يحيى الرخاوى طبيب نفسى
حالات وأحوال
شق الذات، والنفس الشتات
الشعور مسلم واللا شعور مسيحى، فما العمل ؟
(حين يكون الطفل حقلا للصراع بين تعصب أهل الوالدين)
مقدمة:
(س) شاب فى الخامسة والعشرين من عمره، شخصت حالته “فصام بارنوي”، ولكنها مليئة بالنبض الإنسانى والحزن الحقيقى، كذلك فإن أرضية تكوين الأعراض كانت من الدلالة بحيث استوقفتنا، فوالده مسيحى، أسلم ليتزوج والدته، ثم هاجر إلى أمريكا وعاد إلى دينه (فى الأغلب)، ومازال (س) متمزقا بين شد أهل والده ، وبين غلبة وحضور ما يمثله اختياره الظاهر ووالدته وأخيه من أمه. ونأمل أن نوضح من خلال عرض هذه الحالة ما يلى :
1-إن لافتة التشخيص وحدها لا تعنى شيئا كثيرا.
2- إن اختفاء الاستعداد الوراثى، يحتاج إلى عمق أكثر فى التحرى عن عـلية فصم الذات فى حالات الفصام خاصة.
2- إن الطفل إذ يتشكل يلتقط ما بداخل الوالدين (بل وما يمثلانه، ومن ينتمون إليه) وليس الإعلان الظاهرى لسلوكهما.
3- إن صراع الأديان الشكلى يمتد من اليقين العقلى إلى الغور البيولوجي.
4- إن النضج الإيمانى، وهو من أهم العوامل الضامة المبدعة فى النمو الإنسانى، يحتاج إلى درجة مميزة من نوعية الوجود الإنساني.
5- إن إعادة ضم ما تشتت من تركيبات ومنظومات الذات يحتاج إلى فهم مسيرة التشتت بقدر ما يحتاج إلى معالج يكون قد قطع شوطا مع نفسه فى مسألة النضج الديني.
6- إنه لا غـنى عن تمحيص ودراسة كل حالة دون الاكتفاء بزعم اضطرابات كيميائية محدودة قد تكون مصاحبة أو نتيجة أكثر من كونها سببا.
م.ن. س شاب عمره 25 سنة، له أخ واحد من أمه، لا يعمل حاليا(منذ بضعة شهور)، وهو حاصل على الشهادة الإعدادية، مسلم، من حى متوسط جدا بجنوب القاهرة، أحضره إلى المستشفى خالته وزوجة أخيه بعد أن اشتدت الحالة، ولم يمكن السيطرة عليها خارج المستشفى، أولا: لرفض المريض بشكل ما، وثانيا: لاهتزاز الوضع الأسرى، والافتقار إلى مسئول راع فاهم.
وحين سئل عن شكواه كانت كالتالى :
أنا مرهق ذهنيا وبافكر زيادة عن اللزوم وبالذات فـى موضوع دين والدى وقريت كتير أوى فى القرآن والإنجيل، أنا كلامى ضخم وعاوز موسوعة علشان فهمه مع إن تعليمى على أدى، أنا حزين على اللى فاتنى فى حياتى وعلى موت والدتى، وعلى تعليمى اللى سبته، وكل ما افتكر الطريقة اللى ماتت بها أمى أتعب أكثر”.
وهنا انخرط المريض فى البكاء علما بأن
والد المريض من عائلة مسيحة، وقد أعلن إسلامه حين تزوج أمه،(أنظربعد)
ثم يمضى المريض فى شكواه :
”ياريت أموت جايز أستريح، نومى بقى قليل وماليش نفس آكل وباعيط كتير ومش عارف تفسيرات حاجات كتير وده مسبب لى قلق جامد”.
نلاحظ حتى هنا أن الشكوى يغلب عليها الحزن الذى عادة ما يترجمه الفاحص (الطبيب) إلى ما يسمى اكتئابا، بل إنه قد يتوقف عند هذه المرحلة ويـفسر سائر الأعراض بغلبة هذا الحزن الذى وصل إلى درجة التفكير فى الانتحار.
ثم قد يذهب آخر إلى ترجيح أن ثمة مبالغة فى تقدير المريض لذاته (الوجه الآخر للاكتئاب) حين يزعم أن “كلامه ضخم”، وأنه يحتاج إلى موسوعة لفهمه.
وكل من هذا الافتراضين المبدئيين لهما ما يبررهما، إلا أنه ينبغى أن نأخذهما كمجرد افتراضين لا أكثر.
كذلك ينبغى عدم التسرع فى تصور أن المريض يزعم عمق الفكر دون حقيقة التعمق مما قد يغرى فاحصا آخر أن يسمى هذا النوع من الطرح بما يسمى “أفكار شبه فلسفية ‘، الأمرالذى يجعلنا نكرر التحذير من التسرع بإصدار هذا الحكم، لمجرد استبعاد أن مريضا ما يفكر بعمق، أو لمجرد أن المريض يطرح فكرا لا يفهمه الفاحص لغرابته أو لقصور فى إلمام الفاحص بمثل موضوع الحديث.
ثم يستطرد المريض:
”ساعات باسمع صوت من بعيد بـيكلمنى مش باعرف أفسره ومش عارف حلم ولا حقيقة علشان دايما يجيلى وأنا فى السرير”.
هذا وصف لهلوسة من أدق ما يمكن أن نرصده لنبين أن بصيرة المريض فى هذه المرحلة من اضطراب الإدراك الحسى تشير من جهة إلى أصالة العرض وطبيعته، كما تطمئننا من جهة أخرى لطبيعة وعى المريض لعملية تكوين الأعراض مما يجعل اعتمادنا على كلامه لتفسير حالته (وغيرها) اعتمادا له ما يبرره.
وفى المقابلة التالية (بعد ثلاثة أيام من دخوله المستشفي) وبعد أن اطمأن إلى نوع الرعاية وفرصة الحوار.
مضى يحكى قائلا:
”أنا إنسان بسيط والغرور ما حبوش، والناس كلها بتحبنى لأن مخى على طول شغال وأنا بطبيعتى بافكر فى كل حاجة حتى النوم، أقعد أفكر ياترى النوم إرادى ولا غير إرادي”.
فـنـلاحظ أن بداية العلاقة العلاجية أغنته عن التمادى فى فرط تقدير ذاته، وإن كان وصف الواحد نفسه بالتواضع قد يفيد عكس هذا المعنى (يحدث ذلك عادة فى الحياة العادية، فالتواضع يكون كذلك حين يصف الناس به شخصا ما، وليس حين يصف نفسه).
ثم نلاحظ أيضا فى هذه الفقرة ربطا غريبا غير منطقى وغير مقبول، إذ ما هى العلاقة بين أن”مخه شغال على طول”، و أن يحبه الناس، فهو قد ربط ربطا سببيا ليس له ما يبرره بوضوح.
ثم تأتى مسألة “حدة الوعي” فى مثل هذا النوع من الاضطرابات النشطة، وهى ما أسميناها أيضا “فرط الدراية hyperawareness’، فهنا يتمادى التأمل وتتعمق المساءلة حتى يعاد النقاش فى البديهيات، وأيضا تقفز أسئلة عما يجرى تلقائيا طول الوقت، وهى أسئلة تشبه أسئلة الأطفال من ناحية، كما تشبه أسئلة الفلاسفة من ناحية أخرى، فمريضنا هنا حين يتساءل عن النوم هل هو إرادى أم لا إرادى، يثير قضية علمية لم تحل أصلا عن طبيعة كل من النوم والإرادة، ولكن الأمر يتصل بحيرته الكبرى (حتى الفصم الصريح) بين دين عائلة والده وبين دين عائلة أمه، وهذا ما افترضناه أساسا لاضطرابه وشقه وتمزقه.
ثم هو يمضى فى شكواه، أو حكيه، فيعود يتكلم عن الناس، وعلاقتهم به، فيحكى عن بعد آخر (غير أنهم يحبونه: لعمقه أو لتفكيره أو لجديته كما قال باكرا) هذا البعد هو أنه :
”ساعات أحس أن الناس نظراتها لى وحشة من غير سبب وأحس كأنهم عارفين أفكاري”.
نلاحظ هنا أيضا حذره فى التأكيد على حقيقة خبراته التى يمر بها، فهو يكرر استعمال صيغة الاحتمال”كأن”، وهذا يؤكد -من جديد- هذه الدرجة الخاصة من البصيرة (كأنهم عارفين أفكاري)، وفرق بين (ا) الناس تقرأ أفكارى (ب)الناس تعرف أفكارى (جـ) كأنهم عارفين أفكارى، وللأسف فإن هذه التفرقة الدقيقة لا يتوقف عندها الفاحص العادى كثيرا.
وهذا العرض يشير إلى ما يسمى “شفافية حدود الذات” حين يصبح ما بالداخل وكأنه متاح لمن بالخارج، لكن تظل الحدود بين الذات واللاذات موجودة ومتماسكة، وفى مرحلة لاحقة (فى الفصام خاصة) تنهار حدود الذات ولا يتوقف الأمر على الشفـافية فحسب.
وكثيرا ما تحتاج هذه الشفافية إلى تبرير تقره الثقافة السائدة، وليس أسهل-فى ثقافتنا- من استدعاء الجان ليقوم باللازم، يقول :
”وبالذات فى فترة آخر خمس شهور حاسس كأن كل حاجة باعملها فيه جان حوالى، وبيراقب كل حاجة أعملها وأحس كأنى بقيت كتاب مفتوح”.
