مجلة الإنسان والتطور
عدد يناير 1982
نقرأ معا مرة ثانية: مقتطف وموقف
المقتطف الأول: عن الديالكتيك والكتابة عنه:
الديالكتيك: إجابة أم إشكالية؟
د. محمد الزايد – مجلة الفكر المعاصر العددان 8-9
كانون الأول والثانى (ديسمبر-) 1981
”كيف الكتابة عن الديالكتيك أو الجدل كما ترجم العرب هذا الإصطلاح؟”
الكتابة عن الديالكتيك ضده، أو هى مستوى من مستويات إشكاليته، أو بصيغة ثالثة هناك مسافة بين الوعى الجدلى والكتابة الجدلية، مستويات تستدعى بعضها كلها وتتخطاها، أبعاد ثلاثية رباعية تتداخل متخارجة متقاربة متباعدة عبر شبكة علائقية من جدليات صغرى وكبرى تمتد بين الكينونة والكائنات، الوعى بها والتعبير عنها منها إليها.
كيف تكون الكتابة ممكنة إذا عن الديالكتيك (إلى أن قال:)
هل صدفة أن سقراط لم يكتب شيئا؟..
الموقف: كثر الحديث عن الديالكتيك، وكل من سمعته- ربما بالصدفة – يتحدث عن الديالكتيك، قد يحسن فهمه العقلى، وقد يحسن (مع التجاوز) الحديث عنه، أو قل اللعب بألفاظ دالة عليه، ولكن – ربما صدفة – لم أشاهد من يجرؤ أن يعى معايشته بالعمق الكافى، وحين حاولت شرح نوع خاص من العلاج الجمعى (1) قلت إنه أحياء لديالكتيك النمو وحين حاولت شرح ما هو الديالكتيك – فضلا عن ديالكتيك النمو – لم أستطع وذهبت أقول أنه ليس كذا وليس كيت، ولكنى أحسست بعجز حقيقى أن أقول “ما هو” دون أن يتسطح ويفقد حقيقة جوهره، وعدت أتألم وأنا أشاهد هؤلاء الذين يتبادلون الألفاظ الدالة عليه دون وعى بما يفعلون، بل أحيانا ليبرروا السلب مستقلا، لا بإعتباره المكمل – حتما وديالكتيكيا – للايجاب، وكدت أتيقن أن هذه “العملية” غير قابلة فعلا للنقل بالألفاظ، حتى قرأت هذا المقتطف فاطمأننت .. وكسرت وحدتى لفترة.. ولكنى سرعان ما تراجعت,
كذلك كان الحال مع شرح “المنهج الفنومنولوجي” فى البحث العلمى، ومع “الحدس الكلنيكي”. ومع “التقشف المعرفي” على حد سواء، أمور تعاش ولا يتحدث عنها.
فهل نعلن أنها من علوم المكاشفة، وأننا (مثل الغزالى) لم يصرخ لنا إلا بالحديث فى علوم المعاملة (السلوك والجزئيات)؟ هنا يقوم إعتراض حاد..
ألسنا مدينين جزئيا بالوعى بهذا الذى عجزنا عن صياغته لفظا لبعض من تجرأ فصاغة لفظا وتركه لنا تاريخا وأمانة؟
لو لم يكتب أفلاطونت محاوراته ولو لم يعلن كانت نقدياته ولو لم يسجل هيجل منهجه – وحتى نظريته – أما كان علينا أن نبدأ من حيث بدأوا، ويا ترى نصل أو نتعثر دون ما فعلوا؟
الظاهر أنه لا مفر من المغامرة، ولتكن الكتابة عن الديالكتيك – كما قال المقتطف – هى حركة فى فعل الديالكتيك ذاته إذ هى ضده حالة كونها تكتب عنه، ولم لا؟.
وإنى أتحفظ على تلك “المسافة” بين الوعى الجدلى والكتابة الجدلية، ولعل ما وصلنى هو الفرق (وليس المسافة) والمواجهة المتداخلة المتضادة بين الوعى بالجدل والكتابة عن الجدل، فالوعى لا يكون جدليا أو غير جدلى، هو جدلى بالضرورة وقد نعى جدليته أو لا نعيها والكتابة لا تكون جدلية أو غيرجدلية، فالكتابة هى إغتراب ضرورى تضحى بجزء من الوعى فى سبيل التواصل الآنى، ولتأمين نقل الخبرة الإنسانية عبر التاريخ، هى ليست جدلية، ولكن يمكن أن تكون عن الجدل – أو لعلى لم أفهم بالقدر الكافي.
