لوحات منال القاضى
يحدث أحيانا
(أن نرى)
يحيى الرخاوى([1])
هذه الطبيبة الشابة الرقيقة تلتقط بآلة إبداعها المصورة (كاميرتها) تلك الصور التى تجهزها (تحمضها) كلماتها التشكيلية، فتنساب على الورق حتى نكاد نرى ما تكتب ماثلا أمامنا فى لوحات حسية، وليس فى حروف مطبوعة، ولعلها هى التى انتقت تشكيل الغلاف والصورة الداخلية الإضافية”الأم” للفنان عدلى رزق الله.
فى اللوحة الأولى “إيقاعات” تنتصب أمامك أدغال إفريقيا شخصيا، “كم هى موحشة وبعيدة” مع أن “الصورة” قد قدمتها لنا مروضة فى شكل سيدة إفريقية استأجرت بدروم العمارة التى تسكنها الراوية، وعلى الرغم من- أو بسبب كل من – غموض المرأة الإفريقية وهدوئها وسحرها غير الأسود، فقد حركت أدغال شخوص اللوحة بتجليات متنوعة:
فراحت الأرملة (أرملة الدورالأرضي) تقلب فى ذكريات الأدغال التى اختطفت منها المرحوم حين كان يعمل هناك “رغم أنه مات هنا بجوارى وفوق سريره”!!
وتدفقت إيقاعات الجسد “تحضر” المخلوقات الخيالية الأكثر واقعية من شياطين الإنس والجن.
وتتكثف اللوحة عيانيا بشكل حى يعلن أننا دخلنا إلى عمق طبقات الوعى الأعمق فهذه الدقات الموقظة الإحيائية تشهر فى وجهنا “ارتجافة الشيء الصلب لو ذاب” وتقدم لنا “البدن حين يتفتت ويسيل ويتحد بإيقاعات مجنونة” ثم “تتوالى الدقات، فتدور الأجساد”كفقاقيع تتفجر وفقاقيع تتشكل “.
وهكذا تفوح رائحة الأدغال من البدورم الذى كان خاليا قبل أن تحل فيه هذه الإفريقية التى تبدو النقيض الكامل لأم الراوية التى “تتفحص فترينات الشانزلزيه وتتابع خطوط الموضة… وربما زارت اللوفر لتتباهي.”.إلخ.
وفى نوبة إفاقة حادة تقفز الراوية إلى الأمام (الذى هو “الآن” وليس وراء حجب المستقبل) إذ تعرف كل شيء، وتكتشف كم أن داخلها/داخلنا، هذا المنسي، أو المقهور، موحش وبعيد.
وإذ ننسحب من هذه اللوحة لابد أن نتذكر كيف نسينا طبقات وعينا الأعمق، وجوبا، وكأننا انفصلنا عن جذورنا التى تحاول منال أن تذكرنا بها.
وفى اللوحة الثانية “الخاتم” يتوالى التصوير العينى وهو يتكثف ما بين التلاحق والتبادل والتداخل، فالطفلة الخادم تتابع خيال السيد/الأسياد: “يتراقص خيال أحدهم فوق الحائط المقابل، فتعرف (البنت) أنه يقوم أو يجلس أو ينحني..”.
وترى “كاف”” (حين تغمض عينها): ثلاثة أصابع دخانية تتشكل من طرف البايب”.
وحين يعودالنورالذى انطفأ بالصدفة تضبط(كاف) أصابع الرجل “وقد تشكلت كاملة من الدخان الذى ينفثه”.
وحين تنظر(نون) إلى الوجه الذى تحادثه “تركز النظر فوق الوجه المظلل” وكأنه البديل الأكثر واقعية من الوجه الأصلي.
