مجلة الإنسان والتطور
عدد يناير 1982
حول اضطراد (1) الطبيعة
د. محمد السماحى
يتناول الكاتب فى هذا المقال فكرة شائعة وكأنها الحق وهى تشابه الظواهر فى جريانها لاحتمال تشابه التركيب أو القوانين أو غير ذلك، وهى فكرة تريح التفكير وتختصر المعارف وتعلى من قيمة الحس السليم ولكنه يهزها من جذورها كالعادة ويقترح المنهج الاحصائى الاجمالى بديلا عن الاطراد، وهو بذلك يضيف حقيقة مريرة – قد تصح وقد تخطئ – ولكنها – لمرارتها تدعونا للتفكير دون الاستسلام لأى حل قريب أو مريح، والحديث يحتاج إلى من يرد، فهل من منازل؟
تكاد تكون العلوم الطبيعية كلها مبنية على أساس وجود اطراد فى الظواهر الطبيعية (وحسب تسمية ستيوارت مل التى لا زالت شائعة: uniformity))، فعلى اساس أن الطبيعة مطردة يصبح تعميم معلوماتنا حول جزء منها على أجزاء أكثر هو شئ ممكن وجائز وهذا هو الاستقراء (induction) الذى يميز المنهج التجريبى العلمى، أن الاستقراء يعنى إمكان فهم تركيب جسم الضفادع بعد دراسة عدد قليل من الضفادع، وإمكان فهم تشريح المخ بعد تشريح مخ إنسان واحد، ولولا إمكان ذلك لأصبحت مهمة العلم شاقة، ولاقتصرت المعرفة على المعرفة اللاحقة أو المتأخرة، أى بعد دراسة لكل جزء دون اللجوء إلى القياس بالمعارف المستخلصة من دراسات مشابهة لأجزاء مشابهة، ودون الاعتراف بحقنا فى التوقع والتعميم من المعروف إلى المجهول.
إن هذه المعرفة اللاحقة reproduction غير عملية وشاقة وتخالف منهج العلوم الحالى الذى يعتمد على التوقع prediction بناء على تشابه الظواهر.
فإذا حاولنا توضيح معنى الاطراد فى ايجاز لأمكن القول بأنه: الاعتقاد فى أن ما حدث من قبل سيحدث دائما وفى كل مرة، وما رصدناه من ظواهر فى الماضى لا يختلف عما سيحدث فى المستقبل لأن الظواهر لها أسلوب محدد وثابت فى سلوكها بحيث أنه لو كان متكررا فإنه يتكرر دون أى اختلاف أو تغيير. وبصياغة أوجز: إذا حدثت “أ” على شكل “س” فإنها تحدث دائما على شكل “س”.
منشأ الاعتقاد فى اطراد الطبيعة:
لم يكن الاعتقاد فى الاطراد نابعا من مبدأ خالد فوق الواقع بل هو مستوحى من خبرتنا بدوران الأرض حول الشمس الذى نراه دقيقا منتظما، بحيث يظهر لنا ظواهر مطردة بدقة كالزمن الفلكى، وتتابع الليل والنهار والفصول فى شكل منتظم بشدة. وإمكانية توقع الكسوف والخسوف ومدارات الكواكب وما يشبه ذلك ترجع أيضا إلى انتظام دوران افراد المجموعة الشمسية.
هل الاطراد الملحوظ تقريبى أم أنه كامل؟
من الثابت أن المجموعة الشمسية تتجه ببطء شديد نحو شيخوخة فكلية (مثل كل النجوم القريبة التى أمكن رصدها فى مراحل تطورية مختلفة) مع ميل نحو الانكماش، وهذا يؤدى بالفعل الى تناقص مستمر فى سرعاتها مع تغير دائم فى صفاتها المكانية من أبعاد للمدارات وما يتعلق بذلك، والنتيجة الحتمية تكون نقصانا فى الاطراد لأن طول يوم الأرض غدا سيختلف بجزء صغير جدا من الزمن عن طوله اليوم الذى اختلف ايضا بمقدار ضئيل جدا عن طوله فى الدورة السابقة مباشرة بالأمس، فالزمن الشمسى الأرضى، أو بمعنى أدق زمن النظام الشمسى، يعتمد على الأبعاد المكانية، وكل الظواهر التى نرصدها فى العالم الفيزيائى الكبير (الماكروفيزيائى) تعتمد على الأبعاد الزمانية والمكانية، وبالتالى فالاطراد الملحوظ فى الظواهر والذى يرجع الى ثبات الأبعاد (مكانية وزمانية) فى المجموعة الشمسية (من ظواهر فلكية وجيولوجية وظواهرأرضية متعلقة بالغلاف الجوى وضغطه وخصائص المواد الأرضية وما إلى ذلك) والذى تم بناؤه على انتظام رصدنا لظواهر متعلقة بدوران الشمس وكواكبها هو اطراد تقريبى. فطالما أن يوم الكرة الأرضية لم يكن دائما 24 ساعة تماما ولن يبقى 24 ساعة بعد مليون سنة، فان الاطراد المزعوم ليس اطرادا كاملا بالرغم من صغر حجم الاختلافات بالقياس بالمتوسطات المقترحة.
