مثل وموال
المؤسسة الـزواجية فى الوعى الشعبى (1من 4]((1))
خدتك عواز خدتك لواز, خدتك أكيد العوازل كدت انا روحى
المؤسسة الزواجية من أقدم المؤسسات الاجتماعية والدينية, وقد استطاعت أن تحافظ على استمراريتها وصلابتها ووظيفتها عبر الزمن, ومع ذلك فلا هى أصبحت ناجحة بالمعنى الذى يتناسب مع تطور الإنسان المعاصر وطموحاته, ولا هى حتى استمرت نافعة بالقدر المناسب لأغراض تحمى طفولة الإنسان وحاجته إليها عددا أكبر من السنين إذا قورن بطفولة الأحياء الأخرى وخاصة الثدييات.
وبعد الحرب العالمية الثانية, ومع اهتزاز كل القيم الثابتة, اهتزت هذه المؤسسة ضمن ما اهتز, وعرضت البدائل, ومورست الكوميونات, وقفزت أحلام اليوتوبيات الغامضة, وبالنسبة للطب النفسى هوجمت المؤسسة الزواجية ضمن ما هوجم من دعاة الحركة المناهضة للطب النفسى التى تردد صداها ما بين أوربا وأمريكا (لانج, وكوبر فى إنجلترا, وبازاجليا فى إيطاليا,زاس فى الولايات المتحدة..إلخ) وكان من أصرح من كتب فى ذلك مباشرة “دافيد كوبر”, فى كتابه “موت الأسرة”, ولم تستطع هذه الجزئية من هذه الحركة, أو هذه الحركة بصفة عامة أن تؤثر فى استمراريتها أو صلابتها أو حضورها.
ولن نتطرق إلى إشكالة التحدى التى ما زال يواجه عمل علاقة بين البشر على مستوى من النضج يسمح بصدق الاقتراب, وعمق التواصل, وفى نفس الوقت يسمح بدرجة من الحرية واختبار الاختيار.
وقد تناولنا فى عدد سابق جانبا هاما من موضوع العلاقة البشرية, وخاصة حين تسمى بالحب, وكيف تناولها المثل الشعبى بشجاعة وعرى كثيرا من جوانبها بذكاء ونقد بالغين, ونذكر هنا بضرورة التفرقة بين عدة أمور جاهزة للخلط والتشويش:
1- فثمة فرق بين الحاجة إلى الآخر, وبين حب الآخر (والفرق لا يعنى الفصل أو النفي,فالتداخل وارد ومقبول ومطلوب).
2- وثمة فرق بين الحاجة للآخر, وبين الحاجة إلى “حاجة الآخر لي” [أنا نفسى حد يعوزني, وأعوز عوزانه: أنظربعد].
3- وثمة فرق بين صفقة معلنة من الاعتماد المتبادل وبين اعتماد خفى من جانب واحد, حتى لو بدا هو الجانب المتسلط الطاغى ظاهرا (الرجل عادة) .
4- وثمة فرق بين علاقة يجمع بين أطرافها ضغط المجتمع الخارجي, وعلاقة يجمع بين أطرافها جذب طرفيها إلى بعضهما البعض من الداخل
5- وثمة فرق بين مؤسسة ثنائية لايحافظ على استمرارها إلا طرف ثالث (الأولاد مثلا), وبين علاقة تستمر لأن العقد يتجدد تلقائيا بوعى وحرية معلنة ومختبرة
ولن نتناول كل هذه الجوانب فى هذا العدد, لكننا نبدأ فقط بهذا المثل:
خدتك عواز خدتك لــواز, خدتك أكيد العوازل كدت انا روحى
عقدت هذه الصفقة الزواجية (ملحوظة كلمة صفقة هى كلمة واقعية كريمة !!) على أساس واضح تماما:
فالزوجة (الشجاعة) تعلن آمالها التى كانت قد عقدتها على هذه العلاقة, وأن الزواج قد تم, من وجهة نظرها ليحقق ثلاثة طلبات, أو احيتاجات,أو آمال
(1) الحاجة: (العوزان), ونذكر أنه فرق بين “الحاجة إلي”, و” الـرغبة في” و”الـحضور مع” و”الانضمام إلي”, وكل هذه التعبيرات تختفى كثيرا تحت مسمى شائع يقال له الحب, وأحيانا ينتطم فيما يسمى الزواج, ونكتفى هنا أن نعلن أن الحاجة إلى شريك, وحبيب, وراع, وزوج, هى حاجة مشروعة, وإنسانية, وطبيعية, لكنها على المستوى البشرى هى بداية “علاقة محتملة”, وليست غاية سعى عطشان أو جائع.