ويتأكد حلول الظل محل الأصل حين تتساءل نون (بين قوسين) عما إذا كان “الرجل المظلل.. ينفث مزيدا من الدخان”
ثم قرب نهاية سلسلة هذه اللوحات المتحركة تحل العيون على صفحة اللوحة الأخيرة حتى تكاد تملؤها: “تتحلق من حولها العيون، وإلام ينظرون” ويأتى الرد جاهزا(من البنت) فينقلب الناظرون إلى منظورات إذ تختزلهم (البنت) إلى “أصابعهم الطويلة والسمينة والقصيرة”
وهكذا تكتمل لوحات “الرؤية” التى ظلت تدور حول خاتم البنت الغامض ذى الدلالة الـشديدة الخصوصية التى لا يعرفها ولا صاحبة الخاتم نفسها:” قالت: رسوم مجرد رسوم” ردا على سؤال سيدتها (نون) عن نقوش الخاتم.
وهكذا ندلف إلى “الداخل”هذه المرة، ندلف من خلال خاتم يتحرك بثقة مثابرة شارخا جدارالكبت وكأنه فص الماس القادر المدبب وهو يشق زجاجا سميكا بيقين مخترق، فنضطر أن “نري”مثل نون
“..كانت برودة المعدن تتخللني، ونقوشه المحفورة بدقة وعمق تشعرنى بعزلة، وارتعش داخلي”.
ونحن حين، “نري” أو يحدث أن نرى فإننا نضطر أن “نري” داخلنا من باب لا ندرك كيف فتح، لكنه ينفتح، نفاجأ بهذه “العزلة” التى تصرخ فينا أن هذا الذى هو نحن خارجنا ليس تماما ما هو نحن حقيقة وفعلا..
وفى “المارسيدس” يبدأ التركيز على ما هو لوحات مرئية بأن تـعرض أدوات الرسم ابتداء، فها هى سيدة المارسيدس (التى أورثها إياها زوجها،مع سائقها).“.. يستهويها الخط الأبيض المتصاعد من طرف سيجارتها المحترق، يتمايل الخط، ينثني، فيغريها بنفس أعمق- تدورالعجلات فتدور بكفها حول الكتلة الدخانية وتحاول أن تخترقها بسبابتها. تكتب ألفا، تكورها وتشكلها باء وتشكلها تاء”.
ثم “…وتشكلها وجها وذراعا” .
إلى أن “..ترتجف الكتلة وتلتحم معها فى عناق”.
حتي”..تتفرق الذرات الدخانية وتتلاشى فى منتصف القبلة”.
وهكذا تواصل منال، من خلال مرآة المرسيدس الوارثة التى تنحت عالمها من كتل ودوائر دخان سيجارتها، ترسم هذه اللوحة بالسرعة البطيئة الرائعة.
وتظل هذه الصورالدخانية أقوى وأبقى من كل الواقع الماثل بكل تفاصيله، من بائع الفاكهة الحقود (فى طيبة)، ومن المرأة السمينة الغافلة (فى يقظة)، ومن رجل المرور الآمل فى رشوة (دون رشوة)
وتتولد قبلة تعلن حاجة الراكبة إلى همسة حانية، وإحاطة رقيقة لكنها داعمة، وتجهض القبلة مرة وتكتمل أخري، وتستحضر الراكبة واهب القبلة الدخانية “هذا الوهم الجميل، تشتاق إليه فتكمله..” ونكتشف أن هذه التشكيلية الوارثة الأرملة المرفهة ليست مجرد وارثة مرفهة، بل إنها تكاد تكون كتلة أخرى من الأحاسيس (الدخانية الأقوى من الواقع)،
وإذا كان مدخل الداخل فى اللوحة الأولى هو أن نكتشف أن البدرون ليس خواء كما نتمنى لنأمن، وإذا كان المدخل الثانى فى اللوحة الثانية هو نقوش الخاتم الغامضة، فإن المدخل إلى الداخل فى هذه اللوحة هو تشكيلات الدخان وهى تقلب أعمق الحاجة إلى الرؤية والاحتواء الآمنين، يتجسد ذلك بكل صراحة وهى “..تفكر فى نصف القبلة الطفولية والأحلام البسيطة الملونة، وتمسح خطا من الدموع بلل وجنتيها”.