إذن، فالقضية الأساسية هى حكاية أنه أصبح مثل الكتاب المفتوح، الناس تقرأه، ليكن، لكن بما أن البصيرة تلاحق الحالة المرضية فإن مسألة قدرة الجان على رؤية الداخل (قراءة الكتاب المفتوح) تصبح أبعد عن المناقشة والتصحيح من مسألة قدرة الناس على ذلك، وليس معنى هذا أن المسألة تزداد خطورة، صحيح أنها تزداد بعدا عن التصحيح، لكنها فى نفس الوقت تزداد اقترابا من ثقافة سائدة.
ثم تـعلـن الهلاوس السمـعية:
”وساعات أسمع أصوات زى دق هون”.
لكن نلاحظ أيضا أن الهلوسة السمعية هنا ليست كلاما محددا، وإنما هى صوت دق الهون،وهوأمر يمكن أن يحدث فى الحياة العادية فى المنزل أو عند الجيران، وبالتالى يمكن أن يسمعه أى أحد.، ولذلك لايمكن الجزم كل مرة أنها هلوسة فعلا أم لا، ثم تتطور الهلاوس إلى كلام وحكى تفصيلى محدد، حتى تصبح خليطا من المخيلة التصورية، ومن اضطراب الإدراك كذلك.
وقد ساهمت أحلامه (الحقيقية والمتخيلة) فى الكشف عن طبيعة التركيب المرضي.
”وأحلم بكوابيس كتيرة أوى، مع إنى مرة حلمت بالرسول، قعد يكلمنى بعد ما أمى ماتت من 7 سنين”.
إن فصل ما هو حلم عن ما هو واقع داخلى هو أمر تعسفى فى كثير من الأحيان، ومريضنا هنا يحكى حالته الكلية بما فيها من ربكة وحيرة وصراع (بين منظومتى الدين أساسا: أنظر بعد) وذلك فى إعلانه عن هذه الـ “كوابيس”الأمرالذى نهمل رصده وتوقيته عادة، لحساب الأحلام المحكية الرمزية (المفبركة-لاشعوريا- فى كثير من الأحيان)، مع أن مجرد ظهورها هكذا (كوابيس) هو أمر بالغ الدلالة، أنظر إلى قوله “مع إني” قبل أن يحكى رؤيته للرسول فى الحلم، وكأنه يعلن أن رؤيته للرسول هى ضد حيرته التى أعلنتها الكوابيس، ومع ذلك فرؤيته للرسول كانت ترجيحا مقحما من باب نوع الأحلام التى هى بمثابة تحقيق الأمل، فهى رؤية تساهم فى محاولة ترجيح كفة دين على آخر، مثلما فعل فى حياة الصحو تماما، على الرغم من أن هذا الترجيج كان ظاهرا لم يستجب له الباطن أبدا
وهو يستطرد :
“أنا لو اتكلمت عن اللى تاعبنى يبقى كل حاجة
أبويا وقلة حنانه
وأمى وسيطرتها
وأخويا ما يحبش غير نفسه
وأنا من كم الضغط اللى أنا فيه بابص للدنيا نظرة سودة”.
يلخص المريض كل خلفية حالته، ويعود يعلن اكتئابه ويبرره (مع أنه فصام بارنوى صريح، فانظر كيف يمكن أن يضللنا التشخيص لو أخذنا به وحده).
ولك ما قاله فى هذه الفقرة مما يتفق مع ما جاء بعد ذلك فى تفاصيل الحالة، (اللهم إلا تعبير “أبويا وقلة حنانه” فهو يحتاج إلى تفصيل آخر إذ سوف نرى أن الوالد كان وافرالحنان، وعلاقته بالمريض كانت علاقة حب حقيقى، فلعل (س) هنا يصف الحالة الراهنة بعد سفر الأول إلى أمريكا، وتخليه عن الأسرة).
ثم يحكى (س) عن تسلسل مرضه:
”واللى تاعبنى أكثر أنى ما باقتش باشوف الشيخ اللى كان بيطمـنى زمان، الشيخ ده شفته أول مرة فى أواخر سنة 89 وكنت فى أولى ثانوى وماشى فى الشارع بعد نص الليل، لقيت شيخ عجوز لابس جلابية وعمة، نادانى باسمى وقالى إنه يعرفنى من زمان من ساعة ما اتولدت وحسيت كأنه ملاك نازل من السما، وفضلت لمدة 4 أيام أشوفه فى نفس المكان وساعات يطلب منى أكـل، بعدها قعدت يمكن أسبوعين ماشفتوش لحد ما فى يوم وأنا رايح لحلوان شفته فى الصحراء، وقفت العربية وكان معايا ابن خالتى ونزلت أدور ما لقيتوش بعدها بفترة بدأت أشوفة تانى وفى أى مكان ويقعد يكلمنى ويحكيلى على تفاصيل دقيقة عن حياتى وعن اللى هيحصلى فى المستقبل وتنبأ بموت والدتى قبل ما تموت بكذا شهر وقعد ينصحنى بالصلاة يكلمنى فى الدين وأمور الدنيا وكنت بارتاح له جدا وفى يوم إدانى أعشاب طبيعية وقالى أنها ضد البرد وفعلا من يومها لما استعملتها وكنا فى الشتا بقيت ما أحسش بالبرد وممكن أخفف الهدوم فى عز البرد وما يهمنيش وفجأة اختفى تانى، ومن يومها بادور عليه فى كل حتة ومش بالاقيه”.
لهذه الفقرة أهمية خاصة :
(ا) فهى سابقة للمرض الصريح الذى أدى للاستشارة
(ب)وهى تعلن بصريح العبارة “الحل الخيالي” الذى لجأ إليه ليحسم الصراع بين الدينين، وهو الحل الذى لم ينجح فى النهاية
(جـ) وهى المكافئ المقابل لحلمه بالرسول (صلعم) سالف الذكر.
(ء) وقد ذكرتنى بخبرتين وردتا فى أدب نجيب محفوظ : خبرة عمر الحمزاوى (الشحاذ) فى الطريق الصحراوى (حين رأى لحظة الجذب المطلق) وخبرة صابر الرحيمى وبحثه عن والده فى (الطريق).
ومع أن هذه الخبرة تسمى بأبجدية الأعراض “هلوسة سمعية” إلا أن المتأمل فى طبيعتها ووظيفتها لا بد أن ينتبه إلى :
(ا) إنها قديمة قبل ظهور المرض الصريح
(ب)إنها لم تخل بمسار حياته العادية
(جـ)إنها حين اختفت بدأت أعراض المرض الصريح تعلن نفسها
ولذلك فالأرجح أنها أقرب إلى أن تكون: “صورة خيالية” من كونها”هلوسة”
وتوظيفها هكذا (كوالد خيالى بديل) يتفق مع كل من:
(ا) الثقافة السائدة التى تسمح بالتعامل مع مثل هذه الخيالات والرؤى باعتبارها محتملة
(ب) حاجة المريض إلى دعم خيالي
(جـ) تعويض غياب الوالد
(ء) حل مؤقت للصراع المحتدم.
ثم إن طبيعتها”الانشقاقية”Dissociative تتأكد حين يصل الأمر إلى أفعال عيانية، مثل أن يصل الأمر إلى أن يعطى هذا الوالد الخيالى (س) أعشابا لعلاج نزلة البرد، حتى يصبح للخيال آثارا عينية ملموسة من حيث أن (س) لم يصب بعدها بالبرد.
فانظر كيف أن هذا الوالد الخيالي(البديل) كان يقوم بكل الواجب الذى يقوم به الوالد العادي. كذلك لم يقتصر الخيال التعويضى على أن يوظف هذا الوالد راعيا صرفا، بل إنه تخطى ذلك إلى هذه الصورة الوالدية الطيبة التى تعلن احتياجها للإبن مثلما تمنح له الرعاية والحنان تماما(وساعات -هذا الشيخ الطيب-يطلب منى أكل).
ثم لاحظ تراوح حضوره وغيابه، والشهود الذين هم ليسوا شهودا، فتدرك بسهولة كيف تداخل الخيال مع الحقيقة بكفاءة (فنية) عالية.
أما تفاصيل الدور الذى قام به هذا الوالد الخيالى فنفضل أن نؤجل الحديث عنها حاليا، ونكتفى بأن نضع عدة احتمالات تقول:
(ا) إنه كان الهاتف الوالدى المنتمى إلى الدين الظاهر، والأغلبية.
