يناير 1982- قصة قصيرة البكاء فوق كراسة الأناشيد
مجلة الإنسان والتطور
عدد يناير 1982
قصة قصيرة
البكاء فوق كراسة الأناشيد
عبد الحميد كاشف
راحت الذبابة الخضراء تطوف حول رأسى….. تطوف بالحاح لم يكن من طباع والدى المرحوم…. لامعة فضية الألوان كانت… غنية، عفوفة طاهرة، مليئة بالكبرياء
والاباء – انها أرواح الراحلين الأعزاء… عندما تهجر مقابرها فى رحلة العودة الى البيوت… وهى عادة تعود عندما تستشعر خطرا ما على الأبناء… ذبابتى جاءت تطرد عنى الأرواح الشريرة…. جاءت تحفظنى من كل السوء… راحت تدفع عنى ظلم الحاكم أو جهل المحكوم…. قال لنا السابقون…. وقالوا أن الأموات بكل ما عند الأحياء يحسون، يشعرون …..
طافت الذبابة بين فروع المانجو وأشجار البرتقال، وقفت فوق أعواد البرسيم والفول..ليس طلبا لغذاء قالت، أو طمعا لطعام… قلت: يا روح والدى العزيز… عودى الى مثواك، لا تقلقى، عودى الى حيث الدود والتراب… عودى الى النقاء والصفاء… اطمئنى، فلم يحدث لى شئ ذو بال…. ولن يحدث لى باذن الله… نامى يا روح أبى… نامى قريرة العين، مرتاحة الفؤاد، هادئة البال… فها نحن الأنجال بخير… وليس الأمر الا مجرد استجواب… استجواب ما… يحوى كل الأسرار… هويتى والعنوان والخلان…. استجواب عن كل الممنوعات… ما أعجب هذا الزمان… فاكهة الشتاء فى عز الصيف… وفاكهة الصيف فى أبرد أيام الشتاء… ما أعجب هذا الزمان .
لا تقنطى يا روح الأب…..
دخلت الفصل عائدا لتوى من هناك …. وقفت أبحلق فى وجه الأولاد …….
– أنتم يا أولاد………………
– نعم يا أستاذ ………………
– من منكم …………………
لالآلا…. لا يمكن أن ينطق لسانى بسؤال، أو حتى يتفوه باستفهام …….
– اسأل يا استاذ ………..
– من منكم يا …………..
لا لا لا … لابد أن أبلع ريقى…. أكتم أنفاسى….. أمضغ بين الاضراس الكلمات……
– لابد أن تسأل يا أستاذ أى سؤال ……
– من منكم يا أولاد الـ …………….
لالالا أسقطت سؤالى فى جوف الأمعاء، وفى الأحشاء، تقيأت الحزن مريرا من اجل الأموات ….لا…. بل من أجل الأحياء… قال لسانى…. ما ذنب الأولاد؟!! ما ذنب الأولاد حتى لو كانوا من أولاد الجهلاء؟!!
قيـــام…….
تعاظيم سلام …..
ايديكو لفوق……
وشكوا للحيط .
هو،هو،هو، لم يبق لى الى الجنون لحظات، خطوات… هل أفزر أوجاعى مرارى غيظى مع الأطفال؟…….
– ماذا تقول يا أستاذ ؟
لالالا….لا ياقططى لا… لست حمارا يا أولاد……
وجلست أبحلق فى الدكك وفى الجدران… جدران الفصل الصماء، والدكك الخرساء، ولافتات باهتة الألوان تحمل كل شعارات الأمس…..
زاغت منى كاميرا العين ……
-
الذبابة الخضراء تحتل كل الكادر…..
-
ما اخذ بالقوة يرجع ….
-
حربى أنا قد أنهت كل الحرب…..
-
هل ابصق فى وجه الجدارن؟ أم أقفز فى كرش الهواء بالحذاء؟
أم هل يعقل أن الجدران يا جدعان راحت تكتب أيضا ضدى بالقلام؟……..
تنسخ الزور والبهتان انجيلا وقرآنا؟ أم هل شكانى نفر من الجان؟
أم من سفرتك العفاريت جاء يعد على الأنفاس ويحصى الخطوات؟
– م تقوقوا يا ولاد؟ …..
– أبدا يا استاذ ……
– أبدا ايه……….
– أبدا ما فمهناش ……
– آه يا أولاد الجهال…..
– جهال ليه يا أستاذ …..
– نبشتم تراب مقابرنا، أزعجتم موتانا، أقلقتم روح أبى التى لم تهدأ بعد ….
– لماذا هذا يا استاذ ….
