ستحل محل ضرورة سعيه الفردى المغامر إلى وجه الحق، هذا الخطر قد لا تعرف أبعاده أنت لأنك سلكت السبيل من الأول رغم الاجهاض الذى حرمنا منك، أما دعوتك ابتداء السلوك طريقة “كذا” حلا “لكل أشكال” فمسئولية الكلمة وأمانة معرفتى بتفاصيل الرحلة تمنعنى من ترويج بضاعة كريمة تحمل فى ثنايا التسليم بها “جاهزة” ما تعرف وما لا تعرف.
المدثر: (كان) كتاب الشيخ سلامة حسن الراضى رضى الله عنه مؤسس الطريقة الحامدية الشاذلية للأستاذ المرحوم.
الرخاوى: يا سيدى … تصر على ذكر كتاب بذاته أو كتب بذاتها رغم كل تحذيراتى، يا سيدى الكتب الصادقة والطرق الرائعة الكريمة تملأ كل جوانب المعمورة من أول مسالك “لاوتسو” حتى حضرة السيد البدوى.
المدثر: ترنيمات حامدية على لحن الحب والاسعاد.
الرخاوى: ترنيمات حامدية ونقشبندية وخلوتية ونفرية ومحيى عربية وحلاجية وحافية ومنتعلة، …. يا سيدى ..! يا سيدى …! ..
المدثر: أخذتنى سطور كتاب “الاسلام نسب” .. فهو يتحدث عن المدنية الفاضلة وعن مولانا الامام الحسين رضى الله عنه وعن تصوراته الشخصية عن النظرة الدينية للمدينة الفاضلة والتى يحكم أهلها حب الله والاخاء فى الله معا …
الرخاوى: تلاحظ سيدى أنى بدأت بالقفز فوق سطورك للأسباب سالفة الذكر، ومع ذلك أنت تلاحقنى بتفاصيل تتصور أنها هى – بالذات – التى هدتك، ناسيا أن آلافا غيرك قرؤوها ولم يهتدوا، وأن مئات قرؤوها وسخروا منها، وأن عشرات قرؤوها ولم يفهموها، أنت ذاتك قرأت مثلها قبلها ولم يصلك منها ما وصلك بالذات فى لحظة بذاتها بعد أن أنهكت تماما … أقول: بعد أن أنهكت تماما … تماما.
المدثر: بكيت … نعم بكيت … لم يبكنى كتاب أو كلمات من قبل، لكنى بكيت من سطور الامام.
الرخاوى: غسل الله قلبك وعينيك بطاهر ماء صدقك، ولكن يا سيدى أرجو أن تفهم ما أريد قوله وما أحذر منه.
المدثر: ولكنى رغم ذلك .. فجأة .. وفى بداية السطر الأول من النصف الثانى للكتاب وجدتنى لا أستطيع أبدا المواصلة، وقفت تماما … أو قل ان شئت منعت: عقلا وقلبا وضميرا وحسا ومعنى عن القراءة.
الرخاوى: الله الله !!!! بدأنا نبنى الفعل للمجهول، منعت بضم الميم وكسر النون الذى كان يصنع مسرح الديوان بزجاجة غازوزة فارغة استسلم للمنع والرفع من قوى لا يعلمها ولا حول الا بالله.
المدثر: والله لم أستطع قراءة حرف واحد من هذا الكتاب حاولت مرة … ومرة … ومرات .. أبدا لم أستطع، تركت الكتاب جانبا وأنا أفتش وأبحث عن هذا الأمر العجيب، خطر لى شعاع من الوهج الصافى بأن عندى كتابا آخر وهو الكتاب عن سيدى سلامة الراضى، وبدأت فى قراءته (كان ذلك فى يوم الخميس(10 /6 / 1971) والوقت ليلا … التهمت الكتاب كله فى ساعة واحدة .. أحلى ساعة فى حياتى كانت حتى هذه اللحظة .. شملنى صفاء عجيب .. وهدوء نفسى رائع لا مثيل له .. لم أمر به طوال تلك السنين من عمرى .. يحكى الكتاب عن الشيخ سلامة حسن الراضى مؤسس الطريقة الحامدية الشاذلية.