ان الاطراد اما أن يكون اطرادا حقيقيا أى كاملا دقيقا واما ألا يكون اطرادا حقيقيان والاطراد المفترض وجوده فى الجزء المحسوس من العالم هو اطراد ظاهرى فقط، أى أنه تقريبى وبمعنى أدق: هو ليس اطرادا على الاطلاق.
هل توجد ظواهر غير مطردة فى العالم؟
بالقياس بالصياغة المقترحة للأطراد: “أ” تحدث دائما على شكل “س” فاننا نجد حقا عددا كبيرا من الظواهر لا يقبل الاختزال الى هذه الصياغة. هناك مثلا ظواهر يمكن التعبير عنها فقط بالصياغة التالية:
“أ” قد تحدث فى شكل “س” أو “ص” أو “ع” أو بأشباه لهم (سَ – صَ – عَ).
ومن أمثلة ذلك الوراثة البيولوجية. فلو كانت عيون الأب والأم زرقاء لأمكن أن تكون عيون الجيل الأول من أبنائهما أما زرقاء وأما خضراء وأما بنية وأما شبيهة بأحد هذه الألوان.
ومن أمثلة ذلك أيضا تأثير الاشعاع الكهرومغناطيسى (مثل أشعة اكس) على الخلية الحية، فهى أما أن تقتل الخلية وأما أن تفسد وظائف النواة وأما أن تؤدى الى ابطاء مؤقت أو دائم فى نشاطاتها الكيميائية رغم ثبات جرعة الاشعاع.
ولكن أمثلة عدم الاطراد لا تقتصر على الظواهر البيولوجية بأى حال. ففى نفس المجموعة الشمسية لا يتشابه كوكبان فى التركيب الفيزيائى أو الكيميائى، بل أن بعض أقمار كوكب ضخم يدور فى اتجاه مضاد لاتجاه دوران معظم الاقمار زملائه. ولا يتشابه كذلك نجمان فى مجرة ولا مجرتان فى الفضاء.
وحتى جدول “مندلييف” الذى سمى بالجدول “الدورى” به مواضع كثيرة غير متوقعة أو مخالفة لصفة “الدورية” التى قصد بها التعبير عن الاطراد فى عناصر الطبيعة. وفى الكيمياء نجد موادا ذات نشاط ضوئى يمينى وأخرى لها نفس التركيب الجزيئى لكنها يسارية النشاط الضوئى optical activity ، وعناصر متشابهة ذريا مختلفة جزيئيا كأن يكون لها أكثر من تكافؤ كيميائى، أن كل علوم الطبيعة تكشف عن شواذ كثيرة وحالات غير قابلة للتصنيف وبالتالى للتوقع، نجد هذا فى فيزياء الذرة وفيزياء الجسيمات الدقيقة كما فى الكيمياء والبيولوجيا. وكلما ازددنا قدرة على رصد الظواهر بدقة وجدنا الطبيعة اقل اتصافا بالانضباط وبالتكيف لقوانين ثابتة.
هل الاطراد التقريبى موجود خارج المجموعة الشمسية؟
إذا كان تدليلى على أن الاطراد الظاهرى للطبيعة الذى يمكن ملاحظته من على سطح الأرض هو اطراد تقريبى تدليلا مقبولا فهل يجوز لنا اعتبار أن الكون كله له طبيعة مطردة اطرادا تقريبيا؟
لابد أن نعى أن المجموعة الشمسية ليست ممثلا جيدا للعالم. فالعالم ليس مجموعة من الشموس التى تدور حولها كواكب صلبة ذات تركيب صخرى وباطن سائل أو شبه سائل. ولذلك فعالمنا الصغير الشمسى ليس “عينة” للكون على طريقة أن ثمرة واحدة من شجرة مثمرة يمكن أن تكون عينة لكل ثمار الشجرة.