(ب) إنه كان شيخا مسلما آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، حريصا على ترجيح الدين الظاهر فى وعى (س) (الإسلام)
(ج) إنه كان يقوم بدور إيجابى فى شرح الجانب الذى يود المريض لو يرجح تماما، فكلامه فى الدين، وعن الدين، كان فى الدين الإسلامى دون المسيحي
(ء) إن نصائحه وموقفه التربوى والتعليمى لم يقتصرا على الدين بل امتدا إلى “الدنيا” مما يؤكد حاجة (س) إلى الوالد من حيث المبدأ، وليس فقط ليرجح الإسلام كما ذكرنا
(هـ) إن الزعم برؤية هذا الشيخ الصادقة للمستقبل لا يمكن التيقن منه لأن ثمة احتمال أن يكون هذا الزعم قد تحقق بعد الحدث وليس قبله (شيء أشبه بظاهرة الرؤية السابقة Deja Vu Phenomenon )
(و) إذا اعتبرنا هذه الخبرة هلوسة، فإنهامن النوع الذى يسمي:الهلوسة المتسقة مع الذات Ego-Syntonic hallucination وواضح أن المريض متصالح معها، ومستفيد منها، ويحتاجها، بل إنه لم يتفسخ ويمرض(فعلا)إلا بعد اختفاء هذا الشيخ، أو حتى بسبب اختفاء هذا الشيخ كما يتصور المريض
هذا وقد جاءت شكوى أهل المريض مطابقة تقريبا لشكواه، وإن كانت أقل عمقا، لكنها ليست أقل دلالة، وقد حصلنا عليها من مصدرين الخالة، وزوجة الأخ
أما الخالة فعمرها 38 سنة، وهى ست بيت، غير متعلمة وكانت طوال المقابلة تحاول إظهار مساويء عائلة والد المريض وكأنهم السبب فى مرضه
أما زوجة أخيه -غير الشقيق، من أمه- فعمرها 29 سنة، ست بيت، قريبة جدا للمريض ومتعاطفة مع ظروفة، صادقة وموضوعية، وهى التى أقنعته بالعلاج.
(ويجدر بنا أن نلاحظ هنا كيف أن زوجها لم يكن كذلك، وهذا أمر وارد، أن تكون الزوجة (الغريبة) أقرب وأكثر حدبا وعطفا على بعض أفراد أسرة زوجها من زوجها نفسه)
وقد اعتمدنا فى الحصول على المعلومات الأصدق الخاصة بالمريض منها أساسا (أكثرمن خالته البعيدة)، تقول زوجة الأخ:
”من بعد ما والده سافر من 9 سنين كان يقعد يقولى إنه بيقابل راجل كبير، وفى أى وقت،ويقول إن الراجل ده بيقعد يكلمنى، ويدعى لى، ويتنبأ لى بمستقبل باهر، ومرة وقـف ابن خالته فى الصحراء وقاله أهه، وكأنه شافه، وقعد يدور عليه.
فنلاحظ هنا توقيت ظهور هذا الوالد الخيالى، بعد سفر الوالد مباشرة، كما نلاحظ المحتوى المكافئ لأى والد مصرى طيب “يكلمنى، ويدعى لى، ويتنبأ لى بمستقبل باهر)
وتستطرد زوجة الأخ:
”بعدها بفترة، تقريبا بعد موت والدته(سنة 92) بدأ يشك فى كل حاجة، وفى مرة كان يتغدى عند خالته ومارضيش ياكل من الطبق اللى أمامه يقول أنا مش ضامن، وبدل طبقه مع إبن خالته”.
فنلاحظ هنا التوقيت أيضا، فبعد سفر والده ظهر الوالد الخيالى (الشيخ)، وبعد وفاة الوالدة ظهرت أعراض الشك مباشرة، إذ يبدو أن ما يسمى الثقة الأساسية Basic trust قد اهتزت بعد وفاة الوالدة، وخاصة لـما صاحب ذلك من شعور بالذنب من المريض نحو هذه الوفاة بشكل خاص، وعلى الرغم من أن هذه التصرفات هى أعراض صريحة تعلن ما يسمى “ضلالات التسميم ‘Delusions of Poisoning إلا أنها لم تكن كافية لدى المريض أو لدى الأسرة أن تعلن صراحة بداية المرض والحاجة إلى العلاج.
وتستطرد زوجة الأخ:
”وأيامها خطب بنات كتير أوى، ويفركش الجوازة بأى سبب ويتلكك على أى حاجة ويسيبلهم الشبكة، وأول ما نتكلم على أى ست أمامه يبقى خلاص بيحبها ويبقى عاوز يتجوزها وفجأة يشك فيها ويسيبها”.
ونلاحظ أيضا هنا توقيت الاندفاعة إلى البحث عن مصدر للحنان، للحب، للرعاية، بل للثقة الأساسية، فمن ناحية هو جاهز لتلقى الرسالة من أى واحدة “ست” (وأول ما نتكلم على أى ست أمامه يبقى خلاص بيحبها ويبقى عاوز يتجوزها) وفــى نفس الوقت، فإن عدم الثقة (اللاثقة(1)Mistrust) جاهزة أيضا،وفورا (وفجأة يشك فيها ويسيبها) وهذا التأرجح بين الثقة واللاثـقـة هى صفة الموقف البارنوى الأصيل(2).
ثم نواجه الصراع بكل عنفه ووضوحه، نسمع زوجة الأخ تستطرد:
”إبتدى كمان طول ما هو قاعد يقول إنى أحسن منكم وبكره هاسافر أمريكا لوالدى وأشترى كل اللى أنا عاوزه ومش هاجيبلكم حاجة، والموضوع ده كان دايما مسيطر على تفكيره وكان دايما عنده استعداد يسيب أى شغل أو يبوظ أى جوازة بمجرد تليفون من والده من أمريكا ويعشمه أنه هيبعـتـله يسافر معاه، بس كان دايما شاكك إن أبوه بقى مسيحى تانى، وكان خايف يسافر يخلوه مسيحى هو كمان”.
وهكذا نرى كيف كان الوالد بكل تاريخه الحانى، وبكل هجره الساحق، يمثـل بديلا جاهزا للاعتمادية المادية، هذا على مستوى شعور (س)، لكن الأهم من ذلك : أنه كان يمثل أيضا البديل الدينى.
ولتفصيل هذا الفرض نقول:
إن (س) بإعلانه أنه “أحسن من أهل أمه” لم يكن يعنى فقط أن فرصته المادية من والده هى المقصودة، فهذا أمر مقول بالتشكيك، وإنما هو كان يزيح احتمال أن يكون دين والده (أو بكلام أدق، دين أهل والده هو الأفضل)، ويتضح هذا الصراع بكل ثقـله من ارتباط تغيير رأيه وموقفه من احتمالات زواجه وخطوباته بمجرد أن يتلقى هاتفا من والده.
ثم نرجع إلى مسألة خطوباته السريعة والمتكررة، ثم سرعة فسخها، إذ قد لا يكفى إعلان أن هذه التصرفات جميعا يفسرها الموقف البارنوى، أو التذبذب بين الثقة واللاثقة، إنما قد ترمز خطوبته فزواجه -هكذا- إلى استقرار وضعه الدينى (باقترانه بمسلمة) ثم يكون تراجعه الجاهز والمتكرر رمزا إلى احتمال استقرار وضعه الدينى (مسلما) فى حين أن والده ودين أهله موجودان داخله بكل رسوخ، وهما المسئولان عن التراجع الجاهز المتكرر باستمرار.
فإذا كان الشعور قد اختار الإسلام، فإنه لم ينجح فى ذلك تماما، وظل يخاف من احتمال أن اللاشعور قد اختار المسيحية، فيروح الشعور يحجر على اللاشعور، بدليل تجنبه السفر إلى والده خشية (أن يخلوه مسيحى هو كمان) هذا علما بأنه لم يكن متأكدا أبدا من عودة والده إلى دينه الأصلى، ولا هو كان قد علم يقينا أن والده قد تزوج من أخرى مسيحية فى أمريكا، وعدم اليقين هذا هو أسوأ من اليقين الذى كان يمكن أن يتعامل معه بشكل أوضح.
ثم تستطرد زوجة الأخ :
”مرة كنا بايتين عنده فى الشقة،على الساعة 3 صباحا صحى يزعق فينا وطردنا من الشقة وكسر التليفزيون وكان عاوز يرمى نفسه من الشباك وفضحنا فى الحتة كلها وقال إن احنا عاوزين ننهب منه الشقة مع أننا كنا ساعات نبات معاه علشان عايش لوحده”.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن اضطراره للعيش وحده بعد موت والدته وسفر والده قد أتاح الفرصة للاستغراق فى عالم الخيال المرضى، ولعل البيت (الشقة) كان يمثل له شيئا أكبر من مجرد شقة، ونفترض هنا أنه كان يمثل له الركن الخاص المقابل للموقف اللاشعورى (تجاه دين والده) وبالتالى فإن حضور أهل أمه لكسر وحدته أحيانا كان بقدر ما هو تصرف اجتماعى كريم وحان وطيب، كان يمثل إغارة على سره الخفى (الشقة)، وبالتالى فإن هذه النوبة من الهياج المصاحبة بأنه كاد يهم بالانتحار أثنائها، هى أقرب إلى الاحتجاج والخوف من الإغارة، ليس فقط الإغارة على البديل المحتمل (المسيحية)، وإنما الإغارة على الصراع المحتدم بإنهائه لصالح أحد شقيه، إذ يبدو أن الصراع قد أزمن حتى أصبح هو (لا حله) مبررا كافيا للحياة، ولو مؤقتا
ثم تستطرد زوجة الأخ :
”وفى يوم لقيناه بيعيط جامد، وقال لكل الحتة إن أبوه مات، وعملنا عزاء، ولبسنا أسود لمدة شهر، وبعدها قال إنه كان بيضحك علينا”.
