الافتتاحية (1)
ليس كلاما فى السياسة: ولكن ماذا نقول لأطفالنا؟
-1-
لسنا مجلة سياسية …
طبعا….!!!
إذن: لماذ تحفل افتتاحياتنا بكلام كثير فى السياسة, أو فيما يشبه السياسة؟
ولكن هل يوجد تعريف واحد لما هو سياسة, وهل يمكن فصل هم الشخص العادى عن ما هو سياسة؟ وهل يمكن أن يـشفى مريض نفسى -كما ينبغي- ونحن نستبعد من المتغيرات المؤثرة عليه, عامل السياسة؟
خذ مثلا: كيف يستقبل الإنسان العادى جدا, الذى ليس له “دعوة” بالسياسة, كيف يستقبل خبر, ومراسم, ومغزي, وطقوس, ودلالات, موت المغفور له -جدا إن شاء الله- المرحوم جلالة الملك حسين بن طلال بن عبد الله؟ رحمهم الله جميعا وغفر لنا ولهم.
هل هو موت عادى هذا أم موت له معنى وصبغة وآثار تدخل كل بيت فى الحياة اليومية؟
وهل هذا المعنى وتلك الآثار ستؤثر على هذا الشخص العادى جدا(مثل حالاتنا) الذى له ليس له دعوة (خالص) بالسياسة أم لا؟
وماذا فهم أطفالنا-الذين نعمل على تنشئتهم (المفروض يعني!!) بقليل من الاغتراب وكثير من المنطق السليم؟ ماذا فهموا من ذلك الهتاف قبيل تشييع جنازة المغفور له جلالة الملك والجماهير(آباء وأمهات وإخوة هؤلاء الأطفال) تردد: “بالروح بالدم نفديك يا حسين”؟ مع أن الذى كان قد كان.
وكيف نقول لأطفالنا إن الملك يملك ولا يحكم, ثم تحدث كل هذه الهزة عند موت ملكنا المرحوم, ذلك الملك الذى ملأ الدنيا وشغل الناس: ملأ الحياة الدنيا بكل ما يمكن أن تـملأ به الحياة الدنيا, وشغل الناس بكل شيء ونقيضه؟
هذه التساؤلات ليست سياسية, والأرجح, من وجهة نظر هذه المجلة, أنها تربوية وقائية نفسية.
فيا ترى ما هو الحد الفاصل بين السياسة وقلتها؟
وقد كنت أحسب أن هذا النوع من الانفعالات, والأسي, والحزن, والهتاف, خاص بثقافتنا فى الدول التى هى مثلنا (قل: عربية, أو عاطفية, أو بدائية, أو نامية, أنت وما تري) إلا أن هذه المظاهر ذكرتنى -بشكل ما- بمظاهر وداع المأسوف على جمالها ودلالها المرحومة -أيضا- الأميرة ديانا, غفر الله لنا ولها ما أمكن ذلك, وأيضا ذكرتنى هذه الاحتفالية الجنائزية, من منطلق ثالث, بجنازة جمال عبد الناصر – جدا-, الله يرحمه, ثلاث جنازات مهولة: تقول-على اختلافها – شيئا هاما له دلالته, وهو شيء ليس بالضرورة سياسيا, وإن كان لا يمكن أن ينفصل عن السياسة .
إن الموت, ذلك القدر الرائع, ينبهنا إلى موقعنا من الحياة, وفى الحياة.
والحى أبقى من الميت
والموت حق كما أن الله حق
والموت على رقاب العباد
ولامانع أن نذكر محاسن موتانا عقب الموت مباشرة
ثم نذكرمساوئهم بعد الأربعين (أربعين يوما أو أربعين سنة, سيحصل),
أما أحياؤنا فنذكر محاسنهم وهم فى السلطة ثم نذكر مساوئهم حسب موقعهم من السلطة التى تليهم, وكله بعيدا عن السياسة طبعا .