الرخاوى: يا سيدى، أرجوك لأخر مرة، دعنا نحترم كل المحاولين ولا أتصور الأمر على أن شيخنا بذاته فى يده أو فى طريقته أو فى نموذج حياته حل كل معاناة وجودنا فردا فردا (فى كل أنحاء المعمورة) على اختلافاتنا.
المدثر: سألت نفسى … هل حقا فى الوجود انسان بهذا الطهر المطلق والشفافية اللانهائية .. وهل يوجد أناس معه بهذه الصورة الفريدة البديعة الخلابة .. لم أصدق نفسى .. الكتاب يقول أن أحباب الطريقة موجودون فى كل مكان من الديار المصرية يملأون الأرض طهرا ونقاء.
الرخاوى : اسمح لى – مع احترامى الذى لا تعرفه لك ولكل ما كان ولهم – اسمح لى أخرج عن هدوئى لأقول لك ما رأيك فى أن ندعو لهذه الطريقة بين صفوف الليكورد والمطراخ ليتم الطهر “من الداخل”: سيدى (مع تحياتى للزميل د. شعلان ولعلك كنت معنا فى الحوار الأول)؟ آسف، والله آسفا ولكنك تصر على تخصيص طريقة بذاتها لحل مشاكلنا كلها لا مشكلتك أنت وحدك، حلا عليه علامة استفهام (كما تقول قصة الكاشف) بعد انهاك مفرط.
المدثر: وجدتنى مدفوعا لأن أبحث عنهم وأن أراهم … .. … وأخيرا وجدت من يدلنى عليهم … …. قلت أريد أن أجلس معكم … أخبرنى أنهم اليوم فى بلدة العزيزية شرقية … وغدا ان شاء الله نتقابل فى مسجد …. ……………….. ……
الرخاوى: …. …. ….. …. ….
المدثر: ولكن الفكرة الكامنة فى أعماقى، والممتدة عبر ضميرى ووجدانى وجسمى كله من عدم ايمانى بوجود الله ما زالت ….
الرخاوى: يا خبر !! ما زالت هناك؟.
المدثر: فى اليوم التالى السبت 12 / 6 / 1971، آخر أيام آجازتى، ميعاد الانتحار الليلة .. ان لم أصل إلى نتيجة .. لاحظ ذلك جيدا يا جاد .. وصلت المسجد، اضطررت للوضوء، صليت العشاء، حركات أؤديها والسلام .. ذهبت لمكان الحضرة .. جلست معهم أنقياء كالبللور .. أصفياء كالسماء.
الرخاوى: الحياة حلوة، وأنت طائر الحب، واما الانتحار واما هذه الرؤية، حلال عليك.
المدثر: أهلى وناسى وأصدقائى .. وقطعة من نفسى ومن وجدانى على مستويات مختلفة من الناحية الثقافية والاجتماعية يذوب ذلك كله فى المحبة لله والأخوة لله.
الرخاوى: وكنت ما زلت كافرا.
المدثر: انتابنى شعور هاديء … سمعت أنشادهم البديع بطريقة مبهرة وبأصوات ملائكية.
الرخاوى: الحمد لله أنك لم تسمع رأى من سمعهم بطريقة أخرى ممن لم يكن فى استعدادك.
المدثر: قاموا للحضرة فقمت معهم وأعترف أنى منذ قراءتى للكتاب وحتى هذه اللحظة لم يكن بارادتى ما حدث، بل كنت مدفوعا لذلك دفعا.