– هل عميان أنتم أم طرش؟ ماذا بعد ان تشعر روح الأب بأن الخطر محيط بالابن؟
وأن الشاكى الهايف قد ألف تهما تدفع حتى باب السجن؟
– من هذا الشاكى الهايف؟ الشاكى مجهول الشخصية انسان دود، أو انسان برص يحيا فى دورات مياه قذرة … يحيا فى شقوق الأرض……..
معذرة يا روح أبى…. عودى لا تقلقى كفى عن الدوران…. اذهبى ياذبابتى… اذهبى عن الغيطان…. فبالتوكسافين قد انقرض أبو قردان…… وعاشت السحالى والجرذان. وجلست أبحلق فى وجه الأولاد…. طيبين كانوا مساكينا…. وكان الضابط انسانا… اسمعوا ياأولاد … حاول أن يقنعنى بأن الأمر شئ عادى. قال :
– حاول يا أستاذ النسيان… فليس من المعقول أن تصدق هذا العقول ولو نحن أعطينا الآذان لخفافيش الظلام…. لكل حاقد ملتات جبان، لعميان البصيرة مكفوفى القلب الأوباش، الهبل، لما بقى هنالك انسان…… لكن نحن وصلنا سن الرشد، نعرف قدر الانسان الحر ونعرف معنى الحقد ….. حاول ان تفهم ياأستاذ، فروح الأب قد جاءتنى فى المنام…. لا أعرف كيف اخترقت جدران البيت ولا كيف حطمت أسوار النفس…. كيف لم تخش الحراس؟ حاصرتنى ذبابة مختلفة الألوان كألوان الطيف رقيقة كنسيم الربيع، قالت حججا، أملتنى برهانا، نطقت بكلام لم ينطق به أحد من قبل… وصرخت أنا :
(يارب… لماذا اخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها لكل أطفال الارض…يارب؟) .
روحى يا روح أبى…. روحى مثواك… فالضابط قد قال بأن الأمر أقل من العادى، والشكوى الان فى النسيان.
– طبعا عادى يا أستاذ… نحن نمر بألف خطاب فى اليوم من كل الألوان وكل الأنواع وكل الأحجام….. بكل تفاصيل الكذب وكل وضوح البهتان…. كذب أبيض أزرق أسود …. من كل الموتورين الحمقى الأوغاد…… من كل الجهلة يا استاذ هدئ من روعك…… دخن سيجارك، واشرب كوب الشاى …..
– لا أدخن أرجوك ……
– عفر ، عفر…. أما انك انسان أخضر … كن جبانا يا اخى ولو مرة…. كن بليد الشعور غبيا لا تكن هكذا مثالا…. لا تكن قدوة .
– كيف يا ناصحى والكلمات فى جوفها خطاف؟.
كما أن بين السطور سم الزعاف ؟……..
كما ياأستاذ…. يبدو أنك انسان خام…. صدقنى أن الشكوى فى هذه الأيام بالأطنان، طوفان يغلى…. لم نشعر فيها بدافع حب الأوطان…. بل فيها الغل الأسود شريان فالوطن لم يخطر يوما للشاكى على بال… الوطن بعد الذرة الصفراء، والفول، بعد الكستور… الكاتب غول يأكل كل الدعم… يلهف أسماكا مجمدة ولحوما بالكراتين،يشفط بالأجولة الأرز…. جاه سم….. هل نبقى فى عهد النور ويقود الأعمى بصيرا؟…
يبدو أنك لا تقبل رشوة؟………
– لا طبعا لا يمكن …..
– أتاريك… لكن أسمع: الشكوى كيدية، بدليل أن عيوبى تقول:
لا توجد فى قريتكم منشورات……
– افتحوا الآذان يا أولاد….. فالضابط يقول:
– معلوماتى تقول لاتوجد فى قريتكم منشورات.
– وغسيل المخ المزعوم ؟.
– هراء يا أستاذ…. كلام رجل موتور ندل يقول أى كلام شارب بوظة ومخمور…..
– هيا انصرفى يا روح الأب…. قد أزعجك السفهاء… كتاب شكاوى الزور، كم كتبوا قبلا فى حق الناس الأظهار…. سبوا البنت البكر… كتبوا كلاما يستحى منه الاحساس. فراغ روحى يا روح الأب الغالى… يامن لم تعرف طريق الكذب… فعودى بأمان ولى وجهك شطر الجبانات… فالكاتب أحقر من أن يقراه انسان…. خريج القسم الليلى أو احدى الكليات …. سيان…. قرأ فى المعهد العالى أو حتى فى السربون سيان…. قسم تاريخ…. أو نجارة الأثاث فن العمارة أو البناء او حتى قسم الاجتماع..