ولا يجوز الاعتراض على مزاعمى. بأن الاطراد الملحوظ فى ظواهر الطبيعة يقتصر على المجموعة الشمسية (بصرف النظر عن أنه تقريبى) بحجة أن مفهوم الاطراد ليس مبنيا على الظواهر الفلكية الجيولوجية وحدها بل أيضا على الانسجام والانتظام فى الكيمياء والفيزياء كما فى وحدة تركيب الذرات كلها وثبات سلوك الهيدروجينة سواء كان فى الشمس أو فى نجم بعيد وهكذا.
ذلك لأننا درسنا المادة من خلال وجودها فى الشمس والقشرة الأرضية وفى ظل ظواهر أرضية شمسية ولم ندرس شيئا بعد عن خواص المادة فى مجرة بعيدة. بل أن هناك أشكالا للمادة لم نعرفها الا مؤخرا توجد فى باطن النجوم كحالة البلازما والوجود النووى بلا الكترونات، فماذا يمنع أن توجد المواد فى نجم بعيد فى حالد غير ذرية بحيث يظن أهل أحد كواكب هذا النجم التابعة أن العالم كله مكون من جسيمات غير ذرية؟ (ثم إذا ما عرفوا ما عرفناه عن الحالة الذرية أدركوا أن الكون خال من الاطراد!).
ولكن الاطراد موجود فى حياتنا اليومية فكيف ذلك؟
الاطراد ملحوظ فى حياتنا اليومية لذلك تأصل فى اذهاننا كاعتقاد قوى وكأحد أسس الحس السليم. فكل البشر يؤمنون بأن الشمس ستشرق غدا وأن الليل سيأتى بعد هذا الضياء المؤقت فى الظهيرة. فكيف يتناقض الحس السليم مع المعرفة النقدية التى نجدها فى الفلسفة والعلم؟ أن ذلك راجع الى أن الحس السليم هو الصورة غير النقدية من المعرفة لأنه لا يقوم على أسس نظرية يعيد الذهن اختبارها دائما، وانما على خبرة حية حسية بالعالم تقوم على ما نبصر ونسمع ونلمس لا على قواعد نظرية تقرأ لكى تفهم بشكل صورى تجريدى.
أنه شئ مفهوم ان تمتلئ حياتنا اليومية بأدلة (رغم أنها من الناحية النقدية مجرد أدلة ساذجة هزيلة) على الاطراد. ذلك لأننا بحواسنا نعيش فى جزء صغير جدا من العالم يحتوى على كم بسيط من الظواهر يتيح لنا التعامل مع الكتل الكبيرة وحدها وجاذبية الأرض دون جاذبية الجسيمات أو نوى الذرات أو جاذبية السدم البعيدة ومع كميات من الطاقة لا دقيقة ولا ضخمة (بالمعنى النسبى) كالتيار الكهربائى وحرارة الشمس وضوء الشموع .. الخ. وكل هذه الظواهر المحددة لا تعطى صورة كاملة عن الطبيعة ولا تسمح لصغرها بالحكم على مقدار الاطراد الظاهر لنا. اننا نعيش على سطح كروى لكننا نبصره مستويا، وبالقرب من شمس ذات شكل ضوئى غاية فى التعرج وعدم الانتظام (كما يرى فى المراصد الكبيرة) ولكننا نراه مستديرا تماما. ان حواسنا لا تعطى صورة دقيقة عن الطبيعة فنحن كائنات بيولوجية تعتمد فى الادراك على الانزيمات وأيونات الصوديوم.
ولكن كيف يوجد الاطراد فى حياتنا اليومية الحسية ويغيب عن حياتنا الذهنية لو سلمنا جدلا بصحة عدم وجود اطراد كامل؟ هذا هو السؤال الأصلى.
والاجابة ستعتمد على التشبيه لتقريب المعنى:
الوضع يشبه وجودك فى قطار يسير بسرعة منتظمة ونوافذه مغلقة تماما بحيث لا ترى اشباحا متحركة كأعمدة التلغراف والاشجار، انك لن تشعر بأنك تتحرك وسترى كل ما حولك وكأنه ساكن تماما، عندئذ ستدلك كل الظواهر على السكون بينما الحقيقة أن كل شئ يتحرك بنفس سرعة القطار المنتظمة. من يمكنه اذن أن يحتفظ بالثقة فى عالمه اليومى الحسى؟
النتائج النظرية المترتبة على الاعتقاد فى اطراد الطبيعة:
(1) تبرير المنهج الاستقرائى: فالاستقراء كما ذكرنا يعتمد على تعميم خصائص الجزء على كل الاجزاء المتشابهة، وهذا يستلزم وجود اطراد يؤدى الى تشابه الاجزاء واستمرارها على نفس الوتيرة الى الابد، بحيث لا تتغير صفات شئ ما من حين الى حين بشكل يلغى الغاء تاما ما سبق دراسته عنها فى الماضى، ولولا اطراد الطبيعة لما قامت المناهج العلمية الاستقرائية.