ثم إن تحديد الأبعاد الثلاثية الرباعية هو أمر ينبغى أن يؤخذ بإعتباره رمزا محدودا لمعرفة مرحلية، فتداخل الأبعاد – بلغة الديالكتيك – ليس له عدد، وقد يشار إلى الأبعاد بصفات رياضية جديدة غيرالأرقام والتعداد.
وأخيرا فنحن نحتاج – مع إضطررنا للكتابة وقراءة ما يكتب – إلى وسيلة أخرى لإعلان أبعاد معايشة لا تستوعبها الألفاظ، نحتاج إلى رموز جديدة (ربما تكون رياضية) كما نحتاج إلى موجات جديدة متعددة التداخل والتفاعل، لا أجرؤ أن أحدس طبيعتها.
ولعل بعض مصائب المرضى النفسيين (الفصاميين خاصة) ومآسيهم مع اللغة خصاما وهجوما وتحطيما وغير ذلك… هو بعض ناتج هذه المأساة الإنسانية المرحلية التى تعلن عجز اللغة عن إستيعاب كثير من الخبرات الإنسانية مع إلحاح الحاجة إلى التواصل بهذه الخبرات.
لعل.
******
المقتطف الثانى من:
مناظرة بين الشيخ الشعراوى والدكتورحسين مؤنس
(مجلة المصور – عدد 11 ديسمبر 1981 ص 25)
المصور: من أين جاء فهمك الخاص المثمر للدين؟..
الشعراوى: هذا إن صح أنى فهمته.
المصور: هل يكون هذا لأنك فهمت الحياة، ففهمت الدين؟
الشعراوى: أنا والحمد لله لا يوجد علم مكتوب فيه كلام عربى إلا وقرأته.. وعملت عندى خميرة لا أعلم متى وأين جاءت، وأبن المقفع تحملها عنى فيقول: ـ شربت الخطب ريا.. ولم أضبط لها رويا..” يعنى كثير.. فغابت ثم عادت فلا هى هى، ولا هى غيرها.
المصور: يعنى هل نزلت فى نفسه حتى إمتلأت بها ثم فاضت؟
الشعراوى: فلا هى هي.. ولا هى غيرها.
لا أحد يأتى بشيء من عنده إنما المسائل تحتمل الفرق، إن هناك أناسا تتعجل المعلومة، وحين تتعجل المعلومة.. لا تختمرمع المعلومات الأخرى فتخرج لوحدها.. (لكن) حين تترك فترة تختمر مع المعلومات الأخرى ليخرج منها شئ لا يتناقض مع شئ، فهى مختمرة كلها، هناك شخص مثلا يأكل الأكلة ثم يتقيأها، وهناك من يأكل الأكلة ويتركها حتى تتمثل وتصبح فى الدم.
الموقف
ظاهرة الشيخ الشعراوى من ظواهر عصرنا هذا فى أمتنا هذه وقد يقول قائل أننا نعيش فى حقبة (أو حتى عصر) نجيب محفوظ ويصدق، وقد يقول آخر أننا نعيش فى حقبة (أو حتى عصر) متولى الشعراوى ويصدق، وقد يجانب أى مهما الصواب وهو يستعمل هذه التعابير التى لا تناسب لغة العصر التى لا يحددها شخص بذاته وإنما إيقاع وأسلوب، ولكن ما باليد حيلة، فهذه لغة شائعة، وهذه ظواهر ضاغطة.
ونحن نقف من هذا المقتطف الخاص “بظاهرة الشعراوى” لا لنناقش محتوى ما يفيض به علينا هذا الشيخ اليقظ الطيب النشط، ولكن لنتأمل فى ظاهرة إستيعاب الشيخ وإبداعه المحدود من خلال رؤيته الصادقة “للعملية الإبداعية” الخاصة، ونتاجها على فهمه للدين، ونتاج فهمه للدين على شعبيته النابعة من حاجة الناس إلى هذا الفهم وهذا الإبداع وموقفنا ونحن نقرأ معا مرة ثانية يقول:
أولا: إن للشيخ الشعراوى “فهم خاص مثمر”, وهذا يشير إلى أنه مسموح بالفهم الخاص للدين (مع أن مولانا الشعراوى لابد سيحددنا بما حدد به نفسه.. ولكن المبدأ يبدو أكثر قوة من التحفظات), ولا أحب أن أؤكد على إختلاف هذا الفهم عن غيره بقدر ما أؤكد على وجود هذا الفهم من حيث المبدأ، وليفتح الباب أو يقفل فهذا أمر بيد التاريخ ومرحلة النضج وشجاعة الفكر وجدية الحياة وعمق الإيمان وليس حتما بيد مولانا الشعراوى الذى فتح الباب بشجاعة المسئول، وولجه فى حدود القيود، فلا هو هو، ولا هو غيره كما يقول.