-2-
وبعيدا عن السياسة – أيضا- تمطت أمريكا, وضربت العراق, واهتز العالم العربي, ولا نعرف ما آل إليه معنى كلمة “هزة” فى أيامنا هذه, كما لا نعرف موقع الهزة التى اهتزها الشارع العربى من جسد العالم العربى الذى -مفروض أنه- إذا اشتكى فيه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمي, لكن يبدو أن العالم العربى يتداعى هذه الأيام بالسهر بشكل آخر, فى أماكن أخري, غير التى يقصدها الحديث الشريف, وأن الحمى التى يتداعى بها هى أيضا لا علاقة لها لا بالحمية ولا بالحياة, لعلها الحمى المتوسطية Mediterranean fever مجهولة الهوية.
ثم إنه بعد أن تململ الشارع العربى ململتين-ثلاثة, عاد الضرب يوميا تقريبا حتى كتابة هذه السطور, فتراجع الشارع العربى عن التململ, ربما لأننا تعودنا كما تعود الوتد على الدق فوقه بالقادوم (ولا يقيم على ذل يراد به, إلا الأذلان: عير الحى والوتد), ولابد من مراجعة هذا الشعر الظالم لعير الحي, ذلك أن حمارا أو بغلة لا تقيم على الذل كما نفعل نحن, وقد عانيت قديما وأنا طفل من حمار لنا يقال له الحمار الأزرق – مع أن لونه لم يكن كذلك- عانيت منه وهو يأبى أن ألحق به أذى أو حتى أن أستعمله فى غير اختصاصه(أستعمله ركوبة وهو مختص بحمل السماد) أما تشبيهنا بالوتد الذى يكمل الشاعر وصفه قائلا “..وذا يدق فلا يرثى له أحد” فهو أقرب إلى حالنا الآن, ولا مانع أن نفخربذلك- بأننا أوتاد ميامين -, أما لماذا نفخر بذلك, فهذا ما لا يمكن التصريح به لأنه حديث فى السياسة, كل ما أعلمه أن كل شيء جائز فى عالمنا العربي.
ولكن عندك, أليس هذا كلاما فى السياسة؟
أبدا, والمصحف الشريف ليس المقصود هو السياسة, وإنما المقصود, هو لابد أن يكون -مثلا- من باب التربية النفسية (حلوة هذه !!) وإليكم الدليل على ذلك:
هب أن أحد أطفالنا ممن يشاهدون التليفزيون, و يتطلعون فى صور الصحف أحيانا, هب أن أحدهم قد شاهد ضرب العراق بقنابل الأمريكان, أو منظر أطفال العراق وهم على وشك الموت جوعا وهزالا, وأن هذا الطفل سأل والده (بعيدا عن السياسة طبعا, فهو -مثلنا- إيش فهمه هو فى السياسة؟) سأل والده لماذا يموت هذا الطفل هكذا؟ أو لماذا تضرب أمريكا العراق هكذا؟ فهل يا ترى سيرفض الوالد الإجابة منعا لتمادى الأطفال فى هذا الكلام”العيب”؟ وهل سيكون الرفض نهائيا أم تأجيلا, باعتبار أن السياسة هي”للكبار فقط”؟ وهل سيقبل الطفل هذا الرفض أو هذا التأجيل؟
فإذا كان من واجب مثل هذه المجلة أن ترشد الآباء والأمهات إلى طريقة تربية أطفالهم, فبم ننصحهم بالله عليكم فى موقف كهذا, دون التدخل فى السياسة؟
إليكم بعض الاحتمالات فى شكل حوار محتمل:
1/2
الأب: (يجيب طفله بعد أن تعذر الرفض والتأجيل):
إن هؤلاء الأطفال يموتون لأن هناك عقوبات على العراق.
الطفل: ولماذا يعاقــب الأطفال؟ ألم يكتبوا واجب المدرسة؟ ألا توجد وسيلة لعقابهم غير التجويع والموت؟
الأب: لا, ليس كذلك, إن العقوبات لأن الرئيس صدام حسين غزا الكويت.
