عدد يناير 1983
الفروق الوظيفية بين النصفين الكرويين للمخ
على طريق التكامل الإبداعى
د . هناء سليمان
أصبح الاسهام الذى بدات تسهم به الأبحاث الفسيولوجية والسلوكية لتغطية الجانب الآخر من وجودنا هو الأمل المشرق فى أنهاء قضايا الثنائية التاريخية بين الروح والجسد، بين الفكر والوجدان، وأخيرا بين الرمز والصورة، وها هو المخ الآخر”النصف الكروى غير الطاغى ” يلعن حضوره، وتخصصه ومنافسته للمخ ” الطاغى” فلم يعد صورة مرآة للانعكاس، ولا هو اطار طوارئ” استبن” عند اللزوم، بل أن دوره ضرورى للتكامل البشرى اذ يعتبر مدخلا لنوع مختلف من المعرفة، ثم هو الأرضية النشطة التى يتشكل فيها ومنها السلوك الابداعى فى مراحله المبدئية قبل صياغة شكله الرمزى التعبيرى .
وهذا المقال يقدم لنا اطلالة على بعض نواحى هذا الفتح القادر على تغيير مفهومنا عن الانسان وعن الابداع وعن التكامل، تغييرا نأمل معه أن نكون أقرب الى الاسهام الواعى فى تنمية الوعى البشرى المبدع .
شهدت العقود الثلاثة الماضية اهتماما متزايدا فى مجال البحث فى الفروق الوظيفية بين جانبى المخ الا أن اكتشاف وجود مثل هذه الفروق بين النصفين الكرويين للمخ بدأ منذ وقت مبكر، ففى القرن التاسع عشر وجد ” بروكا” ـ من خلال فحصه لعينات مرضى ” الحسبة ” بعد وفاتهم ـ أن الفص الصدغى الأيسر له أهمية حاسمة فى وظائف اللغة .
وكان المجال الوحيد للبحث هو المرضى المصابون باصابات فى أحد جانبى المخ أو هؤلاء الذين أجريت عليهم عمليات شق الجسم المندمل ” الذى يربط بين نصفى المخ الكرويين ” كوسيلة لمقاومة النوبات الصرعية الشديدة .
الا أن العصر الحالى شهد تطورا كبيرا فى التكنيك مما جعل دراسة النصفين الكرويين كل على حدة فى الانسان السوى ممكنة، وعلى سبيل المثال لهذه الوسائل قياس تدفق الدم فى المناطق المختلفة للمخ وجهاز التاكستوسكوب الذى يقسم المجال الحسى .
وجد أن الفروق التشريحية بين النصفين الكرويين فى الأسوياء كثيرة ويتضح وجودها باستمرار مع تقدم البحث. وربما يوجد نوع من الارتباط بين هذه الفروق وبين العلاقة الوثيقة للغة بالنصف الكروى الأيسر،(وكسلر1980) أما ملنر(1964) فقد وجد أن هناك فروقا وظيفية بين النصفين الكرويين، فالفص الصدغى الأيمن أساسى فى عمليات تمييز الوجه وبعض عمليات التعلم بينما يختص الفص الصدغى الأيسر بالطلاقة اللغوية .
ونستطيع أن نحدد فى تاريخ البحث العديد من” الثنائيات” التى تصف الفروق الوظيفية لجانبى المخ كالتعبير مقابل الإدراك الحسى(جاكسون،1874)، اللغة مقابل الحركة(فيسنبرج وأندرسون،1951)اللفظى مقابل اللالفظى(ملنر، 1958) الرمزى مقابل البصرى المكانى(تسانجفيل،1961،المنطقى مقابل الكلى التركيبى (ليفى،1695) للنصف الأيسر ثم الأيمن على التوالى .
الا أننا نلاحظ الآن أن وقتا كبيرا قد تم تكريسه للفصل بين النصفين الكرويين واننا بحاجة حقيقية لأن نراهما على أنهما يؤديان أدوارا مختلفة من أداء متكامل أكثر من كونهما منفصلين تماما ونسنطيع أن نتبين أن مفهوم” النصف السائد والنصف غير السائد ” لم يعد معبرا عن الأمر الواقع وحل محله مؤخرا مفهوم التكامل الوظيفى للنصفين الكرويين أحدهما يختص بوظائف اللغة والعمليات التحليليةـ التعاقبية،والآخر بالعلاقات البصرية ـ المكانية. وقد أعطى فلور ـ هنرى”1979″ نموذجا للتكامل الوظيفى بين النصفين الكرويين حينما وصف التمثيل الوظيفى للعواطف فى المخ البشرى، يقول:” بالرغم من أن الحزن والقلق والمزاج المكتئب مشتقات من الجانب الأيمن” فى الشخص الأيمن” ، بينما الانعاش والغضب والمزاج البارانوى مشتقات من الجانب الأيسر،إلا أن هناك دليلا على أن السيطرة الكلية وتنظيم المزاج هى وظيفة للنصف المعروف بالسائد( المختص عادة بالوظائف اللغوية) وقد اقترح فلور ـ هنرى ايضا وجود سيطرة متبادلة بين النصفين الكرويين عبر الجسم المندمل وهى التى تحدد التوزان بين الجانبين .