مرة أخرى نرى كيف يؤلف (س) الخيال، ثم يعيشه ويجعل من حوله يعيشونه، ولا يصح أن نتصور-ببساطة- أنه كان فعلا “يضحك عليهم”، فالأمر الذى يترتب عليه عزاء، ويستمر شهرا، لا يصلح أن يكون مجرد ضحك، والأرجح أنه هو نفسه كان مصدقا خياله، وكان هذا الحل (قتل الوالد- ولو خيالا) هو إعلان لأمله فى التخلص مما يمثله الوالد فعلا، ولا نعرف متى أفاق هو من خياله هذا حتى يعلن أنه كان يضحك عليهم، هل حدث هذا تلقائيا مثل تذبذبه الأزلى لحاجته إلى الإبقاء على البديل، أم أن والده اتصل به هاتفيا مثلا فأفاق.
ثم تستطرد زوجة الأخ :
”الحالة زادت أوى من 7 شهور لقيناه فى يوم بيتكلم كلام غير منطقى وقال إنتم عاوزين تموتونى عاوزين تهدروا دمى وعاملين تحالف ضدى مع المسيحيين علشان اتكلمت على مفتى الديار وحسنى مبارك”.
وهكذا بدأ الخلط بين شقى الصراع، وتدخل المسلم والمسيحى داخله، فهو يوجه خطابه لأهل أمه المسلمين متهما إياهم بأنهم (عاملين تحالف مع المسيحيين) وفى نفس الوقت يتكلم عن إهدار دمه، وهو أمر متعلق باحتمال ردته إلى دين والده، أما الخوف من أن يقتلوه فهو ليس فقط رعبا اضطهاديا ذهانيا، وإنما هو- فى فرضنا- يعلن أنه أصبح أسير الصراع بحيث أن ترجيح أى كفة، هو الموت نفسه، وفى نفس الوقت تمادى الصراع حتى التمزق والخلط كما نرى (وذلك دون تفسخ صريح بعد) ويصل التمزق والتداخل فى هذه المرحلة أن يزعم : أن تحالف أهله (المسلمين)، مع المسيحيين، لإهدار دمه، هو بسبب هجومه على رمز مسلم (مفتى الديار) ورمز سلطة وطنية (مبارك).
ثم تستطرد زوجة الأخ :
”وقال إن النايل سات ده فكرته وبدأ بعدها يتكلم كتير ويدخل من موضوع للتانى يمسك الجرنال ويقول إن فيه شفرة معينه ماحدش يفهمها غيره فى آخر كل كلمة وقعد يقول إنى هاموت فى يوم معين”.
وحين زاد الخلط و التداخل، سقطت اللغة العادية، وبـدأ الالتجاء-مرضيا- إلى لغة خاصة، وإن كانت لم تفعلن بعد.
تستطرد زوجـة الأخ قائلة :
”ومرة دخلنا عليه الأوضة لقيناه نايم على السرير وحاطط مقشة وجاروف على صدره ومقفل البلكونة بملـل السرير كأنها صلبان ولما جينا نشيل الحاجات دى قعد يزعق ويقول ما تموتونيش أنا مش عارف بتعملوا كده ليه
ولقينا البيت كله ضلمه شايل كل النجف وحاطط بداله لمض سهاري”.
لا أحسب أن هناك ما يثبت الفرض الذى ذهبنا إليه أكثر من هذا المشهد:
المسيحى بداخله قرر أن يخرج فى شكل رمزى صريح، ملل (جمع ملة) السرير فى شكل صلبان، وثورة عارمة لمن يقترب منها، مع التنبيه أن إزالتها تساوى موته شخصيا، وهو هنا لايدافع عن مسيحيته الداخلية، ولاهو يتنازل عن إسلامه الظاهرى، بقدر ما هو -كما افترضنا- يحاول أن يحافظ على تسوية (حلوسطCompromise ) لم تعد لها أى قدرة على الاستمرار أصلا.
أما مسألة استبدال النجف الكهربائى بلمض سهارى فهى أوضح من أن تؤول، فالنجف هو الاختيار الشعورى (الإسلام)، واللمض السهارى هى الاختيار (أو احتمال الترجيح) اللاشعوري.
ثم تستطرد زوجة الأخ :
”رحنا لدكتور وداله أدوية، ماخدش منها غير أسبوع تقريبا وفضل بعدها أهدأ لمدة شهر، بعدها اشتغل فى شركة نظافة كعامل، وابتدى يقول إن فيه حاجات غريبة بتحصل حوالى، ومايرضاش يفسر، وساب الشغل”.
وهنا ينبغى التنبيه على أن الإشكال فى هذه الحياة هو الافتقار إلى من يمنح الرعاية ويضمن الامتثال لتعاطى العقاقير والمتابعة.
ثم تستطرد زوجة الأخ :
”من 3 شهور حرق دراعه بمكواه ولما سألناه عن السبب قال إنه بـيعاقب نفسه علشان التذبذب بين الأديان”.
مرة أخري: ها هو يحاول أن يتخلص من الصراع بالتخلص من نفسه (تذكر محاولة الانتحار لما كان أهل أمه يبيتون معه)، وعلى الرغم من أن مثل هذا الحرق ليس انتحارا، إلا أنه رمز لمعاقبة الذات التى هى مدخل الانتحار، والجديد هنا أن عقاب الذات ليس جزاء ذنب اقترفه، وإنما هو لأن صراعا استمر !!! وكأنه يرفض الصراع الذى أضاعه، وفى نفس الوقت يعتبر نفسه مسئولا عن استمراره، بعكس المألوف فى حالات العصاب، والحالات الأقل بصيرة الذين يتلمسون تفسير ما آلوا إليه بوجود مثل هذا الصراع، ولكنه يعتبر استمرار الصراع -هكذا- أمرا يستحق العقاب، وفى نفس الوقت بدا لنا، وسيبدو، أنه حريص على بقائه حتى بعد أن أدى إلى هذا التمزق البالغ الدلالة.
ثم تستطرد زوجة الأخ :
”فى رمضان لقيناه فى يوم راح مكسر الشقة كلها ورمى التليفزيون من البلكونة”.
فـهـــل يا ترى كان لا شعوره يرفض كل هذا الاحتفال الإسلامى بعد أن أصبح رمضان هو التليفزيون، فأصبح التليفزيون فى رمضان هو رمز الإسلام التسلية أو الإسلام الاحتفالية السطحية؟
إلى هنا وقد ظهرت لغة اللاشعور جلية فى أكثر من موقف، (ملحوظة : نحن نسرد كلام زوجة الأخ بنفس الترتيب دون أى تدخل من جانبنا)، فماذا كان رد الشعور (المسلم؟)
تستطرد زوجة الأخ :
”من شهر تقريبا أبوه بعتله فلوس قعد يقطعها ويوزع على الناس فى الشارع، وقعد يقول إنه قرف من أبوه وفلوسه”.
ذكرنا فيما سبق كيف يمثل أبوه الاعتماد المادى، والبديل الدينى، والأمل الهجراتى، فى نفس الوقت، وهنا نـرى كيف تعامل شعوره مع نقود أبيه، وكأنه يرفض أن يكون انتماؤه الدينى الداخلى نظير رشوة ما، فى نفس الوقت الذى يبرر رغبته فى الهجرة بادعاء مطلب التأمين المادى دون أية إشارة -شعورية-إلى الدين اللاشعوري.
ثم تستطرد زوجة الأخ :
”قطع المصحف وبقى يتوضأ ويصلى كتير ولو منعناه يقعد يصوت ويلطم”.
أنظر هنا إلى هذا التناقض الأوضح : يقطع المصحف، وفى نفس الوقت يبالغ فى الصلاة
ثم تختل حساباته البسيطة، ويبدأ فشل استمرار الصراع وفشله فى أن ينهيه بترجيح حقيقى لأحد شقيه، وقد بدأ تأثير ذلك يظهر على صحته الجسمية، وعلى حساباته البسيطية
تستطرد زوجة الأخ :
”منع الأكل والشرب تقريبا لمدة أسبوع مش بياخد باله من لبسه ولا نظافتة”.
ثم تقول:
من أسبوع راح من البساتين لجسر السويس عند عمته علشان يطلب منها نصف جنيه.
ثم تقول:
ما بقاش ينام بالليل وينزل يتمشى فى الشارع، وده زاد بالذات فى الأسبوع الأخير ده، وينزل فى عز البرد بنص كم. بقى مش طايق حد يكلمه ويعيط كتير ومنعزل عن كل الناس ويسرح كتير وبقى متردد جدا ممكن ييجى لحد الورشة ويرجع تانى من غير أى سبب ومستعجل على طول وعنده خوف شديد”.
نلاحظ هنا تطور الأعراض، وبداية ما يسمى بالتفعيل Acting out فيظهر التردد فى كل السلوك وليس فقط فى مسألة الدين، ثم يظهر الاكتئاب صريحا، الأمر الذى أشرنا إليه فى البداية ونبهنا بعدم التسرع فى وصفه كعرض لا أكثر ولا أ قل.
وتتطور الحالة إلى ما يصبح شذوذا صريحا قبيحا ومرفوضا، تستطرد زوجة الأخ :
”ومن يومين اتخانق فى الشارع راح مقطع هدومه وشتم شتايم خارجة وتبول على زير مياه والجيران بيقولوا أنه بيسمعوه يكلم نفسه بالليل”.
وعلى الرغم من كل ذلك، فقد كان ما زال متماسكا متفاهما عندما حضر المستشفى للفحص مما يجعلنا ننتبه إلى أن شذوذ التصرفات قد لا يكون متناسبا طول الوقت مع شذوذ المظهر أو درجة التفسخ.