“..خلق الله الدموع لتسقط؟”
ثم تأتى اللوحة المسماة باسمها الأصلى وليس بالاسم الحركى “قصة”، فاسمها “بورتريه” ويتركز الوعى هذه المرة على تشكيل الشفتين بوجه خاص، وتشعر أن اللوحة تتركز فى شفتين: شفة عليا وشفة سفلي، وكل ما عدا ذلك أرضية أو هوامش، “..ولكن رسمة الشفتين، زاوية الفم، ارتفاع العليا وانخفاضها، امتلاء السفلي،تجتذبها مرة أخري، وتقنعها ألا ذنب للشفتين فيما تصورته ضحكة أربكتها”.
(كانت قد سمعت صوتا يتردد عبر”دلفة” الشيش المواربة يشبه ضحكة مفاجئة)
وتظل منال ترسم اللوحة بتصوير بطيء، وتجسد المشاعر فى الشفتين، ولاتقتصر على شفتى اللوحة بل تتحدث الشفاه من كل زاوية وكأنها صوت مجسم (ستريو)، فهذا الرجل الذى حملق فى وجهها المظلل (راجع حكاية “المظلل” فى اللوحة الثانية”الخاتم”) “..حركة شفته العيا جعلتها تفكر أنه انثنى من كثرة الضحك أما الثانية فكانت متآكلة عند المنتصف، يبدو أنها حاولت منع الضحكة أو لم تشترك فيها “.
وتظل الشفتان تتحاوران لتعلنا أن الوحدة الظاهرية لا تكفى أن تؤمن “الواحدية”النابضة بكل الوجود، فهذا الشق بين الشفة العليا والشفة السفلي، واستقلالهما عن بعضهما البعض، هذا الشق بلغته وهو ينبهنى إلى هذا الانشقاق ما يقابله من الانشقاق الحيوى النفسي.
“..ولكن الضحة أفلتت فى بساطة رغم أنف السفلي”.
وتتقمص التشكيلية (ميم) الشفتين، فتستوعب الانشقاق المحاور “..انطبقت شفتاها بنفس الطريقة المرسومة..” ثم “اهتزت الشفتان أمامها والسفلى تحاول الاستدارة …….والعليا تحاول توريطها فى ضحكة…”.
و فجأة، نكتشف أن الانشقاق لا يقتصر على إعلان تعتعة ذوات داخلية، وإنما يتكشف عن ذوات مستقلة(منطبعة أو واعدة) فإذا بالشفة السفلى تكتمل على الرغم من التعبير “لو اكتملت”، وإذا بهذه الشفة السفلى رجلا يعرف كيف يقتحم، و”يغوص -بقبلته- داخل جلد رقبتها الرخو..فى قبلة ممتدة..” وهو لا يبالى بغيرة الشفة العليا وهو يتحرك بطريقة صارمة “تؤكد أنها لرجل” فلا تملك إزاء هذاالحضور الواضح المحتوى إلا أن تسبل عينيها.
ومازالت اللوحات تشير إلى أن النصف الأخفى هو الأقوي: البدروم فى “إيقاعات”، والنقش الداخلى فى الخاتم والشفة السفلى فى بورتريه، الداخل أقوى على الرغم من غموض رموزه وقلة حيلته فى التعبير المباشر.
ثم يحضرنا “سالم” فى لوحة طازجة يتجسد فيها الفرض الذى بنينا عليه هذه القراءة النقدية:
فكأن سالم -شخصيا- ليس إلا كتلة متراصة من عيون حادة الرصد فائقة الحس فى آن، ويبدو أن الكاتبة قد جعلتنا فى هذه اللوحة ننظر بعيون سالم مباشرة، وليس من خلال عيون ريشة منال الأنيقة القادرة.