أهمية الأبحاث القائمة على الجانبية بالنسبة للطب النفسى:
أن فهم الميكانيزمات العصبية ـ لفسيولوجية القائمة فيما يسمى ” بالذهان الوظيفى” ضرورى لفهم أحدث بطبيعة أعراض هذا الذهان، وقد دلل فلور ـ هنرى”1979″ على أن التغيرات الوظيفية التى تحدث فى الذهان تؤدى الى خلل فى السيادة نصف ـ الكروية بل والى عكسها فى بعض الأحيان وانتقالها الى النصف الآخر. يمكن اذن للبحث القائم على الجانبية المخية أن يقيم وظائف النصفين الكرويين وخللهما الوظيفى يؤدى ذلك بالتالى الى تكوين أساس منطقى لفهم وتصنيف أعراض الأمراض النفسية المختلفة” وكسلر،1980″. ويعتقد فلور ـ هنرى ـ على سبيل المثال ـ أن الأبحاث القائمة على الجانبية تدعونا الى الاعتقاد بان معنى أن الذهان “وظيفى” ليس أنه محدد سيكولوجيا” أى غير عضوى” بل بمعنى أنه نتيجة لتغيرات فسيولوجية وكيمائية فى الاتصالات بين الجهاز الطرفى والقشرة المخية. وربما يؤدى فهمنا لعدم التماثيل بين النصفين الكرويين فى ” نظم الموصلات العصبية” وفى توزيع العقاقير المضادة للذهان الى تصور أعمق بطبيعة عمل هذه العقاقير فى الممارسة الطب ـ نفسية(جرتزلر،1981). ومن هذه الأمثلة أن أحد الأعراض الجانبية لهذه العقاقير المعروف باسم” التأخر الآخر ويعكس ذلك عدم التماثل فى توزيع الموصلات العصبية بين النصفين الكرويين .
الدلائل على وجود اختلال جانبى فى الأمراض النفسية:
1 ـ التحـول الهستيرى:
لاحظ بعض الأطباء النفسيين ـ منذ قرن مضى ـ أن الأعراض التحولية فى مرض الهستيريا تحدث عادة فى الجانب الأيسر من الجسم بدرجة أكثر من حدوثها فى الجانب الأيمن . وقد فسر ذلك مؤخرا بواسطة جرنزلر(1980) على أنه طريقة للتعبير عن النصف الأيمن غير ـ الوظيفى.
2 ـ الفصـام:
تتفق طرق مختلفة فى البحث على القول بوجود خلل وظيفى فى الجانب الأيسر بشكل مميز فى مرض الفصام. وقد ساعدت دراسة الذهان الصرعى المرتبط بصرع الفص الصدغى الأيسر (فى الشخص الأيمن) على كشف وجود مثل هذا الخلل. وتدعم الأبحاث التى تستخدم رسم المخ الكهربائى هذا الفرض الا أنها لا تحدد طبيعة هذا الخلل. ويجدر بنا أن نشي هنا الى أن ذلك التحديد الافتراضى لموقع الخلل فى الجانب الأيسر متلائم تماما مع أعراض هذا المرض، لأننا نستطيع أن نتوقع أن اضطراب لغوى وترابطات مختلة وكلها مميزات لاضطراب التفكير فى مرض الفصام ( نيولن، 1981) .
وتؤكد أبحاث أخرى على أن الخلل الأساسى فى الفصام هو فى وظيفة الجسم المندمل أو وجود اضطرابات فى التفاعلات بين النصفين الكرويين(فلور ـ هنرى،1979 ووكسلر،1980) الا أن باحثين آخرين لم يجدوا دليلا حاسما على هذا الافتراض .
أما الاتجاه الآخر لتفسير الفصام بمصطلحات الجانبية فهو وجود أنماط غير سوية للتنظيم الوظيفى(وكسلر،1980 وجرتزلر،1981) .