ثانيا: إن الشيخ غير واثق من كمال فهمه للدين بعد -يقول بتواضع وصدق “هذا أن صح أنى فهمته”- فهو فى سعى معرفى دائ، فهو شاب (وهذا من أسرار جذبه) وهو متواضع، وهو مغامر، وهذا هو الفرق بينه وبين الذين يجلسون – جدا فى مقاعد الفتوى، وقد إستقر كل شيء فى عقولهم قبل أن يبدأوا، وما دام كل شيء مفهموم، وكل شيء مستقر، فلا إبداع ولا جذب ولا حركة، لهذا كان الشيخ الشعراوى ظاهرة، ففهم الدين – إذا – مشوار طويل يبدأ من الموجود ولا ينتهى إلا فى رحاب الوجود الذى لا ينتهى بدوره.. والرحلة دائمة.
ثالثا: إن عملية الإبداع التى وصفها تذكرنا (مع الفارق) بقصة أبى نواس وهو بسبيله إن يقرض الشعر حين أمره أستاذه أن يحفظ شعر البادية ثم ينساه قبل أن يقرض الشعر، بل أنهاتذكرنا بالمستحدث حول عملية فعلنة المعلومات.
بل إنها تذكرنا بفرض حديث وضعته مؤخرا يؤكد على أن المعلومات ما هى إلا تغذية بيولوجية للمخ الذى يتلقاها فى طور تمدده ثم يتمثلها فى طور بسطه، فإذا لم يتمثلها ظلت كالجسم الغريب ثم قد يتقيأها (كما يقول الشيخ) أو قد تلتصق كالقشرة الصلدة المعوقة للتفكير البسطى (الذى يظهر فى الابداع.. والفهم الخاص).
وعملية التمثل هذه يستوعبها مولانا بشكل يقظ بديع، وكأنه شاهد نبض الديالكتيك الحيوى وهو يجرى بداخل عقله إذ يقول: “ليخرج منها شيء لا يتناقض مع شيء”.
(أنظر المقتطف)
هذا بالنسبة لظاهرة مولانا الشعراوى بما يعنى “كيف هو” وليس من هو ولا ماذا هو، على أن ما أستوعبه مولانا فى إختمار الأمناء على ما حملته عقولهم لم يتعد ما قرأ فى فترة محدودة بالزمان (وهذا هو غاية الممكن لأى شخص أيا كان) ولا أحسب أنه كان يعنى بحديثه عامة وبالفقرة القائلة “.. لا يوجد علم مكتوب فيه كلام عربى إلا وقرأته” أقول لا أحسب أنه كان يعنى بهذا – وبغيره مما جاء فى الحديث – تعميما مطلقا مثل المتنبى حين قال: “وعلمت حتى لا أسائل واحدا عن علم واحدة لكى أزدادها”. . لا لم يقصد ذلك، فتواضعه المتصل ينفى ذلك، لكن السؤال هو: ماذا لو كان مولانا بصدقه وأمانته قد أستوعب مادة أكثر إختلافا وأعنف تناقضا؟ ترى هل كانت هذه المواد تستطيع أن تختمر مع بعضها لتخرج الجديد المتماسك فى إزدهار متناسق بنفس الدرجة، وهل يسمح لنا مولانا أن نتذاكر معه بعض قشورالمعلومات التى تسحبت إلى خميرة فكره فبدت بثورا شبه علمية على السطح فأعتمد عليها فى بعض أحاديثه وكأنها جزء من الخمرة، الأمر الذى يجعل السامع يتراجع أمام بعض الحقائق التوليفية الأخرى بما تحمل من صدق وإبداع، ما دامت البثور قد إختلطت بالأصل المختمر؟ ولكن. . هل يكلف الله نفسا إلا وسعها؟ .
فهل يا ترى تعلن هذه الظاهرة – ظاهرة الشيخ الشعراوى – (بما تكرر وتؤكد على أمرين: المنهج والتناغم) أن الباب قد عاد يفتح لشرف التفكير الإبداعى حتى لو. .؟ لعل. . نعم . . . لعل!!..
[1] – الرخاوى: مقدمة فى العلاج الجمعى – دار الغد للثقافة والنشر 1978.