والمثل هنا ينبه أن المرأة تبينت أنها كانت “تحتاج إليه “, لا لتبدأ, ولكن لتهدأ (بمعنى التوقف), [خدتك عواز].
(2) الملاذ: (من لاذ), وهذا أمر مشروع تماما ووارد طول الوقت فى عمق الصفقة الزواجية, بل وصفقات الحب كذلك, وبالنسبة للمرأة بوجه خاص فى مجتمعنا نحن بوجه أخص, فالمرأة تعتبر أن من أهم ما يحقق لها الأمان, (وأحيانا يصبرها على الهوان) أن تتزوج من يمنحها ذلك, أو يعد بذلك(ضمنيا عادة), أو تأمل فيه ذلك, وهذا مصداقا للمثل الآخر القائل
”ضل راجل ولا ضل حيطة”
والمرأة لا تستظل بالرجل إلا فى صورة معلنة, يراها الجميع, إذ يقوم رجل ظاهرللعيان, فى مواجهة شمس الواقع الحارق والملاحق, فيلقى بظله أمام الجميع, فتستظل به هذه المرأة التى أعلنت أنه هكذا أفضل من “حيطة”, وقد خطر ببالى أن أقارن بين الظلين, ولماذا يفضل ظل هذا الرجل ظل الحيطة, خطر ذلك ببالى وأنا أشاهد هذه البدعة الجديدة المسماة الدش (طبق الاستقبال الهوائي) وهى تتحرك لتلتقط الإشارات من العالم, ووجدت لها ظلا جميلا قادرا على التكيف مع المتطلبات, وتصورت أن ظل الرجل لكى يفضل ظل الحائط لا بد أن يكون متحركا هكذا فى مواجهة ضعوط الحياة وألعاب المجتمع من حوله, وبالتالى يصلح ملاذا للمرأة التى تحتمى به
(3) الملكية: ولن أطيل هنا فى شروط الملكية والتخصيص فى المؤسسة الزواجية, لكنها من أهم شروط الملكية, وعلاقة الملكية بإعلان رموزها علاقة قديمة وأساسية, وكل العربات الفارهة, والمجوهرات الباهظة, والمقتنيات النادرة, ليس لها وظيفة فى واقع الأمر إلا أن تعلن قدر ما يمتلكه من يقتنى هذا أو ذاك, وقد بلغنى من تعبير”أكيد العوازل” أنه بمثابة إعلان أن هذا الرجل (المتميز بكذا وكيت) هو ملكى أنا, وهذه الظاهرة -فى المؤسسة الزواجية خاصة,وفى غيرها أيضا حيث الاجتماعات الثنائية- نجدها عند الرجل الذى يحرص على إظهار جمال زوجته أو صاحبته أمام الآخرين, لا ليعرضه للفرجة, أو لكى لا يحرم الآخرين من متعة النظر إلى التناسق الجميل, وإنما ليعلن ضمنا “أن هذا الجميل هو ملكى أنا, لي-وحدي- حق الاستمتاع به”, ولعل هذا ما تضمنه قولها هنا فى المثل “أكيد العواذل”
فإذا كانت هذه هى شروط هذه الصفقة الزواجية, وهى شروط عادة لا تتبينها صاحبتها بوعى كاف, ولكنها عادة ما تكـتشـفـها بعد اختبار تحقـقها بعد عقد الصفقة, فإن المثل يعلن أن أيا منها لم يتحقق لا الزواج سد الحاجة, ولا الملاذ كان آمنا, ولا صفات “البضاعة” الممتـلكة كانت كافية لكيد العواذل, والنتيجة هى الإحباط:”كدت انا روحي”. وهوالتعبير المرادف لـ”إديت نفسى مقلب”. “وثمة تعبير أقسى” أنا اللى خوزقت نفسى”.
