عدد يناير 1983
حـوار
حـول اضطراد الطبيعة
وفاء خليلx إبراهيم عادل x د.محمد السماحى
وفاء: ليست رسالتى مساهمة فى موضوع الاطراد بقدر ما هى عرض لأشكال واجهنى على من تسبب فيه. عدة مرات أقرأ مقال د. السماحى (حول اطراد الطبيعة) وأخرج بيقين أنه قال بعدم اطراد الطبيعة – دعنا من دوافعه – لكنه قال بعد الاطراد، وحررت أنت مقالا تقول فيه بعدم الاطراد على أساس انه قال بالاطراد، وأصبح اشكالى المبدئى هو لماذا تم الأمر بهذا الشكل؟
عادل: الملاحظة مثيرة للاهتمام، وإذا أضفنا لها أن د. الرخاوى كان قد أبدى لى – مشافهة – نفس التعليق من قبل، وإذا افترضنا أن الموضوع لم يكن مجالا لمناقشة بينكما، فإن الأمر يثير تساؤلا ملحا: هل يقرأ كل منا نفس الموضوع بطريقة مختلفة عن الآخر، إلى الحد الذى يجعلنا نخرج من نفس المقال بمفاهيم متناقضة؟ وهل إلى هذا الحد لا يمكن أغفال العامل الشخصى عند الكتابة أو القراءة؟ لقد قرأت مقال د. السماحى كالآتى: “هناك اعتقاد باطراد الطبيعة، وهو اعتقاد نابع من الحس السليم، والاطراد يجعل مهمة العلم سهلة فالاستقراء وتوقع الظواهر ممكن، والسببية والحتمية ممكنة، ولكن – للأسف – أن هذا الاطراد غير كامل، مما يعقد الأمور ويجعل مهمة العلم صعبة، وعدم تمام الاطراد هو أمر مؤسف، فهو يكاد يكون عيبا فى الكون، كما أنه يبرز عيوبنا كبشر ويذكرنا بضعفنا العقلى الذى لا يمكن التخلص منه، لا سيما أمام القضايا العلمية حيث يستحيل الاستقراء والتعميم، وعزاؤنا ان هناك (اطراد ما) حقا انه اطراد غير كامل – وياليته كان كاملا – ولكنه يمكننا من تحسس الطريق، أو يجعلنا نتوهم اننا نتحسسه’.
لذا فقد قرأت مقال د. السماحى على أنه “دفاع” ما ‘عن الاطراد’ أكثر مما قرأته على أنه ‘يقول بالاطراد’.
وفاء: فما الذى سبب لك الدهشة التى تصل إلى حد الفزع؟.
عادل: أصابتنى بذلك فكرة الاطراد ذاتها (كون الاطراد محتملا أو واردا)، فالاطراد من وجهة نظرى مرادف للموت، ليس موتنا نحن فقط ولكن موت أى احتمال لامتداد أو تطور لنا، موت الطبيعة والكون بأسره. والمقال يطرح كبديل وحيد له (كأنما ليحتم علينا العودة إليه) حالة مستحيلة من الفوضى أى: ‘فلنعرف بعجزنا العقلى حيث يكاد يستحيل العلم لاستحالة الاستقراء والتعميم، ولنعلم بأن معرفتنا عن الكون المبنية على احساساتنا هى معرفة غير واقعية، وهى معرفة عن كون مثالى غير واقعى، هو شبح للكون الحقيقى الذى لا أمل لنا فى معرفة أى شيء عنه، ولنقبل هذا النقص فلا حيلة لنا أمامه، فنحن كائنات بيولوجية تحس بالأنزيمات والأيونات، وغير مسلحين بما يؤهلنا للمعرفة الحقيقية، وليستمر هذا القبول بالنقص لفترة – ليس هناك ما يبشر بنهايتها – نقبل اثناءها بدراسة الكون دراسة تشريحية جزءا جزءا، دون أن نسمح لأنفسنا بتعميم أى قواعد أو لنقبل بالقواعد الاحتمالية غير الدقيقة والتى تعتبر درجة أدنى من المعرفة’، لذلك فقد رأيت المقال برمته كأنما هو ‘دعوة أو تصريح بالهروب’، الهروب من:
* أن تعدد أوجة الكون واختلافه وعدم اطراده لا يعنى استحالة مهمة العلم، وأن يكن يعنى صعوبتها، ولا ينفى امكانية الاستقراء والتعميم، وان يكن يجعلها محفوفة بالمخاطر، فالطبيعة متغيرة ولكن لها قوانين تحكم هذا التغير، وعدم تمكننا من استيعاب هذه القوانين دفعة واحدة لا يمنعنا من بذل الجهد الدائب على طريق معرفتها.