“..كان سالم يدقق النظر فى وجه كل إنسان يمر أمامه”، (وهل فعلت منال فى كل لوحاتها غير ذلك ابتداء؟) وحتى “سلامو عليكو” كان يقرأها فى الشفاه أكثر من أنه يسمعها صوتا يقال.
ومع تذكرنا تركيز الكاتبة على الشفاه (ولغتها، وحوارها، ودلالاتها) فى الـلوحة السابقة فإن سالم أكد هذا الأصل، لكنه أضاف إليه تركيزا موازيا، وليس بديلا، على العيون، “..سلامو عليكو” تخرج خافتة وقد لا تخرج،… ولكن العينين ثابتتان، لا تتزحزحان فى وسعهما عن الخط”.
ويركز سالم. كما فعلت صاحبة البورتريه على حركة الشفاه واحدة واحدة “..ارتجافتها، تدويرة السفلي، ابتعاد العليا..” ولم تكن الشفتان هنا منفصلتان عن بعضهما البعض “واكتفاؤها – الشفة العليا- بزمة خفيفة تشارك فيها السفلى استياءها” ويبدو أن هذا التصالح قد سمح لـ”سالم” أن يجعل الشفاه طريقا إلى التعبير عن العينين الأكثرحضورا فى هذه اللوحة “،تعبيرا -مثلا- “..لنقل ما أرادت العينان، نقله بصورة صريحة”، ثم يعلن موقفه التفضيلى بشكل مباشر” العينان أكثرقسوة وإيلاما”.
وسالم عامل خرسانة بسيط يتنقل من سقالة إلى سقالة بين السماء والأرض، لكنه قد يكون له مطلب متواضع من ساكنة الدورالثانى ولو “مجرد السلام- سلامو عليكو”، لكن الخوف منه (إنكارا أو سوء ظن) يصل إلى إلغائه أصلا فتموت الكلمات التى يمكن أن تعلن من هو أو ماذا يريد: أخرست(الكلمات) قبل أن ينطق بها”.
ثم يتعمق هذا الشعور بالرفض”ماذا لو صفع باب فى وجهه؟”
الشـفاه هنا ليست قاسية لأنه يمكن أن يقولها بعض ما ينتزعه منها بالرغم عنها مما هو فيها، لكن صفق الباب ليس له تفسير آخر،الصد- الرفض- الإنكار !!
وهذا الشعور بالرفض، بالصد، بالإنكار هو أقسى ما يمكن أن ينال إنسانا (إن حقا وإن تخيلا)، فتتضاءل معه الذات، وتفقد الحياة مبرراتها، ومع ذلك يحاول سالم تجاوز ذلك بالاستغراق فى عمله فوق السقالة”كنقطة محلقة ناجية من السحق “، إلا أنها نجاة آملة لا أكثر، فقدعاد ليدرك “..أنه نقطة بعيدة علقت فوق لوح خشبي” وهنا تغلب القوة الجاذبة إلى إنهاء الحكاية (الحياة) برمتها ، حتى لوبدت نتيجة ربكة وليست قصدا يائسا، وحين يستعيده بسيونى إلى الحياة “يسلم له بدنه “فيولد جديدا من رحم إنسان التقطه بعد السحق.
ولا ولادة جديدة إلا عقب نهاية أكيدة، وهذه الخبرة التى تسمى فى العلاج المكثف “مأزق الانتحار” suicidal impasse هى العلامة الأكيدة على نقلة النمو المحتمل الذى تختلف معه نوعيات الوجود بكل تجلياتها فى الإدراك والمشاعر والمواقف والوعي، وهذا هو سالم يمر بهذه الخبرة الأكيدة:
فهو -بعد أن استعاده بسيوني- لم يعد هو، راح يتأكد من وجوده ويؤكده من داخله، من حقه فى الحياة والاعتراف، من مسكة بسيونى التى تختلف جذريا عن صدفة”سلامو عليكو” التى تقال عفوا أو حرجا أو لا تقال، وحين يصب رى الوجود الذاتى من الداخل نتيجة ولادة جديدة من رحم حان لا يعود الوجود معتمدا على رضا الآخرين وإقرارهم بوجودك، فهذا سالم وقد أصبح شخصا “..يتقبل أن يصفع باب فى وجهه”، دون أن ينسحق.
