حــالات وأحوال
تقاسيم من “الحزن” فى العلاج الجمعى
تمهيد:
نقدم هذه المرة فتحا جديدا فى هذا الباب، وهو قراءة مقتطفات لحالات وجدانية تقلبت أثناء العلاج الجمعى، من واقع استبيان شبه مقنن.
مقدمة:
مسألة الحزن الإيجابى، ودوره فى النمو، بعيدة عن وعى الناس، وإن كانت أساسية فى مواجهة النقلة النوعية من مرحلة نمو إلى أخري، يحدث هذا بشكل طبيعى أثناء أزمات النمو على طريق التطور الفردى على مدى سنين عددا، كما يحدث أثناء العلاج المستبصر بمنظور النمو النفسى Growth Oriented therapy وخاصة العلاج الجمعى . ويحتد هذا الموقف خاصة (موقف الاكتئاب الإيجابى) ما يسمى “المأزق”، فى العلاج الجمعي، أو ما أسماه بيرلز (صاحب ما يسمى بالعلاج الجشتالتي) “السير فى النار، Passing into Fire، وهو هو ما أسمى به ثنائيته “يحيى الرخاوى” “المشى على الصراط” (وخاصة الجزء الثانى: الذى عرض فيه هذه الخبرة من واقع العلاج الجمعى من وجهات نظر أفرادها المستقلة: مدرسة العراة).
وفى محاولة للتحقق هذا الفرض بوجه خاص: أجريت مقابلات شبه مقننه لبعض أفراد من يترددون على العلاج الجمعى حول تحريك مشاعرهم من خلال هذا العلاج، وبالذات فيما يتعلق بالحزن، ولكن لم ننجح فى ذلك بشكل منهجى منظم، فأجلنا تحليل ما حصنا عليه تفصيلا حتى نجد الوسيلة الممكنة (إن وجدت). وفى هذا التقديم سوف تكون المقتطفات انتقائية ومحدودة، يتوقف استكمالنا لها على استجابة القراء.
تنبيه وتبرير:
سوف نحافظ على استعمال كلمة “جروب” تعريبا، مع أن ترجمتها سهلة إلى مجموعة، إلا أنها تأصلت من واقع الممارسة، وتفردت حتى أصبح احتمال إدخالها اللغة العربية لتفيد ممارسة علاجية بذاتها تميزها عن عمومية الكملة العربية “مجموعة” واردا.
الحالة والأحوال ( السيدة: هـ . 27 سنة )
- ما حسيتيش فى أى وقت إنك مهمومة حزينة،وانت جوه الجروب([1]) ؟
- كتير، مثلا فى بعض الأحيان الإحساس ده يبقى جوايا أنا، وانا خارجة من البيت..،وفى بعض الأحيان بيبقى من الحاجات اللى باشوفها منهم، فى الجروب يعني.
التعليق: التفرقة بين أنواع الحزن شديدة الدقة، والأهمية. وسوف نرى فى هذه الحالة تنويعات بلا حصر، من أول الحزن “من”. إلى الحزن “علي”، ثم الحزن “بسبب”، و الحزن “من أجل”، ثم الحزن “فقط”، ثم الحزن “غير” (غير كل ما سبق)، وهذه التفرقة ليست ثانوية، ولا يصح، بالتالي، وضع كل أنواع الحزن البشرى فى سلة واحدة، ثم تعليق لا فتة عليها تحمل اسما تشخيصيا واحدا.
- ازاى؟
- مشاكلهم كبيرة آلامهم كبيرة، فباحس بالحزن جامد ليهم، ساعات أحس إن ممكن أقول لهم حاجات ليهم، لكن صعب، الكلام لوحده مش كفاية، باحس إنى عاوزه حاجة تساعدهم، وكده، إحساس إن أنا عاجزة عن العطاء، عطاء عملى ، يمكن يسبب لى حزن جامد، بابقى خارجة من الجروب حاسة بكآبة.