* أننا كائنات بيولوجية، ولكننا الكائنات البيولوجية التى تمتلك عقولا مفكرة ومبدعة لا تمكننا فقط من فهم حقائق الكون ولكنها تجعل لنا دورا- قد يكون دورا مسئولا – فى ادارة هذا الكون.
وفاء: أولا: أنا استقبل فكرة الاطراد على أنها تشابه وليس تطابقا ولا تكرارا، ومما يلغى فكرة التطابق تماما عنصران: تغير عنصر الزمن، التغير فى التركيب الفيزيائى للمكان، أى أن ظاهرة نبض القلب مثلا وكل نبضة يقال أنها متكررة ويقال أن كل نبضة تتم فى زمن مغاير ومخالف للنبضة السابقة ومكان مغاير، وبالتالى فهى ليست نفس النبضة أى ليست نفس الظاهرة.
ثانيا: أنا أفرق بين ظاهرة الاطراد وفكرة القوة (من مرادفاتها العود الأبدى) ومؤداها أن الطبيعة تدور دورات، ما أن تنتهى الدورة الأولى حتى تقوم باعادة كاملة لنفس الدورة وهكذا، وأسمح لى رافعا عنى مظنة حشو وحشر الأسماء بأن أشير لبعض من قالوا بها (هيرقلبطس: الأصل فى الكون عنصر النار، وتخرج عناصر الكون من النار بترتيب معين، ثم يتحرك الكون نحو الأصل ليرجع نارا.. أفلاطون.. نيتشة: يتحرك الكون صوب الكمال الأبدى ويمثلة الإنسان الأعلى ويتكرر للأبد.. راسل: المادة لا تفنى ولا تستحدث، وكل ما يحدث هو تغيرات فى يالصورة ما تلبث أن تعود مرة أخرى للصورة القديمة.. وهكذا).
ثالثا: اتصور أن هناك فروقا بين شروط الظاهرة والظاهرة نفسها فقد يكون وزن الأرض أو كثافة الغلاف الجوى أو .. وكلها متغيرة هى شروط لظاهرة الشروق… وكلما تقدم العلم فى اتجاه مزيد من دراسة الشروط كلما استوعب أكثر الظاهرة التى قد تكون هى نفسها شرطا لظاهرة أخرى والتكرار (بعد اتفاقنا على المتغيرين وهما الزمان والمكان) قد يحدث فى الشروط ولكن لا يحدث فى الظاهرة.
رابعا: اتصور ان الطبيعة الاحتمالية للعلم لا تنفى الاطراد بمعنى التشابة ولكن تؤكده، فما دامت الظاهرة مطردة أى متشابهة، فإن المسار التنبئى يكون احتماليا وليس حتميا. أصبح الأشكال عندى مركبا بعد قراءتى لمقالتك فأتساءل هل فهمت الاطراد كمرادف للتشابه؟ ولم ترفضه؟ وهل تستقبل العالم ككتلة من الفوضى المتجددة؟ وكيف سيجتاز العلم مهمته وسط هذه الفوضى ان لم يختزل ويقرب ويقس (على التشابه ثم يتصاعد إلى القياس (على التغير)؟.
