فن الصدفه وجميل شفيق
محمد حمزة
دائما ما تبدى لنا جمال الطبيعة واقعا حيا محددا تماما ليس بحاجة إلى برهان ومع هذا فإن معظمنا لا يخطر له كم من المفاجآت يمكن أن يكشف عنها مفهوم (جمال الطبيعة) ومدى الصعوبة فى إدراك هذا المفهوم، كمفهوم تاريخي، والحق أنه لا يكفى أن نعرف أن جمال الطبيعة قادر ـ شأنه شأن الاعمال الفنيه – أن يمارس تأثيرا معينا على الانسان وأننا لا نضيف جديدا حين نقول إن جمال الطبيعه حافز قوى لممارسه الفن.
ومن خلال باب الفن يدخل الانسان إلى الطبيعة. ليجد نفسه ويدعو الطبيعة “أما” له ويقودنا ذلك إلى طرح هذا السؤال الذى يبدو بسيطا لأول وهلة : هل للجمال وجود موضوعى أى وجود مستقل عن الإنسان أم أنه لم ينشأ أصلا إلا من ممارسة الانسان الاجتماعى وأنه لا وجود له على الاطلاق خارج هذه الممارسة خارج سيكولوجية الإنسان خارج الفن؟ تلك هى نقطه الخلاف الحادة التى يفترق عندها ممثلى وجهتى نظر متعارضتين فى علم الجمال الوجهة المثالية والوجهة المادية.
إن العالم يتبدى لعين الفنان كما هو عليه حقا ولهذا فإن الفنان فى أكثر الاحوال يكون أقرب إلى الحقيقة من بعض الفلاسفة لجمال الطبيعة وتذوقها والافتتان بها وهنا نجد الفنان جميل شفيق يختار أشياء من الطبيعة ويرى فيها شخصيا “نوعا من الجمال الجذاب”يعود بنا إلى عام 1960 عند مشاهدتنا تجمع الطحلب Moss Gatlherer (Ramasse Mousse) للفنان الفرنسى “جان دوبوفيه Jean Dubuffet وهو عباره عن تمثال من الحجر وهى قطعه حجر رآها الفنان بالصدفة واختارها من بين الأحجار العديدة لتصير أحد أعماله، وهى التى يطلق عليها مصطلح “فن النحت بالصدفة Found Sculpture هذا الفن الموازى لفن الأشكال الجاهزة “Ready Madesس للفنان دوشامب Duchamp. ولكنها لا تنفصل من فن دوبوفيه الخاص المسمى بالفن الهجمى Art Baut وهكذا اختار جميل شفيق بعض أعماله النحتية المقامة فى “مركز الجزيرة للفنون” بالزمالك، ولكنه أضاف إليها بعض الرسومات من تأملاته الخاصة، وهكذا أضاف جماليات تشكيلية أبدعها مع جماليات الطبيعة الأم كى توحى ببعض مشاعر وإحساسات الفنان والتى صاغها نتيجة تأملاته للطبيعة، وخصوصا لأجزاء الأشجار، ومقاطعها، حيث يظهر اللحاء الخارجى مرتبطا بالنسيج الداخلى مع ظهور العقد المستديرة والالتفاف الطبيعى حولها مع قدره الفنان فى الفصل بين ألوان القطاعات وتأكيدها، مما حقق لنا العديد من التماثيل المتكرر فيها اشكال العيون البشرية والأجساد الشبة عارية والأسماك الموحية التى تعد من عناصر الفنان الهامة والتى شاهدناها من قبل فى العديد من معارضه.
وعن طرح البحر الذى اختاره الفنان جميل شفيق من شواطيء البحر المتوسط والأحمر، وعلى مدار حوالى عشرة سنوات يجمعها بدون هدف محدد لتوظيفها أو افكار يتوجه بها إليها حيث يقول الفنان: فقط كنت أجمع ما يلقى به البحر إلى وتجذبنى إليها مثلا: أحدى القطع الخشبية وما أغرب ما لقيت وما شاهدت من أخشاب قد يبلغ عمر بعضها مئات الاعوام ربما تحطمت أو تحللت ونالت منها ملوحة المياه فلم يتبق منها سوى سطح صلد متأكل منحوت بقوة أو علقت به بعض القواقع أو أثرت فيه الطحالب البحرية فتهالكت وظهرت بها اشكالا وأشياء مغايرة عن أصولهاوعناصرها الاساسية.