وقد وجد لوكنز(1979) أن عدم التماثل التشريحى الموجود فى الأسوياء عادة ما يحدث على نحو معكوس فى مرضى الفصام .
ووجد جير(1978) أن هناك تفوقا للجانب الأيمن( فى الشخص الأيمن) ـ عند الفصاميين ـ فى وظائف اللغة والوظائف المكانية . ومن المعروف أن الجانب الأيسر عند الأسوياء متفوق فى الوظائف اللغوية .
3 ـ اضطرابات الوجدان:
يوجد اتجاهان أساسيان فى تفسير اضطرابات الوجدان بمصطلحات الجانبية. يقول الاتجاه الأول أن الهوس والاكتئاب ينتجان عن خلل وظيفى فى النصف الكروى الأيمن( فى الشخص الأيمن) وهما بذلك متميزان عن الفصام. وقد قدم روزنبام وبارى (1976) دراسة لحالة هوس نتجت عن أصابة فى الفص الصدغى الأيمن. وفى تجربة للتأثير على المزاج أجراها تاكر وزملاؤه(1981) أظهروا أن المزاج المكتئب يصاحبه تغيرات فى الجانب الأيمن تم رصدها باستخدام رسام المخ الكهربائى .
أما الاتجاه الثانى فيأخذ بمفهوم قطبية العواطف بين النصفين الكرويين حيث تمثل العواطف المسماة بالموجبة والهوس فى الجانب الأيسر بينما تمثل العواطف المسماة بالسالبة والاكتئاب فى الجانب الأيمن.
الا أن السنوات السالفة قد شهدت تغيرا فى المفهوم التبسيطى ” الفصام نتيجة لخلل وظيفى فى الجانب الأيسر والاضطرابات الوجدانية ناتجة عن خلل وظيفى فى الجانب الأيمن” وظهر بدلا منه نماذج أكثر تعقيدا فى التفسير منها ما طرحه جرتزلر عام1981 على النحو التالى:” فى الفصام يكون توزيع الطاقة بين النصفين الكرويين لحظة بلحظة شاذا بالنسبة للتخصص الوظيفى لكل من النصفين الكرويين. ففى الفصام البارانوى والفصام الوجدانى المصحوب بالهوس الخفيف(الهيبومانيا)يوجد اعتماد أكبر على النصف الأيسر أو النصف السائد فى الوظائف اللغوية،أما فى حالات الفصام غير البارانوى والفصام الوجدانى المصحوب بالاكتئاب يزداد الاعتماد على النصف الكروى الأيمن ” .
وبعد …………
فهذا مجرد تعريف بما يجرى نأمل معه أن نصبح أقل حماسا لما نعرف ، وأكثر أملا فيما يأتى.
REFERENCES
– Bogen.J.A.(1969) The other side of the brain.Dysgraphia and dyscopia following cerebral commisurotomy .Bull. L. A. Neurol. Soc. 34, 73 – 105.
– Flor-Henry, P. (1979) Laterality, shifts in cerebral dominance-lity and Psychosis. J.H. Gruzelier and P. Flor-Henry (eds.)
– Hemisphere Asymmetries of Function. Elsevier/.North Holland Biomedical Press .
– Gruzelier, J.H.(1981) Cerebral Laterality and Psychopathology: fact and fiction. Psychological Medicine. 11, 219-227.
– Gur, R.E. (1978) Left hemisphere dysfunction and left hemisphere overactivation in schizophrenia. J. Abnorm. Psychol.87, 226-228 .
– Luchins, W.J; Weinberger, D.R. and Wyatt, R(1979) Schizophrenia; evidence of a subgroup with reversal of cerebral asymmetey. Archives of General Psychiatry. 36,1309-1311 .
– Milner, B(1968) Visual recognition and recall after right temporal lobe excision in man. Neuropschologia.6,
– Newlin, D. B.; Carpenter, B; and Golden, C.J.(1981) Hemisphere asymmetries in schizophrenia, Biological Psychiatry. 16. 561-582.
– Rosenbaum, A.H. and Barry, P.M.(1976) Positive therapeutic response to lithium in hypomania secondary to organic brain syndrome .Am. J. Psychiat. 32, 1072 – 1073.
– Tucker, H.; Stenslie, C.E.; Roth. R.S. and Shearer, S.L.(1981) Right frontal lobe activation and right hemisphere performance. Archives of General Psychiatry. 38, 169 – 174.
– Wexler,B.E.(1980) Cerebral laterality and Psychiatry. Am. J. Psychiat .137 .