يناير 1982-الحـوار مستمر
مجلة الإنسان والتطور
عدد يناير 1982
الحـوار مستمر
محمد عبد السلام – د. محمد السماحى – ماجى لبيب
محمد جاد الرب – مرقص عوض – يحيى الرخاوى
فى هذا العدد سندخل الى الحوار مباشرة، اذ يبدو أن هذه الأيام هى أيام الحوار – أو هكذا يعلن فى كل مكان – وان كنت أشك شخصيا أن ثمة حوارا يمكن أن يقوم بحق فى مجال السياسة خاصة (راجع شروط الحوار عدد يوليو 1981 ص 108 – 111) ومع ذلك فحمى الحوار قد اشتعلت وكأن شيئا جديدا بحق وشيك الحدوث، وأنا لست شديد الطمأنينة لهذا الذى يجري، لأن الكل يتغافل عن لحظة صدام المصالح رغم أنه ينتظرها فى تحفز مريب، وحينذاك – حينذاك فقط – سنعرف ان كان ثمة حوار أم أن الذى يجرى الآن هو شيء أخر يحتاج لاسم آخر.
والآن الى حوارنا المتواضع نتحسس من خلاله طريقنا الى أنفسنا فالعالم.
ضيفنا: محمد عبد السلام
(من شبراويش – دقهلية)
م. عبد السلام: استميحك العذر، لقد دخلت على الاحوال – كحالها – بالحنجل والمنجل فما ملكت تفنيد واعادة كتابة مسوداتي.
الرخاوى: مرحى يا محمد، مرحى بك وبأحوالك، وبحالها وبالحنجل والمنجل فكم تمنيت أن تخصص فى هذه المجلة بابا اسمه “شطحات المسودات“، ولا شك أنك لاحظت أن كثيرا مما نشر فعلا لا يعدو أن يكون مسودة، ولعلك ترجع فى هذا العدد نفسه وتصدقنى أن الدراسة المطولة عن الرباعيات الثلاث ليست سوى مسودة فهات – مسودتك – علها تبيض قلوبنا .. من يدري.
م. عبد السلام: خفت – كحالة من حالات الإحساس بالدونية التى لا تفتأ تنتابنى لدى معاودة النظر فى أى “سالف” ألا أرسل اليك شيئا بالمرة مسودا أو مبيضا.
الرخاوى: وهذا هو ما يفعله بى التزامى نحو هذه المجلة، فدورى الحالى فيها يجعلنى ادفع بالأفكار الى المطبعة مباشرة والا …، ولعل من المفيد أن تعلم أن أهم أعمالى حتى الآن وهو كتابة دراسة فى علم السيكوباثولوجى ما خرج فى هذا الوقت بهذا الشكل – وهو يناهز الألف صفحة – الا تحت ضغط “عامل” صديق كان لابد أن يأكل عيشا فى حجرة خاصة بى جمعت فيها صناديق مليئة برصاص الحروف وكانت النتيجة هى هذا العمل شديد الأهمية بالنسبة لى (وربما للتاريخ والناس: من يدري)، فهيا معى ندعو الى حتم النظر، قبل اعادة النظر فانه يخيل الى أحيانا أننا نعيد النظر دون أن تنظر أصلا، ولتكن البداية دفعا للدونية .. ثم .. من يدري.
م. عبد السلام: وبالرغم من ذلك فقد تعلقت محافظا على درجة من المبالاة لانتهاز أية سانحة قد تواتى لأدفع اليك بما أنجز، وحسب الأحوال.
الرخاوى: من الكلمات المسكينة التى شاع ضدها أكثر من شيوعها شخصيا هى كلمة المبالاة، فالحديث عن اللامبالاة يبلغ درجة اللامبالاة فعلا، أما استعمال كلمة المبالاة فهو أندر ما يكون، ليكن فتحك أصيلا، فأنا فى وضع الاستعداد لاستقبال عطاء سانحتك البكر، ولندخل الى الحوار مباشرة حتى يشاركنا القاريء لو سمحت.
م. عبد السلام: كان قد راعنى ما آل اليه حواركما (خبر ايه يا عمي، لا بأس ومش كده ..!!) اذ ظهر الأستاذ أ. نور الدين فجأة على الصفحة فدق جرس انتهاء الوقت الاضافى وصار لابد من تسليم ورقة الاجابة أجدت أم لم أجد، فرغت من قولى أم لم أفرغ – هذا والا فلن .. وربما الى الأبد.
الرخاوى: لا ياعم الطيب أحسن، وشكرا لك يا أستاذ نور الدين (وكأننا نعرفك)، فلو راجع صديقك بن عبد السلام ما وصلنا لما وصلنا، وملعونة الاجادة (الانانية) التى تحرمنا من بعضنا البعض ..
م. عبد السلام: لعل المبتدا فى الدخول الى جاد الرب لابد وأن يكون دراسة لما يمكن أن نطلق عليه اليوتوبيومانيا Utopiomania أو “ولع المدن الفاضلة” وهذه دراسة يلزم أن تكون حداسة – ميتاجيو سيكو – سوسيو – أيديو – ديناميك – بولتيك … ئية (بتشديد الياء) وليس فى الأمر أية مزحة.
الرخاوى: طبعا ليست مزحة، وان كنت توقفت طويلا – وما زلت – أمام صفة الديناميكية فى هذه اليوتوبيومانيا، فلا أظنها ديناميكية بحال، آسف .. انتبهت الى أنها صفة للدراسة وليس للمانيا، ليكن، وقد عانيت طويلا – ومازلت – من هذه المدن الفاضلة التى تعشش فى أمخاخ المتدينين والملحدين على حد سواء من هواة القفز على حواجز الواقع فوق بساط الريح لا على صهوة جواد المغامرة، وكذلك تعشش بنفس القدر فى أمخاخ الفنانين والتقدميين (هكذا الاسم)، والحوار الدائر بين الدوائر يبدأ من نشيد الأمل وينتهى بالسلام الجنانى (نسبة الى الجنة وليس الجنون)، ولكنى يا سيد محمد لا أجد أى مزية فى تسمية هذا الولع باسم لاتينى خاص، كما انى احب جاد الرب وعطاءه لدرجة تجعلنى أحاوره معترضا طول الوقت دون تسميته، لذلك فانى أفضل الحوار مع جاد الرب شخصيا وليس حول هذه الظاهرة الذى برق اسمها واستطالت صفات دراستها حتى بدت كحلقات الحية الرقطاء .. لا ياعم، وسأشكوك لجاد الرب بعد صفحات.
م. عبد السلام: اذ سبق السيف العزل، لم يعد لى الا أن أعول على كرمكم فى غض النظر عن مزالق الخشونة و (البارانويا) التى لابد من التردى فيها أمام حسن النية فى تطبيب المسارات الحميمة – أو التى تبدو حميمة حسب معطيات حسنى النية – الخشنة؟؟!