الطفل: ومن هو الرئيس صدام حسين؟
الأب: هو رئيسهم.
الطفل: وماذا تعنى “غزا” ؟
الأب: تعنى حارب بلدا شقيقا, وأراد أن يستولى عليه بغير حق.
الطفل: وهم مالهم (الأطفال!!)؟ هل هم الذين قالوا له أن يفعل ذلك؟
الأب: هم عراقيون وهو رئيس العراق,
الطفل: نعم نعم, ولكن هم: الأطفال؟ هم مالهم؟ هل لهم الحق أن يكونوا غير عراقيين ولم يفعلوا؟
الأب: أهلهم لم يفعلوا.
الطفل: لم يفعلوا ماذا؟
ويمكن للقارئ أن يتصور بقية الحوار كما يشاء, ويمكن أن يؤلف حوارات أخرى تسأل عن هذه الطائرات التى تجوب سماء العراق كل يوم وتضرب أهدافا مدنية كل يوم, وإليكم هذا الاستطراد من واقع مسئولية هذه المجلة التربوية النفسية: يواصل الطفل أسئلته.
الطفل: يعنى ذنب هؤلاء الأطفال أن لهم رئيسا إسمه صدام حسين؟
الوالد: قضاؤهم أو ذنبهم, لا أدري
الطفل: وماذا أفعل أنا وإخوتى وزملائى فى المدرسة إذا فوجئنا أن رئيسنا هو صدام حسين وليس حسنى مبارك؟ ربنا يخليه.
الأب: لا…. مستحيل.
الطفل: لماذا مستحيل؟
الأب: لأن عندنا ديمقراطية وانتخابات ومجلس شعب.
الطفل: ولكنى سمعت أخى الأكبر يقول إن لهم مجلسا مثل الذى تقول حضرتك عنه, فقد شاهدت أخى يضحك يوما وهو يتابع التليفزيون, وسألته عن المسلسل الذى يضحكه فقال لى كلاما مثل الذى قلته حضرتك حالا, ثم إنه أضاف أن الغياب عندهم فى مدرسة المجلس أقل من الغياب عندنا, ولم أفهم, لكننى نظرت إلى ما يضحك أخي, فوجدت أن المتكلم فى المجلس الذى نسيت إسمه كان يصيح ويتكلم مثل مدرس العربى والدين لدينا فى المدرسة, وقد سمعته يقول هذه الكلمة التى ذكرتـها حضرتك.
الأب: أية كلمة ؟
الطفل: الكلمة التى ستمنع صدام حسين أن يحكمنا, والتى ستحمينى من أن أكون مثل الأطفال هناك, فلا أموت جوعا.
الأب: هل أنا قلت أن هناك كلملة ستحمينا؟
الطفل: أيوه, الدينماطية.
الأب: دنيماطية فى عينك, ديمقراطــــية.
الطفل: يعنى ماذا ؟
الأب: ماذا جرى لك يا بني؟ ديمقراطية يعنى انتخابات.
الطفل: آه, مثل سوريا؟
الأب: يعني.
الطفل: يعنى ماذا؟
الأب: الرئيس حافظ الأسد غير الرئيس صدام حسين.
الطفل: كيف طلع هذا هكذا, وذلك كذلك؟
الأب: لا أعرف.
الطفل: فمن الذى يعرف ؟
الأب: لا أعرف.
الطفل: أنا خائف.
الأب: وأنا كذلك.