عادل: ان فكرة العود (العود الأبدى) هذه تماثل فكرة الاطراد، فهى تمثل مثاليا مغلقا قابلا للانعكاسclosed ideal reversible system يكرر نفسه كل دورة زمنية، ومثل هذه الأنظمة غير موجود فى الطبيعة، أما الموجود: فهو دورات غير مثالية وغير قابلة للانعكاس، أى ان تكرارها يعطى نتائج متغيرة كل دورة، ودورات التاريخ ذاتها حين يتكرر فهى تتضمن أما تطورا أو تدهورا عن الدورة السابقة، ومن المعلوم أن فكرة عدم فناء المادة أو استحداثها قد ثبت عدم صحتها، فالمادة تفنى وتستحدث فى كل لحظة فى الكون.
أما عن استقبال الكون ككتلة من الفوضى المتجددة، فان حقيقته أن الكون متعدد ومتنوع ومتشابك ومكون من العديد من الأنظمة المفتوحة المتبادلة لا تعنى انه كون من الفوضى، واعذرنى يا وفاء إذا اشم فى كلامك هنا نفس تهديد د. السماحى بأنه إذا لم يكن الكون مطردا فيكن غير قابل للتعرف عليه، أو ليكن كونا منم الفوضى، ولنا ان نتخلى عن مسئوليتنا عن فهمه (ناهيك عن التدخل فى ادارته) والواقع أنى أرى ان التعدد والتنوع والتشابك وتبادل التأثير ليست مرادفة للفوضى، فالظواهر فى تنوعها وتعددها وتبادلها للتأثير تجرى طبقا لقواعد قد تكون بسيطة فى جوهرها، ولكن التعدد والتبادل إذا ما أثر على البسيط نتج عنه نتائج شديدة التغاير، والاستنتاج والاستقراء ممكن، وتطبيق المناهج الاحتمالية وارد، واستنباط مناهج جديدة وارد أيضا، (وبالمناسبة فالحدس وارد أيضا، فهو منهج، وان يكن منهجا شديد الذاتية).
وفاء: تقول ‘ان عدم الاطراد هو أملنا الوحيد.. فلعل تمسكنا بألا نكون مجرد اطراد لأسلافنا هو المبرر الوحيد لعدم الانتحار’. وهنا أتساءل: هل عدم الاطراد كامل فى حياة انسانية= عدم الاطراد فى الطبيعة؟ أى هل فكرة المعنى الذى نخلعه على حياتنا هى فقط التى لا تجعلنا مجرد اطراد لاسلافنا؟ أتصور اننا لسنا اطراد لهم حتى على المستوى البيولوجى، لكن المعنى هو ما يليق بانسانيتنا، لكن هل نحن نناقش انسانيتنا أم نناقش الاطراد؟.
عادل: أوافق على أننا لسنا اطرادا لأسلافنا حتى على المستوى البيولوجى، ولكن انسانيتنا تشمل أيضا بيولوجيتنا، كما أن مناقشة انسانيتنا تستلزم بالضرورة ثورتنا على الاطراد حتى على المستوى البيولوجى.
وفاء: كما اتساءل وأنا معك إذا كان (الطبيب) يتعامل مع المادة الحية بما لديها من وعى وحرية واختيار، أفليس ذلك يشكل لديه أرضية رافضة رفضا ما لفكرة التنبؤ، وذلك لعجز الوعى عن أن يضبط ويقنن قضية الوعى والحرية والاختيار.. خصوصا لو كان هذا الطبيب لا يسعفه علمه فى مأزقه المعرفى، وكان جانبه الفنى حيا ونابضا، وأتساءل مرة أخرى – متماكرا بالطبع- هل يحتاج المهندس، الدقيق، عاشق الرياضيات إلى التنبؤ وهو المصمم لشيء لا يملك أن يغير نفسه بنفسه، -وهو المؤمن بالحتمية حتى فى شكلها الاحتمالى، خصوصا لو كان مزيدا من التنبؤ= مزيدا من العلم = مزيدا من الحس الفائق بالمتناقضات.
عادل: والله زمان يا وفاء.. وأنا أرد متغابيا، اننى أرفض الانزلاق إلى أى مصيدة (أحيانا). ولأترك الطبيب يرد عن نفسه) إذا يجب عدم الخلط بين خضوع الطبيعة للقوانين وبين قبضة الحتم والوعى والاختيار عند الإنسان.