سيان… كتب بيمناه أو أملى يسراه …سيان … فالخط خط مرعوش… خط مكسور… أملاه على طفل مسكين ….. كان يوما لى تلميذا …..
– سمعا يا أولاد …..
– أمرك يا أستاذ …..
هل يعقل أن يكتب فى حقى تلميذ منكم ؟.
– ابدا يا أستاذ…
– ويقول بانى وأنى وأنى …….
– الله نستغفر ياأستاذ.
– وأتانا الصدى يأتى من أى مكان هس أخرسوا يا أولاد…..
(طوبى للرجل الذى لم يسلك فى مشورة فى الأشرار وفى طريق الخطأ لم يقف وفى مجلس المستهترئين لم يجلس، لكن فى قاموس الرب مسرته وفى ناموسه يلهج نهارا وليلا. فيكون كشجرة مغروسة عند مجارى المياه التى تعطى ثمرها وفى أوانه وورقها لا يذبل. وكل ما يضعه ينجح).
– طوبى للأب عبد الفتاح …..
(ليس كذلك الأشرار. لكنهم كالعصافة التى تذروها الريح… لذلك لا تقوم الأشرار فى الدين ولا الخطاة فى جماعة الأبرار، لأن الرب يعلم طريق الأبرار. أما الأشرار فتهلك).
ورحت أشخط:
– فى هذا الفصل وبين نفس الجدران، تتلميذ على يدى هاتين الكثيرون من ماسكى الأقلام. فك الخط من يريد أن يفكه، وتملكتهم جميعا ناصية علم الكلام.. هنا أمسكت أياديكم نخط الأبجدية حرفا حرفا. وختم من ختم فى القرآن، وأكثر من صيت ذاع الصيت..
الصييت فى صحن الدوار يقول:
– لا تكتموا الشهادة…
– مظلوم أنت والله يا أستاذ..
– ظلمتنى الأقلال التى وضعت فيها بيدى المداد. قهرنى العلم الذى كان فى الأصل علمى أسأل فأجاب. عادانى الفجرة يا أولاد..
– اهدأ يا أستاذ.. لا تقلق.. فلأنك أنت نظيف الاحساس يكرهك الاوساخ.
– ومن كلام الله فى طابور الصباح..
……قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا….. ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن……..واذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى..
وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا الا وسعها.
– ورفعت للسماء بالدعاء يدى:
(لكلماتى أصغ يا رب.. تأمل صراخى.. استمع لصوت دعائى يا ملكى والاهى.. لأتى اليك اصلى.. يارب الغداة تسمع صوتى.. بالغداة أوجه صلاتى نحوك وأنتظر.. لأنك أنت لست الها يسر بالشر.. لا يساكنك الشرير.. لا يقف المفتخرون قدام عينيك.. أبغضت كل فاعلى الأثم.. تهلك المتكلمين بالكذب..)
مازال المزمور يقول:
(يا رب اهدنى الى برك، قدامى طريقك.. لأنه ليس فى أفواههم صدق جوفهم هوة حلقهم قبر مفتوح. ألسنتهم صقلوها، أدنهم يا الله ليسقطوا من مؤامرتهم بكثرة ذنوبهم طوح بهم لأنهم تمردوا عليك.)
– هل تسمعون كلامى يا أولاد؟
– نسمع يا استاذ القول.
– ماذا يقول درس اليوم؟
– نشيد لم نحفظه بعد…
– وماذا يكون العنوان؟
– تقول بأن النشيد لم يكتب بعد.
– هاتوا الكراسات نصحح درس الأمس.
– حاضر يا أستاذ..
– لماذا تبكى يا رشوان؟ يا أنجب تلميذ فى الفصل؟
– البكاء علاج للنفس.
– لكنك أغرقت الكراس بهذا الدمع؟
– أعذرنى يا أستاذ.. فاللحن الحالى مقطوع الأوتار..
– ولماذا هذا يا رشوان؟
– أجبرنى الأب أن أخط فى حقك كلمات.. دون أن أعرف ان كانت فى حقى أو حق الاستاذ.. سامحنى سامحك الله..فحبى لك أكبر من كل الاقوال..
– ولماذا تكذب يا رشوان؟
– ابى الذى قال: ماذا لو قلنا أن الأستاذ مشاكس عميل خارج عن صف الاجماع. مناهض. مشاغب حشاش سكير.. أى كلام.. ماذا لو:؟
والى أن يثبت ان كان أو لا كان يفرجها المولى من لا يغفل ولا ينام.. أعذرنى يا استاذ.. فأبى قد قال: “من لا يرضانى يبعد عنى يبحث عن أى مكان تانى لا يشرب مائى لا يأكل طعامى…”
– سامحنى سامحك الله..