وحتى لو لم تحمل العينين إليه ابتسامة ينتظرها فإن للقسوة (المهتمة) حضور إيجابى رغم ما قد تحدثه من آلام، فهى تحمل اعترافا ما، فهو يهتز لها أو ينزعج منها وكل ذلك من مظاهر حياة، وبالتالى فقد “وقف يبكى ويضحك..ويخبط كفيه” إذن فقد عاد يمارس نبضات الحياة
ونؤجل الحديث عن القصة التالية “التوهان” فلنا فيها رأى خاص يمكن أن يكون استثناء لموقفنا من بقية المجموعة، بشكل سوف يأتى تفصيله فى نهاية القراءة،
ونمضى فى تسلسل اللوحات لنلتقى بـ “سلمي” وهى تعايش نوعا من الرؤية الشديدة الاختراق حد القتل، فحين تلتقط عيناها منظر العجوزين اللذين يعبران الشارع كموميتين أثريتين وتتساءل عن سر تشبثهما بالحياة وهما جثتين تتحركان لا أكثر، نشعر معها أن الرؤية قد أصبحت عبئا خطيرا، ومسئولية مضاعفة، لكننا نفاجأ أن التقاط مثل هذا الموت المتحرك إنما يحيى موتا آخر أخفى على صاحبه موت. هو مبعث الحياة بشكل ما، فقد أرعشتها رؤية الجثتين المتحركتين حتى “..فكرت متى عاشت مثل تلك الرعشة؟”
إن هذه الرؤية الناقدة للاجدوى الحياة ليست وليدة حكمة المسنين أو إحباط المجربين حتى تنازلوا عن أمل الاستمرار، فسلمى لم تترك مرحلة الطفولة إلا منذ عام، بل إنها، ورغم ما يعتريها كل أربعة أسابيع، مازالت طفلة،
وحين تنشط الحياة فى هذه السن فتخلق “أحمدين كثيرين” (جمع أحمد). تتعارض هذه الدفقات الحيوية مع الموت المتجسد فى الداخل والمسقط على العجوزين، وهو تعارض ظاهرى فحسب، ذلك أنه يـبقى على دفع الحياة زخما نابضا هو المسئول عن مواجهة يقين الموت الذى مومأ(جعله مومياء) العجوز حتى سقطت خصلة بيضاء من شعره فدفستها سلمى تحت شالها (!!)
وفى انتظارها لـ”أحمد” وهى تحتضن كتلة شعر المومياء المتحركة يعلـن التصارع الرائع الحافظ على الاستمرار “.. أنه ذا قوة غامضة ويعرف سر الأعماق المتصارعة”.
ولا تنسى منال لغة الشفاه بالذات وبالتصوير البطيء، وإحكام خطوط اللوحة، حتى فى هذه الصورة المهتمة بالداخل أكثر “..كان الرجل العجوز يحرك شفتيه، والمرأة تبتلع ريقها فى صعوبة تكتم أنفاسها،
” دققت سلمى فى حركة الشفتين فلاحت أنها تتطابق مع خطوات المرأة نفس الارتجافة..إلخ”.
”كان العجوز يحرك المرأة بشفتيه، ويتحكم فى انحناءة رأسها، ارتجافة أصابعها “.
“حاولت أن تتفادى النظر إلى العجوز ففاجأتها شفتاه اللتان تتحركان فى بطء وتنسجان خيوطا رفيعة “.
ومع استمرار”عدم حضور أحمد”، الذى قد لا يكون قد وعد أصلا، يظل التساؤل حول ماذا يجعل نبض الناس يخفت؟ ماذا يموت فى الناس بمرور الوقت (فى انتظارأحمد أو فى انتظار ما لا يأتى أيا كان)، وهل كان لهذه العجوز يوما.