الرخاوى: اسمع يا مدثر، والله الذى نفسى بيده ما أريد أن أثنيك عن رائع سكينتك، وليس فى نيتى (بل لعل أكثر ما يؤلمني) أن تعود إلى حيرتك، لأنه ثبت أنك غير قادر عليها ولا أقول غير أهل لها، ولكنك بعد أن بنيت الفعل للمجهول منذ قليل عدت تتنازل عن ارادتك، ماذا تريد أن تقول للناس وللشباب ما دام الأمر ليس بارادتك؟ وماذا تكون مسئوليتى لو صفقت لك؟ هربا – معك – من ألم شرف وعيك؟ قل شيئا فيه “أنت” وما قررت من اختيار البديل الأصح – كما رأيته كذلك – والا فلا.
المدثر: انتهت الحضرة .. وانصرفنا، وما ان وضعت قدمى على عتبه البيت الذى فيه الحضرة خارجا وجدت كأن الله أمامى، أبحث عن نفسى فى أعماقى عما كنت أعانيه من الأفكار .. فلم أجد شيئا … أى شيء، بل تصديقا فى لحظة .. بل أقل من لحظة .. الله موجود، كأنه أمامى .. حولى .. خلفى .. فى جوانبى .. فى نفسى .. فى ضميرى وخلدى .. فى وجدانى وضلوعى وعظامى وأعصابى .. فى عقلى وروحى وحياتى كلها … فى الأرض، فى السماء، فى الشوارع، فى الأشجار .. حقا لم أره مشاهدة العيان ولكنى أحس ذلك معنويا وعقلية راسخة بلا حدود .. حسا ومعنى وشعورا وادراكا .. الله .. أخيرا وجدت الحقيقة وجدت الله.
الرخاوى: الحمد لله على السلامة، ولكن …
المدثر: ما كنت أبحث عن أب كما تصورت يا كاشف ولا أدرى كيف تصورت ذلك يا أخى الفاضل.
الرخاوى: يقول بعض النفسيين وبعض اخواننا المسيحيين ان الله هو الأب الأكبر بشكل ما، ولا تظن أنى أوافقهم تماما، ولكنها تذكرة عابرة.
المدثر: رجعت لحجرتى بمنزلنا .. فى منتهى السعادة بل لا حدود لسعادتى .. وأنا فى قمتها الآن وفى أعماقها ومحيط بكل جوانبها.
الرخاوى: يا بختك يا أخى حيث أنى حرمت منها منذ 7 يونيو 1967 وحتى 15 أكتوبر 1973 كيف استطعت أن تسعد كل هذه السعادة وكانت أرضك ما زالت مدنسة بنجاسة الأوغاد، أن الله فى داخل داخلك لا يسمح لك بمثل ذلك بكل هذا الوجد، اللهم الا وأنت – وأنا – مرتديان حلتى القتال … كل قتال، أحسدك ولا أجذبك إلى غير ما أنت فيه، فليس عندى بديل وتاريخك لا يطمئن، فجهنمك المبدعة أحلتها إلى رماد تصنع منه قرابين السعادة .. حلال عليك مع الاختلاف.
المدثر: وجدت الحب والاسعاد … وجدت الله … وجدت المحبوب الأسمى ونور العيون .. وجدت الله، ذهبت فكرة الانتحار وغابت وتبخرت من ذهنى كما تبخر كل انكار من وجدانى… دار حوار بينى وبين نفسى استغرق دقيقتين، دقيقتين فقط، قلت وقد نظرت إلى كتبى لقد وصلت إلى الحقيقة من غير ذلك.
الرخاوى: بل من خلال – وبالرغم من – “ذلك” ..
المدثر: (ونظرت) إلى ما كتبت وما رسمت وقلت “ومن غير ذلك أيضا”.
الرخاوى: بل من خلال – وبالرغم من – ذلك … أيضا.
المدثر: وقلت أما أن أستمر فى ممارستى الفنية وأعيش فى نفس الوقت مع هؤلاء القوم وهذا فى نظرى نفاق.
الرخاوى: (مقاطعا) يا ترى هل عدلت عن فكرة الانتحار أم استبدلتها بما يكافئها؟.
المدثر: أم أتفرغ للعيش الصوفى وحب الله عز وجل.
الرخاوى: تفرغ ؟!!؟ وأنت القائل ان الجهل هو ألا تعمل بما تعلم !!