الطبيب: (لا يرد عن نفسه فرحا بالحوار).
وفاء: يا عادل التساؤلات تملؤنى، ليس لى فى النهاية سوى أن أستأذن فى مداعبتك بأن أقول لك أن العنصر اللاعقلانى والمأساوى فى الوجود يقرئانك السلام.
عادل: والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أما بعد فإنى أرجو ألا تكون تلك هى – مرة أخرى – عصا التهديد بالفوضى واللاعقلانية والمأساوية كبديل مستحيل للاطراد. واستأذنك فى دعوة صاحب مقال ‘حوار اطراد الطبيعة’ إلى مائدة الحوار، فليتفضل د. السماحى.
د. السماحى: رغم أنك – يا عادل – بدأت مقالك برفض مبدئى للاطراد، إلا أنك على ما يبدو ترفضه بمعناه الضيق الظاهرى، وتؤمن به بشكل ضمنى، أو قد يكون موحدا بين مفهومى اللاصيرورة والاطراد، فلا رفضت اللاصيرورة أو الثبات (على طريقة بارمنيدس) أنكرت الاطراد الذى بنى عليه العلم الحديث كله أهم أسسه، وهذا ما سأحاول توضيحه:
لما كنا يا زميلى متفقين على رفض الاطراد – بصرف النظر عن الأسباب التى أدت بكل منا إلى ذلك – ودلل كل منا بطريقته على رأيه، فاننا سنحصر نقاشنا فى نقطة واحدة – وهى من أصعب ما يكن تصوره ضمن قضايا فلسفة العلم وهى: هل يمكن للعلم الاستغناء عن مبدأ اطراد الطبيعة؟. تقول أن العلم يمكن أن يستمر فى لاستقراء والتعميم ولكن دون الحاجة إلى القياس على التشابه، ورغ اعتقادك بأن ذلك أمر صعب ألا أنك ترى أن الرياضيات قادرة على كشف القوانين التى تحكم تغير الظواهر.
أنت أذن تؤمن ضمنا بأن فى الطبيعة قوانين تحكها بل تحكم تغير ظواهرها، فلا شيء يحدث عشوائيا، بل حتى تغير الظواهر يمكن معرفته بحسابات رياضية، لن أعقب عليك الآن تخمينك أو توقعك لوجود مثل هذه القوانين لأنك بهذا التوقع تقدم الاستنتاج على الفرض وتقول: توجد قوانين تحكم تغير الظواهر ولابد سيأتى اليوم الذى نعرفها فيه، ولكن دع مشكلة قوانين الطبيعة لحوار آخر.
عادل: بل أرجو أن تعقب الآن وفى هذا الحوار وليس فى حوار آخر، فانى أرى أن الموضوعين شديدا الارتباط، بل أنهما وجهان لأمر واحد. نعم أنا أعترف بأنى قدمت الاستنتاج على الفرض، وبدأت بالقول بأن هذا الكون ليس كونا من الفوضى، وأن ظواهر الطبيعة تحكمها قوانين، وأن من الممكن لنا التعرف على هذه القوانين بالوسائل الرياضية، وبمعنى آخر أن الطبيعة “قابلة للتعقل” rational، والحجة فى ذلك بسيطة وهى أن الطبيعة-حتى الآن – تبدو قابلة للتعقل بواسطتنا نحن البشر، وان قوانينها – حتى الآن – تبدو قابلة للاكتشاف بالوسائل الرياضية، ولم يظهر – حتى الآن – ما ينبيء بأنها سوف تنقلب فجأة غير قابلة للتعقل، وان قوانينها سوف تستعصى على عقولنا ذات الوسائل الرياضية، ولما كان لابد لنا – لكى نبدأ أى بداية – آن نفترض فرضا ما، فسوف نفترض انها سوف تظل كذلك – إلى ان يثبت عكس ذلك. فمن المعلوم ان الرياضة – مثلها فى ذلك مثل المنطق – انما هى أداة tool أى أنها فقط ولا تحتوى بداخلها على أى حقائق، واننا بدون وضع فروض مسبقة بمثابة بديهيات أو حقائق أولية لا يمكن لنا الوصول إلى أى نتائج باستخدام الرياضة أو المنطق. وإذا كانت الفلسفة قد تحملت الترف المنطقى مثل رفض تقديم حقائق أولية (لبعض الوقت) فان العلم لم يستطع تحمل مثل هذا الترف فى أى وقت، ولم يدخل فى مثل تلك الحلقات المفرغة، ولنا أن نتصور الموقف لو أن ‘نيوتن’ ومن سبقه ومن لحقه من العلماء الطبيعبين كانوا قد توقفوا عن العمل قبل الاجابة على هذا السؤال؟ ‘ وما الذى ادرانا أن الطبيعة قابلة للتعقل rational؟’ لقد أجابوا على هذا السؤال اجابة بسيطة: ‘دعنا نتعامل مع الطبيعة على أنها قابلة للتعقل’ إذ يبدو – حتى الآن – أنها كذلك، وعذرنا – أن كنا قد اخطأنا فى ذلك – أن تلك هى الوسيلة الوحيدة المتاحة لنا، وسوف تثبت التجارب مدى صحة تلك الوسيلة’. وعلى من ينتظر البرهان الساطع قبل البدء فى أى خطوة أن يقعد منتظرا – وسوف يطول انتظاره — فهل يتحمل مسئولية هذا الانتظار؟.
د. السماحى: ان جملتك حول القوانين التى تحكم تغير الظواهر تفيد ان الظواهر – وان بدت غير منتظمة – إلا أنها فى جوهرها تخضع فى عدم انتظامها لنظام يمكن البحث عنه واكتشافه رياضيا، لأنه يسير وفقا لقوانين، وهذا فى رأيى – واستشهد بالدكتور الرخاوى كحكم بيننا – يعتبر اعتقادا خفيا فى الاطراد. لأن ما هو غير عشوائى لابد أن يظهر مطردا، وكل ما يمكن توقعه بصياغة رياضية تحدد مسبقا طريقة سلوكه هو مطرد، وكل ما تقدر الرياضة على حسابه وملاحقته هو منتظم أى مطرد، وحتى لا يحتدم النقاش حول تحديات لفظ الاطراد لأن البعض يقصد به الاطراد الكونى الشامل، والبعض يستخدمه بمعنى محلى لوصف فصيلة محدودة من الظواهر فأننى أناقشك من زواية ثانية – أنت تنكر أن يكون تغير ظواهر الطبيعة عشوائيا لأنه تحكمه فى رأيك قوانين معقدة قد تكون مجهولة حتى الآن، ألا يعكس هذا اقتناعك بأن الطبيعة تخضع لحتمية تمنع حدوث فوضى فيزيائية وحالة كونية عشوائية؟ ما هى الحتمية فى فلسفة العلم؟ هى أن تؤمن بأنه لا تسيب ولا فوضى ولا تمردات فى الطبيعة فلا يمكن أن يخرج الكترون عن المدار المحسوب له طالما تم تحديد المدار بمراعاة كافة الظروف والملابسات المؤثرة فيه. أليست هذه هى النقطة التى يمكن فهمها من خلاصتك؟.
الرخاوى: استأذن: تستشهد بى يا دكتور سماحى فتحرجنى حيث لم أتوقع، وأنا سعيد بالحوار بينكما، خائف من محتواه، متعجب من مبعثه، يتصور عادل أنك تدافع عن الاضطراد – ضمنا – ويرد فى ذلك على وفاء، فتتصور أنت أنه يعتقد – خفية – فى الاضطراد وتستشهد بى، ثم تقفز الأحكام كأنها الحقيقة فترادف أنت بين الانتظام والاضطراد .. الخ خلينى فى حالى يا عمنا حتى لا أتحدث عن خوفك من الابداع واسمعاها – من بعد اذنكما ثانية – ‘كل شيء مثل كل شيء من بعد سحيق: لدرجة تسمح بالاختلاف الكامل فى مسار كل شيء: حسب القوانين المتغيرة أبدا، تبعا للظروف المتلاحقة – دون حتم – علما بأن ارادة الإنسان هى ضمن قوانينه الأحدث القادرة على افشال كل قانون سابق ‘فهل أغظتكما بما فيه الكفاية؟’.