– اجلس يا رشوان.
– أما الشكوى الأخرى يا أستاذ فبخط فلان الفلانى.. لكن حقا كتبت أمامى الشكوى تقول: انك تاجر مخدرات وعميل للجان.. قد وجدوا الأولى فاشوش.. كتبوا أنك مدمن افيون، وعميل للرومان والطليان والأسبان..
وقالوا كمان…… واللا بلاش.. لكنى أرجوك أن تعذرنى يا أستاذ..
– شاهدين يا أولاد.
– أيوه شاهدين.
لما لم يسألنى الضابط عن تهمى رحت أنا نفسى أسأل..
سين: ما جرمك؟
جيم: جرمى أنى لم أقبل رشوة.. لم اشهد زورا.. لا أقبل طمعا..
جرمى أنى لا اصطنع أزمات فى التموين.. لا أفتعل فى المواشى تأمينا.. لا أكذب..
جرمى أنى غير منافق ولا وشاش
جرمى أنى لم أهتف خلف أى مرشح فى انتخابات..
جرمى أنى انسان قرر أن يحترم نفسه..
روح الأب قد عادت الى البستان.. تدور فوق الأشجار.. تتحسس الفروع والأوراق.. تطمئن على الأزهار والثمار..
– ظلى معنا ان شئت.. فهذا الخير من غرس يديك والبركة فى رجليك ظلى فنحن أحوج ما نكون اليك..
– سامحنى يا أستاذ..
– سامحتك يا رشوان.. لكن ماذا عن زوجى.. زوجتى كانت حامل.. أزعجها القول لا الموقف رغم العدل كئيب، والضابط مهما كان انسان ليس صديقا.. والزوجة طبعا لا تغفر من هددها فى المولود
– ماذا فعلت.؟
راحت تقرأ ناسا دراويش سورة الكرسى وقالت أمى عدية ياسين..
أما أنا فقد وشوشت (….) وأمام مقطف ضاربة الودع أسلمت العقل فراحت ترغى بسرعة اكسبريس.
– جدع لطيف نحيف دمه خفيف أول حرف من أسمه سخيف.. ايش يكونلك.؟
– صديق
– خسارة عليك عبيط لا عارف اللى معاك ولا اللى عليك.. لكن ربك ساترها وياك انشالله..
جدع تخين زى البرميل غميق زى البير يضحك لك وهو عايز يرميك وطبعا دود المش منه فيه – ايش يكونلك؟.
– دا جوز خالتى
– ربنا كبير فوق كل كبير.. ربنا قادر يهده قول معايا آمين..
– آمين
– هيا يا أستاذ لم يبق فى الحصة غير دقائق
– ماذا يا أولاد؟
– درس الاملاء
درس الاملاء اليوم عن أيوب، حسن خطك يا رشوان، بعد التاريخ
فى وسط السطر أيوب يقول..
فى وسط السطر أيوب يقول:
(ليته هلك اليوم الذى ولدت فيه، والليل الذى قال قد حبل برجل ليكن ذلك اليوم ظلاما لا يعتن به الله من فوق ولا يشرق عليه نهار، ليملكه الظلام وظل الموت ليحل عليه سحاب – لترعبه كاسفات النهار أما ذلك الليل ليكن عاقرا، لا يسمع فيه هتاف، ليلعنه لا عفوا اليوم المستعدون لايقاظ التنين، لتظلم نجوم عشائه، لينتظر النور ولا يكن لا يرى هدب الصبح
– لماذا يا أستاذ؟
(لأنه لم يغلق أبواب بطن أمى، ولم يستر الشقاوة عن عينى، لم لم أمت فى الرحم، عندما خرجت من البطن: لم لم أسلم الروح؟ ولم الثدى حتى أرضع، وقد كنت الآن مضطجعا ساكنا حينئذ كنت نمت مستريحا مع ملوك ومشيرى الأرض الذين بنوا أهراما لأنفسهم)
– ألهذا الحد أنت زعلان منى يا استاذ؟
– كنت قد نمت الآن مع روح أبى برغم أنه لم يكن فى يوم من الأيام مشيرا، كما لم يبن لرفاته أهراما، لكنى كنت قد نمت ومعه عن وجه التافهين كنت الآن مستريحا
لكن روح الأب تقول..
– لا لا يا أولاد..
لكل أجل كتاب..
أسهروا..
أثبتوا فى الايمان..
كونوا رجالا..
تقووا..
1982-01-01