المدثر: حزمت الأمر .. وحسمته .. حرقت كل ما كتبت، وكل ما رسمت حتى تصميم المسرح الالكترونى.
الرخاوى: وتقول أنك عزفت عن الانتحار؟ ومع ذلك فلعلك انتقمت منا. فما قتلت الا ما قتلناه فيك قبل ذلك، ليكن، ولتفر بجلدك.
المدثر: وفى اليوم التالى أهديت كتبى للأصدقاء وكما جاء فى خطابى لمحمد جاد الرب، وخصصت عبد الحميد الكاشف بالكتاب المقدس.
الرخاوى: عقابا لهم على عدم رؤيتهم لك حين كنت تحتاج (وترفض) رؤيتهم .. يستأهلون.
المدثر: قالوا تقليعة جديدة وابتكار من نوع آخر لهذا المجنون .. وسرعان ما يعود الينا وإلى المسرح والفن وليالى الرغى فى سامر الفكر.
الرخاوى: توقع الأمل فيك.
المدثر: ولكنى لم أعد اليهم … وإلى الآن .. بل وإلى الأبد.
الرخاوى: لست أدرى هل أقول “خسارة” أو “حلال عليك”.
المدثر: أيمر كل ما حدث لى هكذا … ونعتبره حدوتة أو أرجوزة أو أهزوجة قد تكون جديرة بالنشر فى مجلة الانسان والتطور … أو لا يجوز نشرها … ولكنه أمر بالغ الخطورة ما رويت وحدث بالفعل.
الرخاوى: هو فعلا بالغ الخطورة .
المدثر: هو حديث عن التصوف الأخلاقى والمدينة الفاضلة وفضل الشيخ على مريديه وعناية الله بهم، حديث عن الحب والاخلاص والوفاء لا نظير له على الاطلاق .. بجمع بين الشيخ والمريد … والأخ وأخيه .. فلم أقض يا عبد الحميد يا كاشف أيامى مع شيخ ضرير .. أو أقضى الليل مع تأوهات مجذوب، وبالتالى لم أصبح الوجه الآخر لعملة الوالد، الوجه الماسح والرديء، ولكنى عرفت شيخى وقدوتى وأستاذى وحبيبى.
الرخاوى: لست متأكدا من صواب ما أفعل، فان أنا سكت خدعتك وكأنى موافق، وان أنا تكلمت فقد أحرمك من حقك فى السكينة بعد ما أنكرنا – نحن – ابداعك فأنكرت – أنت – نفسك، اعذرنى ودعنى أكتفى بأن أذكرك باعتراضك على الكاشف باعلانه حاجتك إلى الأب، وما كنت تحتاج إلا إلى الله، فان صدقناك وكذبناه، فأين يقع شيخك بين هذين القطبين؟.
المدثر: علمنى (شيخي) معنى الطهر .. ومعنى النقاء .. وأيدنى بروحه الشفافة فرأيت الطريقة .. المدينة العملية الفاضلة التى أنشأها منذ أكثر من مائة عام أناس فى منتهى الشفافية يجمعهم حب الله والرقى الأخلاقى.
الرخاوى: يا مدثر … يا مدثر … صلى على الذى يشفع فينا، كلما كففت نفسى عنك أثرتنى، كيف نمت مدينتكم هذه وسط حالنا هذه، فى بلدنا كانوا يقولون عن الأرض الخيال انها تقع على “شمال السما”، فهل أنتم هناك رغم الاحتلال والقهر والكذب وبيع الضمائر ولعبة السياسة والاغارة على الوعى وسحق الفرد والجماعة؟ يا مدثر: نظرة، الله يخليك وينفعنا بمدينتك، ولكن آسف، وماذا فعلت أيضا مدينتكم؟.
المدثر: أزالت الفجوة المفتعلة بين الأجيال.
الرخاوى: وألغت التطور بالمرة، ولنغلق أبوابها ( مجلتنا أو جمعيتنا).
المدثر: ولذلك حديث آخر … طويل وخطير
الرخاوى: وشكرا.