الرخاوى: تحيا المسودات مفرطة التكثيف، ماذا لو كنت بيضت هذا الكلام؟ أذا فلربما كان أسهل على أن أفهم ما تعني، ولكنت فى نفس الوقت بعدت عنى كثيرا كثيرا، فأيهما تفضل؟ أن نتقارب بفهم غامض، أم أن نتباعد بفهم محدود؟ المهم أنى لم أدرك تماما الخط الفاصل بين خشونتكم المدعاه (حتى لو كانت بارانويا مزعومة) وبين خشونة حسنى النية، اذ أعتقد أن حسنى النية – أياهم – ليسوا خشنين أصلا، بل هم حالمون يستبدلون بالخشونة رقة الأحلام، لكنهم لا يتورعون عن القتل ما دام الظلام دامسا، ورغم هذا الفهم الغامض فانى لا أملك غض النظر بكرم أو خلافه، وكل ما أملكه هو أن أرحب بالخشونة من أى مصدر، وذلك بأستعمال خشونة أفظ (بتشديد الظاء – وهى أفعل تفضيل من “فظ”، ولا أعتقد أنه تواتر استعمالها فى العربية، ولكن ألست معى فى جزالة اللفظ وقبحه بدرجة مفيدة).
م. عبد السلام: ان الفتح الشريف الذى صدرتم به مجلتكم منذ عددها الأول قد استتبع من جانبى حماسا راصدا مؤيدا، قابلا للتجدد والتصويب، هذا وان كنت قد أدركت ما رميتم اليه لا ما يتملكني، فان كان ما يتملكنى هو نفسه قصدكم، فمرحي!! وليحيا “اتحاد الطلبة” ..!!
الرخاوى: .. راصدا؟ شكرا، و “قابلا .. للتصويب”؟ ألا هيا، ولكن لماذا تشترط أنه “لا مرحي” الا اذا كان ما تملكك هو هو قصدنا، أفلا يكفى أن تلتقط جديتناواصرارنا على الاستمرار وعلى الحوار – حتى تتحفنا بـ “مرحي” مشجعة، ثم تصوبنا ونرد، ونقتحمك فترد، ومع ذلك – أو من أجل ذلك، “يحيا اتحاد الطلبة”
م. عبد السلام: (اسمح لى بهذه قبل وداعكم) فالتة: ان لم يكن شأنكم دراسة ما عرف بـ “الارهاب”، كذلك سيادة بعض الظواهر مثل تسنم “النقدية” – الدراهم ما أعنى – الموجة، وشيوع الرشاوي، والأرصفة الخاصة فى المواني، وبنية اليسار المصرى و .. و .. فشأن من هذا؟ أ “الوقائع المصرية” أم “خطب العرش”؟؟
الرخاوى: سامحك الله يا أخانا الذى فى الضمائر، هكذا مرة واحدة؟ كل هذا “فالتة”؟ هنا أقول يا ليتك بيضت مسودتك حتى تخفف الجرعة المؤلمة، ومع ذلك فان هذه المصائب التى ذكرت انما تحمل مقومات هدمهما بنفسها، وهى لا تجد من يدافع عنها علنا، فهى لابد أن تموت وحدها أو بفعل فاعل، وليس ضروريا أن تكون كلمتنا – بوجه خاص – هى هذا الفاعل، ومع ذلك فنحن لا نبرر لأنفسنا أن نتخلى عن واجبنا ازاء كل ما ذكرت، لكننا نشعر بعجزنا عن الوفاء بالتزامات أصعب، ولا نحب أن نكرر ترديد الأصوات الزاعقة من جانب واحد دون النظر فى الداخل، أو دون النظر أبعد من أصوات التصفيق ومدى حركة البندول بين سلطتين (المال – والحكومة) كلاهما مغترب عن نبض كل الناس وعن نبض الناس الكلى فى آن واحد – المصيبة الكبرى يا سيدى هى فى استسهال الحل (من أول حل مجلس الشعب) أو أى مجلس الوزراء، الى حل الكلمات المتقاطعة)، فبنية اليسار المصرى – مثلا – تحتاج الى دراسة أعمق وأكثر جدية من دراسة مساحات الأرصفة الخاصة فى الموانيء، لأنه توجد أرصفة مبلطة وخاصة جدا داخل العقول المستريحة للحل الذى مات قبل أن يولد، وقد بنيت هذه الأرصفة حين ألبست الطبقة العاملة “المزيكة” لتشيح بأيديها فى الهواء (والآلات الصدئة معلقة على الصدور) وكأنها تعزف، فى حين أن العازفين لا يزيدون عن أصحاب المصالح الجديدة والغرائز الحكومية المقنعة، ومازالت حبوب الألفاظ المعسولة توزع مع عطور التنويم الجماعي، يا سيدى اعذرنا فلسنا قدرهم ولسنا معهم ولسنا ضدهم بوجه خاص، فأن كنت عرفت ما هو نحن، فأنت تعرف أننا ضد أى تخدير فى أى جانب وتحت أى عنوان وخاصة بالمقدسات الجديدة، ان شرف الوعي، وتقشف المعاناة هما ضريبة الحركة المغامرة ضد كل لعبة لامعة حتى لو صفق لها كل الناس – وحتى كلمة اليسار آن لها أن تراجع، فكل من كلمتى اليمين واليسار هما أسماء مواقع وأماكن، وانما المقابلة الأصح هى بين والحركة والسكون، فلتحدثنا عن المتحركين فى عمق الوعى من المصريين محبى الحياة ضد الذاهلين من سكان التكايا اللذية الحسبة أو العقلية .. هنا أقول لك أين نحن، ونحاول أن نوقظ دراويش التكايا من اليمين واليسار معا.
نعم هى – ما ذكرت – قضايانا بلا هروب، ولكن تناولها له طريق أطول وأصعب وأخطر … ولا سبيل غيره، فقصر علينا المسافة ولو بحسن الاستماع، واستمرار المشاركة، واعادة النظر (بعد النظر أولا طبعا) ثم – اذا شئت – الاسهام فى الحوار.
م . عبد السلام: واذ أدعو لكم بالسداد .. لكم وعليكم السلام.
الرخاوى: ولا سداد الا بكم (أنتم أو من هو أنتم) حتى لو توقفت أنت شخصيا نتيجة لمعوقات مريحة، وشكرا لأنك علمتنا بعض فائدة صدورنا .. ومنها أن تقول ما تشاء فنأخذ الأمور جدا ونلتقي، شكرا والى اللقاء، ودعوة لحضور الجولة التالية – شاهد عيان – مع صديقنا السماحى وهو يستظل تحت شجرة “التهوين بالتجزيء” بعيدا عن عشى نور اليقين، ولم لا؟
مع د. السماحي
تحت ظل شجرة التهوين بالتجزئ
د. السماحى: لعلك من خلال نظرة متأملة عامة للفلسفة ترى أن هناك ثلاثة مواقف فلسفية من مشكلة امكان معرفة العالم على حقيقته.
الرخاوى: أظن أنك خير من تعرف أنى لا أراهم ثلاثة ولا مائة بوجه خاص، ولكنى أصر على حركة المحاولة ولا أتعجل أى انكار أو اثبات، فعلمنى مما عندك أفادكم الله .
