الافتتاحية (2)
الحوار: مرحلة؟ أم طريقة ؟
أ. فريد زهران
أوضحنا فى معرض حديث سابق كيف أن ازدهار الحل الفردى وانهيار العمل الجماعى قد أدى إلى انحطاط عام فى أداء المجمتع, لكنه أدى فى المقابل إلى ازدهار حالات من التحقق الفردي, والملاحظ بصفة عامة أن قاطرة النجاح الفردى لم تستطع أن تجر المجتمع إلى أوضاع أفضل, ذلك أن الحقبة النفطية مستمرة, وتجريم العمل الجماعى هو الآخر مستمر, وأخيرا فإن الترويج للعمل الفردى وتقديسه مستمر, وليس معنى وجود شروط موضوعية تحبط وتعوق كل المحاولات الجماعية أن السباحة ضد التيار أمر مستحيل, ولكننا نلاحظ أن الافتقار كلية إلى تشخيص دقيق للوضع يجعل من كل المحاولات – المضنية – التى تبذلها جزر النجاح للنهوض بالمجتمع محاولات فاشلة و ‘سيزيفية’ الطابع لأنها تبدأ من فرضية مخادعة تفترض أن النجاح الفردى حالة جماعية, والواقع أن انسياق مجموعة من الأتباع وراء ‘الألفة’ أو حتى التفاف مجموعة من المريدين حول أحد ‘الأقطاب’ لا يمكن اعتباره حالة تحقق جماعي, والبدء من هذه الحالات الفردية على اعتبار أنها نواة جماعية يتضافر مع فكرة أخرى مخادعة ترى أن وجود نواة صلبة تعض على الحقيقة بالنواجذ سيفضى حتما إلى نمو متعاظم لهذه النواة عبر تكاثر ذاتى يشبه طريقة النمو ‘الأميبية’ والطريف أن عدم قدرة المئات من هذه المحاولات الأميبية على تحقيق النمو المنشود لم يلفت نظر أحد, والأكثر طرافة أن الذين خدعوا لبعض الوقت بقدرة هذه النواة أو تلك على أن تكون بداية عمل جماعى يأخذ طريقة الأميبيا للتطور قد اكتشفوا بعد عدة تجارب قصيرة: أن أى نواة قد بدأت – لمحض صدفة ما- وعلى رأسها عدة أقطاب قد انتهت بالانقسام الانفراطى وليس الانقسام التكاثري! ونجح هذا الانفراط فى إصابة المستبعدين بالإحباط ودفعهم إما للتقاعد أو لخلق نواة جديدة, وهكذا استمر التشظى فيما استمرت البيانات المعلنة تؤكد فى المناسبات المختلفة وفى نبرة خطابية رنانة ‘سلامة خط حزبنا’ وتتهم من يلاحظ أن النواة لا تتعاظم بل تتشظى بأنه قليل الكفاحية فى أحسن الأحوال أو لعلها تتهمه بأنه كافر أو خائن فى أحوال أخرى بالذات, إذا ما تكشف الأمر عن خلاف ما, ذلك أن كل شئ من الممكن قبوله فى إطار التسامح وسعة الأفق التى يعلن عنها ما عدا الخلاف فى الرأي! من الممكن مثلا قبول البلادة أو انعدام القدرة والموهبة ومن الممكن حتى قبول انعدام الكفاحية, بل ومن الممكن أيضا قبول سلوكيات أخلاقية معيبة, ولكن الأمر الجلل والخطير الذى لا يمكن قبوله هو الخلاف.
الخلاف عند السواد الأعظم من المتحاورين هو مرحلة, لا أكثر, وقد أوضحنا فى معرض حديث سابق كيف أن الحوار الدائر الآن – أو بالأحرى المحتدم – فى الواقع المصرى ليس هو الحوار الذى ننشده أو ندعو إليه باعتباره الوسيلة الوحيدة القادرة على إحياء العمل الجماعي, فقد أوضحنا كيف أن الحوار المحتدم هو نوع من التراشق المبتور بين طرشان, ولا يستند هذا التراشق على ثقة أو احترام, بل ولا يستند فى الكثير من الأحوال على اعتراف متبادل بالأحقية فى الوجود حيث لا يوافق البعض أصلا على وجود طرف أو عدة أطراف فى دائرة الوجود المشروع فما بالك بالتحاور معهم!!