التعليق: نلاحظ كيف تسارع هبة بالاندماج فى حزن الآخرين دون حزنها،أو بديلا عن حزنها، وتضيف حرف جر جديد غير ما ذكرنا فى التعليق السابق وهو الحزن ل ـهم، وهو ليس بالضرورة مرادف للحزن “من أجل”، ثم تنتبه إلى أن المسألة ليست مسألة كلام (مواساة) فحسب، وهذا عكس أغلب الشائع عن العلاج النفسى عموما، وعن العلاج الجمعى أيضا: إن المسألة فضفضة ومشاركة لفظية، فهبة هنا تعنى تماما أنها تريد أن تعطي، ليس أى عطاء، وإنما عطاء عملي; فيجتمع عليها كل من إحساسها بهم (حتى لوكان بديلا عن إحساسها بحزنها الخاص، وجديةرغبتها فى عطاء عملى ـ ليس مجرد كلام، وعجزها عن ذلك، فيتفاقم الحزن، وحين تخرج من المجموعة، تشعر بكآبة يمكن أن تشمل الثلاثة أنواع من الحزن معا، ما أتت به من المنزل، وما شاركت به فى آلام الأخرين، وما ترتب عن عجزها عن العطاء “العملي”.
- .ساعات، جوه الجروب، تحسى إن الحزن بتاعك جه، أو زاد بشكل معين؟
- هو ممكن أكون أنا جايه بيه، لكن ممكن أنساه، لأن تأثيرهم أكتر من تأثرى بالحزن اللى عندي، يعنى ممكن حزنى أنا يتلغى خالص، يبقى بصورة تانية، الإحساس اللى أنا أخدته منهم يحل محله. اللى هم حطوه جوايا، بيدينى إحساس كده بدل الحزن، باخرج باحس إنى أنا حاسة بكآبة جامدة، ما كنتش متوقعة أو متخيلة إن فيه حد يتألم بالشكل ده.
التعليق: ها هى تصرح بالإحلال مباشرة، “وهى لم تصرح فى هذا الاستطراد أن حزنا حل محل حزن آخر، وإنما حددت “الإحساس اللى خدته منهم ” هو الذى “يحل محله”، قد يكون حزنا، وقد يكون غير ذلك، وقد يكون استعمالها لفظ “الكآبة”، فى الفقرة السابقة وفى هذه الفقرة، هو محاولة تلقائية للتمييز النوعى بين الشعورين..
وهنا تثار قضية أخرى يفسر بها كثير من الناس (والمرضى والأطباء) فاعلية العلاج الجمعي، بالاستشهاد بمثل قاس يقول ” من شاف بلاوى الناس هانت عليه بلوته”، وهو مثل مهما قيل فى تبريره وتفسيره إيجابيا إلا أنه تقوح منه رائحة انفصال عن “الآخر” بشكل ما، (إن لم يكن شماتة لا شعورية)، وهذه الإجابة تشير إلى أن حزن هبة الخاص قد هان عليها لما رأت آلام الأخرين الفادحة، لأنهم أولى بمشاعرها، بل لأنهم أولى حتى بالرعاية العلاجية، وبالوقت الذى يمكن أن تأخذه من وقتهم (الفقرةالتالية).
- فيه فرق بين الاتنين ؟ إللى انت جايه بيه من البيت، واللى بتحسيه جوه الجروب ؟
ـ آه فرق كبير، يعنى اللى أنا حاساه من بره ممكن حاجة ضايقتنى حد اتخانق قدامي، حد شخط فيـه، بس حاجات بسيطة كده، لكن لما يكون منهم همه بيبقى صعب قوي، بتحس إن شخص قدامك بيتألم، وانت عاجزة إنك تعملى له حاجة، بالذات لما تكونى مش متخيلة ده أبدا، يعنى فيه حاجات بدون ما ادرى كده فيه مقارنة بين إللى أنا باحسه، مثلا ألمى أنا، وبينهم هم، باحس إنى تافهة عشان جيت أحضرمعاهم، مش من حقى إنى أحضر، إنى أقعد معاهم وهم بآلامهم دي، هم ليهم حق إنهم يحضروا الجروب عني.
التعليق: تأكد هنا أن المقارنة فيها نوع من احترام الآخر، مع الاعتراف بالعجز الفعلى عن المساعدة العملية، وفى العلاج الجمعى قد يفيد المحتاج إلى معونة أن يعلن الآخر، بما فى ذلك الطبيب المعالج (أو المعالج) عجزه الشريف مثل عجز هبه هنا. وقد يكون فى إعلان مثل هذا العجز، حافز ضمنى لتحريك المبادرة من جانب المتألم حتى يساهم هو،ثم نمد يدنا معا.