د. السماحى: (أولا) موقف ايجابى متفائل يرى (دون أى مبرر) أن حواسنا ومنهج تفكيرنا العقلى مصنوعة (ربما بالصدفة) بحيث تنقل وتستوعب ظواهر العالم كما هى دون أن تبدلها أو تغيرها أو تنخدع بها، وبالتالى فنحن عندما نفكر فاننا نشبه الكاميرا التى تصور الوقائع على حقيقتها عند هؤلاء (وهم الفئة الغالبة من الناس) ما نراه احمرا هو بالفعل شيء احمر، وليس مجرد شيء ما تسبب فى تنشيط خلايا الشبكية فى العين يقوم المخ بترجمة نشاطها على هيئة ابصار احمر، وعند هؤلاء السخونة ليست مجرد حاسة لها خلايا مستقبلة فى الجلد تترجم انبعاث الحرارة فى السيتوبلازم الى احساس مخى بالسخونة، وانما السخونة عندهم هى شيء حقيقى موجود فى الكون خارج خلايا الجلد يتصف بأنه ساخن .
الرخاوى: اعتقد يا سيدى أن هذا موقف بسيط وطيب، وهو كاف لتسيير الحياة باللغة التقريبية التى تعارف عليها أغلب الناس، وأتصور أن له فائدة عظمى عند عامة الناس، وهى تخطى مشكلة النظر فى المعرفة البحتة الى الفعل التالي، أى بغض النظر عن مدى التجاوز والتقريب السابق المتعلق بماذا نعرف أو كيف نعرف على وجه التحديد .
د . السماحى: (حقا ان صاحب مثل) هذا الموقف لا يشكو من مشكله فى المعرفة.
الرخاوى : أتفقنا ولو مبدئيا . .ولو جزئيا – فعلمنى مما علمت أفادكم الله
د. السماحى: (الموقف الثانى هو) موقف سلبى يائس يرى أن مشكلة المعرفة مستحيلة لأن حواسنا تنقل صورا بيولوجية عن العالم الخارجى لا تمثل بأى حال حقيقة الأشياء، فالملح مر بالنسبة للفم، والسكر حلو، لكن لا المرارة ولا الحلاوة صفات واقعية، وكذلك الأبصار ليس أكثر من أحساس بمجال محدود من الطاقة الضوئية وهو يعطى صورا مختلفة عن نفس الشيئ عند الكائنات المبصرة المختلفة.
الرخاوى: كنت على وشك أن أقول لك بالنسبة للموقف الأول، وماذا علينا لو “نعرف” بنفس طريقة الحيوانات (الأطيب)، بمعنى أننا نعرف دون أن نعرف ماذا نعرف ولاكيف، وهأنت تصور لنا المعرفة تنتسب بشكل ما إلى طبيعة أجهزة المعرفة عند كل كائن .
السماحى: (نعم) 00 فالشيئ (وليكن فردة حذاء مثلا) بالنسبة للحشرة مجرد سطح قاتم ضخم للغاية مكون من جسم ذى بعدين فقط وليست له تفاصيل محددة بينما الوسط المحيط به يأخذ لونا رماديا فاتحا، وبالنسبة للكلب (الذى يرى الأبعاد الثلاثة والألوان وله مجال رؤية مختلف بسبب وضع عيونه غير الجانبى بخلاف الحيوانات) فمنظر الحذاء مختلف
الرخاوى: حتى الآن – أعذرنى – لا أكاد أدرك ماذا تريد أن تقول على وجه التحديد، فهل تشير بطريقة ما على أن هؤلاء القوم – أصحاب الموقف الثانى يشككون فى أماكن طبيعة معرفة العالم الخارجى أصلا، أم فى قدرة الحواس على الترجمة السليمة من حيث المبدأ؟.
السماحى: اللاأدريون قوم لا يثقون فى قدرة الحواس على نقل حقيقة العالم إلى الذهن ثم أيضا لا يثقون فى قدرة الذهن على تحليل المعلومات الحسية ثم تكوين مفاهيم منها تكون صادقة عن الوجود الخارجي.
الرخاوى: أراحونا وتعبوا أنفسهم يا أخي، ليكن، فهل يعوقنى أنى لا أدرى أن أنطلق وكأنى آدري؟ ما علينا .. فماذا عندك أيضا من مشاكل ليست مشاكل، وعذزا فأنت لا بد أن تدرك أنى جاد فى التعلم بقدر ما أنت جاد فى التعليم، فحدثنى عن ثالث المواقف ولعلها آخرها.
السماحى: (الموقف الثالث) موقف متوسط يحاول تجنب الشك بكثرة التحليل للتفاصيل ويهاب تخليق الأفكار الضخمة خشية أن تنهار كما أنهارت كبار الفلاسفة من أمثال كانط وهيجل وغيرهما .
الرخاوى: هكذا، مرة واحدة؟ تنهار أفكار هؤلاء الفطاحل؟ فماذا نفعل نحن بالله عليك؟ أين الهرب يا عرب.
السماحى: هذا الموقف لا يستسلم أمام ضعف الحواس فيحاول التحايل عليها بأستعمال أجهزة فيزيائية للرصد بدلا من العين والأذن والجلد، أو يحاول أستبعاد المحسوسات التى لا تدعمها تجارب تتفق معها مثل مرارة الملح وحلاوة السكر وهكذا .
الرخاوى: أليس هذا الموقف أيضا هو موقف هروبى أكبر؟
السماحى: … رغم الشق الإيجابى فى هذا الموقف إلا أنه معوق بالحرص الزائد والنفور من تركيب التصورات العامة والأفكار الكلية، وعنده أن تحصيل حقيقة لا يساوى الوقوع فى خطأ فاحش يشوه فكرتنا عن العالم الموضوعي، لأن ضرر أرتكاب خطيئة الجهل لا يعادله أى خطأ آخر فى بشاعته، وعند هؤلاء توجد مشكلة ضخمة للمعرفة لكنهم لا ييأسون من أماكن حلها.
الرخاوى: يا ترى يا سيدى ماذا تريد أن تقول، وأى فريق تحب أن تعريه أكثر، لقد أحسست أنك دمغت الجميع ثم . . ثم ماذا؟ .
السماحى: اننى أفكر فى سرد قصة تشبيهية لنوع من الكائنات العاقلة التخيلية وأوجهها أساسا الى الفئة الأولى المتفائلة كدرس يجب على كل صاحب يقين تام فى صحة ما نعرفه على العالم بالأسلوب المعتاد اليومى للتفكير (أى بالحس السليم أو البداهة) أن يستوعبه.
الرخاوى: اذن فأنت تؤكد الهجوم ضد الحس السليم، فليكن، فقط اذكرك بحديثنا فى العدد الماضى عن الحدس، وبقولك (ص 122) أن به (بالحدس) وحده ندرك أن العالم موجود، فلعلك لا ترادف بين الحس السليم والحدس، وان كنت لا ارتاح لمهاجمة الحس السليم وفصله عن الحدس، فقد يكون الهجوم أكثر تقبلا اذا انصب على الحس فقط (دون اضافة صفة السليم)، ومع ذلك – أو قبل ذلك – لعل فى قصتك التشبيهية بعض الايضاح وبعض الحل، فهاتها اذا تفضلت .