أستأذن منسحبا، واعتذر مستمتعا بالحضور شاهدا متعلما، وأرجو أن تكمل يا عادل حتى تخلق من هجومك على الاضطراد أعظم ابداع مضطرد!!.
عادل: أعتقد أن الألفاظ قد التبست مفاهيمها بدرجة تستحق معها وقفة للتفرقة بين عدة ألفاظ ومفاهيمها.
الاطراد: كما جاء بالمقال الأول هو جريان الظواهر مجرى واحدا ومتشابها، وأعتقد أن أحد الأسباب الرئيسية للخلط هو عدم دقة هذا التعريف بل وتناقضه، فالمجرى الواحد غير المجرى المتشابه بل قد يكون عكسه، ويتوقف الأمر على المقصود به ذلك المجرى المتشابه فاننا قد نعبر بنفس اللفظ عن النقيضين.
الاطراد (كموقف): لما كانت الطبيعة غير مطردة، والكون متعددا ومتغيرا ومتشابكا، فان نظرتنا لظاهرة ما على أنها مطردة، أو للطبيعة بأكملها على أنها مطردة، أنما يمثل موقفنا نحن أكثر مما يمثل الطبيعة، وهناك فارق بين نظريتين: الأولى أن ينظر العالم الطبيعى الرياضى لظاهرة ما على أنها مطردة، أو قد يضعها فى حساباته على أنها كذلك، مع تمام علمه بأنها ليست كذلك – لأسباب منهجية تتعلق بأسلوب البحث، وهو موقف محدد من ظاهرة محددة ولغرض معلوم هو تبسيط عملية الحساب مرحليا، وعادة ما يعاد الحساب بطريقة أكثر دقة مع أخذ التغير فى الاعتبار، النظرة الثانية أن ننظر إلى الكون أو الطبيعة على أنها مطردة خوفا من مسئوليتنا عن ادراك التغير والاسهام فيه، وهنا يأتى دور لفظ (الاطراد التقريبى) إذا أننا عندما يصدمنا الواقع المتعدد المتغير يمكن لنا فى كل وقت أن نقول بأنه مطرد تقريبا وقد يصل بنا الخوف لدرجة اعتبار ان البديل الوحيد للاطراد هو الفوضى الشاملة. وقد يفيد ان نراجع بعض المفاهيم بهدف الاتفاق على لغة تساعدنا على التفاهم: - Rationalism “القابلية للتعقل“، فعندما نقول ان الطبيعة قابلة للتعقل فاننا نعنى ان ظواهر الطبيعة تخضع لقوانين قابلة للكشف والتعقل بوسائلنا (نحن البشر). وهو فرض سبقى لابد من افتراضه قبل البدء فى أى فكر أو علم، إذ بدونه لن نتمكن من أعمال الفكر فى الكون أو الطبيعة أصلا، وقد تكون هذه السبقية عيبا، ولكن علينا أن نختار بينها وبين عدم التحرك على الاطلاق.
- Predictability “القابلية للتوقع المسبق” مادامت الظواهر خاضعة لقوانين قابلة للتعقل.
- Determinism “الحتمية” هى الضرورة التى تستوجب وقوع الظواهر بشكل محدد دون غيره، فطالما حدثت مقدمات ذات طبيعة معينة: فالأمر يستتبع بالضرورة حدوث الظواهر بشكل محدد انطلاقا من قابلية الطبيعة للتعقل وخضوعها لقوانين محددة. وهذا المفهوم مستنتج من مفهوم القابلية للتوقع.
د. السماحى: إذا لم نختلف حول الاستنتاج فانى أمضى قائلا: ان الحتمية تستلزم الاطراد، فلو كان فى الطبيعة قوانين صارمة تنطبق دائما، فانها ستستمر تؤدى إلى حالات متشابهة بشكل مستمر أى إلى حالات مطردة والمثال الذى أوردته: ب= كمية ثابتة x ا يعنى ان المراقب لظاهرة فيها حدث ‘أ’ وحدث آخر ‘ب’، لابد أن يلاحظ اطراد بينهما نظرا لوجود كمية ثابتة تحكم علاقتهما، ولو كانت الكمية غير ثابتة لما لوحظ الاطرد بين أ،ب.