المدثر: وعملت على تنقية النفوس والقلوب من الزيف والأغيار والأوساخ البشرية.
الرخاوى: ………………………
المدثر: فكيف تحول انسان محطم نفسيا تماما غير لائق اطلاقا للحياة الشريفة ينظر إليه المجتمع على أنه مثال الصورة السيئة للانسان والتى لا أمل لاصلاحها؟.
الرخاوى: أهكذا كان ينظر إليه المجتمع؟ ومع ذلك حتى لو صح ما تقول: فلماذا قبل هو هذه النظرة لمجرد أنه حاول الاختلاف لدفع عجلة الابداع؟.
المدثر: كيف تحول هذا الانسان إلى شخص فاضل شريف مطمئن النفس والوجدان متألق الفكر والأفكار، بل يصبح: مدينة من الحب والخير والجمال والسلام … كيف تحول إلى ذلك، تلك مسألة حار فيها علماء الأزمنة المختلفة.
الرخاوى: من قال لك ان علماء الأزمنة قد حاروا كل هذه الحيرة فى هذه المسألة؟ اسمح لى يا سيدى ألا أتمنى أن أكون مثلك ولا مثل شيخك الفاضل نفعكم الله به ونفعنا بقدر مسئوليتنا عن النفع والضرر، واسمح لى وأنا أحاول امتلاك زمام قلمى لضبط الجرعة = أن أقول لك أن طريقك قد تكون قد حلت مشكلتك الفردية “بالوصول” أو “الهداية” أو الانتحار الآخر (قتل الابداع) أيها ترى، لكن مسيرة البشر تحتاج إلى كل الحلول حسب الطاقة والمرحلة: مرحلة الفرد والمجتمع وتناسباتهما المتغيرة فى كل آن، ليكن طريقك حلا فردا مثل أقراصنا وأفضل كثيرا، ولكنه ليس “هو الحل” بل لعله حل على حساب يقينك وحساب ما وصفه الله فيك وفينا رغم ثقتك بكمال وجهتك إليه، ومهما كان مصدر ما تحقق لك، و … وطبيعته.
المدثر: الذى حقق لنفسى كل ذلك يا د. يحيى “الجذبة”: تأتى قبل الحب … تأخذك منك إليه، فبعد ضباب نفسك ضياء نفسه، وبعد قلق قلبك هدوء واطمئنان قلبه الزاخر، .. “الجذبة” .. جذبة الشيخ لمريده، علم له أصوله وجذوره وأعماقه .. فلا يأتى التصوف الا بالحق … ولا يظهر الا بالبرهان .. بفضل تلك الجذبة يخرج المريد من الظلمات إلى النور.
الرخاوى: لست أدرى لم تذكرنى بالحوار الأول، آسف، ومع ذلك قد تكون القدرة ضرورة، ويكون دو ر المعلم لا غنى عنه فى كل تربية تقليدية أو ابداعية أو روحية، ولكن حكاية “الجذبة” هذه تخيفنى وأنا أتذكر حيرة رأس الدبوس على طرف المغناطيس، كل شيء على حساب الابداع باطل يا سيدى، وأكاد أقول – بلا زعل – ولن يرضى الله عنا ما لم نبدعنا من جديد اليه، والجذبة لا توحى بأى نبض ابداعى حقيقى، وأنت قد أكدت مخاوفى للأسف حين نحرت أوراقك، وحكاية النقاء والصفاء والطهارة وأشياء كلها لا يشرف الانسان بها لذاتها (فهى صفات ملائكية مستعارة) ولكنه يشرف بتوليف تناقضاتها فى نغم كونى يشملها كما يشمل ضعفه وتناثره ودونياته، (آسف = تذكرت ثانية الحوار الأول) لا يا سيدى، واسمح لى من واقع نقائك أن أختلف معك دون أن أفقد صداقتك أو أحرم دعواتك، أختلف معك لدرجة قتالك فى سبيل الحفاظ على حقى فى ألا “أنجذب” وانما أنا أدور فى نغم ينبعث من ارادتى فى تلاحم مع ارادة الآخرين والأكوان فى فعل يومى عادى من بين نتاجه الابداع الذى لا يعرفه شيخى ولا شيخك ولا غيرهما، الابداع – لكى يكون ابداعا – وأنت خير العارفين رغم ما سكبت عليه من أحبار سكينتك لابد أن يكون مغامرا بتوليف جديد لا يعرفه أحد قبلا فكيف تجبنى لكى أكون خالقا مثل خالقى وأنت تحدنى بكل هذه المراسيم؟.