هذا يذكرنى بالفنان البريطانى “بول ناش Paul Nash ” (1889 – 1946) ” المهتم بالأشكال والأشياء الطبيعية والمؤمن بالمذهب “الأرواحى Ainimism”، هذا المذهب الذى يؤمن بحيويه المادة والاعتقاد بأن كل ما فى الكون حتى الكون ذاته له روحا أو نفسا، إنه المبدأ الحيوى المنظم للكون ـ وكان الفنان ناش أحد الرموز السوريالية البريطانية الذى حرك مشاعر الفنانات السورياليات هناك وخاصة الفنانة البريطانيه إلين آجار Eileen Agar بصوره عميقة حينما كان يحضر لها بعض الأحجار الغريبة اللافتة للأنظار من شاطيء البحر فى دورسيت Dorset بانجلترا وعاجلا ما وجدت تلك الأشياء طريقها داخل اشكال الفنانة آجار الاوبجكت الأولى حيث ساعدها فى إرساء قواعد إدراكاتها للطبيعة كما تتخيلها
إن تحول الفنان جميل شفيق من الرسم بالحبر الشينى الدقيق لأشكاله وعناصره ثم إلى الرسم والتلوين على أسطح الورق المكرمش المتعرج حيث تأخذ السطوح تكسيرات منخفضة أو مرتفعة لإبداع أشياء مطلقة محتوة تخيلات عالية معبرة عن أفكاره الشاعرية المرهفة فى تلك الأشياء الاوبجكت المتجمعة بالصدفه من الأخشاب الطبيعية ومن طرح البحر على الشواطيء، هذا التحول جاء بعد زيارته منذ خمس سنوات إلى رومانيا واشتراكه هناك فى سمبوزيوم النحت حيث أنجز عملا نحتيا رائعا وذلك بتوظيفه 150 قطعه حجرية جمعها من شواطيء نهر “توسكانا” وصاغ منها قطعة فنية على شكل سمكة فى تكوين جذاب متناسق لم يطلق عليه جميل شفيق عملا نحتيا بقدر ما يعبر به عن صياغة ذاته فى قيم فنية متماسكة لأنه ينشد الطبيعة ويعشقها ويستدعى أدواتها ويجعلها تؤدى كل دور يمكن أن تقدمه.
إن عالم الفنان الطبيعى عميق الجذور داخل التقاليد والاعراف الكلاسيكية المدعم بأبعاد أسطورية. حيث نرى داخل أشيائه الاوبجكت إشارات، وتلميحات غير مباشرة للنشوء والنمو والتلاشى والانحسار. للتطور والاضمحلال المندمج والمتوحد مع وعيه الحس الاسطورى للزمن والتاريخ. كما كان تراث أجداده الكائن داخل كيانه يدفعه للتعبير عنه فى أشكاله لنرى بعض ملامح “وجوه الفيوم” متمثله بالوجوة المستطيلة والعيون الجاحظة “اللوزيه” التى يرسمها فى الغالب مواجهة للأمام وليس بشكل بروفيل جانبى مما يؤكد ارتباطه الوثيق بجذور التراث الخالد.
أما من ناحيه ألوانه فإنه يعبر عن توحدها بقوة وكثافة ورائحة القدم المتأصل فى التراث بالإضافة إلى حيوية ألوانة الشخصية المرتبطة بالبحر المتوسط فى رقه شعوره ونزعته تجاه الألوان البنية الخفيفة الثرية والدرجات اللونية المتقاربة ليحقق اكتشافا فنيا جديدا فى مشواره التجريبى الذى لم يتوقف عند محطة أو مرحلة معينة اجتازها ليسير فى تطور فنى دائما للأمام.