فما واجب هذه المجلة -بعيدا عن السياسة – كى تساهم فى إزالة خوف هذا الطفل, بل خوف هذا الوالد؟ وهل إذا ما حاولنا إزالة خوفهما نـعتبر أننا تخطينا الحواجز وتكلمنا فى السياسة, أم ماذا ؟
2/2
ثم يمكن أن يوجد والد آخر أكثر ضجرا وأكثر حسما, فيرد ردا غاضبا وهو يسب صدام حسين ويصفه بما يستحق, وما لا يستحق وأكثر, ولكنه يتمادى فيعلن رأيه فى أمريكا وأنها هى التى “توز” صدام على خراب بيته وبيت جيرانه وبيتنا بالمرة, وبالتالى فإن اللوم -من وجهة نظر هذا الأب الآخر- ينبغى أن يقع على أمريكا أولا وليس كله على صدام, ثم يغلب الحماس هذا الأب الثانى وهو يجيب ابنه الذى سأله نفس الأسئلة فيصرح وكأنه “وجدها”: إن سبب موت أطفال العراق هو أمريكا, وكلينتون, فيستمر الحوار فى الناحية الأخرى على الوجه التالي:
الأب: إنه كلينتون (ثم بصوت منخفض) إبن الكلب .
الطفل:كلينتون “بتاع” مونيكا؟
الأب: “بتاع”إيه يا ولد ؟
الطفل: “بتاع” مونيكا.
الأب: مونيكا من يا ولد؟
الطفل: “بتاعة كلينتون”, بيلي.
الأب: يا صلاة النبي, وهل تسميه أيضا باسم التدليل, من قال لك هذا الاسم؟
الطفل: أبلة فى المدرسة, أصل يظهر أنها تحبه.
الأب: من التى تحب من؟
الطفل: أبلة تحب كلينتون, بيلي.
الأب: وأيضا بيلي؟ الله الله, طيب خلاص.
الطفل: خلاص ماذا؟ أنت لم تقل لى لماذا هو إبن كلب, مع إن شكله حلو, و”أبله” تحبه, فلماذا ضرب العراق, وجوع الأطفال مع إن شكله حلو هكذا, ولماذا تحبه أبلة وهو يجوع الأطفال؟
الأب: لأنه إبن كلب.
الطفل: لو سمعتك “أبلة” سوف تزعل.
الأب: تزعل أو تذهب فى ستين داهية.
الطفل: أنا آسف, لن أقول لها, أنا آسف.
الأب: أنا الذى ينبغى أن أعتذر لك.
الطفل: هل مازلت خائفا مثلى يا والدى ؟
الأب: بصراحة ..؟
الطفل: نعم … بصراحة.
الأب: كما تري.
وأذكر نفسى أن هذه افتتاحية مجلة ثقافية, وليست مسرحية, فأحاول أن أفصل جرعة السياسة, من جرعة التربية, من جرعة النفسية, فلا أستطيع بشكل حاسم.
3/2
فقد فرح الطفلان السالفا الذكر بمقتل الجنود الإسرائليين والضابط والجنرال تبعهم كما شاهدوا المناظر فى التليفزيون, وقال كل منهما على حدة لوالد كل منهما على حده, كلاما نقتطف بعضا منه هنا فى حديث أحدهما
الطفل: ها نحن نحارب مثل الرجال, أليس كذلك يا والدي؟
الأب: نعم نعم ..
الطفل: فلماذا لم نحارب هكذا من زمان ما داموا يموتون هم أيضا هكذا؟
الأب: لا أدري
الطفل: أريد حين أكبر أن أدخل كلية حزب الله.
الأب: حزب الله ليس كلية, الكلية التى تعنيها إسمها الكلية الحربية.
الطفل: ولكننى أريد أن أحارب, وخريجو حزب الله يحاربون, ويقتلون الإسرائيليين الذين يقتلوننا.
الأب: إن شاء الله, إن شاء الله
ثم تمادى “التفاؤل الحذر” لصالح حلم الطفلين حين استرد شباب الجامعات وغير الجامعات قرية أرنون اللبنانية “زحفا” على الأقدام, ففرح الطفلان, وتحاورا مع والديهما حول ذاك, فاجتزأنا هذه اللقطة من أحدهما مع أبيه:
الطفل: يبدو أنه ليس ضروريا أن أدخل كلية حزب الله ولا الكلية الحربية لكى أنتصر هكذا, يكفى أن “أزحف” مخلصا جدامع هؤلاء الشباب الحلوين, وهكذا أحارب الشيطان فأنتصر عليه.