“..أعماق تبدلت فى لحظة سابقة” مثلما تبدلت مشاعر سلمى وهى تنتظر وتنتظر حتى لم تعد تفكرفى من تنتظره “..لقد تغير داخلها…
“..وكيف تتغير الدواخل”؟
هل هذا هو الشئ الطبيعي؟
ثم أستسمح القارئ أن أبتعد قليلا عن الفرض الأساسى فى هذه القراءة وأنا أقرأ له لوحة “الدعوة” وذلك لأن هذه اللوحة لا تركز مثل الأخريات على تفاصيل “الرؤية الحسية”بنفس القدر فهى لوحة رقيقة ذات أبعاد وألوان وخطوط لاتتركك إلا وأنت ماثل أمامها بكليتها “الآن” على الرغم من امتدادها على طول واحد وعشرين عاما منذ “…دهشتى الأولي..وجلد طفولتى الطري” وحتى إرهاصات نقلة النضج – أو الفتور- النوعية.
فأكتفى بالإشارة إلى ظهورالشفتين فى دلالة حادة، وإن كانت متواضعة،
“…. أتحسس خدى كلما أوحشتني، لأتعرف على ملامح شفتيك”
وأيضا مازالت الشفة السفلي: سفلي، وهى هنا شفة زوجة الأب التى راحت تحملق فى جسد البنت و “…كانت تقوس حاجبيها وتضغط على شفتها السفلي”.
وهذه اللوحة لا تركز على دورالشفتين والعيون مثل لوحة سالم أو حتى سلمي، وإنما تفوح منها رائحة الأم مخترقة كل سنين ومسافات البعد، حاملة كل عبق الحنين.
ومثلما تساءلت سلمى عن كيف تتغير الدواخل؟ تعلن صاحبة الدعوة أنها تلاحظ -منزعجة فى الأغلب- تسرب الدهشة “..أفتح عينى وأرفع حاجبي، وأذكر نفسى بكل خطوات الدهشة، ولكنى أتوقف فى المنتصف من دون أن أندهش، كلما مرت السنوات يا أمى أفقد مرونة أصابعي، وقدرتى على الدهشة!”
إلا أن هذا الفقد ليس هو النهاية، فكاتبة هذه الدعوة تنبض بسطا وامتلاء بلا توقف أو استعجال، وهى تعرف معنى هذا النبض وتنتظره ولا تفرض وصاية عليه، فهى تتركنا فى النهاية قائلة لأمها ولنا “..أحس أننى أخطو نحو نقطة تحدث مستقبلا، نقطة سأقف عندها طويلا، سأغير من سلوكي…وصديقاتى والولد الذى أحبه “.
وهذا الانتظار من هذه الزاوية ليس دليلا على توقع انطفاء، ولا هو وعد بقفزة نمو، لكنه وعى بحتم التغير
و أختم مشاهدتى لهذه اللوحة بالتذكرة بتفوقها وتجاوزها للمشاعر التى شاعت عن الأمومة المضحية، والأمومة المتفانية، والأمومة العطوف، تجاوزت كل هذا لتقدم لنا استقبال الأمومة باعتبارها حضور دافئ، ورائحة مخترقة، وإحاطة واعية، وتواجد “فى المتناول” رغم بعد الشقة وتمطى الزمن.
وهذا كله جيد وجديد.
لم يبق لدينا إلا لوحتان (غير القصة المؤجلة)، واللوحتان فيهما طب وطبيبة، ومع أنهما تشكيلان رائعان وأنا لى تحفظ شخصى على ما يكتبه الطبيب الأديب فى مجال المرض والطب، لكننى لاحظت أن الكاتبة الطبيبة لم تستسلم لجرعة غير مناسبة من معلوماتها الطبية، بل جعلت حدسها الأدبى يقودها سلسا جميلا، هكذا:
اللوحة الأولى (المتبقية): “حين بكت” تبدأ بقصيدة شعر قصيرة جدا صاخبة، “..يحدث أن تستلقى الوساوس على أطراف مدينة تتلون بلون قرمزى وتختبئ فى جمجمة عجوز(ليست كبيرة جدا)..”