السماحى: سأفترض أن فطريات جلد الأظافر التى تسبب مرض الدودة الحلقية ring worm التى تصيب بعض الناس وتعيش طويلا تحت جلد حافة أظافر اليدين قد تعرضت لطفرة جعلت منها كائنات واعية عاقلة.
الرخاوى: الله … الله !! يا لهفى على ابن آدم بجلالة قدره !!! هه ماذا سيحدث حينذاك؟ .
السماحى: ستبدأ تدرك أن لها وطن هو الأصبع المصاب وأن وطنها مرتبط ارتباطا أكيدا بباقى جرم العالم (وهو بالنسبة لها جسد الانسان المريض بها).
الرخاوى: وتفتح المدارس، وتفرز العلماء الدوديين فى حلقات تبحث طبيعة المعرفة . . اليس كذلك؟ فماذا يقول علماؤها فى ذلك أو مثله .
السماحى: جاءت فى أوصاف علماء الجيولوجيا الفطرية ما يلى: (العلماء من الفطريات وليسوا علماء فى الفطريات) .. الأوطان التى نسكنها (نحن) الفطريات كلها عبارة عن أجرام طويلة مستديره الحواف (المقصود هو الأصابع طبعا) – كل عالم مكون من خمسة أوطان وخمسة أخرى مرآوية تماثلها ولكن تخالفها فى الاتجاه وتتصل كل خمسة أوطان بكتلة ضخمة تؤدى الى ذراع شاسعة مفصلية يوجد زوج منها فى كل عالم”.
الرخاوى: ستمضى فى تشبيهك حتى تفضحنا والله أمر بالستر، ومع ذلك .. هاتها
السماحى: “للعوالم كتلة مركزية غاية فى الفخامة ذات محور رأسي”.
“يحتمل أن توجد فطريات عاقلة فى الجانب المرآوى من العالم” “العالم ينمو ببطء خاصة قبل اختفاء الأجسام الطولية السوداء المرنة الكثيفة على قمته” والمقصود بالأجسام الطولية شعر الرأس ويبدو أن الفطريات ربطت بين الصلع وتوقف نمو الجسم.
“للعالم دفء ثابت مهما كانت برودة الغطاء الخارجي” “كل الألوان الممكنة دافئة وذات نبض منتظم داخلى يملا جوفها” تقصد الفطريات دقات القلب وتمدد الشرايين بالنبض “النهر الجوفى العميق فى الأكوان لازم لحياة الفطريات فوقها” يقصدون الدم .
“العوالم أبدية أزلية لأن احدا من الفطريات لم يشهد مولد أى عالم ولم يقص علينا احد كيفية نهايته ‘ .
الرخاوى: وبعدها معك، تشبيه مرعب بحق لو طبقناه على ما يزعم الانسان من علم يقدسه ودين يؤمن به .
السماحى: لو تأملت تفكير هذه الفطريات التى ظنت البشر عوالما وجو الغرفة أوالشارع فضاءا كونيا باردا لوجدته يشبه تفكيرنا فهو استقرائى واستنباطي. انهم يعممون خبرتهم البسيطة المحدودة بالأصابع “الدافئة النابضة الأزلية النامية ببطء” عل الكون كله فظنوا أن كل الوجود يتمتع بهذه الصفات . ولقد استغلوا اطراد الظواهر بالنسبة لهم فى تكوين قوانين عامة للوجود كأن تكون الأكوان نامية دافئة وأن يرتبط النمو بكثافة شعر الرأس الكونية وهكذا. لقد فعلوها مثلنا وعمموا وطبقوا صفات الجزء على الكل وجعلوا النسبى مطلقا. فما رأى المتفائلين ممن يثقون فى امكان اليقين؟ .
الرخاوى: لا .. عندك، سيقولون للتو أنه شتان بين تفكير الانسان وتفكير الفطريات المحدود حتى لو طفرت وأصبحت عاقلة، فالانسان كرم على كل المخلوقات، وتأمله فى الطبيعة وتفسيره ظواهرها ليس له مثيل.
السماحى: لكى لا تفوتنى فرصة تأمل تفكير الفطريات غير العلمى فاننى أذكرك بانهم آعتقدوا غائيا فى أن الدم الذى يجرى فى عروق المريض بالفطريات ظنوه:
“الامداد الجوفى العظيم فى باطن العالم الذى خلق كمعين لا ينضب لبقائنا أهداه عالمنا الرحب لنا” كما ظنوا حدوث الصلع تذكير لهم بتوقف نمو العالم حتى يهاجر من يشاء الهجرة (بنقل العدوى الى أناس آخرين).
الرخاوى: سيقولون لكن للانسان رب يهديه وينير له طريقه.
السماحى: ويحكى ايضا أنهم (الفطريات) بنو الأساطير حول النبض الذى أحسوه فى أوطانهم بأطراف الأصابع كاهتزازات ايقاعية أعجبوا بها فقالوا عنها
“حديث مقدس لاله الديمومة يدق طبله الهية مستقرة فى مركز العالم ويصل حديثها عبر المسافات”.
الرخاوى: رغم حسن تشبيهك، فاننى أشعر فى قرارة نفسى أن ثمة مغالطة، ولست متحمسا للحديث حاليا خشية أن تتهمنى بالحماس للدفاع عن وهم تفوق الانسان، فهل قلت لى ما موقف الفريقين الآخرين من هذه القصة التشبيهية، أو ما هو موقفك منهم على الاقل.
د. السماحى: أما الفئة الثانية “اللا أدرية” فلا وسيلة للتواصل معهم أو اقناعهم بعد أن قطعوا كل الأسلاك بينهم وبين الآخرين ونظرا لأن أحدا لا يملك دليلا واحدا على خطأ النظرية اللا أدرية رغم توافر ادلة على خطأ الموقف البديهى أو موقف الحس السليم.
الرخاوى: هربوا، فسمحت لهم بالهرب، فماذا عن الفئة الثالثة؟.
السماحى: فى رأيى أن الفئة الثالثة (الوسطى بين الموقفين) تتخذ موقفا سليما نظريا ومفيدا علميا.
الرخاوى: دوختنى ياشيخ!!… ثم أين أوصلتني؟ أبعد كل هذه الرحلة تريدنى أن أمعن النظر فى طرف أظفر أصبعى بميكرسكوب دقيق فأرى ترتيب الخلايا الميتة، بكل دقة معرفية مخدرة، وبذلك اتصور أنى أعرف ما يمكن معرفته، لا .. وألف مرة لا، أن ماتسميه هذه الفئة (على لسانك) خطيئة الجهل لهو أشرف ألف مرة – فى تصورى – من خدعة الاستغراق فى معرفة جزئية الممكن، لأنه حتى هذه الجزئية هى مشكوك فى حقيقة طبيعتها (الفريق الثاني) وفى دلالة ادراكها (نقدك للفريق الأول).