الأب: طبعا تحارب الشيطان, (ساهما) تحاربه بالتقوى والإيمان
الطفل: هذا الزحف على هذه القرية إسمه التقوى والإيمان ؟
الأب: هه ؟ ؟ !!
الطفل: أقول: هذا الزحف على هذه القرية إسمه التقوى والإيمان ؟
الأب: طبعا طبعا
الطفل: وحضرتك أليس عندك تقوى وإيمان؟
الأب: ماذا تقول يا ولد , عندى طبعا
الطفل:فلماذا لا تزحف مثل الشباب الذين استردوا “أرنون”
الأب: أنا أ زحف…. أنا أزحف فعلا, أنا لا أتقن شيئا قدر الزحف (ثم ينتبه).
إمش يا ولد الآن , إمش الله يخيبك
وهكذا نتعلم من هذا الوالد كيف نتجنب السياسة , فإذا سألنا سائل عن موقف هذه المجلة من الجاري, يمكن أن نرد عليه مثل هذا الأب, “إمش … الله يخيبك ” ؟ هذا ليس تخصصنا, وأتذكر حين كنت أكتب عمود “تعتعة” فى المأسوف عليها صحيفة “الدستور”, ولا مؤاخذة, أننى اقترحت فى أحد مواسم الحج أن يتجه المليون حاج ونصف بعد الحج مباشرة شمالا إلى فلسطين غير مسلحين بأى شيء إلا التقوى والإيمان (مثل الذى وردا فى حوار الطفل مع أبيه) وأن يموت من هذا المليون ونصف – من الحجيج – يموت مليون مسلم بالتمام والكمال (شهداء طبعا), فيتبقى فى العالم مليار مسلم إلا مليون, لكن يكون النصف مليون المتبقى قد استرد فلسطين مثلما استرد شباب لبنان قريتهم, وليس على الحكومات العربية والإسلامية إلا توفير الماء والخبز وبعض الجبن دون إلتزام بالتدخل لحماية هذا الحجيج من القصف الجوى المحتمل بأى سلاح من الذى يشترى بمليارات الدولارات كل ثانى يوم, كان ذلك كلاما فى السياسة فى مجلة سياسية, فهموا منه أننى لست آخذا بالي, وحين أغلقوا الدستور فرحت أننى غير مضطر لمثل هذا الشطح السياسي, واختبأت فى هذه المجلة فنحن نتكلم هنا من منطلق علم النفس التربوي, و باعتبار أن الوقاية خير من العلاج, متجنبين بكل حرص أن يساء فهمنا ويحسب قارئ كذا أو كذا أننا نتكلم هنا فى علم الزحف السياسى أو أننا نتدخل فى شئون الحكام الذين يقومون عنا بكل السياسة طول الوقت.
وأمنع نفسى من التمادى فى تصور أسئلة أخري-من الطفلين هما هما- عن عبد الله أوجلان, وعن تركيا, وعن كوسوفو, وعن إعدام الضابط الفلسطينى الذى قيل إنه اغتصب طفلا, إعدامه خلال أربع وعشرين ساعة, استجابة للمظاهرات وتحقيقا للعدل السريع المفتخر, الذى يقوم بتوصيل المتهم إلى حبل المشنقة قبل أن تنتهى المظاهرة مثل الوجبات السريعة التى توصل للمنازل, أمنع نفسى عن كل هذا خوفا من أن أكتشف أننى أستدرج القارئ إلى مستنقع السياسة,التى ليس لنا بها دعوة, إذ أن المطلوب من مثل هذه المجلات هو أن تعمل جاهدة على أن يدع الناس القلق ويبدأون الحياة, أما كيف؟ فهذا أمر تقوم به شركات الدواء, ومحطات التليفزيون, فماذا تبقى لهذه المجلة بالله عليكم بعيدا عن كل هذا, (عن كل ماذا؟).