عادل: ….. بل أنى اختلف فى الاستنتاج، فاتساق القوانين التى تحكم الطبيعة وانتظامها لا يعنى اطراد أو تشابه الظواهر الناتجة، والمثل المذكور (ب= كمية ثابتة xأ) هو مثل رياضى مجرد لا يمكن أن يمثل ظاهرة طبيعية، فهو يمثل نظاما مغلقا ومنعزلا تماما مكونا من المتغيرين أ، ب حيث يتأثران ببعضهما فقط، وحيث لا يتأثر هذا النظام بأى نظم أخرى خارجة عنه، ومثل هذا النظام غير موجود فى الطبيعة، بل أن الطبيعة مكونة من مجموعة من النظم المفتوحة (غير المنعزلة) المتبادلة التأثير أ ب = دالة (جـ، د……… ن) فتأخذ الظاهرة ب أشكالا شديدة التنوع حسب تغير أى من المؤثرات، حيث المؤثرات (جـ، د…….. ن) عدد كبير جدا من المؤثرات، وهنا تبرز أهمية التعدد الذى هو سمة الكون، ولتمثيل ذلك بطريقة بسيطة سنأخذ مثلا لعبة الشطرنج (مرة أخرى): رقعه الشطرنج مكونة من 64 مربعا يتحرك عليها 32 قطعة طبقا لقوانين اللعبة وهى معدودة ومحددة تماما، وبعد عدد قليل من النقلات يسفر الأمر عن تنوع هائل فى الاحتمالات، وتكون الاحتمالات المطروحة للأوضاع ذات أعداد فلكية، ويكفى لتصوير التعدد الكبير الناتج أن نعلم أنه مع التقدم الكبير فى تكنولوجيا الحاسبات الالكترونية لم يتم التمكن حتى الآن من وضع حاسب يتمكن من التغلب على لاعب بدرجة أستاذ، وأن الحاسب الذى يمكن له التغلب على بطل العالم فى الشطرنج لابد أن يكون من الضخامة بحيث يشغل مساحة بضعة مدن كبيرة متجاورة، فإذا استبدلنا رقعة الشطرنج ذات الــ 64 مربعا بمجموعتنا الشمسية أو بمجرتنا أؤ بالكون بما فيه من بلايين البلايين من المواضع المحتملة، واستبدلنا الــ 32 قطعة بالذرات أو الأجسام أو الكواكب أو النجوم أو المجموعات النجمية – كيفما أردنا أن يكون مستوى النظام الذى نتعامل معه، لأمكن لنا أن نعلم ان الاحتمالات المطروحة هى احتمالات شديدة التعدد بدرجة تفوق أى تصور لنا، ومن هنا يمكن لنا أن نتصور كيف تكون الظواهر محكومة بنظم متسقة، ولكنها هى ذاتها غير مطردة، بل متفرعة أشد التفرع، كما يمكن لنا أن ندرك أن هناك فارقا بين معانى ‘القابلية للتعقل’ و ‘القابلية للتوقع’ و ‘الحتمية’، وإذا كان المراقب هو – فى نفس الوقت – جزءا من الظاهرة فإن القابلية للتوقع والحتمية تتوقف على المراقب أيضا، وتصبح الحتمية المطلقة غير جائزة إلا لمراقب لا نهائى القدرة.
د. السماحى: لى تعليق على فكرك، فأنت تتفهم بعمق جوهر وطبيعة الرياضة، ولابد أن تعلم أن الرياضة لا يمكن أن تصف الا الأحداث المنتظمة، والا لوضعت الهندسة بدقة أبعاد مقاييس أنف الدب أو جذع الشجرة، كما تصف أبعاد مقاييس المثلث، ولوصفت المعادلات التفاضلية تقلبات البورصة ولأمكن رسم منحنيات دوال لحروب أوروبا خلال القرنين الماضيين، ولذلك فإن اعتقادك فى امكان التعبير عن ظواهر الكون رياضيا يتضمن بالضرورة اعتقادا فى انتظامها، أى فى امكانية التنبؤ بها، وتكرارها، وهذا هو الاطراد، ترى هل تنكر الاطراد أم تدافع عن مبدأ الصيرورة؟.