اننى خرجت بعد كل هذه الرحلة المزعجة الى احتمال أرجو أن تسمح لى بعرضه – ولو على سبيل الاجتهاد فى العرض – أنك يا سيدى (وسأعتبرك ممثلا للفريق الثالث) خائف من المعرفة، وخائف من الكلية، وخائف من الخطأ، وخائف من مغامرة تخطى حدود القشرة التفكيرية المخية المنطقية الأرسطية، فماذا تفعل؟ تهون من قدر البشر وكأنك تدعو للتواضع فاذا بك تمحو الوعى لحساب العقل الحسابى الضيق، ثم تصفق فى احترام متوسط للا أدريين لأنهم يعتبرون بالنسبة لك الملاذ الأخير اذا ما هددتك احتمالات “المعرفة” التى تزعم أن الفريق الثالث يبذل الجهد للوصول اليها، وأخيرا فأنت تستكين لمعرفة تفصيلية جزئية توهمك بأنك تعرف، وتشغلك فى نفس الوقت عن مخاطرة أن تعرف ..
هذا فرضى المبدئي، وليس عندى ما أدلل عليه به، فليتحقق أو العكس .. فهذا أمر فى أيدى من يواصل معنا الحوار وفى أيدينا فى أى وقت تتحسن فيه أحوال اللغة، وأكتفى هنا بتذكرتك – وتذكرة نفسى – بأن المعرفة (فى شمولها ومن باب الوعى الأعمق) هى فى الواقع مسئولية مرعبة، وامتداد خطر، لذلك نشأت نظريات “التهوين” و “التسكين” لتطمئن الانسان على مسالك مهاربه، وهذا حق مرحلي، الا أنه ليس بديلا عن ما شرف به الانسان من وعي، أراك وقد تململت حين قرأت كلمة “شرف” لحرصك على الفصل بين الأخلاق والمعرفة والعلم، وأذكرك بأن تعريف الأخلاق عندى هو “كفاءة الفسيولوجيا البشرية لتحقيق التوازن المتصاعد” ولتضع احتمال أن يكون للمعرفة الكلية مدخلا غير ما تسميه الحس السليم، وأن تكون المعرفة نسبية دائما والطريق اليها محفوف بالمخاطرة، ولكنها أيضا ممكنة دائما، والطريق اليها مضيء بتوليفات الوعى المتصاعدة، وأتوقف حتى نلتقي، وأدعوك مع صديقنا محمد عبد السلام (ضيف هذه الحلقة) للتخفيف من دسم الوجبة ببعض من حساء الطماطم الذى تقدمه الصديقة القديمة ماجى لبيب.
ماجى لبيب .. تتطور عدوا
ماجى لبيب: مازلت أريد أتطور، ولم يظهر بعد إبن الحلال، كل الذين ظهروا أولاد حرام، أو العكس صحيح، أنهم أولاد حلال وانا بنت الحرام.
الرخاوى: يا ست ماجي، منذ تمنينا لك أحلاما سعيدة فى العدد قبل الماضى لم نسمع صوتك، وكنت تصورت أن الله تاب عليك من حكاية “التطور” هذه (رغم أنف عنوان مجلتنا، ورغم أنه الخيط الذى يربطك بها)، وقد أوضحت لك أن غالبية من أعلن أنه “يريد أن يتطور” قد خيب ظني، أما من يتطور فعلا فهو لا يستأذن احدا ولا يسمى ما يفعله كذلك، وها أنت تعودين تغيظيني.
ماجى : المهم .. لحسن الحظ أو لسوئه فلازلت أريد أن اتطور، كيف؟ لقد عرفت الخطوة الأولى: الفعل .. الحركة وبدونها لا أتطور، انها عملية مضنية مرعبة لأنك طالما بدأت الخطوة الأولى فعليك أن تسير طويلا سريعا، فأسرع، ثم تجري، وتظل تزيد من السرعة، فاذا توقفت تأخرت، وقد لا تستطيع الحركة مرة ثانية.
الرخاوى: عدم المؤاخذة يا ست ماجي، أخذت الهث وراءك وأنت تتطورين فقطعت نفسى بحكم السن وازدواج المهمة فقد كنت أريد أن ألاحقك وفى نفس الوقت أراقبك وأنت تتطورين عدوا، قطعت نفسى يا بنت الحلال (رغم شكوكك المنهجية فى أول الحوار)، بالذمة عليك أهذا تطور أم “استغماية”، التطور حسب ما تصورت – هو نبض مستمر، والنبض يشمل الحركة المؤلفة الدافقة، كما يشمل السكون المتلقى المستوعب، وكلاهما يكمل بعضهما بعضا فى الفعل اليومى الذى وصفناه فى حوارنا الماضى بانه “فعل يومى متوازن خلاق” الم يبلغك من حوارنا السابق أن من مصيبة البشر هى وعيهم بعملية التطور هذه، حتى توقفنا بالوعى الزائف عن الفعل التلقائى النابض؟ فلماذا أمسكت ذيلك فى أسنانك وهات يا تطور – عدوا – خوفا من التوقف خشية أن تنامى فلا تقومين (وبعيد الشر عنك يا شيخة)، ولكنى لقطت كلمة عابرة فى حديثك وهى أنها عملية “مرعبة”، ولابد أن أصدقك فهذه الكلمة بالذات هى مفتاح الجد، فهل حقا تعنينها، وهل حاولت ..، وهل عاينت الرعب “اياه” شخصيا.
ماجى: (نعم) انها عملية مضنية، فأنا كسولة كما توقعت أنت، لا أريد الحركة، لا أريد بذل الجهد، أريد أن أحصل على كل شيء بسهولة، أن أعتمد على ابن الحلال أو ابن الحرام.
الرخاوى: هكذا الكلام ..!! اعتمدى يا شيخة وان شاء لله ما تطور أحد، يبدو أنك كدت تصدقين شكوكى فى الحوار السابق ولا حول ولا قوة الا فى المخابيء البشرية الدافئة.
ماجى: .. ولكن فإن ارادة التطور تصرخ بداخلى قوية.
الرخاوى: أهلا.
ماجى: فبدأت أدفع نفسى دفعا قويا ضد تيار الكسل والانهيار، وجدتنى أبحث عن الارادة أتلمسها وسط الظلام، وأمسك بها، وأحركها فى كل الاتجاهات، أحيانا فى الاتجاه الصحيح واحيانا فى الاتجاه الخطأ،.
الرخاوى: لابد أن أقدم لك أسفى جزئيا، فقد بلغنى صدق المحاولة، فأصعب خطوات المسيرة هى “ضرورة نقل القدم دون التأكد من موضعه القادم ..’ هذا هو الرعب بعينه، واحتمال الخطأ قائم واحتمال الصواب لا يعد بالاستقرار بل يلزم بنقلة تاليه وخطوة تالية .. الى مالا نهاية.
ماجى: … وأدور وألف وأزن، فأنا لا أعرف قواعد الحياة جيدا، أنا أتخبط، وكل من حولى يتخبطون أيضا، لا أثق بهم، كلنا نتخبط على غير هدي.