على أن موقف هبة هكذا لا ينبغى أن يؤخذ على أنه إيجابى كله، بمعنى أن ثمة احتمالا يقول إنها تبرر هربها من مواجهة حزنها شخصيا بزعم أنهم أولي، لأنها (كما سيتبين بعد) إنما تشفى (وتنمو) من خلال المشاركة المشتركة، التى يستحيل أن تتحقق لها (وللآخرين) إلا بوجودها، وأيضا لم يقل أحد، ولا هى زعمت أن وجودها قد أخذ “محل” ، أو وقت أحد حرم من فرصته بسبب وجودها.
وهنا نود أن نشير إلى حقيقة بسيطة وهو أن المستفيد من العلاج الجمعى ليس فقط، وليس بالضرورة، هو من يأخذ فرصة التعبير، والكلام، والتفاعل، فإن فاعلية العلاج تتوقف على عوامل كثيرة، ليس أهمها الوقت المحدد لكل فرد ( بالتساوى أو بالتوازن الكمي).
- تقدرى تفتكرى موقف معين ؟
- مرة، أول ما حضرت الجروب، كان معانا الدكتور (س) ، جه واحد اسمه (ص) معاه دبلوم، وواحداسمه (ع) فى كلية الهندسة، بصيت لقيت كلام وانفعالات، كانت صدمة لى جامدة، لدرجة إنى كنت عاوزه أقوم آخده واضمه لى زى ما يكون أم وشافت طفل فى الشارع بيعيط، وعاوزه إنها تهدهده، وتسكته، فيومهاخرجت من الجروب بقى هاين على أعمل أى حاجة أضايق بيها الدكتور لأنه حاطنى فى موقف زى كده بالذات، …. فعلا، يوميها حسيت بحزن فوق ما تتصوري، ده كان أول مرة.
التعليق: خبرة أول مرة، كما سنري،غير خبرة المرات التالية، وهذا الموقف الأموى الحانى ، هو موقف جيد من حيث المبدأ، إلا أنه ليس هو الموقف العلاجى البناء الذى سنراه لاحقا، لأن به من الشفقة أكثر مما به من المشاركة (المواجدة Empathy) والمسئولية،
ثم نرى انعكاس موقفها المشفق هذا وتحوله إلى عدوان على من عرضها له، فلو أنه كان موقفا إيجابيا صرفا، لما كان ثم مبرر لظهور هذا العدوان ثم تحوله إلى الطبيب لمجرد أنه جعلها ترى آلام الناس بحجمها الذ ى أثار أمومتها لدرجة الهدهدة والرعاية والاحتواء،
وفى نفس الوقت هو دليل على المشاركة الحقيقية وعن صدق الألم الذى بلغ درجة أنها كانت تتمنى عدم التعرض لرؤية الناس فى تعريهم ومكابدتهم هكذا .
ثم نرى كيف اختلطت الشفقة، بالعدوان، بالرغبة فى الانسحاب بالحزن الشديد حتى بعد المغادرة
كان هذا فى المرة الأولى .
فكيف تطور أمر الحزن بعد ذلك،؟
وهل كان حزنا حقا ؟
وهل تحرك حزنها جنبا إلى جنب مع حزنهم؟
وهل استطاعت أن تستوعب أكثر معنى المشاركة الأعمق بعد مفاجأة المرة الأولى ؟
للأسف، سوف نتوقف عند هذا الحد من المقتطف.
فما عرضناه ليس إلا عينة لاختبار هذا النوع من “الأحوال”، وكيف يمكن أن نقدمه للقارئ العادى ، فضلا عن المتخصص ومن يهمه الأمر.
وفى انتظار رأى القراء وتعليقاتهم نأمل أن نواصل مع هبة، وغيرها ما يساعدنا على الإلمام بطبيعة الحزن داخل هذا المنصهر العلاجي، ومن ثم خارجه إن شاء الله.
[1] – أجرت المقابلة د. عزة البكرى، باستبار شبه مقنن وضعه أ.د. يحيى الرخاوى لكن المقابلة تمادت حرة بشكل مفتوح سمح بأن تكون من النوع المنفرج مفتوح النهاية Divergent open