(2) إمكان توقع الظواهر الطبيعية: ان التوقع مستحيل فى حالة غياب الاطراد لأنه لولا ان العلم يفترض ان غدا يشبه الأمس لما تمكن من رسم صورة للغد على غرار الأمس.
(3) إمكان تعميم مبدأ السببية كقاعدة عامة سبقية فى العلم: لولا الاطراد لما أمكن تجاوز التسبيب العرضى (كتسبب قوة السيول فى أواسط أفريقيا فى تكوين دلتا النيل .. اذ أنه لا توجد قاعدة تؤدى الى أن كل السيول تتسبب فى دالات ولكن هذا حادث عرضى رغم أن له سببا) الى السببية العامة. فالتسبيب العرضى يتلخص فى: أ أدى الى ب. أما السببية العامة فتتلخص فى: كل أ تؤدى الى ب وكل ب تنتج عن أ وفى كل مرة تحدث فيها أ سوف ينتج عنها ب. وواضح أننا يمكن أن نفهم أن الصورة الثانية نتجت من اطراد تكرار الصورة الأولى هكذا:
أ أدت الى ب
– أ أدت الى ب فى مرة ثانية
– أ أدت الى ب فى مرة ثالثة
– أ أدت الى ب فى مرة عاشرة
– اذن أ تؤدى دائما الى ب، أى أن كل أ تؤدى الى ب وكل ب تنتج من أ.
4- تبرير فكرة قوانين الطبيعة وتطوير فكرة الحتمية:
الحتمية determinism فكرة اقتبسها العلم من الأخلاق واللاهوت ثم طورت فيما بعد الى فكرة القوانين. الحتمية تعنى أنه اذا حدثت ظاهرة معينة فلابد أن تؤدى الى نتاج معينة بشكل اجبارى فارتفاع درجة حرارة الماء الى 100 مئوية لابد ان يؤدى الى تبخره مهما كان من أمر. وهذه الحتمية هى نظرة اخلاقية الى السببية بشكل ما، وهى قائمة ايضا على الاطراد. فلولا تكرار تبخر الماء دائما عند درجة 100 مئوية لما أمكن اعتبار التبخر ظاهرة حتمية.
أما القوانين الطبيعية فهى تعبير رياضى فيزيائى عن السببية فى بعض الأحوال (مثل: تسقط كل الأجسام بسبب جاذبية الأرض) وعن الحتمية فى بعض الأحوال (مثل: تعادل قوتين مؤثرتين على جسم ساكن فى اتجاهين متضادين لابد يؤدى الى بقائه ساكنا)، وفى كل الأحوال فالقوانين الطبيعية هى تعبير مباشر عن اطراد الطبيعة. أن تكوين قوانين عن أحوال غير منتظمة الحدوث والتكرار وغير منتظمة الحدوث والتكرار وغير مضمونة الحدوث فى المستقبل على طريقة الحاضر هو شئ مستحيل تماما.
أن ذلك يشبه محاولة وضع قوانين لنتائج مباريات كرة القدم. لايمكن أبدا وضع قوانين كالآتية :
يكسب الفريق الأفضل
يكسب الفريق الأقوى عقليا
يكسب الفريق الأكثر فنا
يكسب الفريق الأكثر ألوانا زاهية فى ملابسه
يكسب الفريق الذى يبدأ ضربة البداية
وهكذا.. كل ذلك مستحيل لأن نتائج مباريات الكرة غير مطردة. فلو أن الفرق الأفضل تكسب بشكل متكرر لأمكن صياغة القانون الأول مثلا.
المنهج الاحصائى الاحتمالى كبديل عن الاطراد:
الاطراد الحقيقى الكامل غير التقريبى يشبه الحتمية الصارمة.
ولو كان هذا الاطراد المثالى موجود لأمكن وضع صياغات ملزمة ودقيقة للظواهر ولما كانت هناك حاجة للجوء للاحتمال والاحصاء .