وقد آن الأوان لنتعرف بتفصيل أكثر على كل من الوالد والوالدة
الوالد
52 سنة – دبلوم صناعى – يعمل سائق درجة أولى خاصة ،من خلال كلام المريض (المصدق والمناسب رغم كل ما سبق) يقول عن والده: – طيب جدا – سلبى – صبور – متفاهم – هوائى – ضعيف الشخصية.
ويقر (س) أنه كان يحبه جدا لكنه كان دائم السفر للعمل فى البلاد العربية منذ أن كان عمرالمريض4 سنوات وكان ينزل لمدة شهر كل عام حتى أصبح عمر المريض 16 سنة (سنة 89) بعدها هاجر لأمريكا وانقطع اتصاله بعدها بالأسرة ولم يتصل بالمريض إلا بعد موت الأم (سنة 92) بعدها نزل مصر مرة واحدة سنة 95 لمدة 15 يوما.
وقد تزوج أمه -كما ألمحنا- بسرعة غير مألوفة، رآها فى الشارع، وكان على خلاف مع أهله بسببها، ترتب عليه تغيير دينه، على الرغم من أنها كانت مطلقة من فلسطينى حاصل على الجنسية السعودية، ولها إبن منه.
لمقاييس المتعارف عليها أو المنتظرة فى مثل هذه الظروف، فهو ليس أبا قاهرا، ولا هو بارد العواطف، ولا هو ظاهر التقلب بين ما اختاره من دين ليتزوج وبين دينه القديم، حتى سفره إلى البلاد العربية لم يترك فراغا يسمح بالمبالغة فى تقييم دوره كما اعتاد الإعلام السطحى وشبه العلم أن يفعلان وهما يتناولان هذه المسائل.
الأب هنا له صورتان متتابعتان (لم تظهرا فى تناقض مباشر معا فى وقت من الأوقات)
فهو حان، يحب إبنه، يسافر ليعول أسرته، يحب زوجته التى تزوجها عن حب، على الرغم من أنه كان حبا سريعا سريعا (أسبوع)
وفجأة يسافر دون أن يخطرزوجته، ولاإبنه ذا السبع عشرة عاما (كان فى ثانية ثانوى وترك الدراسة بعد سفر والده مباشرة) لكنه لا يتخلى تماما عن صفاته الأولى فهو يتصل بأسرته، ويرسل بعض العون المادى، ويحضرعند وفاة زوجته.
ويبدو أن هذا الأب قد استطاع أن يقلب الصراع الذى عاشه بالطول، بالتبادل، ولم يسمح له بالمواجهة حتى التصادم والتمزق فالتفسخ مثلما حدث لابنه، فقد أعطى الجانب المحب العاطفى الذى أعلن إسلامه- ولو ظاهرا- فرصة كاملة، حتى إذا استــنـفذ أغراضه أو بالتعبير الشائع انتهى عمره الافتراضى !!، حل محله الجانب الآخر (الشخص الآخر) الذى كانه قبل أن يتزوج، وهذا الآخر هو الذى قرر -ببساطة- أن يفضها سيرة ويسافر، ويرجع فى كلامه !!!
مثل هذا الوالد يمثل مشكلة نفسية أقسى وأخطر من الوالد القاسى، أو الوالد الفاتر (مثل قلته: العدد الماضي) فالإبن لا يستطيع أن يكرهه، ولا أن يتقمصه، ولا يملك إلا أن يحب جانبا منه، لكنه لا يعتمد تماما عليه، وأيضا هو لا يمثل له مرجعا أو ملاذا آمنا، إلا تلويحا واعدا مع وقف التنفيذ دائما.
أما الخطيئة الكبرى التى ارتكبها هذا الأب -حتى لو كان معذورا تماما وحجته، اللاشعورية، أنه يقلب الصراع العرضى إلى تبادل طولى للأدوار فهي: مفاجأة التخلى بالسفر إلى أمريكا دون إخطار لا إبنه ولا زوجه، حتى إنها كانت أقرب إلى الهرب النذل، وهذا يمكن أن يكون قد ترتب عليه أمران :
(ا) الأول هو فجيعة التخلى
(ب) والثانى هو تثبيت موقفه بصما فى الإبن المهجور.
ومن السهل على القارئ العادى، والطبيب العادى أن يفهم فجيعة التخلى، أما مسألة بصم الهجر هذه فهى الأصعب لأنها مبنية على افتراض تركيبى يقول إن الشخص الذى يمثل لنا قيمة علاقاتية كيانية، إذا تركنا بالموت أو بالهجر ينطبع فينا غائرا، حتى يترك أثرا باقيا فى التركيب البيولوجى ذاته(3) (الذى فسرت به بعض مظاهر ما يسمى علم الأرواح وخاصة التصوير الروحي)، وهذا الطبع-الذى يقابل بشكل ما حيلة التقمص بالمعتدى، باعتبارأن هذا الهجر هو نوع من الاعتداء-يصبح غائرا فى الكيان المهجور بكل طبقاته الشعورية، واللاشعورية لأنه أقــرب إلى البصم البيولوجى، وكان نتيجة هذا “البصم بالتخلي” أن أصبح الوالد بتاريخه وإشهار إسلامه وطيبته وحبه ونذالته وهجره وتخلـيـه، أصبح كيانا داخليا قوى التأثير نشط التشتيت ضد كل القرارات الظاهرة.
هذا علما بأن الاتصال بين المريض ووالده غير منتظم، وعلاقتهم أصبحت غير مستقرة. وهذا فى ذاته يزيد من آثار البصم، قياسا على أن التدعيم الجزئى غير المنـتظم يزيد من قوة وعمق التعلم الشرطى أكثر من التدعيم المنتظم، بمعنى أنه لو كان هذا “البصم” قد حدث ثم كان الأب مازال فى المتناول المنتظم، لما كان تأثيره بنفس القوة وهو غائب، غير منتظم.
أما من ناحية رؤية المريض لتدين الوالد،ودينه فهو يقول فى ذلك (متبرعا دون سؤال) :
”والدى زمان لما كان مسلم كان قدوة لكن لما رجع لدينه الأصلى تانى سقط من نظري”.
هنا يعلن الشعور الظاهر، وكأنه “يخطب” أن الوالد المسلم كان قدوة !!! وأنه “سقط من عين هذا الشعور” حين رجع إلى دين أهله الذى ولد به، وتعمد فيه.
فهل سقط هذاالوالد برجعته تلك من عين لاشعور (س) أيضا؟
كل الدلائل تدل على أن هذا لم يحدث، وكل الأعراض والتفسيرات السابقة تشير إلى هذا التناقض المروع الذى عاشه هذا الشاب، ويعيشه.
ثم نتعرف على الأم مع بعض التفصيل
الأم:
(كما يصفها المريض، وهو وصف يعتــمد عليه، وقد صدقت عليه المرافقتان، الخالة، وزوجة الأخ)
توفيت الأم سنة 1992 عن عمر يناهز 42 سنة – غير متعلمة – ست بيت.، كانت جميلة مسيطرة – عنيدة – كما كانت سريعة فى صرف الفلوس، لكن كانت مثالية فى إدارتها للبيت وتعمل من الفسيخ شربات – عصبية – قاسية – تحب الانعزال (كنت بحبها أوى وكانت بتريحنى مع أننا كنا بتتخانق على طول).
وقد تزوجت زوجها الأول بنفس السرعة، وكانت ظروف زواجها الأول تستأهل التسجيل، فقد كانت أمها(جدة المريض) كودية زار، وكانت تصحبها معها أحيانا فى بعض ممارساتها، لشدة جمالها، وقد شاهدها زوجها الفلسطينى الأصل، السعودى التجنس، فى احدى هذه المناسبات، فتزوجها خلال عشرة أيام – ولكنها لما سافرت إلى السعودية معه، لم تستقر، ورفضت الأم أن تستمر ابنتها فى السعودية، فعملت على تطليقها من زوجها فى أول إجازة، واكتشفت بعد طلاقها أنها حامل : فى الأخ غير الشقيق للمريض.
وهكذا يبدو أن هذا الشاب لم ينقصه لا حب الأم ولا حب الأب، على الرغم من توقع غيرذلك، وهو قد بادلهما حبا بحب، كلا على حدة، وأيضا أحبهما وهما معا، كل هذا عكس ما كان يمكن أن نتوقعه سببا فى تصدعه، مثل أن يحتار إلى أيهما ينحاز، أو أن يلتقط ضغــنا خفيا بينـهما لا يستبعد من أى علاقة زوجية عادية، ولعل هذه العلاقة الطيبة بين الوالدين -على الرغم من موقف أهل كل منها على ناحية، وعلى الرغم من سفر الوالد مددا طويلة- لعل هذه العلاقة قد فاقمت من مشكلته، فقد وصلته رسائل متعددة، مختلفة الشحن، مختلفة التوجه، ثم جاء مرض أمه ليزيد من تعاطفه معها
تكمل الخالة :
”طول عمرها عندها السكر وكان تاعبها، و(س) كان هو المسئول على متابعة علاجها وإعطائها الحقنة يوميا. فقدت البصر قبل وفاتها بسنة نتيجة مضاعفات السكر وكان (س) يدير شئون البيت”.
ثم تكتمل المأساة لظروف موتها :
“قبل وفاتها بأيام رفض المريض إعطائها الحقنة بعد خناقة بينهم فأعطتها لنفسها وهى غير مبصرة، بعدها بيومين بدأت تشكو من رجلها، سافر المريض أثناء ذلك إلى الإسكندرية ولما رجع وجدها عند أختها تعبانة جدا ولف على المستشفيات، رفضوا إدخالها بسبب الغرغرينة فى رجلها وماتت بتسمم فى الدم”.