الرخاوى: لا، لا، لا .. عندك، أنا ما صدقت أنك واجهت احتمال الخطأ بشجاعة المثابرين، فمالك عدت تدورين “دوخينى يا لمونة” فدوختنا معك وجعلت التخبط هو أرض المسيرة، ماذا يبقى لنا اذا استسلمنا للتخبط، والغير هدي، الخطأ محتمل .. نعم، ولكن الصواب حتمى مادام الجد والاستمرار والثقة بنا هى الوقود والشرف والمصير معا، يا ماجى أكاد لا أشعر بك تخطين حتى تختفين لم لا تتحملين خطوتين على بعضهما يا شيخة .. جربي.
ماجى: .. الحامى مجهول .. والحارس كثيرا ما يغمض عينيه عنا
الرخاوى: .. تانى !؟ الحامى والحارس وابن الحلال وابن الحرام؟ هل كتب علينا أن نستأذن طول العمر، وأن نستظل بأوهامنا رعبا من الوحدة حتى نضيع، لما لا تغامرين وحدك تماما ما دمت قد غامرت بقبول احتمال الخطأ؟
ماجى:.لكنى أحيانا أشعر أننى على صواب، وأبحث عن الحقيقة فى عيون الآخرين.
الرخاوى: كل ما استطيع أن أقوله لك فى هذه المرحلة هو أنك شديدة التعجل، عاجزة عن الحيرة، مرتعبة من الغموض، هى ثانية تعلنين فيها احتمال الخطأ أو ضرورة الخطو، ولكنك سرعان ما تصرخين طلبا للحماية أو تصورا للصواب، لماذا؟.
ماجى: ابحث عن الحقيقة فى عيون الآخرين؟.
الرخاوى: هكذا؟ تسلمين قيادك بهذه السهولة، ومالها عيونك يا ست الكل؟ أليست أولى ببداية البحث.. ثم تحاورين الآخرين من موقع فيه من الألم والحيرة ما يضمن ثراء المحاولة بينهم بك، لماذا “هم” دونك، بديلا عنك؟.
ماجى: الأغبى منهم يقولون أننى على صواب، والأذكى منهم يظهرون لى استهزاءهم واستخفافهم.
الرخاوى: مادمت تشكين بكل هذا الصدق فى المصفقين “والمطيباته” من من موزعى ردود خطابات الغرام وجراحى القلوب ومجموعات الرشاوى الثللية، فلماذا تصرين على طلب الرضا والبحث عن ما تسمينه الحقيقة فى عيونهم؟
ماجى: أنا أهتم بالأذكى فأحزن
الرخاوى: ياليت .. ولكنى لا أتصور أنك تحزنين بمعنى الحزن، لعلك تأسفين أنهم رأوا نفسك القصير (رغم عدوك المتصل أو بسببه) وتأسفين أكثر أنك رأيت رؤيتهم .. الحزن يا ماجى هو من صلب شرف معالم الطريق فلا تسرعى من التخلص منه كما تفعلين مع الوحدة والحيرة عدوا بلا توقف
ماجى: فأحزن وأقول لنفسى أريد أن أتطور
الرخاوى: .. “تاني”!!!
ماجى: ماذا يعنى التطور؟ أن أكون أذكى وأغنى وأجمل وأسرع وأقوى وأصح وأكثر تفاؤلا، وأكثر قدرة على العطاء
الرخاوى: الله يسامحك
ماجى: وأنا الآن أتحرك فعلا نحو التطور، أحاول أن أصبح أنكى بالقراءة والكتابة والترجمة، أحاول أن أصبح أجمل باختيار ذوق متناسق فى الألوان، فى الملابس والحلى والمساحيق، وأحاول أن أصبح أكثر غنى بالعمل فى عمل مربح يزيد دخلى وأحاول أن أصبح أكثر تفاؤلا بمحاولة المرح والتفكير فى مستقبل مشرق وبمجالسة الأصدقاء، لازلت أحاول وأحاول، هل يرضيك هذا أم أنك لازلت تدعى أنك أذكى منى وتستهزيء بي؟
الرخاوى: ماجى .. هيا نعمل “جمعية”، والذى يقبضها الأول يتطور الأول .. وخلاص؟ ولكن “دستورك معك” (كما يقولون فى بلدنا) وحسرتى معى وأنا أتذكرك فى نهاية الحوار السابق وأنت تريدين أن تكونى “شعلة من الذكاء”، هكذا؟ ودعينى أتذكر ما وصفنا به ظاهرة (ست البيت” وانسحابها وتبلدها العاطفي، وأجرؤ فأراكى الوجه الآخر رغم الخلاف الظاهرى المطلق، ثم دعينى أقول: من ست البيت الى ماجى لبيب “يا داره دورى بينا” وفى انتظارك لو جرؤت فوقفت الداره دوره واحده لتتأملين الاتجاه ..، من يدري؟
هامش عن ست البيت مع د. مرقص
د. مرقص: .. ست البيت التى أقصدها هى نموذج غريب من البشر، فرض عليها – وارتضت – أن تقضى حياتها فى البيت واستغرقتها وامتصتها هذه الحياة، فانشغلت عما يجرى ويدور فى مجتمعها وعالمها.
الرخاوى: لم أفهم تماما يا دكتور مرقص فائدة عودتك للحوار حول موضوع ست البيت اذ لم أجد اضافة حقيقية، وقد كنت على وشك أن أعزف عن نشره لولا صديقتنا ماجى التى تمثل “عكس ست البيت” ولكنها – كما أستقبلها – “ست الحلم”، أو “ست اللعبة”، وقد تصورتها وهى تطلب رأى الآخرين ورؤية الآخرين بهذا الالحاح دون أن تقدر على الصبر عل الوحدة أو الحيرة أى فترة تطلق فيها داخلها المتألم المغامر .. تصورتها وهى تحلم بما تريد، وتسعى فيما تتصور أنه البديل، تصورتها منعزلة أيضا عما يجرى حولها ويدور فى الخارج، لهذا اقتطفت هذا الهامش من كلامك.
د.مرقص: (انى أقصد تلك التى استسلمت) .. فتدهورت بالتدريج واستحالت الى وجود طفيلى وهمى غريب ينكره المجتمع الانسانى ولكنه لا يلفظه، بل يستغله أبشع استغلال (بمنطق: اللى ما ينفعش قربة، ينفع جراب).
الرخاوى: حلوة هذه ..، فقط أحذرك من تخصيص الوجود الطفيلى بست البيت، فهو هو وجود “رجل البيت” الذى يستغلها لتغطية نقصه واخفاء عجزه عن الحركة المستقلة، وهو وجود .. (أو .. ابحث أنت عن المضاف اليه ولا تخف النظر حولك أو داخلك)، كما أذكرك بأنه اذا كانت ست البيت تستأهل كل هذا الوصم لمجرد انصرافها عن مشاكل مجتمعها الأوسع بالبيت، فما رأيك فيمن ينصرفون عن المجتمع الأوسع باللذة، أو برفاهية ديكورات القراءة، أو بالتخدير التليفزيوني، أو بلعبة كراسى القوى الموسيقية فى سيرك السياسة .. يا سيدى .. واحده واحده. وأدعوك الآن معنا فى آخر حلقات الحوار الى مولانا صاحب الفضل فى هذا الباب “جاد الرب” وخاصة وأننا بدأنا برأى الصديق الجديد “محمد عبد السلام” حول حالته (!!)