على أن الإحباط لا يأتى من أن شروط الصفقة الزواجية لم تكن صالحة للاستعمال, أو لأنها شروط مجحفة أو حتى لأنها شروط “سرية”, على الرغم من أن كل هذا يسرع بالإحباط ويفسره جزئيا, وإنما قد تأتى لأن الممارسة الزواجية قد تظهر أنها كانت أحلاما, أو أفكارا آملة أو تمنيات..إلخ, وبالتالى جاء الواقع يعريها
والأخطر من ذلك-وهو متواتر بشكل أو بآخر-أن الأزواج, حتى الذين يلوحون بتحقيق هذه الشروط قبل الزواج يرسبون فى أول (أو عاشر) اختبار فسرعان ما تجد الزوجة التى أملت فى تحقيق احتياجها للزواج بهذه الصفقة أن الزوج هوالذى أخذها يسد بها ضعفه واحتياجه, ويستعملها لرى عطشه دون حتى النظر إلى عطشها, وأيضا يمكن أن يقوم بسد احتياجها فى البداية, أو هى تتصور ذلك, لكن غلبة الانشغال وتعرى الشروط سرعان ما و إحتياجه يوقف هذه العملية وينكشف العمرالقصير للوفاء بهذا الشرط
كذلك فإن مسألة أن يكون الزوج ملاذا,أوحتى حائطا, تحتمى به زوجته هو أمر قد يتكشف عن فشله بعد مدة تطول أم تقصر, بل قد تكتشف كثير من الزوجات أنها هى ملاذ زوجها وليس العكس, وقد ترضى بهذا الدور وتفرح به وتصبح هى بمثابة الرجل وتستمر الحياة, وقد ترفضه بعد فترة تطول أم تقصر لأنه يكاد يكون عكس ما حلمت به أو تصورته أو أملت فيه.
وأخيرا فإنه قد يثبت -بعد المعاينةـ أن الميزات التى كانت تتصورها, أو تقدرها, والتى كانت تصلح للمباهاة, ولكيد العواذل, لم تثبت أنها ميزات حقيقة وفعلا, وبالتالى فبماذا تكيد العوذال, أو ما يقال فيه “طلع نقبك على شونة”.
وكل هذا إفشال من الواقع نتيجة لأنه حتى التوقعات المبدئية لم تثبت صحتها, والنهاية [كدت انا روحي].
ولكن حتى إذا نجحت هذه الشروط والتوقعات فإنها لا تصلح إلا كمرحلة, أوهكذا ينبهنا المثل, لأن عمرها قصير مع نمو الطرفين ونمو العلاقة.
فنستطرد هنا لنعيد التنبيه أن هذا المثل إذ يصرخ هكذا لا يريد أن ينكر حاجة المرأة (والرجل) لأن يطلب من شريكه أن يسد حاجته, أو يكون ملاذا آمنا له, أو أن يفخر بميزاته أمام المجتمع والناس, ولكنه -حسب قرءاتنا- يعلن أن كل هذا مقبول كخطوة تتلوها خطوات, وأن توظيف العلاقة الإنسانية, حتى فى أكثر أشكالها شيوعا وهو الزواج, لمجرد سد الحاجة, والاعتمادية (من جانب واحد), والتباهى بالامتلاك, هو الخسار بعينه, أما إذا وظف كل هذا فى طريق النمو العلاقاتى إذن, فما أروعه وألزمه, ولتفصيل ذلك نقول:
إن للعلاقات الإنسانية مسارا للنمو, ومسارا للتدهور على حد سواء, مثلها مثل النمو الجسدي, والنمو المعرفى وغير ذلك, ولن نطيل فى الاستطراد فنكتفى بأن ننظر فى ما كان يمكن أن تتطور إليه هذه الاحتياجات الثلاث إذا كان للمثل أن يبلغنا,-بعدالنقد- دعوة لتجنب مثل هذا الإحباط, فنقول إن المنتظر, انطلاقا من هذه البدايات الثلاث أن يتطور الأمر على الوجه التالي:
1- الانتقال من “الحاجة إلي” [خدتك عواز] – إلى “الحضور مع”, ومن “الحضور مع ” إلى “التوجه سويا إلي”, فإن ما يجمع البشر بعضهم إلى بعض جمعا قابلا للنماء ليس علاقة “القفل والمفتاح ” كما تتصور الغالبية, وإنما أن يكون حضور الواحد هو إثراء لحضور الآخر, وأن تتفجر قدرات الواحد فى كنف تفجر قدرات الآخر, وأن يتعمق وعى الواحد بتعمق وعى الآخر, وهذا لا يتطلب الزعم الشائع من مسألتى الحوار والحرية المزعومتين, فلا “حضورمعا” إلا بحوار لا يقتصر على الكلمات والمناقشات, ولا “حضورمعا” إلا بانتقاص بشكل ما من حرية كل من الطرفين (الحرية الدفاعية المقتصرة على الذات), ثم حين يتعمق هذا الحضور معا, دون نفى الآخرين, لا تتوقف المسيرة عند ذلك بل تصبح حركة كل واحد على حدة تسير فيما أطرح له تسمية “التوجه الضام”.