واعترى المريض شعور بالذنب تجاه موتها هكذا، واعتبر نفسه مسئولا، وظلت هذه المشاعر ملازمة له حتى حكيه هذا الذى حصل إذ راح يبكى وهو يتذكر ظروف موتها.
وليست المسألة هنا مجرد شعور بالذنب وارد فى مثل هذه الظروف، ذلك لأن ربط هذا الشعور بالإشكال الأساسى قد آن الأوان لتصويره هكذا:
صراع الوالد(فى الداخل)*=*الوالدة(فى الداخل)
صراع أهل الوالد *==+++==* أهل الوالدة
+ صراع المجتمع الذى يمثله كل من الفريقين
فإذا قرأنا هذا الشعور بالذنب على هذه الخلفية لأمكن تفسير كيف أن ظاهر (شعور) المريض كان يستعمل أمه ليس فقط كأم حانية مريضة، فى نفس الوقت، وإنما كانت رمزا لدينه الظاهر (الإسلام)، فإذا قصر فى حقها، فقد قصر فى حق دينه هذا، ولعل فرط التدين المرضيMorbid religiousity الذى أصابه مؤخرا كان إعلانا لهذا التوجه الشعورى المتصخم لتغطية الميل العكسى فى الداخل، فقد راح يواظب على صلاة النوافل حتى صلاة القيام، وزادت الإطالة فى الصلاة والوضوء واستمر هكذا حتى حضر للاستشارة ودخل المستشفي.
وتوضيحا لهذه الجزئية نقول إنه لو أن المريض سمح للاشعوره (المسيحى نسبيا) أن يظهر، فهو إنما يخون أمه التى كان لها “الفضل” فى إسلام والده، وعلى الرغم من طيبتها فإنها هى التى كانت تمنع والدها أحيانا من الاتصال بأهله، وقد حكى (س) شواهد لهذه المواقف المتناقضة.
يقول المريض عن علاقة والديه :
” فى بداية الزواج كان بينهم علاقة حب قوية ولكن بمرور الوقت بدأت الخلافات يمكن بسبب الدين،
[وكانت الأم كثيرا ما ترفض زيارته لأهله عند نزوله للأجازات.] ثم يستطرد:
والدى سافر من غير اتفاق معاها، وماحاولش يتصل بيها، وحتى لما كانت بتموت طلبت من عمتى أنها تكلمه وبرضه ماتكلمش إلا بعد موتها بثلاث شهور)’.
فنلاحظ هنا كيف صدق المريض فى وصف الصراع بين الأهل والأهل، أكثر منه بين الأب والأم، ثم إن ‘ الأهل” لم يكونوا كيانا خارجيا فحسب، بل إن حضورهم فى الداخل (داخل الذات intrapsychic، ذات الوالدين أولا ثم ذات (س) بالتبعية)
هذا الوجود(التركيب) الداخلى هو الأهم: فالأهل داخل الأب هم الذين سافروا (أو سفروا الأب) إلى أمريكا، والأهل داخل وخارج الأم هم الذين كانوا يمنعونه من زيارة أهله حين كان يعود فى إجازته من البلاد العربية.
وقد ظل هذا الموقف هكذا حتى حضر المريض إلى المستشفى، فكانت الخالة -دون زوجة الأخ- تعزو كل مرض الإبن لأهل والده، وكان أهل الوالدين يبدون استعدادهم لدفع مصاريف المستشفى على شرط ما، شرط لم يعلنوه صراحة، لكن الأطباء لاحظوا أنه كان شرطا واضحا وهو أن يتمكنوا من خلال ذلك من توصيل رسالة رعاية تمكنهم من عمل شئ ما (لينقذوا إبنهم من ورطته التى أوقعه فيها أبوه بغير وجه حق) !!!
بقيت إضافة ذات أهمية تتعلق بشخصية الأخ غير الشقيق
الأخ:
هو أخ واحد، 34 سنة
وهو مسلم أبا و أما وأجدادا
وقد ولد بلا أب، فقد اكتشفت أمه (أم س أيضا) أنها حامل به بعد انفصالها عن والده.
وفى نفس الوقت فلسطينى الأصل من أب فلسطينى تجنس سعوديا
-وهو صاحب ورشة أرابيسك أسسها من مال الأسرة وذهب -صيغة-الأم كما يقول(س)
- متزوج من 7 سنوات ولم ينجب
وهكذا نرى كيف تجمعت عوامل اللاأمان : من الحرمان من الإنجاب للحرمان من الوطن، للحرمان من الأب، حتى أن المريض فسر تعاطى هذا الأخ بعض البرشام وبعض البانجو لفترة من الوقت ليتغـلب على حالته التى غمرته بسبب عدم إنجابه
وقد وصف (س) أخاه هذا بأنه “عنده حالة نفسية”، وأنها ظهرت فى شكل تعاطيه السالف الذكر، وأيضا هى السبب فى إصابته بجلطة فى القلب – فى هذ السن الباكرة- الأمر الذى لم نتأكد منه
والمريض يعقب -وله بعض الحق- أن أخاه استولى على حقه فى ورشة الأرابيسك، يقول عن أخيه هذا :
”مستهتر لدرجة إنه كان بيبرشم، قعد 3 سنين، وأنزل أدور عليه فى الشوارع، حتى بعد ما اتجوز، لأنه جتله حالة نفسيه علشان مش بيخلف لكن من ساعة ما جتله جلطة فى القلب وهو مبطل، ساعات أحس إنه أنانى، ولو أدانى شوية حنان يبــقى دايمآ عاوز منى حاجة، هو ظلمنى فى حقى فى الورشة علشان فلوسها أصلا من والدى وذهب (صيغة) والدتى على أساس هنبقى أنا وهو شركاء، لكنه انتهز فرصة جهل أمى وأنها بتستعمل ختم بيبقى دايما معاه وزور ملكية الورشة وبقت بتاعته هو بس، ولما اكتشفنا الموضوع ده كانت مشكلة كبيرة، لكنه صمم على موقفة، وخلاص”.
فبقدر ما كان هذا الأخ غير آمن، بقدر ما كان لا يصلح ليحل محل الأب الغائب، بل إنه تمادى فى التعدى على حق المريض، أو على ما اتـفق أن يكون من حقه، وقد كان ذلك يمثل مستقبلا آمنا، وخاصة أن مهنة الأرابيسك كانت من بين ما أتقن (س) من مهارات، وعمل بها
وعلى الرغم من أن كل ما سبق كان حديثا غير مباشر عن “تاريخ التطور الديني” لـ(س) إلا أننا استقصينا مباشرة عن ما يسمى كذلك (التطور الديني) فجاءت إجاباته دالة تماما.
وفكرة تقصى تاريخ التطور الدينى عند المرضى النفسيين هى فكرة محلية (مصرية)، وقد عارضها كثير من الزملاء الذين تعلموا وتدربوا فى الخارج، وهى أمر محرج فعلا، وفى الخارج يتجنبون الخوض فى هذه المسألة للمريض والسليم على حد سواء، فيعتبر مخالفا من يثبت ديانته فى بطاقة هويته أو جواز سفره، أو من يرتدى رمزا مميزا لدينه فى أماكن لا تسمح بذلك، أو لا تتطلب ذلك، ويزعمون فى الغرب أن هذا من ضمان حرية العقيدة، لكننا وجدنا أن الأمر يختلف فى مجتمعنا، وأن المصارحة بهذه المسائل قد تكون أقرب إلى طبيعتنا وأدعى إلى احترام الجارى واقعا ما أمكن ذلك، وبسؤال مريضنا هذا عن ذلك أمكن رصد ما يلي:
- بدأ الصلاة من سن 8 سنوات
- كان غير منتظم وانقطع تماما من سنة 89 حتى ثلاثة شهور مضت.
- بدأ الصوم من سن 9 سنوات حتى سن 16 سنة بطريقة منتظمة
-بعدها انقطع عن الصوم بسبب التدخين
-الوالدة كانت تحثه على مواظبة الفروض على الرغم أنها كانت غير ملتزمة دائما
- الوالد كان ملتزم بالدين الاسلامى وكان يصلى ويصوم مع المريض وقام بالحج وقت عمله فى السعودية
لكن يبدو أن التزامه لم يكن متماسكا ودائما
يقول (س):
رمضان الوحيد اللى قضاه أبويا معانا وأنا كبير حصل خلاف، كنت أنا وأمى نفطر فى يوم علشان نروح نتغدى عند عمتي!!!
ثم يضيف (س) :
من بداية سنة 88 لاحظت أن والدى بدأ يتراجع، ويتقرب مرة أخرى لعائلته المسيحية.
- بعد وفاة الوالدة اتصل والد المريض من أمريكا وأقنعه بالسفر له وبدأت عمة المريض بإقناعه بالدين المسيحى وبدأ يقارن بين القرآن والإنجيل وظل سنة مذبذبا وذهب لكنيسة قصر الدوبارة مع عمته كتمهيد لتنصيره.
-بدأ وقتها فى شرب الخمر (نبيذ وبراندي) بطريقة غير منتظمة لمدة عام.
- آخر 3 شهور(وهو مريض) عاد يصلى الفروض والقيام ويذهب للجامع ويقرأ القرآن بطريقة زائدة.
