قصتان
السيد زرد
سفر
كنت كمن هو خارج لتوه من تجربة حب فاشلة. تحمل سحنتك سيماء الأسي، وتتأبط تذكارات حبك المهيض. تقودك قدماك إلى أطراف المدينة، أو ربما إلى حيث النهر ينحدر خانعا معتكرا. تنظر نحو فلول العاشقين، التى راحت تلوذ بالخلاء، بدهشة وربما باستهجان.
وإذ تعبث بقطع النقود الصغيرة بجيب بنطالك، تتعثر يدك فى تذكرة القطار، فتخرجها لتطالع الموعد المدون بها، لكأنك نسيت!.. باق من الزمن ساعاتان. تبسط الدقائق، وتروح تخطو عليها ببطء.
****
أى حزن تحمله القطارات للمفرد الغريب! وأى وحشة تبثها القطارات إذ تـصفر مزمعة الرحيل! ها أنت تتأهب للرحيل، بلا مودعين أو حقائب. تتلكأ قرب الحاجز تفتش فى الوجوه، علك تعثر على من يتعرفك، فيؤنسك أو يحاول إثناءك عن المغادرة.
هو الرحيل، فانزع عن القلب الرجاء، وتبوأ مقعدك من القطار المسافر، وتلفع بأى وجه ترضاه، حتى ولو كان وجه الخارج لتوه من تجربة حب مهيض.
****
لست نائما ولا متيقظا، إنما أنت مسافر، فى قبضة القطار وعوائه المكلوم الذى يفتت منك الروح، فتتشظى على مقعدك، وتسقط عنك كل الوجوه، لتمكث شائها بلا ملامح أو أفكار، فقط متشبثا بمقعدك المسافر مناوئا الرحيل.. كم من الوقت انقضى والقطار يسير بك؟ هل يمكن أن تكون محطتك قد فاتت ولم تتبينها؟ ليتك أخبرت أحدا من الراكبين بوجهتك. لكن ـ حقا ـ ماهى وجهتك؟
****
ليل، ومطر منهمر، وقطط مبتلة تموء بوهن، ولمبات صوديوم ممضة.. أى استقبال يليق بوصولك. سرعان ما تبدد النفر القليل من المسافرين الذين حطوا رحالهم معك، وتبقت الشوارع خالية، تومض فيها أعين عربات تولول إطاراتها فى المنعطفات.. ترى كم يحتاج جسدك من الوقت كى ينفض عنه ارتجاجات القطار، ويأتلف مع برودة الجو خارج المحطة؟
****
الآن، وقد استعدت بعضا من قواك، تجهد فى التعرف على المدينة. يفجؤك أنك تعرفها، ويداخلك الظن بأنها ذات المدينة التى غادرتها. ويلتبس عليك الأمر تماما إذ تتعثر يدك ـ بجيب بنطالك ـ فى تذكرة القطار.
طلب حضور
ببطء ورفق، دفع الباب فانفتح، دون مقاومة أو صوت.
لم يسفر تحديقه عن رؤية شئ : كانت الظلمة سابغة. حاول جاهدا أن يكظم اضطرابه. تقدم خطوة للداخل. تلاشت بضع طبقات من الظلمة، لكن ظل التحديق لا يسفر عن رؤية.
تسمـع. لم يكن سوى ثمة طنين خافت، لا يدى مصدره: أهو داخله أم ركن من أركان الغرفة التى اجتاز توا ـ لأول مرة ـ عتبتها. استنفر كل الحواس. فقط قشعريرة ما خفية ألمت بظاهر جلده، أنبأته بوجود حياة أخرى تتنفس وإياه هواء ذات الغرفة.
كان قد استوثق جملة مرات من صحة العنوان الذى حفظه عن ظهر قلب لكثرة ما طالعه فى الأيام السابقة، فى الإعلان المنشور بالصحف. كان الإعلان يطارده، يضغط عليه بإلحاح طالبا منه سرعة التوجه إلى عنوان محدد. لم يذكر فى الإعلان اسمه، لكن كل البيانات المنشورة تقطع بأنه هو الوحيد المقصود دون أى التباس أو احتمال للخطأ.. تاريخ الميلاد، محل الإقامة، المهنة، طول القامة، الوزن، لون البشرة، العادات اليومية، الجراحة التى أجراها فى صغره.
لم يحدد الإعلان اسم المعلن أو السبب وراء طلب حضوره، كما لم يذكرـ على خلاف العادة ـ رقم تليفون يمكن الإتصال به.
فى ابتداء الأمر، حاول التجاهل، رغم الدهشة التى اعترته والفضول الذى احتواه.
لكن مع التكرار، أخذ الإعلان يستلفت أنظار الآخرين، وكان المقربون منهم ـ بدورهم ـ يستلفتون نظره إليه. كان لابد من وضع حد للقلق الذى أخذ يتناهشه ويتفاقم إزاء تكرار الإعلان وإلحاحه.
تقدم للأمام خطوة واجفة. حاول أن يتنحنح أو يسعل. لم يسمع سوى الطنين، هم بأن يخطو، فانزلق، ليجد نفسه ـ فجأة ـ منطرحا على الأرض، وقد حدقوا به وشلوا حركته، وشرعوا يجردونه من الثياب.