فنقول عن هذا العدد:
يخرج هذا العدد متأخرا, وفى الأغلب سوف يوزع بنفس الطريقة الأقرب إلى العشوائية, وسوف يشكو القراء الذين عرفوا أننا عاودنا الصدور, كما سوف يلومنا قراء آخرون حين يعرفون أننا عدنا للصدور بطريقة سرية ولم نخطرهم, إذ كيف نخطرهم والمجلة لا تصلهم أصلا, (أنظرخطاب القارئة التى عثرت على عدد قديم من أعداد سنة 1986) المهم, نأمل أن نصلح أنفسنا بالمثابرة جدا, والتعلم من الأخطاء, ونطمع أن يتحملنا القراء قليلا أو كثيرا:
يشرف هذا العدد – بعد إلحاح يتناسب مع المقاومة- أن يبدأ الزميل الصديق الطبيب الأديب (ولو سابقا) أ.د. أحمد شوقى العقباوى الإسهام فى الكتابة التى وعد أن تكون منتظمة, فنفرح لأننا نجحنا أخيرا أن نسجل رائع مشافهاته على ورق يبقي, وأننا نساهم فى توصيل أفكاره إلى من يهمه الأمر ممن لا تتاح لهم فرصة الاستماع إلى هذا الفكر المنظم والأصيل والمفيد ونحن أحوج ما نكون إليه, والبداية -أول الغيث- دالة: الطب النفسى عبر الثقافات,
ثم يواصل الدكتور عادل مصطفى عطاءه فيقدم الجزء الثانى من ترجمة كتاب رولو ماى وإرفين يالوم عن علم النفس الوجودى , ونحن لا نتحمس لهذا الفكر بشكل تخصصى فحسب, إذ أننا نأمل أن يصل إلى الناس كافة ليصحح ما يشاع عنه وحوله , فهو فكر يمكن أن نتعرف من خلاله ليس على ما هيتنا , بل على مسئوليتنا فى تخليق عالمنا حقيقة وفعلا, ثم يضيف د. عادل لمحة مشرقة عن اللغة العربية: لزوم ما يلزم .
ويتوسط العدد مقال د. أحمد صبحى منصور عن التأويل (فى النصوص الدينية) فلا نكتفى بالشكر والدعاء والفرحة والترحيب, ولكننا نتساءل كيف يمكن أن يصل هذا الفكر المستنير إلى أصحابه؟ وخاصة: إلى سلطات الفتوي, والتربية والتعليم؟ عن طريق مجلة مثل هذه تصدر بالصدفة , و توزع أحيانا , وتختفى كثيرا؟ إننا أحوج ما نكون إلى نشر هذا الفكر الذى يعيد للغة العربية احترامها , ويعيد للنصوص الإلهية (القرآن خاصة) قدسيتها, ويعرفنا لغة الخطاب الإلهى من الخطاب الإلهى نفسه وليس من الأوصياء عليه, ونكرر أن هذا الفكر الناقد المسئول هو باب مشرق نحرص عليه, حتى لو كان لدينا -أو لدى بعضنا,مثل كاتب هذه السطور-تحفظات ضد موقف د.منصور من التصوف الإسلامى كما ظهر فى مقال هذا العدد, وأيضا ضد تحيزه الواضح للمعتزلة, لكن هذا الاختلاف ذاته هو ما نفرح به أكثر- ونظن أن الدكتورمنصور يفرح به كذلك-وإلا فكيف ندعو الآخرين للاختلاف إذا كنا لا نتحمله نحن؟
وتواصل سهير صبرى برق ومضاتها, فننشر لها ومضتين أخريتن: واحدة عن هذه المنح “الفندية”” كما أسمتها, والثانية عن موقف المرأة والرجال يتلونون حولها حسب حاجاتهم وما تمثله لهم وليس حسب ماهى وما تمارسه من حرية ومسئولية, وتأتينا ومضة ثالثة من بعيد, من الزميل د.أسامة عرفة الذى سبق أن نشر فرضا مبدعا فى هذه المجلة عن الهوية الجنسية , وهو يحدثنا فى ومضته السريعة هذه عن الكلمة الطيبة وكيف يكون أصلها ثابت وفرعها فى السماء من منطلق النبض البيولوجى الحيوي, ونؤكد فى كل مناسبة أن مثل هذه المحاولات المبدعة هى أبعد ما يكون عن ما يسمى التفسير العلمى للقرآن, ونحب أن نكرر أنها استلهام شخصى من نصوص إلهية دائمة الحيوية متجددة العطاء, محترمة حركية الزمن, مرنة المضامين .