وهكذا نرى قدر التذبذب الطولى والعرضى، والأهم هو دلالة أن إسلام والده لم يكن صوريا طول الوقت، لأنه لا يوجد ما يلزمه أن يحج مثلا وهو فى السعودية، بل إنه بدا أكثر التزاما من الأم بالمواظبة على الصلاة لفترة ما، ولكن الجانب الآخر -دين أهله- ظل كامنا متحفز اطول الوقت، حتى انقض عليه (من الداخل) وطار به إلى أمريكا مما يؤكد ما ذهبنا إليه من نجاح الوالد فى قلب الصراع طوليا (= حل الصراع بالتناوب بديلا عن المواجهة).
إذن فقد نشأ هذا الشاب وهو مزدحم بكل الاتجاهات من كل جانب.
معلومات أخرى دالة ومنتقاة :
نضيف هنا معلومات إضافية بشكل مختصر حتى يمكننا أن نركز على القضية الأساسية التى قدمنا بسببها هذه الحالة :
1- كان التاريخ الأسرى بالنسبة لوجود أى أمراض نفسية سلبيا (فيما عدا ما تعاطاه الأخ غير الشقيق تعاطيا موقفيا عابرا لا يعتبر ذا دلالة ورثية.)
وأهمية رصد هذا التاريخ السلبى فى هذه الحالة هو إظهار أن كل هذا التفسخ، وهذه الأعراض لم تظهر نتيجة لتهيؤ وراثى سابق، إذ عادة ما نقابل هذه الدرجة القصوى من مظاهر التفسخ فى حالات مهيأة جينيا (وراثيا) لمثل ذلك، ويظهر ذلك فى وجود تاريخ إيجابى للفصام خاصة، ومع أن ذلك ليس إلزاما لكنه احتمال راج يشرح شدة التفسخ عادة، فإذا افتقدنا هذا الاستعداد الوراثى، مثلما هو الحال هنا، فإن البحث عن عوامل “الشق ‘(الفصم) فى التنشئة يكون هاما ودالا، وهذا ما نحاول تقديمه فى هذه الحال.
2- كانت طفولة (س) -على الرغم من كل شيء- سلسة، لم يظهر فيها ما ينبئ بما سيكون، لاسمات عصابية، ولاصعوبات النمو، ولامعالم سلوكية تشير إلى سوء تصرف.
3- كانت الدراسة متعثرة نسبيا (من حيث النسب التى حصل عليها(الابتدائية: 62% دخل مدرسة حكومية. اعدادية: 50%) دخل ثانوى تجاري: رسب فى الصف الثانى الثانوى بمادتين ونجح فى الملحق وفى الصف الثالث قبل الامتحان بـ 3 شهور ترك الدراسة
لكنـنا تأكدنا من أن هذا التعثر لم يكن دليلا على قصور فى القدرات المعرفية أو التحصيلية، بقدر ما كان مرتبطا باهتماماته واهتمامات الأسرة وغياب الوالد، ثم إن المريض كان واسع الاطلاع حاضر البديهة بشكل لا يشير إلى أى صعوبة معرفية باكرة أو حالية.
4- على الرغم من كل هذا الصراع، ومكابدة هذا الجو المحيط، وظهور علامات مرضية باكرة، فقد كان تاريخ العمل -حتى عهد قريب – متصلا، فقد بدأ العمل مبكرا وهو ما زال فى المرحلة الابتدائية، فى الأجازات، وظل ينتقل من صنعة إلى صنعة، ويكتسب مهارات حقيقية بما فى ذلك شغل الأرابيسك، ولذا كان استيلاء أخيه على ورشة الأرابيسك ذا دلالة خاصة
ثم اختلت علاقته بالعمل بعد موت والدته نتيجة للتلويح المتكرر من الوالد – أو من أحلامه- بالسفر إلى أمريكا، وفى نفس الوقت خوفه من دفع الثمن (التحول إلى دين والده، أو الأصح: دين أهل والده).
”بعد موت والدتى سبت الشغل واستنـيت وعد أبويا أنه هيبعتلى أسافر أمريكا وقعدت تقريبا سنة.”
“أبويا كلمنى عشان أسافر أمريكا فاستقلت من الشغل وبعدين ما بعتشى فرجعت أشتغل مع أخويا فى الورشة تانى لمدة شهرين.”
”كل فترة اشتغل فى الورشة مع أخويا أجيب فلوس تكفينى وأقعد فى البيت تانى وكل اللى مسيطر على تفكيرى إنى أسافر أمريكا”
وفى الواقع أنه لم يختبر من حيث قبول الصفقة (صفقة السفرإلى أمريكا) لأن عرضا حقيقيا لم يصله من والده
5-كان التاريخ الجنسى حافلا، لكنه فى النهاية كان غير دال دلالة خاصة، إذ لم يتميز بما يقدم أو يؤخر فى الفرض الذى قدمناه على الرغم من وجود ما كان يمكن أن يكون علامة دالة، فقد ولد بخصية ضامرة مرفوعة undescended atrophic testicle) غير تامة النزول فى الصفن)، وأجريت عملية استئصالها، إلا أن ذلك لم يؤثرفى ثقته بقدراته الجنسية ولا فى كفاءته التى كان يتثبت منها بممارسة العادة السرية يوميا بإفراط، إلا أن هذه الممارسة لم تستمر، ولا تركت أثرا باقيا.
وهنا نتوقف قليلا عند مبالغة فرويد فى تقييم العامل الجنسى الظاهر والخفى، ولا نعقـب أكثر مما ذكرنا
6- ثم إنه تزوج بطريقة تقليدية، لكنها كانت تجربة قصيرة، غريبة (يمكن أن تضم إلى الإشارة السابقة إلى تعدد مشاريع خطوبته ثم فسخها قبل أن تتم)
هى جارتنا وشفتها عند خالتى ومن تانى يوم جواز المشاكل بدأت ما كانتش-بتسمع الكلام- كنت ألاقى حاجات كتيرة ناقصة من البيت واكتشفت أنها بتبعيها تنقل أسرارنا للجيران وكل ما أرجع من الشغل الاقيها مش بالبيت ولما واجهتها اتخانقنا جامد وضربتها راحت لجوز خالتى وقالتله أنى بأشك أنها على علاقة به وطلبت الطلاق بفضيحة فى الشارع وقالت على مجنون ومش راجل وكنا هنروح القسم، وطلقتها”.
خالة المريض قالت: هى شكلها كان مش طبيعى وكانت تقول على نفسها ملموسة وتمشى تتلفت فى الشوارع.
ومن غير الواضح ما إذا كانت هناك علاقة بين هذا الذى جرى وبين تردده فى الارتباط أصلا، ذلك التردد اللذى أشرنا إليه فى تفسيرنا لاندفاعاته العاطفية، وإن كنا نميل إلى عدم الربط.
7- وقد تبين من فحص الحالة العقلية الراهنة، التى جرت، على الرغم من هذا الثراء الهائل الدال على الفصام واحتمال التفسخ، جرت فى جو من التواصل الفحصى Rapport سمح بقدر مناسب من الحوار، والاستقصاء، والفحص والمتابعة مما أمكن معه تأكيد كل ماسبق عرضه من أعراض بالإضافة إلى ما يلي
ا) سلامة الانتباه والذاكرة والوعي.
ب) تسلسل التفكير وترابط الكلام (على الرغم من كل ما سبق).
ج) عدم وجود اضطراب جوهرى فى التفكير (بعد أن استبعدنا الطلاقة والثرثرة باعتبارهما نتيجة للوفرة لا لخلل الترابط الأصلي).
ء) لم تظهر أية هلاوس حالية (على الرغم من كل ما ذكرنا من صور خيالية وتاريخ الهلـوسة سمعية وبصرية دالة سبق تناولها بالعرض والتعليق).
هـ) كان محتفظا بتفاعله الوجدانى مع ميل خاص نحو الاكتئاب.
هـ) كان التشتت على اختبار وكسلر للراشدين شديدا ودالا فى اتجاه التفسخ الفصامى على الرغم من أن القدرات المعرفية -فى مجملها- حول المتوسط.
و) ظهر على اختبار مينوسوتا للشخصية المتعدد الأوجه (أنظر الشكل) سنما يساريا واحدا، دون مبالغة فى أى ارتفاع على المقاييس العصابية، وذلك بعد التأكد من صدق الصفحة النفسية.
وهكذا وجدنا أنفسنا فجأة أمام حالة تكاد تخلو -حاليا – من أعراض الفصام الشهيرة، والدالة على التدهور والتفسخ معا، وعلى الرغم من ذلك فإنها، بكل المقايسس وعلى كل دلائل التقسيمات، لا يمكن أن تشخص إلا فصاما، وهنا نقف وقفة تحتاج إلى إيضاح ومراجعة.
1-إن اللافتة التشخيصية لا توحى دائما بما وراءها، فلا يمكن أن تتساوى هذه الحالة مع حالات أخرى تأخذ نفس الإسم “فصام بارنوي”
2- إن الحالة العقلية الراهنة قد تختلف جذريا مع التاريخ السابق، وإن لم تنفصل عنه
4-إن الاحتفاظ الأكيد بتماسك الشخصية، لم يمنع من الشتات “الطولي;، الناتج عن حدة الصراع كما أظهرنا، وهنا نؤكد على مفاهيم أخرى للتفسخ، وهو ما أسميناه فى مواقع أخرى (مثل :التفسـخ القطاعى Sectorial Disorganization ، والتفسخ الطوليLongitudinal Disorganization، والتفسخ الموقفيSituational Disorganization، والتفسخ المرحلى Stage-related Disorganization، والتفسخ الدوريPeriodical Disorganizations وكل هذه الأنواع هى أنواع من التفسخ متميزة عن بعضها البعض، وبالتالى تختلف فى دلالاتها وفى تناولها، وإن لم تختلف فى مآلها).