المدثر: للطريق قانون يسير عليه أبناؤه وطلابه …..
الرخاوى: أنا لا أرفض القانون، لكنى أشارك فى وضعه وأحافظ على حق تغييره.
المدثر: (الطريق) نقاء وصفاء وضياء، وجمال وأخذ بين العباد إلى الله عز وجل، ثم ألا يكفى فى ذلك على سبيل المثال يا دكتور يحيى تجربتى الشخصية.
الرخاوى: طبعا لا يكفى يا سيدى، بل انى لو كنت صاحب طريقة مسحتك هذا المسح وألغت ابداعك وتألقك لخفت على سمعة طريقتى بأنها تقتل الابداع، وحتى بفرض نجاح تجربتك الشخصية وانقاذك مع الانتحار والضياع إلى ما “هو أنت” الآن، فهى لا تصلح للتعميم مع الفروق الفردية.
المدثر: ان للطريقة جوانبها المتعددة وفيوضاتها المتألقة، وصورها البديعة الخلابة، وأسسها الاسلامية، الراسخة وعلومها التى لا تعد ولا تحصى وفى الطريقة وآدابها العلية يحلو الحديث، فان أردتم زدناكم.
الرخاوى: شكرا، نفعنا الله بكم وبها، ولكن اسمح لى بكلمة أخيرة يا سيدى، فالمعركة شاقة بكل معنى الكلمة، وهى ليست معركة “خلاص فرد” لم يستطع تحمل فرط جرعة ابداعه بسبب انكار من حوله لها، فاهتدى إلى ما أهتدى إليه، ولكنها معركة تحد بمسيرة البشرية كافة بقدرتها على الابداع المتجدد (وهى صفة الخالق الذى نحن كمثاله) لمسايرة وملاحقة تحديات ابداعاته السابقة، ثم هى معركة مساحة وعى الناس ونتاجها تجديدا ومعايشة تجاه اغارات السيطرة ممن سبق وامتلك زمام السلطة من أموال وسلاح وتكنولوجيا، ولن ينفعنا – سيدى – لا فى المعركة الشاملة الكبرى، ولا فى المعركة المحدودة الأصغر كل هذا النقاء والصفاء على حساب الوعى المبدع، واختفاء الألم ليس دليل اليقين فقد يكون غير ذلك، ورحلتك الرائعة ونهايتها مرضية لك، لكنها رحلة مسبوقة، وأمامنا الغزالى (المنقذ من الضلال) ومعاصرنا د. مصطفى محمود (من الشك إلى الايمان) يسبقانك ويواكبانك، لكن أمامنا الغزالى لم يبح لنا بعلوم المكاشفة لأن الجرعة – فى يقينه – أكبر من احتمال العامة فى حينه، فهل ما زلنا فى نفس المرحلة التى عاشها؟ أم نحن أدني؟ ومحاذير أبى الحيان التوحيدى تنبهنا إلى عظم المعاناة لتحمل ما نعرف دون أن نقول، فاذا كنت لم تحتمل، فلا يكلف الله نفسا الا وسعها، ولكن دعنا نحاول، وأخيرا فان النقلة الكبرى الواردة فى “البحث عن الذات” يرعبنى تفسيرها يا سيدى على نفس النمط رغم شدة وجه الشبه، وهذا – وغيره – هو ما يلح على لربط الحوار الأول مع د. شعلان، بحوارى الآن معك، ولكن هذا حديث آخر، وشكرا.