عدد يناير 1983
رسائـل
ميلاد النقد وغزو التراث
د.عادل مصطفى
” مايكونه الانسان، وماكان يتضح عند الفراق
نحن لا نسمع ما تتمتم به آية الله
لكننا نرتجف عندما تصمت .”
” هانز كاروسا “
واحدتى ” ص “
بدأت رسائلك تغمرنى … يا مواسم التنادى … ورفيقك يذرونى ياتنادى المواسم . ويبدو أن الفائدة الثامنة للأسفار هى أنها تتيح لنا أن نرى من أحبائنا واجهات جديدة ونكشف من فتنتهم زوايا مجهولة .
فأشواقك المسافرة… المتبلة بتنهدات البحر… المبللة بأمطار الشمال… لها وجد مستجد وطعم وافد لم يرد فى نعيم مائدتك وقطوف جناتك .
أنه الغرب هذه المرة وما أدراك. وها هو انتقاعك بين الأجناس الأوربية يفتح على رأسك شلالات الوعى ويشعل فى ذهنك نيران النور.
أنه موقظ هيلدرين … بل ملاك رافائيل البرتى الطيب الدرب، يحفر فى صدرك ـ دون أن يجرحك ـ نهر ضوء، ويجعل روحك صالحة للملاحة .
لقد بدأ ” النقد ” يفعل فى ذهنك فتتفتق سدم قديمة وتنفرط أكوان جديدة. وهل يزيدنى نضجك وتعقدك وانفراج حدود ادراكك الا حبا؟… أن حبى كأقواس دوائرك وهالات بشرتك لايبرحك بل يمتد بامتدادك وينبسط بانبساطك .
أحبك تدسين الحق وتسمنين المعجم… تثرين نغماتك وتغذين مقاماتك…. تهوين تزويج الأسطر وتهضمين الكونتربونت .
أحبك ترتادين المسافات وتؤوين الغرابات وتريدين ككرة الاسكواش على حوائط القارات .
أحب ديكارتيتك الوليدة التى بدأت تحنو على الممكنات وتقسو على الحدود وترتع وراء التل.
أن المكان يزيدك عتقا فى ذمتى كما الزمان يزيد اللؤلؤة فى ذمة البحر.
أحبك على زندى جيلية طائشة الرشد
واحبك على خلدى داجنة راشدة الطيش.
أحب خطوتك النغم … لفتتك الفجاءة.. بسمتك المسرة.
أحب أنوثتك الدربة التى تعرف من أين يسح البوح ويشد طفل الرجل.
أحبك ياغار الحرية يا خدر القيمة.
أحبك يا ” سوى” يتيح لذاتى أن توجد ويا” آخر” يشد على” أناى ” أغطيتها .
أحبك وأكرز بك بين أصيحابى .. أضوع واياهم.. أبوح والصبا … أسر والنرجس .. اشرب والليل.
واحدتى ” ص ” :
تذكرنى لمحاتك الماكرة وسطورك الأملودة التى نضج فيها العصير وتعتقد السكر ـ بحكمة فلسفية قديمة تعلمناها معا فى مدرج 78 تقول :
” من لم يقرا الا أفلاطون لم يفهم أفلاطون ” فأنت لا تملكين الحكم على نسق ما حكما موضوعيا الا اذا فارقته الى حين وتملصت من مجاثمه وقارنته بنسق آخر. حينئذ يختلف اللصان ويظهر المسروق، وتبقبق الأغاليط وتسلم أقفيتها لقبضة النقد.
لقد أسبغ الله عليك نعمته العقلية، فشهدت من الأنساق ما يزيد مفاصلك الذهنية مرونة وخيالك المنطقى خصبا. فأصبحت ترين المصادرات الأولى من خلف ركام النتائج. وتجيدين الانفلات من حبالة الاتساق الزائف. وترمقين الأغلوطة وراء الحكم. والأنشوطة وراء الطعم .
ويأبى الله الا ان يتم نوره فيتيح لك الانتقال بكليتك الى أقوام يعيشون بشفرات أخرى ودساتير مختلفة فلا يلقون عنا عقلا ولا نبلا. فأضفت ذكاء القلب الى ذكاء العقل، وصرت لا تستعيذين بالله من همزات النقد وحضور أن يكون مفكرا أو انسانا بحق… جراحة استئصال ذلك الورم القديم المطمور فى قيعان النفس كيما يطعن السفن ويعوق الملاحة… استئصال ” المصادرة على المطلوب ” التى زرعها فينا البالغون الأسوياء اذ نحن أطفال عزل. فلقنونا ما لقنوا وأورثونا ما ورثوا، فنشأنا نفكر برءوسهم ونرى بعيونهم. ثم علمنا بروميثيوس اللاشعور من الحيل والألاعيب ما نستطيع به أن نسوغ الألسن ونبلغ الحجر. ووهبنا ديونيسيوس التبريرrationalization ما وهبه لميدياس من قبل : أن نحيل التراب الى تبر واليباب الى ذهب. فما شببنا عن الطوق الا وقد تأصل فينا الواهى واحتكمت البلاهة .