عادل: أسمح لى أولا أن أعبر لك عن أنى لا أستطيع التخلص من العامل الشخصى فى الحوار (وهو ما سبق أن ذكرته لوفاء)، فلا أستطيع أن أمنع نفسى من الاحساس بتعاطفك مع الاطرارد والدفاع عنه حتى ولو لم يوجد، وكأنما أستقبل تعليقك كالآتى: ‘فليكن الاطراد انتظاما وليس تكرارا، ولنسمح بشيء مع الصيرورة مع الاطراد حتى ولو اضاعت الصيرورة أكثر معالم الاطراد، وسيبقى آخر الأمر (اطراد ما)، وهو أفضل على أى حال من التعود والتغير، ولكن من لى بمن يستطيع تقنين تلك الأحداث والظواهر التى تبدو غير منتظمة واضفاء بعض الحتمية عليها؟’.
أما ابعاد أنوف الدببة وأشكال جذوع الأشجار فلن استبعد أن توجد بضعة أوراق أبحاث فى بعض معاهد أبحاث الحيوان والنبات تبحث فى الأشكال المتوقعة لأنوف الدببة أو جذوع الأشجار من بعض السلالات، ولن يكون عجيبا أن يستخذم فى ذلك الرياضة كأداة للبحث (ولا سيما رياضة الاحتمالات)، ويمكن لبعض هذه الأبحاث أن يستخدم هندسة الوراثة، أما رسم دوال الحروب وتقلبات البورصة فهناك أفرع عديدة من الرياضة منها نظرية الألعاب وامزجة أخرى من الرياضة التفاضلية ورياضة الاحتمالات، تتعامل مع تلك الموضوعات وما يماثلها، أنا أعلم بالطبع أن هذه الأجابة ليست هى الاجابة المطلوبة، فأنت تبحث عن تحديد لأنف الدب كما يحدد المثلث فى الهندسة، وليس من قبيل الصدفة أن هذه الأمثلة الأربعة: أنف الدب، جذع الشجرة، البورصة، الحروب، بينها عامل مشترك هو (الحياة) فالدب وجذع الشجرة هما حيوان ونبات، أما البورصة والحروب فهى أنظمة يدخل فيها الإنسان نفسه (أرقى أشكال الحياة) طرفا، وباختصار: فنحن نبحث عن القابلية للتوقع والحتمية فى الحياة وفى الأنظمة التى يدخل الإنسان طرفا فيها، وهنا ينبغى الحذر الشديد، فهناك محظورات كثيرة على ذلك، فجزيئات المادة الحية هى جزيئات ذات اعداد كبيرة من الذرات وبالتالى فهى ذات أشكال شديدة التفرع والتعدد، والكائن الحى المكون من أنسجة مكونة من خلايا مكونة من مختلف الأنواع من الجزيئات، ذات تعدد وتفرع يصعب معه تصور امكانية القابلية للتوقع أو الحتمية (اللهم الا لذلك المراقب ذى القدرات التى تتناسب مع ذلك التعدد التفرع). ومن ذلك (ومن غير ذلك أيضا على ما أظن) تبدأ الصعوبة فى تطبيق الحتمية على الحياة لا سيما على الأشكال الراقية منها، وأنا أظن أن هناك مدخلا ما لإيجاد العلاقة بين ذلك وبين استحالة تطبيق الحتمية والقابلية للتوقع على الإنسان أو على النظم التى يدخل الإنسان فيها كطرف، وأن كانت قضية حرية ارادة الإنسان ذات أبعاد عديدة، فأنا أعتقد أن أحد هذه الأبعاد يبدأ منها (وهو ليس بالضرورة أهمها).