5- إن القياسات النفسية لم تتعارض كثيرا مع التقييم الإكلينيكى، وإن كان عدم ارتفاع المقاييس العصابية فى اختبار الشخصية يظل دليلا على عدم التمادى فى استعمال الحيل الدفاعية العصابية، الأمر الذى يشير إلى أن النشاط الذهانى كان طليقا، وحقيقيا، ومفعلنا بشكل مباشر حاضر فى الوعى الظاهر.
وعلى الرغم من شدة التناقض بين الموقف الشعورى والموقف اللاشعورى تجاه المسألة الدينية، إلا أن الحيل النفسية العصابية لم تتناول أيا من الجانبين بالتشويه أو التمويه، فظل الصراع محتدما، وقريبا، ومباشرا، مما سمح لنا بالتفسير سالف الذكر.
خلاصة وتعقيب عام :
1- إن فحص كل حالة “بما هي”، هو ضرورة لا غنى عنها، ولا بديل لها : لا التشخيص، ولا الأعراض، ولا الجمع إلى حالات أخرى، ولا المصاحبات الكميائية، ولا ظاهر الاستجابة الدوائية.
2- إن الإنسان، وخاصة منذ الطفولة، يلتقط كل المواقف الظاهرة والباطنة من حوله، وهو لا يلتقط ما يعلنه أبوه أو ما تعتقده أمه ظاهرا فحسب، وإنما يلتقط كل طبقات وعيهم، كما يلتقط أيضا ما يحتويانه (الوالدان) مما حولهما (وهنا كان كل منهما يحتوى أهله وأهل دينه التعصبى خاصة).
3- إن الحديث عن تحمـل الآخر، والحوار مع الآخر، وتقـبل الآخر، يصبح كذبة كبيرة إذا لم يكن عميقا متجددا مؤلما على طريق نضج طويل،طريق حقيقى، وجوهرى وبيولوجى، وكل ما يقال غير ذلك، استسهالا أو نفاقا، إنما نضحك به على أنفسنا، وأنا لا أنكر فائدة هذا النفاق الجميل، لكنه مسألة قد تفيد فى عقد صلح، أو التوقيع على معاهدة، أو الاتفاق على مناطق نفوذ، لكنها لا تصلح لتنشئة طفل، أو تنظيم بيولوجيا المخ، فالمخ يحتاج إلى معلومات حقيقية تنظم خلاياه، لكن هذا النفاق السطحى غير قادر على خداع بيولوجيا طفل غفل، أو على ملء سريرة كائن بريء. لا يصدق إلا ما هو كائن فعلا وليس فقط ما يقال.
4- إن ثمة فرقا بين انشقاق فى الذات يحدث نتيجة لاستعداد جينى، يمهد لتفكك، فتباعد، فتفسخ، وبين عملية شق تكاد تكون قصدية، ليس بمعنى سبق الإصرار والعمد، وإنما بمعنى وجود تغذية فائقة الشحن فى اتجاهين مختلفين متضادين على وجه التحديد، وبالتالى يتم الشق (الفصم) وكأن معولا باردا يواصل النحر والإبعاد والتشتيت حتى تمحى الوالدية وتصطدم الذوات ثم تتناثر.
5- إن الشق الغائر والمتمادى هكذا لا يأتى من اختلاف مصادر المعلومات بعضها مع بعض (اختلاف دين الأم أو دين أهلها، عن دين الأب أو دين أهله) وإنما قد يأتى من اختلاف دين الظاهر مع دين الباطن، أو اختلاف نوع الإيمان مع نوع الأداء، أو اختلاف إعلان الحب مع تراجع التعصب، كما لاحظنا.
6- إن تناول حالات الفصام لا بد أن يضع نوع الشق، (الفصم) وظروف الشق، وتغذية الشق فى الاعتبار. يعنى لا يكفى أن نعلن أن ثمة انفصاما، وإنما ينبغى أن ننتقل إلى “كيف”، وإلى أى مدى، ثم ماذابعد؟
7- إن موقف الطبيب النفسى الذى يعالج مثل هذه الحالات، مهما ادعى الموضوعية والتسامح يستحيل ألا يؤثر على مسار العلاج، وبالتالى فإن مثل هذه الحالات، إذا تناولها الطبيب بعمق كاف خليقة أن تساعده على استكمال مسيرة نضجه، أو على الأقل أن تكشف له عن بعض نواحى قصور هذا النضج.
8- ليس معنى وجود فروض مفسرة لما حدث من شق وصراع بهذا العنف انتهى الى هذا التمزق أنه ليس للعقاقير درو خاص، ذلك أن مثل هذا التمزق إنما يفشل سيطرة المخ الأحدث لقيادة المخ معظم وقت اليقظة ، فيستثار المخ الاقدم كبديل جاهز ليحل محل الواقع المنشق، ومن هنا على العلاج أن يثبط انتقائيا ذلك النشاط البدائى بعقاقير تعمل انتقائيا على المخ الاقدم، وذلك جنبا الى جنب مع مسيرة التأهيل الضام بمواكبة متحملة الغموض من ناحية، قادرة على اللأم من ناحية أخرى
9- إن للإيمان والدين أبعادا بيولوجية غائرة ، وليست مجرد معتقدات ظاهرة أو عبادات سلوكية محددة وهذه النقطة تحتاج إلى تفصيل مستقل.
[1] – هذا الموقف ‘الثقة فى مقابل اللاثقة’ وصفه إريك إرليكسون باعتباره المرحلة الأولى للنمو البشري، وحين ترجح الثقة على اللاثقة يضطرد النمو إلى المراحل اللاحقة، لكن الإنسان يمكن أن يرتد فى حالة المرض إلى هذه المنطقة (منطقة الثقة*=*اللاثقة)، فيعود التذبذب نكوصا بشكل أو بآخر
[2] – الموقف البارنوى Paranoid Positon هو أمر آخر غير أعراض البارانويا أو مرض البارنويا، وهو موقف يمر به كل إنسان فى فترة باكرة من نموه، وذلك بحسب مدرسة العلاقة بالموضوع، Object relation therory ، وهو يرتبط ببداية تكوين العلاقة بالآخر من منطلق الهجوم والدفاع ‘الكر والفرFight Flight’ وهو لا يعلن عدوانية الآخر فحسب، بل إنه يتضمن شدة الحاجة لهذا الآخر، ولكنهاحاجة خفية هى المسئولة عن الصد والشك والتوجس (وضلالات الاضطهاد والتسميم فى حالة المريض) ، وقد وصف الرخاوى هذا الموقف شعرا كالتالى :
لا تقتربوا أكثر .. إذ أني: ألبس جلدى بالمقلوب، حتى يدمى من لمس ‘الآخر’ فيخاف ويرتد، إذ يصبغ كفيه نزف حي، وأعيش أنا ألمي، أدفع ثمن الوحدة
…… … لكن حياتى دون الآخر وهم، صفر داخل صفر دائر …..، لكن الآخر يحمل خطر الحب إذ يحمل معه ذل الضعف (152)، يتلمظ بالداخل غول الأخذ، فأنا جوعان مذ كنت، بل إنى لم أوجد بعد
…يا من تغرينى بحنان صادق .. فلتحذر، فبقدر شعورى بحنانك: سوف يكون دفاعى عن حقى فى الغوص إلى جوف الكهف، وبقدر شعورى بحنانك: سوف يكون هجومى لأشوه كل الحب وكل الصدق
…….لكن بالله عليكم: ماذا يغرينى فى جوف الكهف، وصقيع الوحدة يعنى الموت؟ لكن الموت الواحد: … أمر حتمى ومقدر، أما فى بستان الحب، فالخطر الأكبر أن تنسونى فى الظل، ألا يغمرنى دفء الشمس، أو يأكل برعم روحى دود الخوف. فتموت الوردة فى الكفن الأخضر، لم تتفتح و الشمس تعانق من حولى كل الأزهار، هذا موت أبشع ]
فنلاحظ هنا كيف أن المسألة ليست شكا صرفا، بل هى حاجة ملتهمة ، وخوف مرعب، وكر وفر، وثقة ولا ثقة، وكل ذلك يتعلق بهذه الحالة ومثلها.
[3] – ظاهرة البصم Imprinting تعتبر من الإنجازات البيولوجية التى سمحت بمحاولة عبورالفجوة بين البيولوجيا، ونظريات التعلم، والوراثة و حتى بعض حيل التحليل النفسي، وقد استعملها الرخاوى ملهمة لفروض صاغها فى أعمال سابقة : دليل الطالب الذكى (سنة1980)، دراسة فى علم السيكوباثولوجى (سنة 1979) ويمكن الرجوع إلى تفصيل ذلك فى موضعه.
نفس الفرض يمكن أن يفسر بعض الممارسات الشائعة فيما يسمى ‘علم الأرواح’ بما فى ذلك التصوير الروحى ممالا مجال لتفسيره هناالآن.