إلى أن قالت: مقطع آخر من القصيدة
“لا يهم، فداخل الجمجمة أبواق تتربص، وقطط سوداء تنشب حوافرها فى جانب العمق الخلقي، وفم يلوك بقايا البقايا، وجسد يتشبث بأطراف السياط.”
وتمضى هذه اللوحة فى رسم كل أنواع الوساوس التى يعرفها الطب النفسى (من تكرار لكلمات، وبطء بلا مبرر، ووهم بنسيان، ورهابات بلا معني، ومقاومة فاشلة طول الوقت جنبا إلى جنب مع تمسك بها عنيد)، يجرى كل ذلك فى رأس امرأة عجوز رائعة، ومنال -وهى الطبيبة النفسية التى كان يمكن أن تبهرها تفسيرات مهنتها- لا تتمحك فى البحث عن تفسيرات رمزية، أو تحليلات فرويدية، بل تمضى باللوحة مباشرة لتعلن وظيفة الوساوس وحاجة المرأة إليها “فلتصحبنى وساوسى دائما، ولتؤنسنى ولو فى جوف مقبرتى الزرقاء”.
وهى تبين عن طريق متسحب كيف أن هذه الوساوس أصبحت بديلا عن “الموضوع” بعد أن مات “الموضوع”
“تجلس هى وزوجها دائما فى نفس الغرفة، فى نفس الركن البارد، بينهما سنوات صامتة،وجسد تجمد فيه الرغبة، ولسان تحجر على كلمات مبتورة
وهذا هو الذى انتهى بها للاعتراف بأنها “..ولكنى لا أود شفاء، لا أريد لهذا الصمت الموحش أن يصحبنى فى النهاية، ولجسد زوجى المتحجر أن يكون رفيقى الأوحد”،
فالوساوس -كما تقدمها هذه اللوحة بجدارة منسوجة – هى امتلاء والسلام ما دامت الحياة ما زالت “ليست رخيصة إلى حد أن نبرحها”وهى أيضا “..ليست غالية كى نتمسك بها”.
هذه قصيدة جميلة نرى من خلالها الوجه الآخر لوظيفة ما نسميه أعراضا مرضية وقد رسمتها منال حاضرا متعدد الطبقات متداخل الألوان فى سيمفونية سلسة تخلصت أنغامها من كل الوصاية الطبية.
أما اللوحة الأخيرة، فالطبيبة فيها ليست نفسية (والحمد لله) وهى لوحة مازالت،ترسم أمل طبيبة شابة وهى تتابع انهيار هرم من السطوة والجبروت تحت طرقات موت يتسحب، ولكنها تتابعها من موقع به جرعة فائقة من “الذاتوية”، فهى صاحبة مصلحة عند هذا المسئول الكبير على فراش الموت وهو، زميل والدها القديم فى دراسة ابتدائية (فى الأغلب) والصوة المتآكلة أبلغ شاهد على ذلك وكف والدها يربت على كتفه فى زاوية منها، لكن ها هو الموت يسحب الأرض من تحتها، أو يكاد، وهى -فى استغراقها فى متابعة زحف الموت والإحباط- لم تفلت لحظة لم تتقن فيها وضع الخطوط الدقيقة والألوان المتسقة التى تكمل اللوحة، شكلت كل ذلك بطريقة توحى ولا تحسم، تثير ولا تغلق، سواء وهى تصف بنات المحتضر، أو وهى تتساءل عن دلالات المشاعر والمواقف والدموع التلقائية والمصنوعة والصرخات الفزعة والمنغمة، كل ذلك بنفس الدقة التى تابعناها فى كل لوحات المجموعة.
لكنها لم تركز لا على الشفاه ولا على العيون ولا على الروائح، مثل سائر اللوحات، واستبدلت بذلك حوار الخلجات ورعشات الأصابع واهتزازات الجسد.