جاد الرب يدعو للماعت من برج الحمام
جاد الرب: السيد الدكتور ‘…..’ رئيس تحرير “الماعت”، أطمع فى اجازة المقالة المرفقة للنشر بالعدد الأول من “الماعت” وشكرا (توقيع) محمد آخناتون.
الرخاوى: أو حشتنا يا رجل!! وها نحن نسترد أدوارنا الأصلية، فأذكرك باصرارك على تغيير الأسماء قبل تغيير “الأشياء”، وهأنتذا تصدر فرمانك بتغيير اسم مجلتنا التى ماكدنا نفرح بهذا العدد كأول عدد فى السنة الثالثة (تصور!!) حتى غيرت الاسم تريدنا أن نبدأ من أول جديد، يا رجل نحن ماصدقنا ..، فما حكاية الماعت هذه خشية أن يتصور شهود الحوار أنها كلمة فعلية من فعل ماع – يموع – ماعت ومنها الميوعة.
جاد الرب: الكلمة “ماعت” تعنى الحياة فى ظل الروح الديمقراطى الوطنى العالمي.
الرخاوى: أشكرك .. وان كانت رأسى قد دارت بين كلمتى الوطنى والعالمى فانى كثيرا ما أخاف من الشائع حول قصة “التحكيم”، اذ أخشى أحيانا أن نخلط بين اهتمامنا بالعالمى وكأنه وطنى فاذا بعمرو بن العاص يثبت الأوطان من حولنا فى أغماد عقول أبنائها من أول السوفييت والصينيين حتى الاسرائيليين وربما مونت كارلو .. ونتقرطس نحن يا أبو جاد الرب يا أمير مع مولانا أبى موسى الأشعرى الطيب، ولن يلحقنا أصدقاؤك جميعا من أول آخناتون حتى هنرى بريستيد.
جاد الرب: لماذا نورد اليوم برستد وعباراته؟ كى ننصح أدباء القرية العربية بالنهوض لاعادة بناء حضارة بابل وحضارة خوتاتون وحضارة كل شبر من أرض العرب ..، هذا من جانب ومن الجانب الآخر ننصح “اسرائيل – كلان” هذه بوقفة طويلة وسريعة مع النفس استعداد لهذا الانقلاب العظيم الذى ييسره لنا وللعالم مشروع الأمير فهد للسلام فى الشرق الأوسط
الرخاوى: يا نهارا لن يفوت ..، تريد أن تنصح اسرائيل بوقفة طويلة وسريعة، ألم أكن محقا وأنا أترحم على أبى موسى الأشعري، لقد تحمست للسلام نكف عن الاستنكار واشهاد العالم لصالح بناء أنفسنا فى مواجهة هؤلاء الأدعياء المتعالين، فهل ننتقل من اشهاد العالم الى نصح اسرائيل (على فكرة لم أفهم كلمة “كلان” الواردة أعلاه)، ألا تعلم أنه لو أن اسرائيل تفكر فى نفسها أو فى العالم لما كانت هناك اسرائيل أصلا، تريد أن تنصح شخصا أن يموت استعداد لانقلاب عظيم؟؟ سامحك الله، وسامحك أكثر وأنت تتكلم عن مشروع الأمير فهد، وكأن هناك مشروعا، وكأن الحكاية جد، وكأن المشروع مشروع، يا سيدى هداك الله وأنار بصيرتك أكثر من مجلس شورى الاتحاد وحكام بولونيا العسكريين، هيا ننفذ من وسط ركام الألفاظ الغريبة المضحكة والاحلام العالمية المصدرة الينا مثل لحوم الكلاب المغشوشة، ونواجه قدرنا فردا فردا، وثلة ثلة، وقرية قرية .. لعل وعسي، نبدأ الآن ولا نتوقف أبدا
جاد الرب: .. ان “الماعت” دواء لكل داء .. فالروح الديمقراطى هو وحده الذى يبنى الحضارات ويخطط المشروعات وينشيء الدساتير ويبتكر اللغات ..
الرخاوى: هكذا؟ طيب قل لى كيف؟ توماتيكى تسلوفاكي؟؟ (ولعلك لم تنس هذا التعبير الذى نستعمله فى بلدنا لوصف أى آلة فذه من أول لعبة تجرى بزنبرك الى البندقية التى هى ..) أم هل ستكون طريقة استعمال الماعت موجودة فى ملحق مشروع الأمير فهد شخصيا؟ يا عمنا جاد .. كم استمتعت فى العدد الماضى بتبادل الأدوار حين كففت عن شد شعر رأسى المتبقى فى مواجهة أحلامك اذ توقفت عن النصائح والاعتراض
جاد الرب: الماعت وحده خلاصة أو جوهر التقدم العقلى للانسان فوق هذه الأرض التى ندعوها اليوم باسم “أم العيال”، هذه المسكينة التى تتضور جوعا وتشردا هى وعيالها خلال هذا العصر النووى البغيض.
الرخاوى: والله يا جاد أنا عاذر لك حين تضع رأسك على صدر الأرض “أم العيال” بعد أن ضاقت بك وبنا صدور الرجال والنساء، ومهما كان جهلى بالروح الديمقراطى العالمى وكيف نترجمه فى بيوتنا الى ألوان تليفزيونية بهيجة فان بداخلى شيئا يرفض رفضه، فقط حدد لى – أو لنا – دورنا حتى لا نسيح
جاد الرب: .. اننا فى الواقع نتمنى أن يصبح دورنا فى الماعت هو دور “البيداجوج” فى البيت الرومانى القديم .. حيث البيداجوج عبد أفريقى مثقف ينهض برعاية أبناء السيد الاقطاعى من المهد حتى التخرج فى الجامعة بل وحتى الذهاب الى الكابيتول الذى هو برلمان الرومان “ياروميش”.
الرخاوى: ليكن .. عبد أفريقى مثقف ..!! لنكن، ولكن ما رأيك لو نرعى أطفالنا بالمرة و “الذى يحتاجه ابنك يحرم على أبناء السيد”هل تذكر المثل فى بلدنا الذى يقول “طلب الغنى شقفه كسر الفقير زيره، جات الفقير وكسه يا سو تدبيره”، وهكذا حللت سيادتكم صراع الشمال والجنوب بأن نذهب ونثقفهم طمأنتنى يا شيخ وأزحت عنى بعض آلامى التى أعانيها وأنا أرى الخادمات المصريات فى بيوتات اخواننا العرب أصحاب الذى منه ..، الآن فهمت أنهن لسن خادمات ولا يحزنون .. انهن – بكل شرف – بيداجوجيات سوف يغيرن وجه الحضارة، وخاصة وأن أسيادهن من الاشقاء العرب يعاملونهن بروح ديمقراطى عالمى فريد و .. “تحيا الوحدا العربيا” !!، آسف يا جاد، فما أردت السخرية منك، ولكن أنت خير من يعرف كيف يخرج الكلام حين يحتد الألم، ابحث لنا عن دور آخر يرحمن الله..، ولو حتى – لو أصررت – يكون دورا اضافيا أو أى شيء يصبرنا على احلامك وآلام الواقع معا.