2- الانتقال من “الملاذ الآمن” [خدتك لواز]- وهو ما أتصوره أنه أمان من “من هجوم الناس, من الخطرالخارجي, من العدوان المباشر وغير المباشر, من تقلبات الزمن.., وكلهامخاطر حقيقية تحتاج إلى دفاعات مشروعة, والاستعانة بالآخر, ولكن أن ينقلب الحال إلي:الوقوف عندها والاعتماد كلية على الآخر لمواجهتها دون مشاركة فهذا هو الذى يجعلها لا تصلح, وهو الذى ينتهى بها الإحباط, الانتقال من كل ذلك -دون تجاوزه- إلى “الأمان معا”, ثم “الأمان إلي” هو نضج الملاذ إلى الفعل الإيجابى الخلاق, وبمعنى آخر, إن أمان الهجوم والدفاع, أمان الكر والفر, هو الذى يحتاج إلى مثل هذا الملاذ [خدتك لواز], لكن ثمة وسيلة أخرى للحصول على أمان أرقي, وهو أمان القدرة على التغيير (ثم نضيف) “معا”, فلا يزيد الخطر أن تقف فى مواجهته هجوما ودفاعا, ولكن يزيله أكثر وأدوم أن تتجاوزه فتفشل أن يكون خطرا أصلا, والفعل الإيجابى قادر على طرد الجمود السلبى حتما, وبالتالى فإن أى علاقة لا تساعد على الانتقال من “الملاذ الآمن من الخطر”, إلى “الفعل القادر على الخطر “هى علاقة نهايتها الإحباط كما ينبهنا المثل.
3- الانتقال من الملكية للمباهاة [خدتك أكيد العوازل] إلى الائتناس بالمشاركة: أولا فيما بينهما, ثانيا إلى الدوائر الأوسع فالأوسع. ومسألة الملكية فى المؤسسة الزواجية هى من أكثرالشروط المعلنة (أوالخفية) التى تبرر كل هذا الرعب والرفض والشجب لما يسمى الخيانة الزوجية, وكل هذا يدل من ناحية علـى حرص الإنسان أن يعلن قصوره عن تحمل العلاقات المشاع, وخوفه فى نفس الوقت من الفشل فى اختبارات “إعادة الاختيار”, وكلا الضعفين هما نوعان من الضعف مشروعان, لكن ليس معنى ذلك أن تنقلب المؤسسة الزوجية إلى صكوك ملكية مطلقة, تحجر حتى على المشاعر الغيرية تجاه كل من هو خارج أسوارها,اللهم إلا مشاعر الشفقة والصدقة -عن بعد-كذلك ليس معنى ذلك أن تتساوى كل الأطراف فى حق, ومدى ممارسة هذه الملكية الاستحواذية المتباهية بما تملك, وإنما ترتبط مشاعية العواطف – والممارسة – بدرجة النضج والمسئولية, وهنا يثار السؤال الأزلى “من الذى يحكم على من؟”, فإذا تجاوزنا هذه النقطة الآن لطول الكلام عنها, فلا أقل من أن ننتبه إلى ما ينبهنا إليه المثل, من أنه إذا كان ولا بد من الملكية, فلا داعى أن تكون لمجرد المباهاة.
[1] – نقدر ابتداء أن هذا الموضوع سوف يستغرق أربعة أعداد بصفة مبدئية، وهذا هو الجزء الأول منه.
لاذ به: لاذ بالشئ لوذا ولياذا، لجأ إليه واستتر به وتحضن، ويقال : لجأ إليه، واستغاث به وامتنع، ولاوذ: بالشئ لواذا، وملاوذة: لاذ، وهذا ما فهمته منكلمة لواز هنا، وهى أقرب إلى الفصحى منها إلى العامية، وقد تحققت من فهمى هذا بعد مناقشة بعض العجائز اللائى أحبهن ويحببننى ومن أهمهم الحاجة وجيدة من أوسيم أطال الله عمرها.