أما نهاية قراءتى هذه فهى القصة المؤجلة المروية من مستشفى أمراض عقلية، وهى -على أحسن الفروض- تقدم صورة ناقدة لسلبيات سوء ممارسة مهنية، وكنت أتمنى -وهى بكل هذه الحساسية والقدرة الإبداعية- أن يسمح لها وعيها اليقظ وعلمها المتنامى -حتما- أن يتعمق ما ورد فى هذه القصة من تجاوزات علمية، وفنية اعتدنا أن نعيب على كتاب السيناريو والقصص أنهم لا يستشيرون فيها أصحاب الخبرة والعلم، فما بالك إن كانت الكاتبة طبيبة نفسية سرعان ما سيقولون لها “وشهد شاهد من أهلها”.
وأكتفى ببعض الأمثلة الموجزة فيما يلي:
فتعبير التوهان (عنوان القصة) هو تعبير ملتبس علميا وأدبيا معا، فالتوهان غير الشعور بالتوهان الذى يصف “محمد إبراهيم” ويدفعه أن يمسك “أنطوان” من قميصه، وهذا وذاك غير التوهان الذى ظهر فى نهاية القصة والذى دل على الاستغراق فى الذات دون ما حولها.
وجهاز الكهرباء ليس له أزيز يعلو.
وجلد رقبة العجوز-مهما كان عجوزا- ليس هو المعرض للتمزق مثل أوتار مفصل الكتف مثلا، بل إن ارتخاء جلد رقبة العجوز يجعله مرنا لدرجة تحول دون التمزق.
وليس الممرض هو الذى يغرز المخدر فى الذراع (مهما كان).
فلماذ يا منال أحرجت نفسك بهذه التفاصيل مع أن بالقصة ما يستحق مما يليق بريشتك القادرة، بل إن الدور الأحدث لهذا العلاج الرائع (المسمى خطأ الصدمة الكهربية) المنظم لإيقاع المخ قد تساعد مثل هذه الرؤية المتعجلة والقديمة فى تشويهه والتخويف منه دون مبرر؟
وأكتفى بهذا العتاب لأستدرك قائلا:
إن تراجع محمد إبراهيم ليستغرق فى “توهانه” يجعل هذا التوهان-كما ألمحنا- أقرب إلى الانسحاب للداخل منه إلى التوه (فقد القدرة على التعرف على الزمان والمكان..إلخ) وهذا ينقذ القصة بشكل ما، لكنه لا يرتقى بها لوحة تشكيلية رائقة مثل الأخريات، على الرغم من أنها تنتهى نهاية رائعة حين يقارن محمد إبراهيم بين جلد رقبة العجوز وهيكل أمه ثم يحتج على موت أمه “أم كتب على أمه وحدها أن يكون لها نفس أخير؟” وأخيرا تنقذ اللوحة منى هذه الصرخة الطفلية الجميلة المؤلمة فى آن وهى تسمح لنا أن نلمح من خلالها معنى توهانه الانغلاقى وهو يصيح “لا أحد مثل أمه”.
”وابتعد عن الحائل الخشبى وبكي”
لكن الصفحة الأخيرة تعود تجهض هذه الإشراقة الرقيقة والكاتبة تعتذر للطبيبة (ميم)، بأنه لا ذنب لها، وكأن المسألة جريمة لا علاجا ناجعا رغم كل الشائع، ونعود ثانية إلى مواجهة التجاوز فى التفاصيل وهى تحكى من جديد عن أزيز الجهاز المزعج، وكيف كان محمد إبراهيم يزر جفنيه طوال الجلسة الكهربائية شفقة بنفسه؟
أهكذا؟
مرة أخرى لماذا هذا يامنال وأنت التشكيلية الرائعة فعلا؟
[1] – يعتذر الكاتب عن مواصلة “أصداء السيرة الذاتية” هذا العدد، لظروف، ويعد بالعودة طبعا.