ثم نقدم فى باب حالات وأحوال حالة تتناول فى وضوح هذه الإشكالة الهامة فى مسألة حوار الثقافات والأديان والأجيال, لكنها لا تتناول ذلك من مدخل التنظير العقلي, أو الادعاء التسامحي, أو الدعاية الفجة للوحدة الوطنية الخطابية دون ممارسة, وإنما من مدخل حالة إنسانية تدفع ثمن تعصب خفى للأهل على الطرفين, تدفعه من واحديتها الممزقة, إذ تنشق هذه النفس -بفعل فاعل- حتى تتفسخ وتتناثر وتنهار فى ما يقال عنه “فصام بارنوي”, فنحاول من خلالها أن نرسل رسالة تتضمن المعنى العميق للتسامح الناضج الواجب عند الطبيب النفسى والمعالج النفسي, وكافة الناس.
وعلى ذكر هذا التسامح نبدأ من هذا العدد إعادة قراءة د. إيهاب الخراط (رد الله غربته) فى مواقف مولانا النفري, فيقرأها من جديد -كتابة- د.الرخاوي, آملين أن يعتبرها القارئ حوارا متصلا بين مختلفى الأجيال والديانات, وأيضا أن تحل لبضعة أعداد محل النقد الأدبى الذى نأمل ألا يحرمنا سائر النقاد والقراء من الإسهام فيه إن رأوا أن هذه المجلة تليق بعطائهم.
ثم يتناول باب “مثل وموال” المؤسسة الزواجية وكيف تظهر فى الوعى الشعبى (فى الأمثال خاصة), ولأن الزواج يتجلى فى أشكال متعددة فى الأمثال الشعبية نتصور أن هذه مجرد بداية يمكن أن تمتد فى نفس الموضوع لعدة أعداد.
أما المقتطف هذا العدد فهو من مجلة تصدر للأطفال, فننشر موقفنا من بعض هذا الذى تنشره هذه المجلة, وهو يكاد يقترب من التشويه المتعمد لقيمة النظام وهيبة الدولة عند أطفالنا منذ نشأتهم ناهيك عن تشويه المجلة لقيم تربوية علمية بطريقة لا تحملك حتى على الضحك الفاتر.
ونعيد قراءة لفظ ومصطلح “الإدراك” لنفاجأ بحاجتنا القصوى إلى ثورة لغوية, وإعادة نظر طول الوقت فى الألفاظ التى نستعملها فى العـلم وغير العلم.
أما ضيوفنا -أصحاب البيت إن شاء الله- الأدباء والشعراء المبدعون, فهم أكثر كرما علينا من العدد الماضي, ونرحب فرحين بهذا الشاعر الرقيق العميق معا, عادل عزت, وبكل من شرف هذا العدد بعطائه: د. عيد صالح, وياسر عبد الحق نصار, وعبير نصر
وأخيرا نعتذر عن قصور باب المقتطفات العلمية, كما لا نوعا, ونحن نشكر الزميل د.أحمد حسين, ونأمل فى إسهامات أوسع فى الأعداد القادمة من كل من يهمه الأمر, لتشمل المقتطفات مواضيع متنوعة لها فائدة تطبيقية ما أمكن ذلك.