فمن المعروف فى”ميكانيكا الكوانتم” أن تحديد سرعة الالكترون فى لحظة غير ممكن الا بشكل احتمالى، كذلك فان حركة جزئيات الغازات لا يمكن تحديدها بدقة لكونها عشوائية وانما تحديدها بدقة احصائى. أما فى العالم البيولوجى فكل محاولات التعميم ووضع القوانين أو عمل التوقعات تعتمد على أسلوب احصائى احتمالى. وهكذا حل المنهج الاحصائى الاحتمالى محل المنهج الرياضى الكلاسيكى الذى عامل الظواهر معاملة حتمية اعتمادا على اطرادها الدقيق. ويأخذ التعبير الاحتمالى عن الظواهر شكل الصياغة الآتية:
بعض”أ” أو معظم “أ” (ولكن ليس كل”أ” يحدث على شكل ” س” وذلك بالمقارنة بصيغة الاطراد:كل”أ” يحدث دائما على شكل “س “
الخلاصة والتعليق :
يمكننى أن أقترح إضافة حقيقة مريرة الى ما عند العقل الانسانى من كمية كبيرة من هذا النوع من الحقائق، وهى أننا لا نملك الحق فى تعميم أفكارنا عن المجموعة الشمسية على الكون ككل لأن الكون ليس هو أرض وكواكب تدور حول شمس ولا تمثل هذه الشمس بكواكبها كل الكون تمثيلا تاما .
وبناء على ذلك لا يمكننا أعتبار الكون مطردا ولو اطرادا تقريبيا كاطراد الظواهر الشمسية الأرضية التقريبى. والاطراد المزعوم فى الطبيعة هو مجرد تصور مثالى هندسى كتصور الدائرة والمثلث متساوى الأضلاع ليس له وجود خارج الذهن .
ويترتب على ما سبق أن علومنا القائمة على الاستقراء تصف عالما مثاليل غير عالمنا الواقعى الذى تمنع صيرورته (وصدق هيراقليطس) من حدوث اطراد فى ظواهره (2) وهذا معناه أنه فى ضوء الحالة الحالية للعلم التى تكشف عن شواذ كثيرة لكل قاعدة وعن حالات فردية كثيرة لكل قاعدة وعن حالات فردية كثيرة واحتمالات محل القوانين واحصاء محل الحساب المضبوط وكل النتائج الأخرى لغياب الاطراد، فان منهج الاستقراء يتعرض لأشد الانتقاد.
وبما أن الاستقراء هو الأسلوب العملى الوحيد فى الوقت الحاضر للعلم لعجزنا عن القيام برصد ودراسة كل حالة فى الطبيعة على انفراد، ولحاجتنا ككائنات ضعيفة عقليا (3) الى التعميم وحب القواعد الجامدة والقوالب الثابتة وافتراض قوانين جامدة لطبيعة غير جامدة بل دائمة الصيرورة، فانه لا أمل لنا فى الوقت الحالى الا فى تكوين معرفة مثالية عن عالم مثالى بأسلوب الاستقراء (الذى يقوم طبعا على أساس الاطراد فى الطبيعة) لفترة مؤقتة الى أن نتمكن من تحطيم صنم العالم المثالى من أجل أعادة بنائه بشكل أوقع .
أن عزائنا عو اننا قمنا بالفعل من قبل بدراسة الانسان الطبيعى normal فى التشريح، والفسيولوجيا، والانسان السوى فى علم النفس والصحيحhealthy فى الطب، رغم أن كل هذه مفاهيم مثالية غير واقعية، ولكن كان ذلك مؤقتا، ويوم أن نتخلص من حاجتنا المريضة الى التعميم ودراسة الكل من أجل فهم الجزء، ومن الميل الصوفى الى الواحدية monodism (فى صورة عالم أو كون ـ لا عوالم وأكوان عديدةـ ومبدأ نهائى ومنشأ للوجود وجسيم نهائى لا أصغر منه وما الى ذلك من تصورات واحدية) سيمكننا دراسة جزء بجزء من العالم دون استقراء كلاسيكى ودون الحاجة الى خلق عالم معرفى مثالى يقف كشبح أخلاقى أمام العالم ـ أو العوالم ـ الواقعية.
أن صراع البشرية مع الجهل لا يقل ضراوة عن صراعها مع الفقر والانفجار السكانى بل هو اصعب.
-[1] اطراد الكلام أو الحديث : جرى مجرى واحداً متسقاً (الوسيط) وهذا هو المعنى المراد فى هذه الدراسة – التحرير.
[2]- لا احاول هنا الدعاية لمبدأ ميتافيزيقى كالصيرورة على أنه يحكم الكون ولكن استعمل تعبير الصيرورة بشكل تشبيهى analogical
[3] – ضعفنا العقلى بالنسبة إلى ما كنا نتصوره عن أنفسنا وليس بالطبع ضعف عقلى مطلق.