جاد الرب: نبحث أيضا عن أصدقاء الحمام، لأن مشروعنا الأساسى فى الواقع يتصل بالتليفزيون العربى وبالحمام فى نفس الوقت.
الرخاوى: أى نعم .. !! هكذا يكون الكلام الذى يفهمه جاهل مثلي، تليفزيون، وحمام دون الحط من قدر الماعت والياروميش (…. ولم أقل لك أنى خشيت الخلط عند القاريء بين “ياميش” رمضان وهذا الياروميش، مثلما سبق أن خطر لى خوف الخلط بالنسبة لكلمة الماعت) – ولكن ما علاقة التليفزيون بالحمام يا سيد الحالمين؟
جاد الرب: … يوم ظهور التليفزيون احتله زعماء الدول المتخلفة الذين تحولوا بمجرد ظهور التليفزيون الى خطباء ومفكرين وشعراء وممثلين ومرضى نفس وعقول.
الرخاوى: فتح الله عليك، ولكن بينما أنا فهمت كيف تحول الأميون والعسكر – بفضل التليفزيون – الى فلاسفة وخطباء فانى رفضت أن يكون التليفزيون هو المسئول عن حكاية كونهم مرضى نفس وعقول، وأنت تعلم حساسيتى ضد السباب بهذه الألفاظ، دع مرضاى فى حالهم وخلك مع القادة والأبطال الملونين من فضلك.
جاد الرب: ان الزعيم المتخلف فى الدولة المتخلفة ينهض ثلاث ساعات أو أربع فى كل يوم، هو والسيدة حرمه يعلمان الشعب كيفية التحضر، وكأن هذا التليفزيون قد ظهر كقيد عظيم أو سجن حديدى للحريات الأدبية والديمقراطية.
الرخاوى: .. حصل.
جاد الرب: فهل خلق الله النيل لكى نلقى فيه الميتة والدم والخنزير الميت والروث؟! أن الله قد خلق النيل كى نشرب ونسقى أرضنا وماشيتنا؟
الرخاوى: … الحق هو الجزء الأخير، ما فى ذلك شك، فما هى حكاية الحمام؟ أطلت على الانتظار.
جاد الرب: ان أول فكرة تخطر ببالنا هى فكرة اقامة برج حمام فوق مبنى التليفزيون العربي.
الرخاوى: نعم؟ نعم؟
جاد الرب: كنت قد تقدمت بهذا الاقتراح الى السيدة تماضر توفيق رئيسة التليفزيون القاهرى فشكلت لجنة لدراسته، والمؤسف أن اللجنة رفضت المشروع بعد أن تصورت أنه يكلف الميزانية مليونين من الجنيهات، ذلك لأننى أتصور أن الأمر أرخص بكثير، أتصور أن برج حمام التليفزيون لن يكلف ربع مليون جنيه أى 8/1 تقديرات اللجنة
الرخاوى: الله .. الله !! المسألة أصبحت لجان، ومقاولات وفصال وكلام وأخذ .. ورد .. ولكن كل هذا .. لماذا؟
جاد الرب: اننى أقترح تربية ألف زوج من الحمام فى برج التليفزيون ثم نمنح هذه الازواج من الحمام الى الأدباء والى الصحفيين والى هواة الحمام عموما … وبحيث ينشأ برنامج يومى على الشاشة الصغيرة يجيبنا فيه المذيع أو المذيعة على كل استفسار أو سؤال أو تعليق بواسطة حمام التليفزيون الذى سوف يعود الى برج التليفزيون كلما أطلقه صاحبه مصحوبا بورقة صغيرة مربوطة فى ساق الحمامة بخيط دقيق.
الرخاوى: ماذا جرى يا جاد الرب؟ رحمة بى يا أخى حتى لا تضطرنى الى السخرية التى أخاف أن تزيد المسافة بيننا، هل المشكلة فى البريد، أم فى الردود؟ هل المصيبة فى وصول الأوراق على ساق الحمامة، أم فى اطلاق حمام عقولنا من سجن مخاوفنا؟ لماذا كلفت خاطرك كل هذا الابداع لتوصل للأصمم سماعة لا تعمل، ناسيا أنه أيضا أبكم رغم ما يصدر من أصوات، .. سيدى جاد الرب سامحك الله.
جاد الرب: الفكرة تبدو ساذجة للغاية ولكن الفن الحقيقى هو مسرح السذاجة ..، وعلى أقل تقدير سوف ننجح فى اكتشاف برنامج يثير أطفالنا.
الرخاوى: فكرة ماذا وساذجة ماذا؟ أين الفكرة وأين السذاجة، لقد وددت حتى يستمر الحوار أن أتصور أن فى الأمر شيئا عظيئا لا أستطيع – بغبائى – أن أدركه.
جاد الرب: للعلم .. فلقد كان الحمام هو البطل فى زمان الحروب الصليبية، …، …، اذن فنحن لا نهزر ولا نترخص حينما نطالب بعودة الحمام الزاجل فى عصر اليليفزيون.
الرخاوى: ياليت يكون فى الأمر رمز أو ما شابه، حقيقة ما أخطر التليفزيون، ولكن.
جاد الرب: يجب تطور علاقتنا به الى الحد الذى يجعل منه هدفا أساسيا لقصائد الشعراء وقصص المؤلفين .. أما أن تستولى على التليفزيون عصابة من العصابات فالأمر يحتاج الى وقفة حقيقية .. اننا نعرض فكرتنا ببناء برج حمام فوق مبنى التليفزيون
الرخاوى: وهكذا نحارب العصابات بالحمام، كما يحارب العرب اسرائيل بالكلام، والحمد لله على السلام
جاد الرب: وعلى الأدباء أن يرسلوا الينا بصورة الحوار مع المسئولين مكتوبة بخط واضح، وعلى وجه واحد من الورق مصحوبة بالصور الفوتوغرافية لشخصية المسئول وشخصية الأديب .. ولا يهم اذا رفض المسئول الفكرة، ولكن المهم أن يوضح المسئول لماذا يرفض أو لماذا يقبل
الرخاوى: وياليتك تعامل مشروع الأمير فهد بنفس الجدية، فلعل ما كان ينقص مؤتمر فاس هو ثلاثين زوجا من الحمام المحشي، وصورة شمسية للزغاليل التى يهمها الأمر، ألا سامحك الله يا عم جاد، ومع ذلك فانى – بعكس ضيف الحوار الجديد – أرفض تسمية حالتك بما أسماه، والا بماذا أسمى تليفزيونات العالم المتحدة ضدنا وضد الحمام؟
1982-01-01