وبعيدا عن كل ما تقدم فإن القلة القليلة التى تقبل الحوار وتدخله فى ظل درجة مناسبة من الثقة والاحترام المتبادل وتسمع للآخر بترو و تشتبك مع آرائه بموضوعية تعتقد هى الأخرى أن كل ذلك الأداء الحوارى الراقى هو مجرد مرحلة لا أكثر, إما أن تفضى إلى استقطاب الآخر – أو بالأحرى تجنيده – أو تنتهى إلى قطيعة وافتراق, ومن ثم فإن الأداء الحوارى يصبح مجرد مناورة تكتيكية لاستقطاب الآخرين, ويحضرنى فى هذا الصدد أن جماعة المسلمين – والمعروفين إعلاميا باسم التكفير والهجرة – كانوا يعتبرون أن أعضاء الجماعة فقط هم المسلمون, وما عداهم من الناس سواء كانوا مسلمين اسما بالطبع من وجهة نظرهم – أو مسيحيين أو حتى ملحدين – هم كفار لم تصلهم الرسالة بعد, ومن ثم فينبغى التحاور معهم بصدر واسع ونفس طويل, فإذا لم يفض ذلك إلى استقطابهم وجب قتالهم وأحل دمهم, أما من كان عضوا بالجماعة – أى مسلم من وجهة نظرهم – وتركها فإنه يصبح مرتدا وينبغى قتله! ولا يخفى على فطنتك – عزيزى القارئ – أن جماعات أخرى ترتدى أزياء ليبرالية وقومية وماركسية تتصرف بذات الطريقة رغم اختلاف ‘المصطلحات’ المستخدمة عند كل فريق.
الحوار – إذن – حتى عند القلة التى تمارسه بصورة مقبولة يستهدف استقطاب الآخر أو على الأقل يستهدف الوصول المشترك إلى اتفاق ما, ومن ثم فإن الحوار هو مرحلة, أو وضع مؤقت, إما أن يفضى إلى اتفاق أو ينتهى إلى قطيعة, والناس فى هذه الحالة ينقسمون تبعا لطول نفسهم أو صبرهم لكنهم يتساوون من حيث قناعتهم بأن للحوار سقف هو الوصول إلى اتفاق, يعتبر بمثابة جائزة الحوار وخاتمته المرجوة.
من جانبنا نحن نرى أن الحوار ليس مرحلة على الإطلاق ومن ثم فهو ليس وسيلة فحسب, صحيح أن الحوار قد يعالج المشكلات المتفجرة وقد يقى من انفجار بعضها الآخر, ولكنه – عند مستوى آخر من فهم وظيفته وأهميته – لا يعتبر وسيلة للوصول إلى غايات محددة, وإنما هو أداة صالحة للاستخدام طوال الوقت, فى اللحظات الحرجة, وفى لحظات الهدوء, لإقناع الآخر, أو الوصول معه إلى اتفاق مشترك, وقبل كل هذا للتعرف على هذا الآخر من خلاله هو وبدون وسطاء, وبعد كل هذا لوضع وتعديل القواعد والأعراف التى يمكن من خلالها إدارة الأمور فى ظل وجود الخلاف.
الذين يسعون للاتفاق فحسب, ويتخذون من الحوار مطية لتحقيق ذلك, تراهم يتعجلون الاتفاق ما أمكن حتى لو أدى ذلك لطمس الخلاف أو تجاهله, لكنهم ينقلبون إلى أعداء إذا ما عجزوا عن تحقيق غاياتهم, وعلى العكس فإن الذين يتمنون من الحوار إحياء العمل الجماعى يدركون أن الحوار قد يفضى إلى اتفاق بين البعض, وقد لا يؤدى إلى اتفاق بين البعض الآخر, ويدركون أن الحوار ليس وسيلة فحسب, بل إنه أداة أيضا حيث تستطيع من خلاله تنظيم وإدارة الخلافات فضلا عن تعميق التعرف المتبادل وإنجاز ما يمكن من اتفاق يتم ترجمته إلى عمل مشترك, ويجدر بنا أن نؤكد هنا فى النهاية مثلما أكدنا فى البداية أن الحل الفردى يستمد مقومات وجوده الراسخ على أرض الواقع من مبررات موضوعية عميقة, وليس من المتوقع أن تنتهى هذه المبررات على المدى المنظور, فنحن لم نتجاوز بعد الحقبة النفطية – رغم انهيار أسعار النفط – وتعظيم المشروع الفردى – فى مواجهة أى مشروع اجتماعى حتى ولو كان العمل الفردى سياسة قديمة بدأت مع يوليو 1952 وحفرت فى أعماق الإنسان المصرى خوفا وعزوفا عن العمل الجماعى بالذات, وهى سياسة استمرت ولا زالت مستمرة بدرجات متفاوتة, ولهذه الأسباب كلها لا تبدو محاولة بناء عمل جماعى من خلال جزر النجاح الفردى المتناثرة أمرا سهلا, لأنها سباحة ضد التيار, تبدأ عكس التصور ‘الأميبي’ من أن هناك عشرات المحاولات والجزر التى يمكن لها أن تتضافر من خلال الحوار فى عدة مشروعات جماعية تستطيع أن تجر الوطن من مهاوى التخلف إلى قلب العصر.