واحدتى ” ص ” :
فى مزاجى نقلة هذه المرة وفى حديثى ثقلة. فالعقل العربى على فراش المرض، يثخنه القهر الامبريالى من الخارج، واورام التراث الغازى من الداخل. وأخشى ما اخشاه ان يقيض له أطباء زائفون يصفون أدوية ” مخلوقة ” واخف من بعض الدواء الداء .
يثخنه القهر الامبريالى من الخارج … يرغمه أن يبيع دمه بثمن بخس ليشترى به زجاجات جلوكوز فاخرة واسطونات أكسجين عليها علامة الجودة، ويضمن له حياة أطول فى غرفة انعاش متطورة. ويدوخه ـ كالثور الأسبانى ـ بخرق مستوردة وكماليات حمراء، لينس الاكتفاء ويحترف التبعية ويظل لاهثا أبدا يعانى انغلاق الاختيار وانفتاح العيلة والاعتمادية.
وانه لأمل خائب ورجاء عقيم ان ننتظر الابداع من رأس يستمنح اقواته وبستورد سعراته .
وتثخنه أورام التراث الغازى…. فيأبى فى صلف جريح وعنجهية موجوعة إلا أن يجحد طعناتها الداخلية ويحمى صديدها المكتوم، وقد تعلمنا فى دراستنا الطبية كيف انه من الممكن أن يغزو الجسم نفسه، كأن تهضم المعدة الرعناء نفسها فتتفرج … أو تنفث الكلية الفاشلة سمومها الى كل الأجهزة… أو يسرب العضو الغنغرينى الموت الى باقى الأعضاء …. أو غير ذلك من الأمثلة اللاتحصى .
نعم.. قد تغزونا أجسامنا، فلماذا نستبعد أن يغزونا تراثنا اذ يتحول فى عقولنا الى مسلمات صاقعة لا تقبل النقاش ولا الجدل؟.
نعم يغزونا التراث… واننى لعلى حذر واجب من الوقوع فى التفكير التشبيهى” الذى تفرغت لمطاردته كما تفرغ غيرى لمطاردة الحب ” فالتشبيه هنا سلام لا كلام … رجة لا حجة .
أما الدليل الحق على غزو التراث فتنيئنا به زرقاء المنطق والاستقراء. فأقل فحص تاريخى واجتماعى وفلسفى يكفى لبيان الهوة السحيقة التى تفصلنا عن الأجداد. سواء فى البنية المفرزة أو التوجهorientation العقلى أو فى المصادرات العلمية عن تكوين الانسان وطبيعة الكون وتصور العالم. هوة هائلة مروعة تهون بجانبها الهوة التى تفصلنا عن حضارة الغرب المعاصرة التى تعيش معنا ظروفا متقاربة وتربطنا بها وشائح محتومة. مع وعود من التقنية الصدوقة ووسائل الاتصال المذهلة بتقويض ملك المكان وتصفية نفوذ المسافة نحو مزيد من الانصهار والألفة .
لقد ترك لنا الأجداد ارثا نسجوه على مقياس عصرهم وظروفهم الخاصة. ولقد بعدت الشقة بيننا وبينهم واختلفت الظروف اختلافا يجعل ارثهم شيئا منكرا دخيلاantigenic بل مضحكا هزأة، من يأخذه مأخذ الجد يشبه رجلا عقلا مأفونا يهرول بين الناس وقد ارتدى جلبابه اذ كان صبيا صغبرا… فما غطى الجلباب غير ذقنه ورقبته، وما اكمله الا أكف الصبية وشماتة الخلق .
ومن نكد الدنيا على الحر أن يبتلى كل يوم بسماع أسطوانة مشروخة بصوت أناس توقف نموهم الذهنى وانقصف عمرهم العقلى. يقول: فلنعد الى قيمنا وأيديولوجيتنا يوم كنا سادة الأرض. خالطين بذلك بين معية togetherness وسببيةcausality. ناسين أن الأرض دولة بين الناس وأن كل حضارة تأخذ نوبتها وتشيخ بقوانين محسوبة .
ومايزال رعاة القيم وحماة الحرمات يخلطون خلطا أقبح بين الفوقيةsuperstructure والتحتية infrastructure، وبين الظاهرة Phenomenon والظاهرة المصاحبةepiphenomenon . وقد طالما جربوا وصفتهم فزادتهم رهقا. ولطالما بدؤوا بالصوت ليغيروا الحركة(!!)، وطالما بدؤوا بالقيم فضل سعيهم. فكلما عدلوها مالت، وكلما سووها انبعجت. لسبب بسيط.. أن القيم”فوقية”، وأنها افراز ثانوى للبنية، وما هى الا ملك من القش تابع لحكم الاقتصاد. ولو علموا عنته وهشاشته ما لبثوا فى العذاب المهين .
وهل يلد الخطل النظرى الا خطرا عمليا؟ ان وصفاتهم القيمية ونكوصهم الأيديولوجى ليستهلك الجهود ويعطل الاصلاح الحقيقى الذى يجب أن يبدأ بالبنية. وما يزيدنا عبثهم فى أمعاء القيم الا شللا وانتفاخا.. ومايزيدنا تلكؤهم الجدلى وتسكعهم الكلامى الا انطواء وتخلفا عن عربات الأيام.
واحدتى ” ص ” :
أغبطك كثيرا على سيولة المرور عندكم… فأنت تصلين الى عملك فى بضع دقائق، مارقة بسيارتك فوق هدير السيول ووعيد الرعد… تصلين فتجيدين وتتقنين وتعودين فى دقائق الى خدرك، مكنونة كالؤلؤة فى فراء معطفك، فتفرغين لبناء ذاتك، وطقس مدفأتك محضن الأمل، وفى طاقتك بعد حصة للأهداف العليا للحياة
وأغبطك عليها… واحسدك حسدا طرى الأظافر… فالطرق فى القاهرة كالعدارة hydra الأسطورى ذى التسعة رءوس، لا يقوى عليها الا هرقل. الطرق فى القاهرة تستهلكنا وتتلمظ بأعمارنا وعافيتنا، فنكبرها ونؤلهها كنار المجوس.
وحين تعز الوسيلة تنتفش وتتوحش وتصبح هدفا فى ذاته وتتنكر للغايات العليا وتنتزع عرشها، بينما تنطوى الغايات الحقيقية للحياة وتتنحى كالعياسيب المطرودة
رحم الله كارل وفردريك….. فما أراد الشريفان الا أن يكسرا شوكة الوسيلة ويسقطا حكم الجرابة ، لكى يفرغ الانسان لانسانيته، ويلتقى الانسان بألوهته، ويخلو بخله، ويتهيأ لما خلق له.
مرور القاهرة……. مستنقع طينى بغيض فيه عزمى وتسوخ طاقتى.. ويحبل صمتى بصرخة لوركا: صرخة تحزم السماء بقوس قزح أسود…. صرخة ترتعش تحتها أوتار الريح الطويلة … صرخة يبرز لها سكان الكهوف رافعين مصابيحهم
واحدتى “ص ” :
رسائلك الى ……….
ظل من رحمة
طل من نعمة
خمر من بوهيميا
تخلع زقها وتأتينى متجردة
فلا أرشفها رشف ضنين ممسك
بل أعبها عب غجرى اسبانى
يعرف كيف يسلم جوفه لفورة الدفء
ويضع روحه تحت تصرف النشوة
ويشرك حواسه فى ميلاد الجمال
………………………
……………………….
………………………
ذاهل بالتوقع
قانع بالرسائل
اشربها ….. وأشربك بعدها
كما يشرب الخيال صمت الفواصل
ويشرب الوعى الأحجار الناقصة من معبد الأكروبول
أشربها.. فتشبع بأجزائى
وتتعضى بأعضائى
وتشارك فى صياغتى
أشربها … بل تشربنى
اذ انسلخ الى دنياها
وأنتهى الى منتهاها
فما يبقى منى الا ما بقى من قطة تشيشاير:
بسمة قابعة.
واحدتى (ص):
أستمتع هذه الأيام بقراءة تشيكوف . وقد أذهلتنى أقصوصته ” السيدة صاحبة الكلب” , لا لما فيها من طرافة فنية وتحليل عميق فحسب, بل لذلك التشابه الذى يشبه التواطؤ بين قصتنانحن وقصة جوروف وأنا سرجيينفنا صاحبة الكلب (مع الاعتذار لمقتضى الحال).
أرجو أن تقرئى تشيكوف وتستريحى عند “السيدة صاحبة الكلب” وتفكرى ـ بعد متعة مضمونة بالفن والتحليل ـ فى كتابة نهاية مرضية لهذه الحكاية الواحدة .
واحدتى ” ص”
كتابتى اليك فى ملك المساء
شوقى يفيض عن جوانحى
ويكتسح ضلوعى الهشة
فيغرق رايات السحر
ويعوق دورة الفلك
ويوقف تدفق الأيام
الليل ينشرخ له وينهار كالكذب
أراك تنامين كالفتنة
وتتقلبين كالفكرة الوليدة
المكان يناوئنا ويباعد بيننا
واللحظة تجمعنا فى حظيرتها السمحة
أنسل اليك نغما دافئا
خفيف الوطأ على جسد المسافة
أقبلك نائمة واندس وأجوس فى مدائنك البابلية
فتشبعنى بالمعنى
وتكسونى بذهول أخرس
وأعود عودة ” هاردى” من “ليونس” :
”with magic in my eyes”(1)
كلمتك
عادل مصطفى
طلعت حرب
23 / 11 / 1982
- [1] – البيت خاتمة قصيدة مشهورة لتوماس هاردى …. ترجمته: وأعود وعيونى ذاهلة مسحورة .
” التحرير “